الفصل السابع

المدينة البيضاء

الشاطئ الأقصى للمغرب الأقصى يبرز برأس ضخم من البر، عرضه من سبتة إلى سبارتل نحو خمسين كيلومترًا، وطوله من كلا الجانبين الغربي والشرقي، أي من طنجة إلى أصيلة، ومن سبتة إلى واد مرتين، نحو أربعين من الكيلومترات، فتكون المدن الثلاث: طنجة وتطوان وأصيلة، في مربَّع من الأرض هو شبه جزيرة، ويكون لجوها ومجرى الرياح فيها مزية خاصة كما سنذكر فيما بعدُ.

وهذا الشاطئ الذي نزلنا عند طرفه الشمالي الشرقي في سبتة، بعد أن يصل جنوبًا إلى واد مرتين، يمتد شرقًا نحو مائتي كيلومتر إلى مدينة مليلة الكائنة في الناحية الشرقية من رأس برٍّ آخَر، ضيِّق طويل، تقطنه قبيلة بني سيغار، وهو في صورته على الخارطة شبيه باﻟ «سيكار».

هذا هو الشاطئ الشمالي لمنطقة الحماية الإسبانية، وقد أكل البحر منه عشرة آلاف كيلومتر مربَّعة فبعدت أفريقيا من أوروبا، بعد أن حاولت أن تعانقها في إسبانيا عند بحر الزقاق، أي مضيق جبل طارق.

وقد بعدنا نحن من إسبانيا التي تعانِق اليوم أفريقيا في سبتة، وتبثها لواعج الغرام، فبلغنا بعد أن اجتزنا الحدود، قرية رنكون  Rincon أي الزاوية؛ لأنها قائمة بل نائمة عند منعطف من الشاطئ. يظهر أنها نائمة ولكن أكثر أهلها، وهم من الإسبان، يخرجون في النهار إلى البحر إلى البحر لصيد السمك. هي مهنة أهل رنكون، وساحة السمك في تطوان تشهد لهم بالمهارة والنشاط، كما يشهد البحر عليهم بالغزوات المهلكة لرعاياه.
بدا لنا ونحن نمر بالقرية، بيت أبيض جميل، بل قصر صغير هندسته أندلسية عربية، فظننته قصر الرئيس لنقابة الصيادين، وما هو غير محطة لسكة الحديد!١

ومن رنكون نستمر في السير متجهين اتجاه الشاطئ، وإن بعدنا نحن قليلًا عنه، أو غاب هو عن الأنظار. فندنو، بعد نحو عشرين كيلومترًا، من واد مرتين، بلدة الاصطياف والسياحة لأهل تطوان — هي منَّا إلى اليسار — ونمر بمروج منطقة بالبيوت الصغيرة البيضاء القريبة من العاصمة.

وهاك أهل العاصمة، من رجال ونساء، وصبيان وبنات، هاكهم في الطريق وفي تلك المروج زرافات زرافات. فهل خرجوا يا تُرَى لملاقاتنا، كما كان يفعل أهل اليمن عندما تدنو قافلتنا من مساكنهم؟

سألت السنيور آراغون هذا السؤال، فظنني مازحًا أو متهكمًا، وما ساءني مع ذلك ما علمت، بل كنت مسرورًا به ومتيمنًا.

فلقد اتفق أن وصلنا إلى تطوان في اليوم الثاني من عيد المولد النبوي … وهذه الجموع من أتقياء المسلمين، في الأثواب البيضاء الناصعة البياض، خرجت من المدينة للاحتفال بالعيد في المروج والبساتين.

رأيت بين النساء مَن هن محجبات، ومَن هن سافرات، وقد حملت السافرات على رءوسهن قبعات (برانيط) القش الفضفاضة كالمظلات؛ فالمحجبات هن من المدينة، وأخواتهن السافرات المبرنطات من القبائل.

هو الشعب المغربي، وقد اختلط بَدَوه بحضره، وكلهم في بهجة العيد، ولا أثر للبهجة في الوجوه. يمشون ساكنين قانتين، كأنَّ على رءوسهم طيور الجنة، أو كأنهم مثل الإنكليز يستقبلون المسرات بوجوه ألفت الكآبة!

أما أنهم في تجمهرهم متمدنون أكثر ممَّن يظنون أنهم شعب المدينة المختار، كالأمريكيين مثلًا أو الأرلنديين المتدافعين المتصاخبين في الاجتماعات، فهذه السكينة السائدة في سيرهم أو تلك التؤدة المرافقة لصفوفهم، تشهد بذلك شهادة صادقة عادلة.

انقسمت الجموع في الطريق شطرين ليفسحوا لسيارتنا، فأدركتنا بركة الرسول من الجانبين، وكشفت عن مشهد عند منعطف الوادي فيه دهشات وبركات.

جئت المغرب وفي الذهن صورة لمدنه وقراه لا تختلف عمَّا كنت أشاهده في اليمن وفي نجد؛ هي صورة بسيطة ذات خطوط قليلة، وأشعة تخفي ما في الظلال من إشارات لكرامة وادعة، وآيات بالفقر صادعة. فلما أطللت على تطوان المنبسطة في عرض الجبل، المشرفة على واد مرتين٢ ونهره، عرتني دهشة سرور وإعجاب.

هي مدينة، مدينة كبيرة، مدينة عامرة، هي مدينة مغربية تلبس بيوتها البرانس البيض مثل أهلها — هي المدينة البيضاء.

