الفصل الثاني

جبل طارق

من طنف غرفتي في فندق الصخرة، اللاصق ظهره بصدر الجبل، تحت هوله الخالد، أطللتُ على مشهد رائع من مشاهد الجمال الطبيعي، والعظمة الدولية، فمن الصنوبر الساحق النازعة أغصانه القديمة إلى الفوضى، إلى الأزاهير تحته في جنائن تتغنى بالوفر والنظام، إلى ساحات معبَّدة مسيَّجة، للعب اﻟ «تينس»، إلى طريق أسحم أملس بين البلدة وطرف البلدة وطرف الصخرة الشرقي، مظلَّل بالأشجار، مزدانة جوانبه بالأزاهير المتدلية من الجدران العالية؛ كل ذلك في انحدارٍ غير انحدار الجبل إلى الفندق، في انحدار خفيف لطيف إلى البحر.

وهناك على شاطئ البحر — الطبيعي والاصطناعي — في الأرض التي هي من الجبل والأرض الردم؛ مظهر من مظاهر العمران المدفعي، والعظمة الصناعية البحرية، المجردة كلها من جمال الطبيعة أو الفن. هناك رمز العلم والقوة، هناك الأرصفة الممتدة إلى البحر، المكعبة والمثلثة فيه كأنها قضايا هندسية، وهناك أبراج وجسور وعمد من حديد للبرق والنور، ولرفع الأثقال ونقلها، وهناك المخازن والمستودعات والمرافئ والأحواض، والمكاتب والمختبرات، وهناك المصانع لترميم السفن، وللتنظيف والتجديد، وهناك المدرعات والغواصات والطرادات، وقد عادت من نزهة في البحر المتوسط، وهي متأهِّبة لدرء أخطار الحرب أو لخوض غمارها.

هي بلدة قائمة بنفسها، وهي دومًا في عمل، نار محركاتها لا تخمد، وأنوارها تصل الشفق بالفجر. هي صخرة الدولة البريطانية وعظمتها البحرية. هي هي جبل طارق!

أما البلدة الأخرى، جبل طارق السوقة، فهي في الناحية الغربية، بين الباب الشرقي والمرفأ التجاري، وهي سوقها الكبير الأوحد، وجادَّاتها القصيرة الضيقة المتفرعة منه، لاصقة ها هنا بسفح الجبل، آوية هناك تحت صخوره، ومستلقية على الساحل وعلى الردم الذي أضافه إليه الإنكليز. في هذه البقعة المنقبضة المنبسطة معًا يقيم سبعة عشر ألفًا من الناس،١ من السوقة، وفيهم التجَّار والصيارفة وأصحاب المقاهي والملاهي والحانات من الأمم الغربية والشرقية، وهم يتراطنون بالإسبانية والإنكليزية، ولا يحسنون إحداها، لا يحسنون غير اللغة التي فيها رزق يومهم، ولذات الليالي.

أهل جبل طارق ناس من جنسٍ خاص بالصخرة، لا هم إسبان، ولا هم إنكليز. لا وطنية لهم تحملهم على المشاغب والفتن، ولا قومية تورثهم داءي الكد والاستعمار. هم حقًّا بريئون من اليقظات القومية، والنهضات الوطنية؛ فلا يكلِّفون أنفسهم فوق طاقتها في عمل من أعمال الحياة، ولا يُكلَّفون إلا اليسير اليسير من الضرائب.

يسميهم الإنكليز «عقارب الصخرة»، وإنهم في هذا الزمان المثقلة فيه كواهل الأمم بالضرائب، لَأسعد «عقارب» الدنيا شرقًا وغربًا. فلا عجب إذا كانوا لا يكترثون — مثل صنفٍ من الفلاسفة — بخزعبلات السياسة وأباطيل السيادة والمجد. إذا سألت أحدهم: أإسباني أنت؟ قال: لا. أإنكليزي أنت؟ أجاب: كلا. وما أنت؟ أنا جبل طارقي  Gibraltarian. يقول هذا وهو لا يعلم لماذا سُمِّيَ الجبل باسم طارق، ولا هو على شيء من مزايا طارق وجبله.

