الفصل التاسع

ميزانيات خليفية

ثمانمائة ألف من الأنفس، ثلاثة أرباعهم من البوادي، يقطنون منطقة مساحتها اثنان وعشرون ألف كيلومتر مربع، أكثرها أرض جبلية، يصلح منها للزرع مليون هكتار، يُزرَع ويُغرَس منها اليوم نحو نصفها.

لهذه البلاد وأهلها حكومة خليفية إسبانية بلغت ميزانيتها في سنة ١٩٣٨ مائةً واثني عشر مليونًا من البسيطات، أي ١٨٦٦٦٦٦٦ ليرة لبنانية.

ها هي ذي حكومة فضفاضة الثوب، كثيرة الدوائر والدواوين، والموظفين والمستشارين، والجنود والأعوان، والنوافل الديمقراطية الإدارية.

إن حكومات ما بعد الحرب العظمى، الحكومات الانتدابية والإقامية والاستعمارية — وإن كانت الضرائب فيها أقل مما هي في حكومات الدول العظمى، ذات الجيوش الجرَّارة والأساطيل البحرية والجوية — هي كذلك كثيرة النفقات والتبذير، ولا نسبة بينها وبين ثروة البلاد، بخلاف الأمم الغنية التي تستهلك معدات الحرب نصف ميزانية حكوماتها، ولا تذهب حصانتها المالية.

على أنها كلها، الكبيرة والصغيرة، الفقيرة والغنية، هي أعباء ثقيلة، أعباء منكرة، على عواتق الشعوب، ولا أمل بأنها ستخف في المستقبل، بل قد تكون أشد وأنكر في الحكومات الاشتراكية والشيوعية والدكتاتورية إطلاقًا، وفي الحكومات الديمقراطية كذلك. تلك الحكومات التي يعسل وزراؤها كلام الحرية والإخاء، ويتاجِر أرباب المال في بلدانهم بسياسة السلم — وبالأسلحة.

ما لنا والمستقبل، وهذا الحاضر تكفينا شروره. أعود إلى الشعب المغربي، المكلَّف بنفقات باهظة مرهقة تنفقها الحكومة، وأُعِيد الأرقام — فقد تكون نسيتها — الأرقام التي تتعلق بالميزانية المغربية، فهي ثمانية عشر مليونًا ونيف من الليرات اللبنانية. ثم أذكرك بأن عدد سكان المغرب الإسباني هو ثمانمائة وخمسون ألف نفس، نقصت أو زادت قليلًا. فكم يجب أن يدفع كل فرد من الرعية لتدفع الحكومة عنه اللصوص، وتؤمِّن ماله وحياته ما أمكن الأمن في هذه الدنيا، وتسهِّل له بعد ذلك، إن كانت على شيء من الصلاح، سبل المواصلات، وسبل العلم، فلا يموت ميتة وحوش الغاب.

قد كان المغربي يدفع لسلطان المغرب قبل الحماية، مبلغًا يتجاوز أحيانًا عشر ليرات لبنانية، على أن ميزانيته الحاضرة لا تستقيم إن لم يدفع كل شخص في المنطقة ستًّا وعشرين ليرة، أي مائة وثلاثين بسيطة. كل شخص أقول، أي إن البيت ذا الخمسة الأنفس، في المدن أو في البوادي، مكلَّف بمائة وثلاثين ليرة، أي سبعمائة وثمانين بسيطة.

ولكن هناك أسبابًا أخرى لهذا التبذير في ميزانية المغرب. فما هذه الأسباب؟ إني باذل الجهد في توضيح كل ما يتعلق بهذه المسألة، فإن بقي بعد ذلك ما يغمض أو يلبس عليك، فالحق فيه على فهمك لا على بياني.