وها هو ذا إلى اليسار صرْحٌ آخَر أبيض جميل، صرح منمنم أندلسي عربي، هو المحطة الكبرى لخُطيْطات سكة الحديد.

وها هي ذي إلى اليمين الحديقة العامة، وقد تدلَّتْ من جدرانها العرائش الزاهرة بما يزري بألوان الشمس الغاربة.

دخلنا المدينة ساعة الغروب، فرحَّبَ بي في الفندق مستشار سمو الخليفة مولاي الحسن بلغة عربية مفخَّمة. ليس حضرة المستشار من المغرب أو من المشرق، بل هو من إسبانيا، من أقحاح الإسبان، وقد هداه الله في شبابه إلى مدينة العلم اللبنانية، إلى بيروت، فشرب من مناهل العربية في مدرسة الحكمة، وهو لا يزال يذكر الموارد الأخرى التي يَرِدُها طلبة المدارس في تلك المدينة. أكتفي الآن بهذه الكلمة تعريفًا بالسنيور إميليو الفارس — إميل فارس — طوباو. فقد رحَّبَ بي كما قلت باسم الخليفة الحسن كما رحَّبَ السيدان آراغون والبستاني باسم المقيم العام.

انتهت الرسميات أو كادت، فكنت شاكرًا مسرورًا، وقد أكَّدَ لي سعادة المقيم، أو كما يقول المغاربة مجادة المقيم، السنيور دون خوان بايبدر،٣ الذي تفضَّلَ فاستقبلني في صباح اليوم التالي؛ أنه يرفع ستار الرسميات بينه وبيني. قالها باللغة الإنكليزية التي يحسنها: No protocol between us.

ثم اشترط عليَّ شرطًا واحدًا، وهو أن أكون صريحًا كل الصراحة فيما أبديه له من رأي أو ملاحظة أو انتقاد بعد المشاهدات والدرس.

وقال: إني صريح الكلمة فأحب الصراحة، ولا أزدري النصيحة، فلك أن تزور أي مكان، وأية بلدة، وأية قبيلة تشاء، فتشاهد ما نحن قائمون به من الأعمال الإنشائية، العمرانية والثقافية والصحية، وتنبِّهنا إلى ما قد يكون فيها من نقص أو خلل، وهذا الأستاذ البستاني يرافقك حيث تشاء، هو رفيقك ودليلك في المدينة وخارج المدينة — في المنطقة كلها — ومكتبي هذا مفتوح لك تجيء في أي وقت تريد، للحديث إن لم أكن مشغولًا، أو للاستراحة ومطالعة الجرائد.

أما الاستراحة، فقد علمت بعدئذٍ أنه عندما يبغيها هو يكون في حاجة شديدة إليها، يفرُّ هاربًا من مكتبه إلى بيت بناه لهذه الغاية في العرائش، خارج المدينة. فهل كانت دعوته هذه من باب المجاملة؟ أو أنه أراد أن يشركني في الفرار من ذلك المكتب إلى العرائش؟ ما تسنَّى لي أن أتأكَّد أحد الأمرين؛ لأني خلال الأسابيع الستة التي شُغِلت فيها بالمغرب وأحواله، ما عرفت إلى الراحة سبيلًا أو زنقة، أو منفذًا سريًّا!

فمن رحلة إلى رحلة، ومن زيارة معهد إلى زيارة قبيلة، ومن مقابلات في الفندق إلى مقابلات في المآدب وحفلات الشاي، ومن ساعات الدرس والاستقصاء إلى ساعات الكتابة والتمحيص …

فكيف السبيل إليكِ، يا ربة الفراغ والسكينة، يا طبيبة الأجساد المكدودة بحوافر الليل والنهار، يا حبيبة العقول المشدودة الأوتار، يا مريحة الأعصاب، ومزيلة الأوصاب، أين أنتِ؟

يا برج العاج المسحور، يا باب الفرح والحبور، يا مضمخة الأرواح بطيب الجنان، يا ربة اللاشيء واللازمان، كيف السبيل إليك؟

نشدتك في المغرب فقامت العقبات كالأطلس بيني وبينك، العقبات التي ذكرت قليلًا منها، وما ذكرت عادات القوم، في الأكل والنوم، فيما يحسبونه الوقت اليقين للصالحين؛ فالغداء في الساعة الثالثة بعد الظهر، والعشاء في الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الغروب، والنوم بعد نصف الليل … هو المغرب! هي السياحة في المغرب!

ونحن لا نزال في أولها، في عاصمة البلاد — كتب الله لنا ولك الخير والسلامة.

تطوان — وتطاون، وتطاوين — هي مدينة حديثة العهد، لا صلة لها بجلال العتق والعدم، ليست بفينيقية أو بيزنطية كسبتة وطنجة؛ فقد تخططت في أواخر القرن الخامس عشر عندما بدأ العرب ينزحون من الأندلس، وأشرف على بنائها، والأصح على بناء السور وبيوت المهاجرين الأوَل، القائد علي المنظري من شفشاون،٤ هذه المدينة قائمة في عرض الجبل الشمالي فوق الوادي الذي يجري فيه نهر مرتيل أو مرتين. وبما أنها في شبه جزيرة، كما تقدم، وفي مركز تكثر حوله مضايق الجبال، فهي عرضة للرياح الغربية والشمالية والشرقية، تعصف في واديها من الأقيانوس، ومن البحر المتوسط، في كل فصول السنة فيسوء جوها، ويكثف هواؤها، فيشتد بردها في الشتاء ولا ينكشف في الليل حرُّ نهار الصيف.