فإن كنَّا نرثي لحال مَن لا وطن لهم ولا قومية، فالجبلطارقيون يرثون لحال مَن يجاهدون في سبيل الأوطان!

ومن أين جاء الجبلطارقي؟ إنه ما جاء من مكان عبر البحر، فهل نشأ إذن في ظل هذه الصخرة مثل الحيوانات القديمة؟ أهو من نسل الرينو سود أو القردة المنقرضة؟ ليس في تاريخ الحيوان ما يثبت حقيقة هذا الافتراض أو ينفيها، أما تاريخ الإنسان — تاريخه الحديث — فهو ينير ويعين. هو يقول: إن الإسبان، سكان هذا الجبل قبل أن احتله الإنكليز في القرن الثامن عشر، هجروه بعد ذلك الاحتلال، ووقفوا في هجرتهم في منتصف الطريق، بينه وبين الجزيرة، فأسَّسوا لهم هناك البلدة التي تُدعَى اليوم «سان روكيه» San Roque.
ولا تزال سان روكيه، مثل شقيقتها «لالينا» La lina التي هي على الحدود الإنكليزية الإسبانية — وراء الصخرة — لا تزال مأوًى لبعض أولئك النازحين من جبل طارق، أولئك الذين لا ترغب فيهم السلطة المحلية، وأعني المتشردين والفقراء اللاحقين بهم.

ولنذكر ها هنا أن السلطة الإنكليزية لا تريد أن يكثر سكان الصخرة، وهي حصن وقاعدة بحرية فتعسر سُبل العيش، بالأساليب القانونية والخفية، على أولئك الذين تتجهَّمهم الحياة فيتجهمونها، فيمسون على هامشها المتردم، ولا عمل ولا أمل، ويستمرون في التنقُّل، فيصلون إلى لالينا، إلى سكان روكيه، إلى الجزيرة. على أن أكثرهم يبقون في البلدة القريبة من الصخرة لتوافُرِ الأعمال فيها، ولا سيما المحرَّمات؛ لذلك يقول الجبلطارقي، ولا يكذِّبه الإسباني، ولا يقطع لسانه: إن سكان لالينا أكثر أبناء آدم خبرةً وعملًا في كل ما هو محرَّم من التجارات والمهن.

ولكن في القول غلوًّا بانَ لنا بعد البحث، فيجب أن نقول إذن، دفاعًا عن اللالينيين: إن كل ما هو محرَّم ينحصر في تهريب الدخان والخمر، وفي الشقاوة التي تنطق بلسان الخنجر في بعض الأحايين. أما فيما سوى ذلك، فإنهم — مثل كل الناس — يدفعون الضرائب، ويُجنَّدون، ويؤمون الكنيسة للصلاة، لا لسرقة الأواني المقدسة، ويحسنون معاملة النساء والقطط.

كاد الكلام على سان روكيه ولالينا ينسينا النصف الثاني من جواب التاريخ على سؤالنا. فبعد أن نزح الإسبان من جبل طارق حلَّ محلهم قوم من الطليان، جاءوا على الأخص من جنوا، فرحَّبَ الإنكليز بهم، فأقاموا في ظل الصخرة آمنين، وتاجروا مطمئنين، وتناسلوا فرحين، فكانوا الأجداد لسكان اليوم.