هذه المنطقة هي جزء من بلاد المغرب، كما قدَّمْتُ، وقد كان أهلها، قبل عهد الحماية، يدفعون الزكاة والضرائب لسلطان البلاد، فتبلغ في بعض السنين أكثر مما تبلغ اليوم، وتنقص أو تزيد في بعضها، عملًا بخصب الأرض أو محلها، وبقوة الحكومة السلطانية أو ضعفها في جباية الخراج، وهناك عوامل أخرى كالفتن والحروب، فكان السلطان يزيد في الخراج ليستطيع أن يحافظ على كيان الدولة وسيادتها السلطانية، والحروب — اغفر لي هذه المتبذلة — لا تقوم بالآمال. والفتن والحروب — ما كان أكثرها في المغرب — تشغل الناس عن الزراعة — حقيقة أخرى متبذلة أستغفرك عنها — فتهمل الأرض ويذهب خيرها، فتفتقر البلاد.

وما السلاطين والملوك، دام عزك، بغير القصور والجنود والعبيد والجواري، والخدم والأعوان؟ والسيارات والطيارات واليخوت في هذا الزمان؟ وما الفرق بين العائلة المالكة وعائلة عبد الرحمن بن عبد السلام إن لم تكثر لديها الأموال لبناء القصور واقتناء كل ما تقوم به — وقُلْ كل مَن تقوم بهم وبهن — من الأثاث الفاخر والتحف والجواري والعبيد.

فالضرائب الباهظة المرهقة تحمل الناس على التمرد والعصيان، وتسبِّب الفتن والحروب، والفتن والحروب تفقر البلاد، فيضطر السلطان أن يستدين المالَ ليظلَّ سلطانًا على عرشه في قصره وأمته، ويضطر، ليتمكن من دفع فوائد الديون — الفوائد على الأقل — أن يزيد الضرائب على الرعية. هي حلقة مفرغة خبيثة، شرها الأول يتصل بشرها الأخير، فتدور الدوائر على الشعب، وعلى الأمة، وعلى الحكومة، وعلى السلطنة نفسها، وفي الفصل الأول من هذا الكتاب الشاهد والبرهان. ذي هي صورة صادقة لحقيقة عارية مخجلة.

وهناك صورة أخرى لحقيقة عارية ولكنها غير مخجلة، بل هي معزَّة مشرِّفة، فقد كانت أكثرية الأمة راضية بهذه الحكومة السلطانية الشريفية في الماضي، بل كانت مؤيدة لها، معتزة بها، محافظة عليها، وقد أصبحت الأكثرية بعد الحمايات أجمعية تشمل الأمة المغربية في المنطقتين الكبرى والصغرى، الجنوبية والشمالية. أجل، إن هذه الأمة بأجمعها لأشد تمسكًا اليوم بأهداب العائلة العلوية المالكة، وأعظم غيرةً على العرش العلوي، وإخلاصًا له، فتؤيِّده وتحافظ عليه، وتعتَزُّ به قلبًا وقالبًا، وتبذل في سبيله كل ما لديها من القوى الروحية والمادية.

ما السبب في ذلك؟ السبب الأول والأهم أنها أمة إسلامية مغربية تأبى أن تحكمها دولة أجنبية، مسيحية كانت أم غير مسيحية، وبما أنها في المغرب أقرب إلى ذلك الصراع التاريخي بين المسيحية والإسلام في إسبانيا، فهي تقول الأجانب وتعني بهم النصارى. فإذا قضت الأيام بحكم الأجنبي النصراني فهي لا تقبل به، ولا تخضع له، إلا بشرط أساسي جوهري تفرضه معنوياتها وروحياتها قبل كل شرط اقتصادي أو سياسي، ذلك الشرط هو أن تحافظ الحكومة الأجنبية الحامية على البيت المالك، وعلى العرش العلوي. ذي هي الحقيقة الأخرى المجردة من التزويق والتنميق، ولا تستطيع الدولة الحامية أن تبقى يومًا في المغرب إن لم تقبل بهذا الشرط، وتقوم به دون خلل أو تعديل.

لا بد إذن من وجود حكومتين مزدوجتين في هذا المغرب الحاضر، ولكن الحكومة المزدوجة الخليفية مثلًا في وضعها الأساسي، غير الحكومة المزدوجة في مناطق الانتداب!