ومع أن الحر شديد، ويبدأ غالبًا قبل شهر يوليو، فقد جئتها في أوائل مايو، وأقمت فيها حتى آخِر الشهر التالي، وما اضطررت إلى تغيير أثوابي الشتوية. ويوم غادرتها كان الجو معتدلًا، فما شعرت بالحر قبل وصولي إلى الجزيرة، وقد بلغ أشده في جبل طارق؛ مما يدل على أن الحرارة الجوية لا تتقيد بدرجات الأرض من خط الاستواء شمالًا أو جنوبًا فقط، بل هي تتصل بعوامل أخرى — بمجاري الرياح بالأنجاد من الأرض والأغوار، بالمنفرجات منها والمضايق، برِقَّة الهواء وكثافته، وخصوصًا بما فيه من رطوبة أو جفاف.

وعلى ذكر الجفاف أدوِّن ها هنا الحقيقة الجغرافية الأخرى، وهي أن تطوان، بل هذه المنطقة من المغرب الأقصى، هي مصر وسوريا في إقليم واحد، فيسود فيها القيظ خمسة أشهر في السنة، وتنقطع الأمطار في شهر أبريل، ولا يعود خيرها حتى أكتوبر. أما مناخ تطوان، فهو جيد على الإجمال، وبالرغم من اشتداد البرد في فصل الشتاء، قلما يسقط فيها الثلج إلا كل فترة من الزمن. قيل لي إنه في فبراير سنة ١٩٤٣ سقط الثلج في المدينة بغزارة ما شهده التطاونة الطاعنون في السن مثلها منذ أربعين سنة.

لا أظن أن الرياح تؤثِّر كثيرًا أو قليلًا في المناخ، ولكنها حقًّا مزعجة، وليس لها وقت أو قاعدة، إن عصفت من الغرب أو من الشمال الشرقي — وحينًا تتفق الريحان، فتعصفان معًا في تطوان — فقل العياذ بالله. فلو خطَّط المنظري ورجاله المدينة في الناحية الشمالية الشرقية، أي في السهل المواجه للبحر المتوسط؛ لَحَالَ الجبل بينها وبين الرياح الغربية، أو خفَّفَ في الأقل أثر عواصفها، ولكنهم اختاروا مركزها الحاضر؛ لكونه على ما يظهر شبه حصن في منعطف الجبل، وما همهم مهب الرياح، أو أنهم لم يدركوا مصادرها ومجاريها حتى يتجنبوها.

تمتد تطوان في وسط الجبل شرقًا بغرب، وتُشطر شطرين: الجنوبي الأوروبي، والشمال الشرقي الإسلامي. كان يحميها ويضمن الطاعة فيها، حصنٌ قديم فوقها على رأس الجبل، تقوم إلى جنبه اليوم الثكنة الجديدة للجيش النظامي.

من ذلك الحصن أشرفنا على المدينة، والجبال والسهول أمامها وحولها. هو مشهد مألوف في محاسنه ولا يتعالى، يتلون بألوان تسر ولا تبهر، يُدخِل على القلب السكينة غير مقرونة بشيء من الروعة أو الهول، فهو أقرب إلى جبال فلسطين منه إلى لبنان، ولكنه في الأسماء شبيه بالبلدين، تتعدد اللغات فيه كما تتعدد عندنا، وهي في الجبال مثلها في القرى والقبائل، عربية وبربرية ولاتينية وفينيقية.

هاك الجبال الجنوبية مثلًا، وفيها جبل جرجس  Gorgues، ووراءه عند الأفق جبل بوزيتون؛ علو الأول ثمانمائة متر، وعلو الثاني مائتان وألف من الأمتار.
وفي سفح جبل جرجس الأخضر بضعة مشادر،٥ منها بوسمْلان وبنو صالح وسافارين، يتخللها بيوت مبيَّضة منتثرة في البساتين، هي القوافي البيضاء الغنَّاء للقصيدة الزمردية، وهي أجمل ما في المشهد أمامنا.

وإن بين الجبلين وادْ مرتين، فينساب النهر بين سهول مزروعة، وبساتين من التين واللوز والزيتون، تمتد حتى المستنقعات الغربية من البحر، ومن مصب النهر عند البلدة المشاركة له في الاسم التي كانت ميناء تطوان في الماضي.

قلت إن المشهد مجرد من الروعة، ولكن في الجبال الجنوبية أضداد تدنو من مجموعها من ذلك الجمال الهيَّاب؛ فمن البساتين المحيطة بالبيوت، إلى المروج المنبسطة بينها، المنحدرة إلى الوادي، إلى الصخور فوقها المزينة صدورها بالنباتات الطيبة الأريج، إلى القنن المسننة المشمخرة فوق الأعالي الجرداء الموحشة — هاك سُلَّمًا موسيقيًّا جبليًّا.

تُدعَى هذه الناحية الجناح الأخضر، وإن لتطوان في الطرف الجنوبي منتزهًا و«كرنيشًا» يشرف على ذلك الجناح، ويزيد جماله للمتنزهين والمتنزهات في ساعة الغروب.

