الفصل السادس

معضلة قديمة العهد

لا يزال التملك من الحقوق المشروعة اليوم في العلم، لا ينفيه تعليم من التعاليم الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، ولا تنفيه حتى الشيوعية؛ فالتملك الجزئي الفردي يستحيل فيها تملكًا كليًّا — حكوميًّا وطنيًّا.

ولا يزال هذا الحق المشروع الفردي أو الكلي يُثبَت ويؤيَّد بالقوة، ولا ينفي ذلك وضع من أوضاع الحكم، ديمقراطيًّا كان أم دكتاتوريًّا، ولا تنفيه فلسفة من الفلسفات العقلية، النظرية والعملية؛ لأنها تقوم كذلك بنوع من القوة، أي بقوة البرهان والمنطق.

على أن المنطق والبرهان مقيَّدان في هذا الزمان بشتى العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية — بالدعاية، بالمال، بالتقاليد، بالتعليم الجامد الرسمي. وبكلمة أخص وأوضح هما مقيَّدان بالصحافة وأساليب النشر كلها، وبالمصالح المالية والسياسية، والعقائد الموروثة، والسيادة التقليدية الجامدة، سواء في السياسة، أم في الدين، أم في الاجتماع.

وليس من فصل فيها بعد الجدل والنزاع، غير القوة، القوة المادية أو القوة السياسية التي للسلطة بالاقتراع، بَيْدَ أن للاقتراع في الحكومات الديمقراطية أساليب شاذة، كما نعلم، قوامها الدعاية والمال.

أما القوة الروحية، فهي الهدامة لكل ما سواها من القوى، إذا ما وُضِعت هذه القوة موضع العمل. تثبت حق الإنسان في تقرير مصيره الدنيوي، ولا تثبت حق التملُّك. لا أقول: «الملك لله»، وإن قلتها متصوفًا، أصلح بها ظنًّا، أو أضمد أملًا فلا أكملها. لست مردِّدًا ما يردِّده أتقياء المسلمين؛ لأن الكثيرين من الذين يأخذون الملك بالسيف، وأولئك الذين يأخذونه بالمدافع والقنابل والغازات السامة، يزعزعون عقيدتنا بحكمة الله وعدله.

ولكني أقول: «الأرض لله»، وليس للإنسان غير ثمرة عمله ضمن نظام مبني على الحق الإلهي في التملك، ومؤيد له.

فهل بلغ الإنسان في ارتقائه العقلي والروحي هذه الدرجة العالية؟ لا أظن أن أحدًا من المفكِّرين و«الفردوسيين» يدَّعِي ذلك. أما أن الإنسان سائر إلى تلك الحجة، مصعِّد دائمًا في تطوره وإن وقف أحيانًا أو عاد نازلًا درجة أو درجات، فمما لا ريب فيه. وليس من روَّاد الفكر المغامر، أو من أعلام الرقي المستمر، أو الدائم وإن تقطَّع، مَن ينكر ذلك.

أعود إذن إلى كلمتي الأولى: التملك من الحقوق المشروعة اليوم في العالم، ولا يزال الحق المشروع يُثبَت ويُؤيَّد بالقوة.

على أن في زماننا نزعة رجعية في حق التملُّكِ، لا يثبتها البرهان والمنطق، وقد تُثبِتها القوة، وإن نفى البرهان والعقل عوامل تلك النزعة كلها، العوامل القومية الدينية والسياسية والاقتصادية، فإن القوة بيد النازعين تلك النزعة تتغلب على العقل والبرهان، تتغلب في فلسطين مثلًا أو في أرلندا أو في ألمانيا أو في أفريقيا الشمالية.

وقلَّمَا يقع الاستشهاد بالتاريخ في دحضها ومقاومتها، بل قد يؤيد في مناقضاته الوجهين. فإذا أنا قلتُ مثلًا: لا حق للإسبان في أفريقيا. تقول أنت: ولا حق للعرب؛ إن أهل البلاد الأصليين، بموجب ما هو معروف من التاريخ، هم البربر، والبربر أحياء يُرزَقون أو لا يُرزَقون.

نعم، إن البرهان يؤيِّد حقهم، ولكن القوة تتغلب على البرهان.

وإن قال لي العربي المسلم: ولكن البربر مسلمون، وإخوان — عملًا بالقاعدة الإسلامية — للعرب المسلمين، قلت له: وقد كانوا قبل إسلامهم نصارى ويهودًا ووثنيين! فيحق لهم، والحال هذه، أن ينزعوا النزعة الأرلندية أو الألمانية أو الصهيونية، ويُخرِجوا — إن استطاعوا — الإسبان والعرب من البلاد.

أما أنهم عاجزون، فالعجز لا يُفسِد البرهان، وأما أنهم لا يستطيعون أن يؤيِّدوا البرهان بالقوة فذلك من سوء — لا، ذلك من حسن — حظهم. فما زال الجهل متفشيًا بينهم، والبداوة سائدة في معظم أحوالهم، وهي تولِّدُ مع الجهل كل عوامل التفرقة والتخاذل والانحطاط، وما لهم، والحال هذه إلا أن يقبلوا بالواقع ويذعنوا لإمرته.

وأما العرب المتغلبون عليهم، فشأنهم في مجمله غير ذلك. العرب مثل الإسبان فاتحون، وقُلْ — ولا حرج — دخلاء، ولكنهم على تفرُّقهم اليوم وتخاذُلِهم غيرُ عاجزين. إنهم لمن الشعوب العريقة في الحضارة المثبتة حقوقها القومية، بما لها من المآثر المجيدة في نشر أعلام التمدُّن، وفي تعزيز أسبابه علمًا وعملًا.

