الفصل الرابع

مثلث الأخطار

مضيق جبل طارق١ هو الصلة بين البحرين المتوسط والأطلنتيق، تلك الصلة التي تبدأ من رأس سبارتل غربًا، في الجانب الأفريقي؛ لأن طنجة تُعَدُّ من مدن المضيق، وتنتهي شرقًا عند رأس الميناء Almina، أو الجبل الذي تتظلل به مدينة سبتة، وهي — أي الصلة — تمتد في الجانب الأوروبي الإسباني من شاطئ طريفة  Tarifa غربًا إلى جون كاتالان  Catalan، أي الشاطئ الشرقي من صخرة طارق.

نصف هذه الصلة عنق البحر المتوسط، ونصفها عنق الأطلنتيق، والجانب الأفريقي نحو ستين كيلومترًا، والجانب الإسباني نحو ثلاثين؛ لأن المضيق ينفرج في دنوه من الأطلنتيق، ويضيق قبالة طريفة، ثم ينفرج أيضًا بعض الانفراج بين جبل طارق ورأس الميناء الأفريقي، وله جيبان: الصغير في الجنوب الغربي وهو مرفأ طنجة، والكبير في الشمال الشرقي وهو الجون الكائن بين جبل طارق والجزيرة.

أما المسافة بين الشاطئين فهي تتراوح بين الأربعين كيلومترًا في ناحية الأطلنتيق، والعشرين في ناحية المتوسط، ولا تبلغ في الوسط أكثر من خمسة عشر كيلومترًا، وأما المسافة بين المرافئ فأبعدها التي بين جبل طارق وطنجة (٦٠ كيلومترًا)، وأقربها التي بين سبتة وجبل طارق (٢٠ كيلومترًا).

قد يستغرب هذا التدقيق في وصف مضيق هو جغرافيًّا كغيره من مضايق العالم، ولكنه ليس كغيره سياسيًّا وحربيًّا. إن في هذا المضيق ثلاثَ مدن مهمة، أهميتها في مراكزها لا في عدد سكانها، هي: جبل طارق، وطنجة، وسبتة. هي مثلث الأخطار الدولية، بل هي ثلاثة مخازن من البارود، إذا اشتعل الواحد منها اتصلت ناره بالمخزنين الآخرين، وليس بين الثلاثة من المسافات الواقية، كما بيَّنْتُ، ما يمكن الانتفاع بها في سياسة التوفيق — التطبيق — الدولية. ثم هناك بين المدن الثلاث صلة جنسية وتاريخية، وجغرافية وثقافية، تتغلب على مناورات السياسيين ومحاولاتهم إذا ما دنت ساعة الخطر.

فإذا تمكنوا اليوم من تأمين وضع طنجة الحيادي الدولي، بعد أن انتزعوها من ملك سلطان المغرب، وجرَّدوها من الحصون والاستحكامات، فإنهم في نظامهم لها يسجِّلون على أنفسهم العجز في حل المشاكل السياسية حلًّا حكيمًا ثابتًا عادلًا، ويسجلون على أنفسهم الجهل أو التجاهل لأحداث الزمان. مثل هذا النظام لا يدوم طويلًا؛ لأنه غير عادل، وغير حكيم، وغير عملي، وغير مفيد، لغير الموظفين والمديرين والمستثمرين لهذه المدينة وحكومتها.

وهو لا يدوم طويلًا ولا يستقيم؛ لأن الدول أنفسها القائمة بتنفيذه غير راضية به، فنفوذ الدول الصغيرة منها يضيع صوتها في منافسات ومؤامرات الدول الكبيرة، والدول الكبيرة غير مطمئنة إليه لأن كل واحدة منها تبتغي الاستئثار بالحكم والاستقلال في الاستيلاء. فالنظام الذي ليس له نصير مخلص واحد، لا في السائدين بواسطته، ولا في المسودين في ظله، ليس من الأنظمة الطويلة العمر.٢

وإذا ما استقلت بحكم طنجة غدًا إحدى الدول الكبيرة المشاركة اليوم فيه، أي إنكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، فهي ولا شك تحصن المدينة، أو تتخذ من وضعها الجغرافي والطبيعي أسبابًا للحصون والاستحكامات، فقد أرادت إنكلترا حياة طنجة وحكمًا دوليًّا لها؛ لأنها لم تستطع أن تستولي عليها، لتحصنها كما حصنت جبل طارق، أو لتمنع تحصينها صونًا لمراكزها هنالك. وإنه ليصعب على العالم بشيء من ماضي الدول وحاضرها، أن يعتقد بأن إنكلترا هي الدولة التي ستستولي غدًا على طنجة؛ لتجعلها جبل طارق آخَر، أو حائلًا في الأقل دون التحصينات التي تضعف من حصونه. وإذا استولت عليها دولة أخرى قامت إنكلترا تؤلِّف حلفًا من الدول عليها، فيضطرب جو السياسة الدولية، وقد يعصف بعواصف حرب كبرى.