أما الجبال في الناحية الغربية، فهي على شيء من البُعْد يذهب بمحاسنها الجزئية، فيتجلَّى في مجموعها ذلك الجمال الشعري الغنائي، البعيد القرار والصدى. وأما أسماؤها، فلك فيها الرأي والترجيح. ذاك جبل بني قرِّش قد تردُّه إلى ما تظنه الأصل العربي — قريش — وقد تكون مخطئًا، وذلك ضهر القيطون، نصفه عربي، لا أناقشك فيه، والنصف الآخَر «القيطون» أتون لعلمك وعلمي. أما السهل الذي يتسع في امتداده إليهما، فهو في نظري — ولا خطأ ولا خداع — صورة مصغَّرة لسهل البقاع.

ليس في أبنية تطوان، ولا في مآذن مساجدها، شيء من الشموخ والعظمة؛ فالبيوت مثل المساجد تتسم بميسم البساطة والاتضاع، وهي لا تتجاوز الطابقين، سطوحها بيضاء مثل جدرانها، وتكاد تكون متواصلة.

أما البيوت في الناحية الإسبانية، فهي أوروبية ذات أربع طبقات أو خمس، فيها أمثلة حسنة الظاهر للفن الحديث في الهندسة المعمارية، خصوصًا ما بُنِي في السنوات العشر الأخيرة، وهو من طراز ما يُقام ببيروت في هذا الزمان من الصروح الفخمة المخططة للكراء، المجهزة بالرديء من المرافق، والركيك من أسباب الراحة والرفاه.

وفي أسواق المدينة القديمة لا تشذ القاعدة الشرقية. تلك الأسواق تُدعَى بحق زنقات؛ لأنها سكك ضيقة متعرجة متقطعة، تقف عند جدار، وتنفذ تحت آخَر، درج هنا، وجورة هناك، تتسع في أماكن لثلاثة يمشون في صف واحد، ثم تضيق وتضيق فتختفي كاللص في زقاق مظلم، ولكنها في النظافة تشذ عن القاعدة؛ لا أوساخ ولا فضلات أمام الأبواب، ولا روائح في تلك الزنقات. إنها حقًّا لَعلى جانب بهيج من النظافة.

أما الشوارع، فهي من الناحية الأوروبية الإسبانية، وهي كلها مخطَّطة بتصميم، لها بداية ونهاية، ولها اتجاهات معروفة، وأرصفة مفروشة كلها بالأسمنت، لا أنصاف فيها كما في بعض الأرصفة ببيروت، وهي تمتاز أيضًا عن الناحية الأهلية بما فيها من الساحات والحدائق العمومية، أكبرها وأشهرها ساحة الفدان، التي كانت سوقًا للمواشي، وهي اليوم تُدعَى ساحة إسبانيا، ولا ثيران، ولا حرب، ولا سفك دماء.

ها هنا في هذه الساحة يريد المقيم العام أن يحقِّق حلمًا من أحلامه العمرانية؛ إن في الجهة الشرقية الشمالية منها اليوم بيت المقيم، وإلى جنبه المقيمية، تصلها بالبيت حديقة غنَّاء، وهناك القصر الجديد لسمو الخليفة، تتفيأ ظله دور الوزارات، ثم معهد الدروس المغربية في الجهة الجنوبية، ويجاوره في منعطف الشارع المعهد الخليفي.

– كانت هذه البناية للدرك، فنقلناها وأقمنا فيها هذا المعهد «معهد الدروس المغربية» وهذه المكتبة العمومية، وستذهب المقاهي كلها، وتلك البنايات، فيُشيَّد مكانها صروح للثقافة وللأحكام وللصحة العامة، أريد أن تتمثَّل في هذه الساحة سياستنا العمرانية الثقافية بجميع مظاهرها؛ فتشع منها أنوار العلم والعدل والارتقاء الاجتماعي والمدني.

فقلت: والسياسي؟

فقال: العدل! … كل السياسات تستقيم بالعدل.

ووقف هُنَيْهة عندها ثم أردف قائلًا: والمحبة. بالعدل والمحبة يستقيم كل شيء، وبدون العدل والمحبة لا يستقيم شيء، وستشهد هذه الساحة غدًا على ما أقول.

هي اليوم مفخرة أهل تطوان، فلا عجب إذا غدت كذلك مفخرة الإسبان. إن أحدث ما فيها اليوم، غير المعهدين والمكتبة العمومية، مسمعة الراديو بمكبرها تحمل إلى المجتمعين في الحديقة ما تذيعه محطة المدينة من الخطب والأغاني والأخبار.

هذه المدينة المشعثة المدهامَّة تذكرني بمنشية بيروت في عهدها القديم، قبل أن شذبتها يد الفن الفرنسية وخططتها، فكشفتها للنور، وفرشت جوانبها بالزهور، منها المنظوم والمنثور، حول المياه الجارية، إلى الحوض الزمردي، فغدت حديقة صادقة الاسم والوجه، كاملة.

وإن في تطوان حديقة مثلها صادقة الاسم والوجه، بل ساحة بحديقة هي في نظري أجمل ساحات المدينة. اسمها ساحة مولاي المهدي — والد الخليفة الحسن — ووجهها يمثِّل الإتقان والأناقة في الهندسة والتجميل. في وسطها جنينة زاهرة، مفروشة مماشيها بالأسمنت، وبالمجالس المصنوعة منه على الطراز الروماني القديم — لا ظهر لها ولا جوانب — وحول الجنينة عمد عالية من حديد، في رأسها مصابيح كهربية ضمن زجاجات كبيرة مستديرة، بيضاء غبراء، في كل عمود مصباحان، وفي وسطها العمود الأكبر يحمل حلقة من المصابيح فتبدو في الليل بهجةً للناظرين.