قلت إن في جبل طارق بلدتين: بلدة هؤلاء المتمردين من الطليان، وبلدة الدفاع البحري البريطاني، وليس بينهما خيط صلة من الحرير أو الشعر، بل إن البلدتين تختلفان في مزية أولية جوهرية، هي النطق الذي يميِّز الإنسان عن الحيوان؛ فالنطق كله، بعجره وبجره، عند الجبلطارقيين، والصمت كله، بذهبه ونحاسه، عند الجندية والبحرية ومَن يلوذ بهما من الإنكليز، فإن كنتَ طالب علم، يهمك مقدار ما فيه من الصحة، فدونك الشارع الكبير الواحد تحدث التجار فيه وأصحاب الحانات، وإن كنتَ تبتغي التحقيق والتدقيق فيما تسمع، أو في موضوع يصله، ولو خيط من العنكبوت، بالصخرة الإمبراطورية وأسرارها العسكرية، فلا تدنو من أحد العاملين في تحصينها وإدارتها، فإنهم ومَن يلوذ بهم لا يُحسِنون على الإجمال غير لفظتين اثنتين: لا أعلم!

خرجت صباح يوم أمشي، ولا هدف غير ما تكشفه الطريق، فرأيت شجرة بين الأشجار لا أعرف اسمها، وأنا في هذه الحال على شيء من شذوذ الطبع فأغتاظ لجهلي، ولا أقف عند حد في فضولي. قلت: أغتاظ ففرَّطت، فإن شجرة أجهل اسمها بين أشجار أعرفها حيثما أشاهدها، لشجرة مكربة مضنية. إنها لتضنيني. أقول ذلك بلساني الشرقي وإحساسي الموروث، وأما بلساني الغربي الذي تمرَّنَ على التدقيق في التعبير، وأحسن شيئًا منه، فأقول: إنها تفسد النزهة عليَّ، ولست في ذلك مفرِطًا أو مفرِّطًا.

وهاكها متحدِّية بين أشجار الصنوبر والسنديان. هي شبيهة بالسنديان وليست منه، وما هي كشجرة من عوامل الدفاع أو من أسرار الحصون والقلاع، فَلْأسأل هذا الضابط يساعد في كشف غمي. صحبته واعتذرت، ثم سألته قائلًا: ما اسم هذه الشجرة؟ فقال بلهجة مزنَّقة: لا عِلْمَ لي بالأشجار. ثم سألت رجلًا في ثوب مدني أنيق فتأسَّفَ وأجاب جواب الضابط!

بعد ذلك بانَ لي في أعالي الجبل شيء غريب من البناء أنساني الشجرة، وكانت امرأة تدنو إذ ذاك مني، وفي وجهها الدميم نبأ التقوى والصلاح، فسألتها عن ذلك البناء، فأجابت بلهجة الضابط: لا أدري! … وهؤلاء الجنود الأربعة قد خرجوا على ما يظهر متنزهين، لا بد أن يكون واحد منهم، ذاك الرقيق الإهاب الضارب إلى الاصفرار، عالمًا بعلم النبات، فسألته عن اسم الشجرة، وكنت وا أسفاه مخطئًا في ظني.

ثم سألت رفيقه عن اليوم الذي وصل فيه الأسطول إلى جبل طارق، فسمعت للمرة الرابعة أو الخامسة كلمة السر: لا أعلم.

إنني لفي جبل الصمت والتكتُّم، ولكن الحياة تأبى الإطلاق، وتنفر من القياس الواحد، فلا بد أن نلقى حتى في المقابر لسانًا ناطقًا، وها هو ذا تحت الشجرة التي كادت تفسد عليَّ نزهة ذلك الصباح.

كان الرجل يحرق بعض الأوراق، فسلَّمْتُ، فردَّ السلام بإنكليزية سليمة، ولهجة كريمة، وقد أجاب عن سؤالي الأول جوابًا استبشرتُ به؛ فما هو من الجندية ولا من البحرية ولا ممَّنْ يلوذون بهما، إنما هو صاحب مغسل الجنود، وقد كان في تلك الساعة يلهو بحرق الجرائد التي تجيئه من بلاده.

فقال وهو يزيد في نارها: تجيئنا جرائد لندن مرة واحدة في الأسبوع، ونحن نقنع بذلك، لا نريدها أكثر من مرة كل سبعة أيام.٢ أهلنا هناك — في إنكلترا — يشقون كل يوم بطيخة من الخوف والذعر: الحرب على الأبواب، تطبخها لهم الصحافة صباح مساء، ونحن ها هنا يجيئنا الخوف والذعر دفعةً واحدة مرة كل أسبوع، فهل تصلح هذه الجرائد لغير النار. احرقها، وبردِّ نفسك!