فالسلطان — دام عزك — سلطان، ورئيس الجمهورية — دامت ديمقراطيتك — رئيس جمهورية، والعرش هو غير كرسي من الخيزران أو الجوز، والقصور للمالك سعيدًا وللعائلة المالكة هي غير البيوت المشيدة بالأسمنت تستأجر لرئيس أو مدير. والحرس المغربي بقيافته الطاووسية هو غير الدرك المزمَّل بأذرع معدودة من القماش الأصفر.

أبهة الملك لا نتنازل عنها مهما كلَّفَتْ من المال، وإننا لنحمل أعباء الضرائب، نحملها فرحين، ليبقى العرش العلوي محفوفًا بالكرامة والإجلال وبالأبهة والمجد. هو لسان حال الأمة المغربية العربية الإسلامية، والحكومة الحامية تفهمه جيدًا وتُحسِن العمل به، بل هي تسرف فيه لغرض من أغراضها السياسية، وتقتبس منه ليكون لمندوبها السامي بعض تلك الأبهة والمجد، ولسان حالها يقول: الشرقيون مشغوفون بهذه المظاهرة الباهرة، خاضعون لأحكامها. فمن الحكمة إذن أن نتشفَّع نحن أيضًا بها.

على أن المقيم العام في تطوان يؤمُّ الكنيسة أو يزور الخليفة في ثوب من الجوخ مصحوبًا بياورين فقط، إسباني ومغربي، في الثوب الأصفر العسكري. فللخليفة وحده أبهة الملك، بحرسها الكامل قيافةً وعدةً وعددًا.

وللخليفة القصر الأكبر، والعبيد والجنود والأعوان — كل مظاهر الفخامة والجلال — وتلك الحكومة الثانية، أو الأولى، الحكومة الخليفية، بوزرائها وقضاتها ومديريها ومخزنها وجندها النظامي — تتمثَّل فيها كرامة الأمة، وحقوقها الموروثة وتقاليدها، وآمالها الوطنية الكبرى. فلولا هذه الآمال باستعادة السيادة القومية والشريفية — السلطانية والخليفية — واستقلال البلاد المغربية استقلالًا حقيقيًّا كاملًا، لما كانت هذه الحكومة غير صورة جميلة من صور التقاليد، بل من صور الباطل والمحال. أمَّا أنها من ألزم ما يلزم لإحياء هذه الآمال وتحقيقها، فمما لا ريب فيه، وذلك ما يبرِّر في نظر الأمة المغربية، وجودَها ونفقاتِها.

وما هي هذه النفقات بالإضافة إلى نفقات الحماية؟ لا بد من التفصيل إنصافًا للحكومتين، الحامية والمحمية، ولكني مُوجِز فيه.

إن أصغر الرواتب بالنسبة إلى مقام صاحبها، راتب الخليفة وراتب المندوب السامي والمقيم العام؛ فالأول يبلغ مائة وأربعين ألف بسيطة، أي ثمانية آلاف ليرة بما فيها رواتب العائلة الشريفية، والثاني خمسون ألفًا، أي ثلاثة آلاف ليرة.

ولكن نفقات القصر الخليفي، بمخزنيته وكتابه وخدَّامه، هي ثلاثمائة وسبعة وثمانون ألف بسيطة، يضاف إليها نفقات الحراسة الخليفية، بعساكرها وفرسانها ومخزنيتها١ وموظَّفيها، وهي تبلغ المليونين، وتظل الأرقام سبعة في مجموعها — سبعة صغيرة، تكبر وتصير ثمانية أرقام في القسم المختص بالجند الخليفي أو الأهلي، فهذا الجند مؤلَّف من أحد عشر ألفًا من المشاة وثمانمائة من الخيَّالة، بمصحاته وإدارته وكتَّابه، يكلِّف البلاد سبعة وأربعين مليونًا من البسيطات؛ فيكون مجموع هذه الأبواب الثلاثة خمسين مليونًا.