من هذه الساحة تتشعب الأسواق في كل جانب كأنها في الشكل المصغر ساحة الأوبرا بباريس. ستة أسواق تمتد منها غربًا وشرقًا وجنوبًا وشمالًا وما بينها، أما البنايات حولها فهي كلها حديثة البناء والهندسة، من الطراز الذي تقدَّمَ ذكره، ذات طبقات متعددة للسكن؛ فالواقف في الساحة ليلًا يرى أمامه كيفما اتجه بنظره صفوفًا من الأنوار تنير الشوارع المكمِّلة لجمالها وبهجتها.

كانت هذه الساحة ساحتي أيام إقامتي بتطوان، وإني مطريها، لا طمعًا بأن تُدعَى باسمي — من كرم المهدي — بل لأنها تمتاز بغير ما وصفت من جمال؛ فهي في النهار جميلة بمشاهدها، كما هي جميلة في الليل بأنوارها. هي — ولا مبالغة — منقطعة النظير، ليس في تطوان فقط، بل في المغرب والمشرق؛ فإنك إذا وقفت تحت دائرة مصابيحها، ونظرت شمالًا تستقبل الرابية القائمة فوقها الثكنة العسكرية، وما يحيط بها من اخضرار وازدهار، وإذا وليت وجهك شطر الجنوب الشرقي تشاهد هناك رابية أخرى في آخِر السوق، كأنها جزء منه، وما هي قريبة من آخِر بناية فيه.

وهنالك في الجهة الجنوبية، المشهد الأجمل، ذو الروعة والجلال. هنالك؟ قل: ها هنا ولا تخطئ. ها هنا بالقرب من البناية الجديدة، ذات الطبقات الخمس، جبل كامل هو بوزيتون بقننه الشبيهة بالمنشار، المذكرة اللبناني بلبنان في بعض روابيه. هاك بوزيتون لاصقًا بالشارع — كأنه نُقِل من مكانه لساحة مولاي المهدي ليزين الأفق. أقول: إنه لاصق بالشارع طوعًا للخداع البصري، ولكنني مدقق مع ذلك؛ فهو على بضعة أمتار من البناية الزاحف إليها. فأين الحقيقة في المسافة بينه في مكانه وبين الشارع الممتد من الساحة؟ سبحانه وتعالى الزارع بيده بذور الشعر في الحقيقة، وبذور الخيال في الشعر، وبذور الحقائق الصغيرة المختبئة في الخيال. إن المسافة بين بوزيتون وآخِر الشارع الممتد من ساحة مولاي المهدي لتزيد على الثلاثين كيلومترًا، وهي كلها ساعة تنظر من الساحة إلى ذلك الأفق مختبئة في الوادي — واد مرتين — الممتد بينه وبين الطرف المرتفع من المدينة حيث ينتهي الشارع.

ما فرغت من وصف هذه الساحة، ومن التطويف بذكر مولاي المهدي، فإن أجمل ما فيها غير ما وصفت، بل هو أجمل أنواع الجمال، ولكنه لا يدوم أكثر من ساعة أو ساعتين كل يوم، مثل لؤلؤ الشمس الشارقة، أو مثل ذهب الغاربة، وساعته في النهار قبل الغروب هي الساعة الذهبية وقد اختلط فيها اللؤلؤ والمرجان. هي ساعة في ساحة المهدي لمشهد فريد عجيب من مشاهد الإنسانية، مشهد ينسيك كل ما في المشاهد البشرية الأخرى من الأحزان والآلام ومن المنكرات والآثام. في ساحة المهدي — وقى الله اسمها — تشاهد الطهارة في مرحها وفرحها، في لهوها ولعبها، في بهجتها البريئة. ها هنا ساعة الغروب تشاهد الصغار يلعبون ويرقصون، يركضون ويمرحون، وتسمعهم يزقزقون كالطيور ويغنون، الصغار من مغاربة وإسبان، الصغار من ذوي الفاقة واليسار، الصغار سادة الحياة، تجيئهم طائعة وتطيعهم صاغرةً. الصغار في الساحة اﻟ …

وقى الله «مولاي المهدي»، وقاه الله، إن الصغار في هذه الساحة لأصحاب الفردوس الأرضي، ولا فردوس بعدهم في هذه الدنيا.

قلت إن تطوان ممتازة بنظافة أسواقها وزنقاتها وحدائقها، وأهل تطوان، إن كانوا من ذوي الفقر أو اليسار، هم أبناء مدينتهم، لا يرددون الكلمة «النظافة من الإيمان»، إلا ليعملوا بها. خذ المثال من صغارهم؛ فقلما رأيت بين أولئك الصغار ما ينفي العقيدة الشائعة، قلَّ مَن رأيت من الولدان الوسخ الثوب أو الوجه، ومن البنات المهملة أمهاتهن لهن فيجئن إلى الساحة في أثواب زرية، أو شعور مشعَّثة.

ومن ساحة مولاي … أقف لأسجل الأعجوبة، أعجوبتها؛ فقبل أن أنطق بالاسم ساعة الوداع سمعت صوتًا ولا كالأصوات، صوتًا كصوت الأجراس فيما وراء الجبال، صوتًا من الساحة نفسها وقد تجسدت بكل ما فيها ونطقت بمائة من الألسنة، ألسنة الزهور والمصابيح، ألسنة الجبال، ألسنة الصغار أنفسهم، وكلها باللسان الواحد، والصوت الواحد تقول: ساحة الريحاني — ساحة من أحبنا حبًّا صافيًا، حبًّا شعريًّا خالدًا.