وعندما سألته عن اسم الشجرة أدهشني بثقافة عالية؛ فقد أعطاني الاسم وشفعه بنادرة تاريخية، ومثل لاتيني رواه باللغة الأصلية. عجيب أمر هؤلاء الإنكليز، فإنه يبلبل الباحثين الراغبين في الحقيقة نقدًا وتقديرًا.

وقفت معجبًا بذلك الرجل كل الإعجاب، أمثقف في جامعة أكسفورد وصاحب مغسل للجنود بجبل طارق! سعدت دفعة واحدة بعلمه كما يشقى هو بجرائد لندن، وقانا الله الخير إذا طمى!

قال صاحبي — زاده الله علمًا وفضلًا — اسم هذه الشجرة اللاتيني هو «مُلْتَا»  Multa، ولتسميتها قصة قديمة هي أن بعض الجنود الرومانيين في عهد يوليوس قيصر، عصوا ضابطهم فقاصَّهم قصاصًا قرنه بالتجويع؛ فاعتقلهم في معتقل بُنِيَ بين أشجار مثل هذه الشجرة، وحرمهم الأكل أيامًا، وكانت أغصان الأشجار تتدلى في المعتقل بينهم وهي تحمل ثمرتها، وهي شبيهة بثمر الدوم، فتناول منه أحد الجنود وأكل مجازفًا بحياته، ففرح بمجازفته، فاقتدى به إخوانه، فأكلوا من تلك الثمار واستثمروها جميعًا، وهم يضحكون من الضابط الذي حاوَلَ تجويعهم؛ إذ ذاك نطق الحكم فيهم بالكلمة التي ذهبت مثلًا: «نيمو مُلْتَا ريوم …» أي ليس بين الناس حكيم هو حكيم دائمًا، وسُمِّيَتْ هذه الشجرة مُلْتَا.

ومن مدهشات ما شاهدتُ في ذلك الصباح راعيًا ولا كالرعاة، شابًّا في ثوب إفرنجي نظيف، يتأبَّط كتابًا، بدل أن يحمل القصب أو الناي، ويسوق قطيعًا من المعز. هو ذا الراعي العصري المتمدن! كتاب يذهب بالناي — علْمٌ يذبح الغناء والهناء!

وهناك من الأشجار ما يذكِّر بالغابات والبساتين اللبنانية — بصنوبر المتن، بزيتون الشويفات، بسنديان الأديرة، بتين عمشيت — رموز وإشارات، لا بساتين وغابات. على أن الرمز وجماله السائغ يجتمعان في العرائش المنورة بشتى الألوان الأرجوانية والبنفسجية والحمراء والبيضاء. هي ذي عرائس اﻟ «بورُغْنِقي» ومجد الصباح  Morning Glory والدُفلى والياسمين، تحمل لي طيب بيروت في ليالي صيفها ومجد الربيع منعشًا فوق أسوار بيوتها والبساتين.

أمعنت في الطريق المعبَّد المفروش بالزفت المصعد في الجبل، فمررت ببيوت وضيعة جميلة تحاوِل الاختباء بين أشجار اﻟ «مُلْتَا» والصنوبر. هي بيوت للضباط البريين والبحريين، وهذه أكواخ لاصقة بالصخور الشاهقة يقيم فيها بعض الفلاحين وهم يكتفون من المهنة — فلا أرض تُفلح في الصخرة — بتربية الدجاج وبيع البيض للجنود. وهاك ديرًا بمدرسة للراهبات فوق الطريق، ومجموعة تحته من البنايات الكبيرة، تصل بعضَها ببعضٍ الجسورُ والأروقة، هو المستشفى العسكري.