بعد الخليفة وقصره وحرسه وجنده تجيء الصدارة العظمى بكتَّابها ونوَّابها في الإيالات الخمس (١٨٠٠٠٠٠)، فالعدلية الإسلامية (٧٧٠٠٠٠)، فإدارة أملاك المخزن ووزارة الحبوس — الأوقاف — (٣٠٠٠٠٠) هي نفقات الحكومة الخليفية الأهلية، تضاف إلى ما تقدَّم، فتبلغ كلها ثلاثة وخمسين مليونًا من البسيطات، أي نحو نصف الميزانية العامة.

أما الحكومة الإسبانية، فقد حذت على الإجمال في هذه المنطقة حذو الحكومة الفرنسية في المنطقة الجنوبية، فالسلطان هناك لا يزال المشترع الوحيد — اسمًا وصورة — في السلطنة. فتُعلَن الشرائع والقوانين والقرارات بخط سلطاني شريف يُدعَى ظهيرًا، فيحترمه، يطيعه في الأقل، كلُّ مَن في السلطنة حتى الأجانب، من أعلاهم أي المقيم العام إلى آخِر اللائحة. ولكن ممَّن يجيء هذا الظهير؛ مَن ذا الذي يكتبه؟ مَن ذا الذي يمليه؟ قال لي أحد السياسيين في طنجة، وهو يريني ظهيرًا شريفيًّا، ويشير إلى البسملة فيه والخاتمة والتاريخ الهجري: هذا وهذا وهذا من فاس، والباقي من باريس!

وبعد الظهير تجيء الحكومة الشريفية السلطانية، وهي مؤلَّفَة من وزير أول، ووزراء العدلية والأحباس والمعارف، ومن محتسبين وباشاوات — محافظي المدن — وقوَّاد — المحافظين في القبائل — وقضاة الشرع والشرطة والجند السلطاني، ولكن هذه الوظائف كلها أمست اليوم إدارات مدنية أو عسكرية يديرها المراقبون أي المستشارون الفرنسيون. لكل وزير، ولكل قائد، ولكل باشا مراقب، ولمدير الشرطة، ولمجالس البلدية كذلك مراقبون.

أما الحكومة الانتدابية، فهي مؤلَّفة من مقيم عام ومندوب من قِبَله لدى السلطان وكتابة السر. إدارتها المركزية في الرباط، تشتمل على دوائر شتى مدنية، شخصية، شريفية، قضائية، اقتصادية، مالية، صحية، عسكرية.

هذا في الرباط مركز الإقامة العامة، وهناك داخل البلاد، في كل منطقة أو ولاية موظفون مدنيون بنوَّابهم وأعوانهم وكتَّابهم والمترجمين يقومون بالأعمال المدنية والعسكرية والإدارية، والاجتماعية والسياسية. هؤلاء الموظفون، الشبيهون بالوكلاء السياسيين في الاصطلاح الإنكليزي، يقدِّمون للمقيمية التقارير المشتملة على أخبار كل منطقة وأعمالها — الظاهرة والخفية — ومَن فيها من سياسيين ومشاغبين، وعليهم أن يراقبوا أعمال الباشاوات والقوَّاد والقضاة، ويؤانسوا الوجهاء والزعماء مستطلعين أخبارهم — وأسرارهم — وأن يساعدوا الفرنسيين المقيمين في منطقتهم، ويشرفوا على جباية الأموال المفروضة على الرعية، هؤلاء المراقبون هم دائرة المعارف للمقيمية العامة.

ومما هو جدير بالذكر أن قضاة الشرع هناك كذلك يحكمون في القضايا التي تتعلق بامتلاك الأجانب للأراضي، وذلك بموجب مادة في ميثاق مؤتمر الجزيرة، أما بعد ذلك، أي بعد أن تصبح الأرض ملك الأجنبي، فالحكم فيما يتعلَّق بها من خصائص قضاة الفرنسيين، وذلك بموجب قوانين التملك الجديدة.