ونزلت روح مولاي المهدي من نعيمها الأعلى تبارِك الساحة وجبالها وصغارها — تباركهم جميعًا — وتحمد الله على ما أوحى به إليهم من حسن التسمية!

إذن، من ساحة الريحاني٦ — أقول مستأنفًا الكلام — يمتد شارع الجنرال فرنكو، الذي يستحيل ساعة الغروب، أو بين ساعتي الغروب والعشاء، متنزهًا للكبار من أهل المدينة، وخصوصًا الفتيان، من مغاربة وإسبان، والفتيات من أهل الجنان!

في تلك الساعة تُمنَع العربات والسيارات من المرور في ذلك الشارع، فيمسي بأجمعه من الرصيف، متنزهًا يغص بالناس، بل يمسي معرضًا للفتيان والفتيات، فيمشي الكهول بينهم والكهلات، مستعرضين متفرجين؛ صفًّا صفًّا يمشون خطوة خطوة، وكثيرًا ما ترى الصبيات، الثلاث أو الأربع أو الخمس منهن في الصف الواحد، يتعقبه صف مثله من الشبان.

هي عادة إسبانية قديمة، لا تزال شائعة في بلاد الإسبان، وفي كل بلد يستوطنونه؛ فالحديقة العمومية في المدينة والساحة أو الجادَّة في القرية، هي كلها منظر واحد في تلك الساعة، ساعة النزهة والاستعراض. وإن الشارع القصير، مثل شارع الجنرال فرنكو بتطوان، لأفضل من الطويل، بل هو المختار المستحب؛ لأن الغرض من الموكب هو العرض والاستعراض؛ فيسير العارضون والعارضات، والمستعرضون والمستعرضات من الطرف الواحد إلى الطرف الآخَر، ثم يعودون، ويستمرون غادين في ذلك الشارع رائحين، والعيون منهم تتراشق بالزهور، بالنبال، بالزبيب، حتى ساعة العشاء، فيتفرَّق العشَّاق.

عندما كنت في أشبيلية، في السنة الثانية من الحرب العظمى، كنت أخرج ساعة النزهة إلى حديقة «ماري تيريز» لأُشاهِد هناك موكب المتنزهين والمتنزهات، كانت المركبات الفخمة تقودها الخيول المطهمة، لا تزال يومئذٍ في مجدها، فتغص جادة الحديقة بها، وأكثرها مكشوفة تجلس فيها الجميلات من الإسبانيات والمتجملات اﻟ «دونيات»  Donna واﻟ «دوانات»  Duenna في زينتهن وتبرُّجهن، والمراوح بأيديهن يعبثن بها، وإلى جنب بعض السائقين خدم، بالأثواب الرسمية، والبرانيط السوداء العالية المزدانة بالريش، هو الزهو المكلل بالرسميات، هي الأبهة بكامل صفاتها.

ما تغيَّرَ هذا المشهد الإسباني في انتقاله إلى المكسيك وأميركا الجنوبية، إلا بالمركبات في هذا الزمان؛ فقد كنت أشاهده في مريدا عاصمة البوكاتان، وقد حَلَّ البنزين محل الخيول المطهمة، فذهب بالكثير من أبهته وجماله. وما تغيَّرَ في تطوان إلا بخلو الشارع من الخيول والسيارات جمعاء، وكان الموكب ماشيًا أجمل منه راكبًا، ولا غرو فالغرض الأسمى منه لا يتم بالعجلة، وقد يزداد بالتمهل والتكرار سموًّا، فإن اكتظت الأرض بالأرجل، فالجو يتسع للعيون والقلوب!

•••

هذي هي تطوان في نزهاتها، وأما تطوان في العمل فإنك تشاهد زحماتها في أسواقها القديمة، وقلَّمَا تروقك، على ما فيها من صناعات مغربية؛ فمن الحوانيت التي تباع فيها التحف والمواعين، والبرانس والأحذية والزرابي والوسائد والجلود المنقوشة والمذهَّبَة، تسير إلى مطلع أنوارها ودائرة علومها وفنونها، إلى مدرسة الصناعات.

استقبلنا في الباب رئيس المدرسة السنيور موريانو برتوشي Mariano Bertuchi الفنان الإسباني الغرناطي، الممثِّل الحياة المغربية في لوحاته الزيتية تمثيلًا بليغًا صادقًا، وعرفنا بالمدير السنيور يواكيم فنيرو  Joaquim Venero فطوفنا بالمكان، وكان فخورًا بما يجدد فيه من صناعات المغرب التي تكاد تضمحل.

فإن كانت صناعة البُسُط — السجاد — من تلك الصناعات فهي إما مضمحلة، وإما مجدِّدة للأصل الخشن الزري. وقفنا عند سجادة كبيرة، والأصح أن تُدعَى بساطًا أوروبيًّا، طولها ثلاثة أمتار، وقد جلسَتْ على الأرض أمام النول ثلاث بنات، تعمل كل منهن في قسم منها، فتعقد العقدة تلو العقدة، وتقطع أطرافها بالسكين، وهي تلزم الرسم المرسوم لها. إنه لعمل بطيء وغير دقيق، ولا عجب، فالناسجات طالبات ولا تنجز الواحدة منهن في اليوم الواحد، أي في سبع ساعات، أكثر من خمسة عشر سنتيمترًا.