دنوت من المكان العالي أمامي، القائم فوقه بناء ينشر علمًا سرِّيَّ الخبر لمثلي، هو مركز الأنباء والإشارات البحرية، يتبادَلها والسفن الحربية والتجارية، المستأذنة — وهي في المضيق — بالدخول إلى الميناء.

وصلت إلى الثكنة العسكرية عند منتهى الطريق في طرف الصخرة الجنوبي الغربي، المشرف على الناحية الشرقية منها — على جون «كاتالان» وقرية صيادي السمك هناك. ما كان لي أنا أن أشرف على ذلك الجون الجميل الذي رأيته بعدئذٍ من الباخرة المشرِّقة. أوقفني الحرس؛ لا مرور عند هذا الحد بدون إذن من الحكومة.

عُدْتُ أدراجي بشيء من التعريج، فوصلت إلى نفق في صخرة ضخمة، ووقفت عند كتابة محفورة إلى جانب المدخل، فإذا هي تقول: إن هذا النفق فتحه وأتمَّه تبرُّعًا جنودُ جلالة الملكة في سنة ١٨٤٢، ثم — بلهجة شعرية تندر في الأنصاب والآثار الإنكليزية:

كذلك كان وكذلك سيكون …
هو الجندي البريطاني …
الشجاع في الحرب …
المحب في أيام السلم للعمل والنظام! …

دخلت النفق المؤدي إلى أرض وراء الصخرة، مهَّدَها كذلك أولئك الجنود، فبُنِيت فيها الثكنات. هناك في تلك الساحة، تحت جفن الجبل وفوق عين البحر تعصف الرياح على الدوام — الرياح الشديدة الباردة حتى في الصيف — وقد كانت في أشدها، على ما أظن، صباح ذلك اليوم، فولَّيْتُها ظهري. رحت معها كما يفعل صاحب الشراع إبَّان العاصفة، فإذا بي عند الرأس الذي يسرع في انحداره إلى البحر من نواحيه الثلاث الشرقية والغربية والجنوبية، وإذا بي أمام صف من الخنادق المبنية بالأسفلت، وأروقة وراءها وبينها، وأبواب إلى داخلها حيث تكمن المدافع التي تبرز خياشيمها من نوافذ ترى البحر ولا يراها.

وبين هذه الخنادق، فوق سطوحها، مصاطب مصونة لمدافع كبيرة أخرى، دُهِنت باللون الأزرق؛ لتتجانس ومحيطَها شكلًا ولونًا، فتخفي حقيقتها على العدو.

أما ما يُرَى في تلك المنحدرات الحادة الزوايا مع البقع البيضاء الكبيرة، فهي موضوع حدس وتكهُّن للمسافرين في السفن التي تعبر المضيق. فيقولون: هي جدران للطريق المؤدي إلى رأس الجبل. ويقولون: هي فسحات، قُطِعت أشجارها، وجُزَّ نباتها؛ لغرض من أغراض الدفاع. ويقولون: هي بقع صخرية جرداء تظهر في بياض سابغ، فتخفي ظلالها على الناظر إليها من عرض البحر.

أما الحقيقة فهي غير ذلك؛ جبل طارق صخرة تقل فيها الينابيع، ومياه البلدة والحصون — قديمًا وحديثًا — تُجمع من الأمطار في الآبار، أما آبار اليوم فهي أحواض عمومية كبيرة تتوزَّع منها المياه إلى البلدتين، التجارية والعسكرية. ومن أين تتسرب إليها مياه الأمطار؟ هذا هو السر في تلك الجدران المبنية من الحجر الكلسي المنحوت بناء محكمًا على صدر الجبل، فتتلقى الأمطار، وتحملها إلى القنوات المتصلة بالأحواض في أسفلها.