ذلك يصح أيضًا في الإسبان، فالأمر بين العرب والإسبان ليس كالأمر بينهم وبين البربر. يحق للعرب أن يقولوا للإسبان: إننا وإياكم في الحضارة، في ماضيها على الأقل، أقران وشركاء. ولا يحق للبربر أن يقولوا هذا القول، لا للإسبان ولا للعرب، على أنهم في تقاليدهم وعاداتهم، في مجمل أحوالهم، أقرب إلى العرب منهم إلى الإسبان، وهم للعرب إخوان في الدين. من المقدور إذن أن يكونوا والعرب أمة واحدة، فيضاف حق البربر في البلاد إلى حق العرب، وترجح كفتهم في ميزان الاستيلاء. أفيحق لهم، وهذا حالهم أو مصيرهم، أن يُخرِجوا الإسبان من البلاد؟ أجيب: نعم. إذا شاءوا ذلك جميعًا واستطاعوا.

هذه الملاحظات نشأت عن شعور ملكني عندما دخلت سبتة وعلمت شيئًا من ظاهرها، فقد كنتُ أتوقَّع أن أرى على شاطئ أفريقيا مدينة أفريقية عربية، فرأيت مدينة أوروبية إسبانية في كل أحوالها ومظاهرها، فنبا القلب وخاب الأمل.

ولكني بعد أن عرفت شيئًا من تاريخها، وعرفت أن الإسبان تملَّكوها كما تملَّك العرب أفريقيا، وقفت متبصِّرًا متأملًا، فإن كان شعوري لم يتغيَّر، فقد تغيَّر نظري. أول مَن تغلَّب على صاحب البلاد المغربي العربي البرتغاليون، كما أسلفت القول، فانتزعوا سبتة من ملكه، ثم تغلَّبَ الإسبان على البرتغاليين فضموها إلى ملكهم، كما تغلَّبَ عرب الفتح على البربر والغُوط واحتلوا بلادهم في قديم الزمان. إذن الحق في الأحوال الثلاثة واحد ولا استثناء.

هذا في الماضي، أما اليوم فقد دخل في الأمر عامل جديد فغيَّر بعض صورته. فإن قلنا إن الإسبان هم في سبتة، مثل العرب في باقي المغرب، أصحاب حق مشروع، ما دامت القوة هي التي تثبت الحق وتؤيده، فإننا نقول كذلك إن احتلال الإسبان لقسم من المغرب هو للعرب يوجب عليهم التنزُّل، تلقاء ذلك، عن بعض حقوقهم في سبتة.

ونقول أيضًا إن حقيقة الفتح فالاحتلال لا تغيِّر الحقائق الجغرافية والاقتصادية، ولا تلبس الحقيقة السياسية ثوب الحق الدائم والعصمة. إن سبتة جزء من الأرض المحتلة، وليس بينها وبين العاصمة تطوان غير بضعة وثلاثين كيلومترًا — ولا جبال ولا أنهر تفصل بين المدينتين، كما تفصل الجبال اللبنانية والشرقية مثلًا بين بيروت ودمشق. فهل تدوم سيادة الإسبان المطلقة في مدينة الساحل إذا كان حقهم المشروع لا يصطبغ بشيء من العدل الاستعماري، أو بشيء من الأقل من الكياسة والحكمة؟ إن تقسيمهم لبلد أفريقي هو مضر بمصالحهم ومصالح المغاربة العرب. فلماذا، وهم الحامون لجزء من المغرب لا تُضم المدينة ومنطقتها إلى الأرض المحمية، فتشترك فيما لها وما عليها من حقوق وواجبات؟ لماذا — بكلمة أخص — لا ينقل الجمرك المغربي الخليفي من كستيَّاخو إلى سبتة، فتصير هذه المدينة الميناء السياسي والاقتصادي للمغرب الشمالي، كما هي ميناؤه الطبيعي؟!

أسأل هذه التساؤلات وأنا أشعر أن هناك معضلة أخرى قديمة العهد تكمن في الجواب مهما كان من حقيقته السياسية أو الشرعية. فالإسبان من الفرنجة، ومن صميم النصرانية، والنصارى الفرنج السائدون في البلدان الإسلامية لا يزالون يشكُّون في استطاعة الحاكم الإسلامي أن يُقِيم العدل في رعاياه جميعًا: الأهالي والأجانب، المسلمين وغير المسلمين، على السواء، وهم يتذرعون بالنصارى المسودين، أو بالأقليات الأجنبية؛ ليثبتوا ملكهم أو حمايتهم أو انتدابهم في البلاد التي يحتلون ويستعمرون.

على أن في إسبانيا اليوم عقلية سياسية جديدة، يتوقَّع من أصحابها المسيطرين أن لا يعيدوا أخطاء الماضي، ولا يستمروا فيها. فإن السياسة الاستعمارية القديمة أمست في أيامنا عقيمة ذميمة، وهم مدركون ذلك، ومباشرون في المغرب سياسة جديدة كما سنرى. فهل يصح معها التجزئة في البلاد التي يسيطرون على مقدراتها؟ وهل يجوز — وهم أقرب الأوروبيين إلى العرب، وأميلهم إلى التعاون النزيه المثمر خيرًا للشعبين — أن يتشبثوا بتقاليد سياسية قديمة لا خير فيها لأحدهما؟

ستعرض هذه المسألة لنا في مواقفَ أخرى من هذه الرحلة، فنعود إلى بحثها متقصِّين ما تغيَّر منها، وما تطوَّر، وما كان جامدًا لا يتغيَّر ولا يتطوَّر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