ولكنها تتعلم وتزقزق معًا، فتكسب فوق الصناعة «بسيطتين» أو ثلاث «بسيطات» — ٢٠ أو ٣٠ قرشًا — كل يوم، وعندما تتزوَّج تقدِّم لها المدرسة المواد اللازمة للعمل في بيتها.

هذه الصناعة حديثة في تطوان، وهي أهلية محض؛ فالصوف المفتول السَّدَى، المنقوش اللُّحْمَة، من البلاد، وكذلك الأصباغ فكلها نباتية، إلا النيلة فتُجلَب من إسبانيا أو إنكلترا.

انتقلنا من دار الأنوال إلى دار الفارات والأزاميل — من روائح الأصباغ إلى الرائحة العطرية المنتشرة من بين الخشب والمنشار. نحن في دار النجَّارين حيث يتعلم الطلبة هذه الصناعة التي امتاز بها المغاربة والعرب قديمًا، فنطقت آثارهم في قرطبة وغرناطة وأشبيلية بآيات من الفن حفرًا ونقشًا، خصوصًا ما كان منه في الأبواب والجدران ورواقد السقوف.

وها هم أولاء أبناؤهم من الجيل العاشر، وقد ذهبت من بين أيديهم صناعةُ الأجداد أو كادت، فجاءوا يستعيدونها في هذه المدرسة، فيتمرنون بخشب بلادهم، بالجوز والبقس٧ والسنديان، على جرَّة الفارة، وسياق الإزميل، ويقلِّدون فيما يصنعون، من موائد وأُطُر وأبواب، الصناعةَ الأندلسية العربية، شكلًا وحفرًا ونقشًا، ثم يتعلمون الفن الأعلى في التزيين؛ تزيين القباب والأقواس، أي فن التقرنص.

أجرة المعلمين في هذه المدرسة تتراوح بين الخمس عشرة بسيطة والعشرين — ليرة ونصف لبنانية وليرتين — والتلاميذ يُهدون مع أجرتهم اليومية «١–٣ بسيطات» الهدايا من صنع أيديهم، والمبرزون منهم يرسلون إلى إسبانيا ليتعلموا فنًّا من الفنون الجميلة.

أما صناعة البلاط الأندلسي العربي، فلا تزال شائعة زاهرة، وفي مدرسة الصناعات فرع لها يتعلم الطلبة فيه الأوليات في جبل التراب وسنِّه وصبغه بالأصباغ، ثم تقطيعه مربعات ومثلثات ومخمسات لصناعة الفسيفساء. أما الألوان والرسوم فأكثرها مأخوذ مما يُشاهَد اليوم في دور الحمراء.

سألت المدير عن ذلك اللون النادر في البلاط العربي القديم، أي السماوي الضارب إلى الاصفرار، فقال إنهم اهتدوا إلى ما يشبهه في ماء يُستخرَج من بعض الأعشاب.

وقال الشيخ الأستاذ، الذي كان يؤلِّف قطعة من الفسيفساء، قال بعد أن رفع النظارات عن عينيه: الصبَّاغ العتيق النادر هو ابن الأيام.

فقلت مشيرًا إلى الرسوم أمامه: وهذه؟ فأجاب فورًا: منها القديم المقلَّد، ومنها الجديد المولَّد. قالها بالعربية الفصحى، بلهجة تندر في غير المتعلمين من أهل المغرب، ولكن الأستاذ الجليل من المتعلمين، وإن لعب بالطين.

وهناك فروع للحدادة والصياغة وآنية النحاس، ذكَّرتني بالشام والبلاد العربية الأخرى، فما كان المغرب في المقارنة من المجلين. فصناعة النحاس هي أولية بالنسبة إلى ما تمتاز به دمشق، وصناعة التخريم في قبضات الخناجر وغيرها هي دون ما رأيت منها في صنعاء وفي الأحساء.

أما أولى الصناعات المغربية التي اشتهر المغرب بها، فهي صناعة الجلد وما يتصل بها من فن التجميل نقشًا وتذهيبًا. إنها الصناعة التي لا يزال المغرب يحمل علمها، ويحرز جوائز معارضها، فلا يُبزُّ فيها ولا يُبارَى، وإن محفظة للأوراق من الجلد المغربي اللين كالدمقس المذهَّبَ أو المفضَّض في نقشه البارز، لَتحفة من التحف التي يفاخر بها حتى في عواصم الفن والجمال بأوروبا.

ومن الصناعات المغربية القديمة المتسمة بميسم الفن المغربي، صناعة الخناجر والبنادق — البواريد — وخصوصًا تلك البارودة الطويلة الرفيعة العنق، الواسعة القبضة، التي تُدعَى أم كحلة، المشهورة بهذا الاسم في المغرب، وقد أمست للزينة بعد عزِّها في ساحات الوغى، وليس لها في مدرسة الصناعات غير غرفة صغيرة، وأستاذ واحد وطالبان اثنان، أو معاونان له في المحافظة على مجدها وكيانها.

تناوَلَ الأستاذ الشيخ بارودةً من الزاوية وراءه، وقال وهو يرنو إليها: هذه مكْحلة، هذي أم كحلة. وفهمت الباقي من كلامه بواسطة الأستاذ البستاني الذي يُحسِن التحدُّث «بالهدرة» المغربية. فقد كانت تُصنَع هذه البواريد في تطوان لسلاطين المغرب؛ يُصنَع منها العدد الكثير في مصنع كبير كان يعمل فيه خمسمائة من العمَّال والمعلمين. قال: «هِذِ مُّكحْلة.» ثم أعادها إلى مكانها في الزاوية وهو يكرِّر اسمها بصوت فيه حب وحنين، كأنه يقول: من الغزو والقتال إلى غزل العنكبوت — من ساحات المجد إلى زاوية النسيان!