رأيت العمال في إحدى الساحات الصغيرة بالبلدة يحفرون خنادق أو أكواخًا يلجأ إليها الأهالي من الغزوات الجوية، إذا وقعت الحرب، وبينما هم يحفرون عثروا على آثار القنوات القديمة التي بناها العرب للغرض نفسه، فما تغير في جمع المياه وتوزيعها غير الطريقة شكلًا واتساعًا.٣

ولكن التغير الكبير الطارئ على هذا الحصن إنما هو في مجمله لا في جزئياته، إن للإنكليز في سياستهم المتعلقة بالبحر الأبيض ثلاثة أغراض أولية، هي: السيادة، والتجارة، وصون طريق المواصلات الإمبراطورية. فالبحث في الغرضين الأول والثاني ليس من موضوعي، وليس ما يسترعي له النظر الآن من الاستحكامات والقواعد البحرية في طريق الهند، غير جبل طارق هذا، باب رحلتنا المغربية.

كان جبل طارق الحصن الأمنع في التاريخ، وحدَّ الدنيا الأقصى في الأساطير، فذهبت الاكتشافات بالأساطير والحدود، كما تذهب الاختراعات الحربية بأهمية القلاع والحصون. لقد ذكرت التحصينات القديمة المهملة، وأشرت إلى الحديث منها، الظاهر والخفي، في أعالي الصخرة. بَيْدَ أن ذلك كله بالنسبة إلى ارتقاء السلاح الجوي، أمسى كالحصون في القرون الوسطي؛ فالعدو يستطيع أن يحطم من الجو مدينة الدفاع بكل ما فيها من مرافئ الاستحكامات ومدافعها.

ومما ينقص من قيمة هذه الاستحكامات والحصون هو أن لألمانيا اليوم مراكز حربية، بحرية وجوية، جنوبي المضيق، في جزائر كاناري بإجازة الإسبان، وعلى شاطئ الأطلنتيق في الأرض الإسبانية الأخرى التي تُدعَى ريو ده أورو.

لذلك باشر الإنكليز بناء مطار وراء الصخرة في الناحية الشمالية، وهي ساحة رحبة تكاد تصل إلى الحدود الإسبانية. فإن شريط سكة الحديد — الحدود — على نحو مائة متر منها.

عندما باشَروا تمهيد تلك الساحة لهذا العمل تنبَّهَ «الجنرال فرنكو»، فزاد في حاميتي لالينيا وسان روكيه، وهو يفكِّر في غير ذلك من أساليب الدفاع والهجوم!

إن بين إنكلترا وإسبانيا اتفاقًا قديمًا على أن لا تُحصَّن الجبال القائمة في ذلك الهلال بين جبل طارق والجزيرة، وأن لا تُستخدَم لغرض من الأغراض الحربية. على أن حكومة «الجنرال فرنكو» لا تميل إلى التقيُّد بذلك الاتفاق، وإني أظن أن هناك، في الجبال الغربية، حصونًا واستحكامات بُنِيت حديثًا.

جبل طارق! لا يزال الإسبان يعلِّلون النفس بضمه إلى أمه، إلى الأرض الإسبانية. فإن كانت حكومة «فرنكو» لا ترى الوقت مناسبًا للعمل الخطير، الذي يحرِّضها عليه الألمان والطليان، فهي لا تمنع الجرائد والكتاب من البحث في الموضوع.

أَضِفْ إلى ذلك عودتهم إلى فكرة قديمة في حفر نفق تحت البحر، في المضيق، بين طريفة وطنجة يصل الأرض الإسبانية بالأرض الأفريقية، ويمكن بواسطته نقل الجنود من المغرب إلى إسبانيا، ومن إسبانيا إلى المغرب، يوم يعزمون على الحرب.