هو ذا مثلث الممكنات في مثلث الأخطار. نظام طنجة الدولي لا يدوم طويلًا، استيلاء إحدى الدول الكبرى على طنجة لا بد منه، والتحصين ملازم للاستيلاء ومثير للحروب.

أما جبل طارق، فما هو من الممتلكات الخالدة لإحدى الدول، وإن في تاريخه الماضي ما فيه من الأحداث التي تنفي خلوده البريطاني. إذن لا بد أن تستعيده صاحبة الحق الأول وهي إسبانيا، فإذا زادت في تحصينه أو اكتفت بما فيه من الحصون والاستحكامات، تغيِّر إنكلترا سياستها الدولية الطنجية، وتساعد في إعادة المدينة إلى حكم فردي فيها، إلى حكمها البريطاني إذا كان ذلك ممكنًا؛ لتُقِيم فيها التحصينات وتجعلها كجبل طارق، أو إنها — إذا عصت التقادير والأحوال السياسية إرادتها — تساعد الدولة المغربية لتستعيد المدينة بشرط أن يكون لها، أي لإنكلترا، ولو جبل واحد هناك تتحصن فيه، فتزيد بأخطار المضيق.

أما سبتة، فهي أصلح من جبل طارق لميناء حربي، وأصلح من طنجة للحصون والاستحكامات، فإذا عجزت إسبانيا عن استعادة جبل طارق، فهي محصنة سبتة لا محالة، وليس بين سبتة والصخرة، كما أسلفت القول، أكثر من عشرين كيلومترًا. فهل تقبل الحكومة البريطانية بذلك التحصين، وإن احتجَّتْ — كما هو الأرجح — وعارضت، أفلا تسعى لأن تكون كلمتها نافذةً، نافذة بأي وسيلة كانت، نافذة ولو بالقوة، ولو بحرب تهيئ لها الأسباب؟

وهو ذا مثلث الممكنات الأخرى في مثلَّث الأخطار، إسبانيا تطمح إلى استرجاع جبل طارق، فإذا حالت — القوة أو السياسة دون فوزها فهي تحصِّن سبتة، وفي تحصين سبتة تهديد للإنكليز في الصخرة المقابلة لها، ونقصان في قيمة حصونها. والنتيجة؟ اضطراب جو السياسة الدولية اضطرابًا مؤديًا إلى الحرب.

على أن بين أبواب الخطر بابًا واحدًا مفتوحًا كذلك هو باب الفرج. من الحقائق المبتذلة في السياسة — وفي مقامات الحريري — أن الدهر في الناس قلَّب، فالبس لكل حال لبوسها. وللحكومة البريطانية في هذا الفن حذق العباقرة؛ فلا يستغرب قطعًا تغيير لبوسها — تغيير سياستها — عند تغيُّر الأحوال، وبمقتضى عوامل الحرب والدفاع. أكتفي من الأمثلة وهي كثيرة، بمثل واحد قريب جدًّا من موضوعنا الآن، هو مثل الدردنيل. فماذا كانت سياسة الدول قبل الحرب العظمى فيما يتعلَّق بذلك المضيق؟

كانت روسيا تطالب دائمًا بفتح الدردنيل والبسفور وبحرية المرور فيهما؛ لتتمكن من الوصول بأسطولها إلى البحر المتوسط. وكانت إنكلترا، محافظة على قناة السويس، وعلى مصالحها في البحر المتوسط، تقاوم روسيا في سياستها. ليُفتح الدردنيل — ليبقَ الدردنيل مقفلًا. هذي هي سياسة روسيا وإنكلترا قبل الحرب العظمى.

أما بعد الحرب فقد انقلبت الآية، فصارت إنكلترا تقول ليفتح الدردنيل، وروسيا تصِرُّ على بقائه مقفلًا. ولماذا هذا الانقلاب؟ لأن روسيا بعد الحرب أمست عاجزة عن تهديد إنكلترا في البحر المتوسط، وصارت ترغب في فتح المضيق لتصل بأسطولها، إذا اقتضى الأمر، إلى البحر الأسود. فالذي كانت تخشاه إنكلترا من روسيا، صارت تخشاه روسيا من إنكلترا. تغيَّرَتِ الأحوال، فتغيَّرَتِ السياسة، والدهر في الناس قلَّب! …

وقد كان لإنكلترا ما تريد في تغيير لبوسها، بالرغم من مقاومة روسيا. فالاتفاق الدولي بخصوص المضايق الذي عُقِد سنة ١٩٢٣ في مؤتمر لوزان، يمنح تركيا الجديدة، استرضاءً لها، حقَّ إقامة حامية في إستنبول، وإنشاء أسطول حربي على أن تفتح المضايق من البحر الأسود إلى بحر إيجة فالمتوسط، وتبقى المناطق إلى جانبها مجردة من الحصون والاستحكامات.