– ولا أمل بأن يجد معملها في تطوان.

قال المدير: ما يُصنع منها اليوم يباع للسيَّاح أو المتاحف، وهو قليل.

أما الصناعات الأخرى، فهي المعول عليها في ازدهار الصناعة والتجارة، وفي تحسين أحوال العمَّال.

قد تأسَّسَتْ هذه المدرسة سنة ١٩٣٠، وفي شتى فروعها اليوم أكثر من مائة طالب ومعلم.

سألت السنيور فنيرو: وهل كلهم مغاربة؟ فأجاب: نعم.

– وهل كلهم مسلمون؟ فقال: المسلم وغير المسلم سواء. عندنا من اليهود بضعة صبيان، ولكن اليهود لا يُقبِلون على الصناعات.

اليهود في تطوان مثلهم في كل مكان، وإن تغيَّرَتِ القيافات، فالمهن — التجارية والصرافة وما إليهما — لا تتغيَّر.

رأيت ونحن عائدون إلى الفندق، رجلًا في قيافة ألفتُ رؤيتها في لبنان — ألفتها وما كلفت بها. أرهبان في تطوان؟ فأجاب البستاني بالسلب المطلق.

– وهذا الذي رأيناه في القفطان الأسود والطاقية السوداء واللحية الكثة المشعَّثة؟

– هذا يهودي، وأكثر اليهود في المغرب يلبسون لباس أجدادهم الأندلسيين والبرتغاليين.

– وهل هم كثيرون في تطوان؟

– ستة أو سبعة آلاف.٨

وقد علمت بعدئذٍ، بمحادثتي المراقب المحلي في الموضوع، أنهم لا ينقصون ولا يزيدون.

أما المسلمون والإسبان فإنهم في ازدياد مستمر. الدليل الأول: المواليد؛ فهي في المدن وفي بعض القبائل أكثر جدًّا من الوفيات. الدليل الثاني: أسواق المدينة.

فما رأيت في كل المدن التي زرتها وأقمت فيها مدينةً تكثر الأولاد في أسواقها وحدائقها مثل تطوان.٩
١  في المنطقة ثلاثة خطوط حديدية صغيرة. هذا بين سبتة وتطوان (٤٥ كيلومترًا)، وآخَر بين العرائش والقصر الكبير (٢٥ كيلومترًا)، وأقصرها بين الناضور وتستوتين.
٢  الواد — بتسكين الدال — هو اختصار الإسبان والمغاربة للوادي، وهو يُطلَق كذلك على النهر، فيقولون: واد مرتين — مرتيل Martil بالإسبانية — أي نهر مرتين وواديه.
٣  يكتب بالإسبانية Beigbederg ويُلفَظ: بايبدر لا بيكبدر.
٤  وجاء في تاريخ ابن خلدون، المجلد السابع ٢٣٧ ما يلي:

لما استقرَّ الأمر للسلطان أبي ثابت المريني بعد أن قضى على أبي العلاء بطنجة، أمر باختطاط بلدة تيطاون (٧٠٧ﻫ/١٣٠٨م) لنزول معسكره فيها والأخذ بمخنق سبتة … وفي خلال ذلك اعتلَّ السلطان فمرض، وقضى أيامًا قلائل، وهلك في ثامن صفر من سنة ٧٠٧. فالمنظري إذن كمل العمل الذي باشره عمال السلطان أبي ثابت المريني.

٥  المشدر بلغة الأولين هناك والمتأخرين: القرية.
٦  لست أول أديب سائح أخَلَّ مثل هذا الإخلال في البلاد التي زارها، فجازَفَ باسمه تذكارًا وإكرامًا، ولست معدِّدًا في هذه الحاشية الأمثال، فأكتفي بمثَلٍ واحد لبناني فرنسي: عندما زار لامارتين لبنان وقصد إلى الأرز حاجًّا في فصل الشتاء، حالت الثلوج بينه وبين حجته، فأثبت بواسطة أحد أصدقائه ملكيته لإحدى الأرزات الكبيرة فسُمِّيت باسمه، وهي لا تزال تُدعَى: أرزة لامارتين. إنما الفرق بيني وبين الشاعر الفرنسي هو أنه يملك بالنيابة، وأنا المستملك بوضع اليد والرجل، فضلًا عن القلب والقرطاس والقلم!
٧  البقس: «واحدته بقسة، هو كالآس ورقًا وحبًّا» (القاموس). وهو شبيه في لبه بالسنديان وفي قشره بالجوز، ولكنه أصلب من الاثنين.
٨  هم بموجب إحصاء الحكومة الأخير ١٢٨٩١ في مدن المنطقة كلها، منهم ٦٣٧٩ في تطوان، والباقي في القصر الكبير وسان ضرخو والعرائش، وهناك في القبائل سبعة وثمانون يهوديًّا لا غير.
٩  عدد سكان المدينة بموجب الإحصاء الأخير ٨٧٢٧٩، منهم ستون ألفًا من المسلمين وواحد وعشرون ألفًا من الإسبان، فيهم قليل من شعوب أوروبية أخرى، والباقي من اليهود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