على أن بعض الإسبان لا يرون وجوب الحرب استرجاعًا لجبل طارق، وقد كان «الجنرال بريمو ده ريفيرا» primo de Rivera أول مَن دعا لحل القضية بالمفاوضة والمقايضة؛ فتنزل إسبانيا لإنكلترا عن سبتة، وهي بمينائها الرحب تصلح أن تكون قاعدة بحرية كبيرة، نظير أن تنزل لإنكلترا لها عن جبل طارق. ولا يزال لهذه الفكرة أنصار هناك، وخصوصًا في الكتائب التي أسَّسها «أنطونيو» بن «بريمو ده ريفيرا»، والتي ترأس شقيقته «بيلار» فرعها النسائي. فلا يبعد — وقد نقصت قيمة جبل طارق الحربية والبحرية، بل كادت تذهب بأجمعها — أن تصل الحكومتان في المستقبل غير البعيد إلى مثل هذا الاتفاق.
جبل طارق! كم قامت حوله ولأجله الحروب والحصارات، منذ وطئته أقدام العرب بقيادة طارق بن زياد (٧١١م) إلى يوم استيلاء الإنكليز عليه في المرة الأخيرة (١٧٨٣). كان يُدعَى قبل الفتح العربي جبل أليبة — والاسم فينيقيٌّ — ويوم احتله طارق باثني عشر ألفًا من رجاله العرب والبربر كان في حوزة الغوثيين،٤ فدارت بينهم وبين المحتلين رحى الحرب.
وفي يوليو من سنة الفتح، على شاطئ النهر القريب من المكان القائمة فيه اليوم مدينة شريش Jerez، كانت الوقعة الفاصلة التي دامت ثلاثة أيام، وانتهت باندحار الغوثيين، وتقدُّمِ العرب شمالًا وغربًا.

وفي أعالي الجبل، منها البرج المربَّع الذي لا يزال قائمًا هناك. تلك الجدران الدكناء، بين فسحات من الاخضرار، وتحت أطناف من الصخور، وإن تحدَّت الرواسي والسنين، وظلت سليمة بعد كل ما شهدت من حرب، إن هي إلا شهيدة الزمان، وقديسة التخاذل والنسيان!

استمر حكم العرب في جبل طارق، على اختلاف عهودهم ودولهم سبعمائة وخمسين سنة، فانتزعه منهم الإسبان سنة ١٣٠٩ ثم فقدوه، وفي سنة ١٤٦٢ كان الفوز لهم، فأخرجوا العرب منه، وزادوا في تحصينه، فظلَّ في حوزتهم بشيء من التقطُّع أكثر من مائتي سنة.

أما استيلاء الإنكليز عليه، فقد كان للمرة الأولى في الحرب الأوروبية (١٧٠١–١٧١٤) التي أثارها ملك فرنسا الكبير «لويس» الرابع عشر.

ما أتفه الأمور الظاهرة التي كانت تقام من أجلها الحروب في الماضي! ولكنها كانت تنطوي على غيرها، وهي الجوهرية. هي هي المطامع الاقتصادية والاستعمارية بعينها، أراد لويس الرابع عشر أن يبسط نفوذه على إسبانيا بإقامة حفيده الأمير «فيليب» ملكًا عليها خلفًا «لشارلس» الثاني، فقامت إنكلترا تنادي بالويل؛ لاختلال التوازن الدولي الأوروبي، فألَّفَتْ حلفًا منها ومن النمسا وهولندا والدنيمرك والبرتغال لمحاربة الفرنسيين والإسبانيين. دارت رحى الحرب في أوروبا بضع سنوات، ثم امتدت إلى إسبانيا، فاحتلَّ الأحلاف قادس، وقرَّرَتِ القيادة العامة أن تحتل كذلك جبل طارق؛ فأطلقت القنابل عليه في ٢٣ يوليو سنة ١٧٠٤، واستمر الحصار ستة أشهر، فتكلَّلَ بالنصر في ١٠ مارس سنة ١٧٠٥ للمحاصرين.

كانت الجنود الهولندية والإنكليزية مشتركة في ذلك الحصار، ولكن الأميرال الإنكليزي «روك» Rooke ضرب الضربة الأخيرة الفاصلة، وأمر — بدون أمر من لندن — بأن يُرفَع فوق الصخرة العلم الإنكليزي، فقبلت لندن بالأمر الواقع!