هذا ما أريد أن أنبِّه الآن إليه. ليس من المستحيل الاتفاق الدولي في تجريد جوانب المضايق من الاستحكامات والحصون، فإذا كانت طنجة والصخرة وسبتة مثلث الأخطار الدولية، كما بيَّنت، إذا كانت — حتى في حالها الحاضرة — مخازن بارود يتصل بعضها ببعض، فماذا عسى أن تكون إذا أخفيت في رءوس جبالها المدافع، وأقيمت الحصون؟

أفتستمر الدول في هذه السياسة المؤدية إلى الحروب؟ أيستحيل تجريد جوانب المضيق من أسبابها، وقد جردت جوانب الدردنيل؟

إنه لصوت بعيد هذا الذي يُرفَع الآن في مسألة دولية خطيرة، بعيدة الأسباب، موصدة الأبواب، توحِّدها المصالح الاستعمارية والوطنية، توحِّدها الأطماع القديمة، توحِّدها أهواء السياسيين ومخاوف الوزراء؛ فلا يصل إليها غير القليل من النور، ولكن هذا القليل ثاقب في إشعاعه، وهو يزداد يومًا فيومًا. هو نور الحق الخالد، هو نور الإنسانية الجديدة، المسلَّحَة بالحق الخالد.

وهذا الصوت الذي يُرفَع في سبيل الحق الخالد والإنسانية الجديدة هو — على بُعْده ووحشته — من الأصوات الكثيرة اليوم في العالم، تلك الأصوات المردِّدة للكلمة الذهبية الواحدة، وإن تنوَّعَتْ ألفاظها: السلام على الأرض والرجاء الصالح لبني البشر، الإنسان أخو الإنسان أحَبَّ أم كره.

هو صوت بعيد قريب، بعيد في لسانه، قريب في روحه ومعناه، لا يُؤخَذ صاحبه بالأوهام، ولكنه على يقين أن أولي الأمر في كراسي الدول العالية سيسمعونه، وإن خفي فلا يضيع في مجموع أصوات إخوانه أنصار الإنسانية الجديدة في العالم، وحاملي أعلامها.

وهذا الصوت الآن يقول: إذا عاد جبل طارق إلى الإسبان فيجب أن تُنزَع الحصون والاستحكامات كلها، وإذا عادت طنجة إلى حالتها الطبيعية في الحكم، يجب أن تبقى كما هي الآن مجرَّدَة من الحصون والسلاح.

وكذلك قُلْ في سبتة والجزيرة وجبالها؛ لا سلام بحصون، ولا حصون بدون حروب تثيرها.

رعيًا ليوم تصبح فيه مضايق العالم كلها مجرَّدة من الحصون والسلاح، عامرة بأسباب السلام والعلم والاطمئنان.

رعيًا وسقيًا ليوم يصبح فيه هذا المضيق، مضيق جبل طارق، بابًا واسعًا حرًّا، ومفتوحًا على الدوام لكل ما فيه خير الأمم المتواصلة المتآخية.

هذا المضيق الذي يصل البحر الأبيض، العظيم بتاريخه ومآثر شعوبه، بالبحر الأطلنتيق، العظيم بما وراءه من عزم جديد، وفكر جديد، ومن الأعمال الجبَّارة في نظامها الصناعي، وأهدافها الإنسانية.

هذا المضيق بين البحرين العظيمين بما كان من تاريخ الواحد، وبما سيكون من تاريخ الآخَر، بل بين العالمين القديم الماشي إلى الفناء، والجديد الوثَّاب الناظر إلى العلياء، هو طريق التجارة اليوم، هو طريق التفاهم غدًا. نعم، وفوق ذلك هو طريق الثقافة الجديدة، ثقافة الجماعات، لا ثقافة الأفراد.

والجماعات في العالم القديم صائرة إلى العبودية والفناء، إن لم تتواصل والعالم الجديد تواصلًا حرًّا مستمرًّا، فتستمد من آفاقه الواسعة نورًا وأملًا، ومن مآثره الصناعية والاكتشافية غذاءً للعقول والقلوب.

١  كان العرب يسمونه بحر الزقاق.
٢  ولقد تمت النبوءة بعد سنة من كتابتها، أي يوم استقلت الحكومة الإسبانية بالحكم في طنجة، فمات ذلك النظام المعتوه. راجع «حاشية الحواشي» في نهاية الفصل السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