بَيْدَ أن ذلك الاحتلال لم يَدُمْ طويلًا، في النصف الأول من القرن الثامن عشر، لا للإنكليز ولا للإسبان، الذين حاصروا الصخرة فاستعادوها، ثم فقدوها. وظل الاحتلال الإنكليزي متقلقلًا حتى حصار عام ١٧٧٩–١٧٨٣ برًّا وبحرًا، والذي يُعَدُّ من أعظم حصارات التاريخ؛ ذاق الإنكليز أشد ويلات الحرب وأمرَّها. ومع ذلك، وبالرغم من مساعدة فرنسا، ما استطاع الإسبان أن يزحزحوهم من مراكزهم المنيعة. كانوا هم والصخرة صنوين. فرفع المحاصرون الحصار، وعقدوا مع المحاصرين معاهدة الصلح في ٦ فبراير سنة ١٨٨٣.

منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا استمرت سيادة الإنكليز في جبل طارق دون انقطاع، وهي تزداد قوةً وتمكينًا بما بنوا فيه من الحصون، وبما حفروا من الأنفاق، وبما أسَّسوا من المرافئ وردموا من البحر، وبما حسَّنوا إجمالًا في أسباب الحياة المدنية والعسكرية، وفي أسباب المناعة البحرية، فغدت الصخرة أحصن الحصون وأعزها في العالم، وظلت كذلك حتى عهد السلاح الجوي الذي نحن فيه.

فهل تذهب يا ترى كما ذهبت أمثالها العربية والإسبانية قبلها، هل تمسي حصون الإنكليز كما أمست حصون ملوك قشتالة وملوك غرناطة؟ …

إن في هذه الصخرة كهوفًا حفَرَ تاريخها الزمان — كهوفًا عريقة في القِدَم الجيولوجي — أَوَتْ إليها الطيور والحيوانات الجبارة البائدة، وبليت فيها أجنحة النسور التي كانت تحلِّق فوق ألف قدم٥ حول القنن الشامخة عليها، ولا يزال في هذه الكهوف من آثار تلك الأيام ما يسترعي الأنظار، ويُدخِل على القلوب الورع والاتضاع. إن في هذه الكهوف عظام العبرة والذكرى! …

ليقف القارئ عند كهوف الاستعمار — عند خنادقه — وَلْيذكر تلك المدافع والاستحكامات التي كشف الصدأ سرها، وطوت العفونة أخبارها!

figure
الجنرال فرنكو.
١  عدد جميع السكان بموجب إحصاء سنة ١٩٢٤ هو ٢٠٦٣٨، منهم «عقارب الصخرة» ١٧١٦٠، أكثرهم من المذهب الكاثوليكي، وأقلهم من البروتستنت واليهود، والباقي «ذئاب الصخرة» ٢٩٣٢ من الضباط والجنود البرية، و٥٤٦ من البحرية.
٢  في كلامه شيء من المبالغة؛ فجرائد لندن تصل إلى جبل طارق إما بالبريد البري بطريق أوروبا، وإما بالبريد البحري، وهو — أي البريد — في الحالين لا ينفي القول المأثور: العجلة من الشيطان. وقد طلبت الجرائد يوم وصلتُ إلى جبل طارق فكان تاريخ العدد الأخير الذي وصل من لندن تاريخ يوم سفري من نيويورك. ستة أيام جعلها محدِّثي سبعة وهو الفيلسوف الغسَّال!
٣  مساحة الجدران التي تتلقى المياه مليون وخمسمائة وسبعة وسبعون ألف قدم مربع، ومقدار ما تسعه الأحواض تسعة ملايين جالون.
٤  في الكلام على سبتة، في [الجزء الأول – الفصل الخامس: من الجزيرة إلى …] ذُكِر ما أهمله مؤرخو العرب من الأسباب لهذه الغزوة.
٥  في الصخرة التي تمتد ميلين ونصف ميل، من السهل شمالًا إلى البحر جنوبًا، بضع قنن عالية تتراوح بين الألف والمائتين، والألف والأربعمائة من الأقدام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