هذا النظام متبع على الإجمال في المنطقة الخليفية، ولكن الإدارات التي تختص بالحكومة الإسبانية الإقامية تنحصر في كتابة السر العامة ونيابة الأمور الوطنية، التي تشتمل على دوائر الصحة والتعليم، ثم المحاكم العدلية الإسبانية، فيبلغ مجموع نفقاتها خمسة وثلاثين مليون بسيطة.٢
أما قيمة ما تنفقه البلاد على الدولة الحامية، فتتعسر معرفتها بالتدقيق؛ لأن هذه الدوائر لا تنحصر منافعها بالإسبان الحاكمين، بل تتجاوزهم إلى أهل البلاد. فلو قلنا إن دوائر الإقامية والمحاكم الإسبانية زيادات قضت بها الحماية، كما هي الحقيقة، فنيابة الأمور الوطنية ليست في كل نفقاتها من هذه الزيادات؛ ذلك لأنها تشتمل على دائرتي الصحة والمخزن، وهما من دوائر الحكومة الأهلية. أما دائرة التعليم فنفقاتها تتناول المدارس المغربية والإسبانية، وسنحاول مع كل ذلك الغربلة؛ فنسقط من الثلاثين مليون بسيطة نفقات نيابة الأمور الوطنية (١٢٠٠٠٠٠٠)، ونفقات المخزنية المغربية والصحة والتعليم٣ (٥٠٠٠٠٠٠)، فيبقى ثلاثة عشر مليون بسيطة، هي نفقات الحماية.

أما الباقي من الميزانية، أي دوائر الأشغال العامة والمالية والبحرية، فهي من الدوائر التي لا تستغني الحكومة الخليفية عنها — هي من المنافع العامة. كل ما تنفقه البلاد إذن على الحكومة الحامية، بمقيميتها ومراقبيها العسكريين والمدنيين، والملحقين بالمراقبين، والمساعدين الإداريين، والمترجمين والكتَّاب والفنيين والأطباء وقضاة المحاكم الإسبانية، كل هذه النفقات لا تتجاوز العشرين مليون بسيطة، أي أقل من خمس ميزانية البلاد.

لقد بيَّنت الأسباب في زيادة ميزانية الحكومة المغربية زيادة لا تبرِّرها طبيعة البلاد واقتصادياتها، بل تبرِّرها طبيعة الملك وتقاليده، وقد بيَّنت كذلك أن الزيادة ليست كلها من الوضع السياسي المزدوج، الخليفي الإسباني في حكم المنطقة، وأن كل ما تدفعه البلاد ثمن لا يتجاوز خمس الميزانية العامة.

وإذا ما قارنَّا بينها وبين ميزانية المنطقة السلطانية تبيَّنَ من الفرق في بعض فروعها ما يدهش حقًّا ولا يسر؛ فميزانية الدولة المغربية — الفرنسية — لسنة ١٩٣٦ هي ثمانمائة واثنان وسبعون مليونًا، وثلاثمائة وثمانية عشر ألفًا من الفرنكات (٨٧٢٣١٨٠٠٠)، أي نحو أربعة وأربعين مليون ليرة لبنانية، وما هي بالكثير؛ لأن المنطقة السلطانية هي أربعة أو خمسة أضعاف المنطقة الخليفية مساحةً وسكَّانًا وأكثر منها ثروة.

إنما المدهش المحزن هو أن أكثر من ثلث هذه الميزانية، أي ثلاثمائة وخمسين مليونًا من الفرنكات مخصَّص لدفع فوائد الديون العامة وما يستحق من أصلها،٤ وهي أضعاف أضعاف ما يُخصَّص للسلطان والعائلة المالكة. وهناك مائة وتسعة ملايين نفقات للمراقبة السياسية والدوائر العامة، ثم ثلاثة ملايين لما يُدعَى صندوق السيادة، وهو ما يسميه المغاربة الصندوق الأسود؛ لأن أكثر هذه القيمة تُبذَل للجواسيس.

أما المعارف — وها هنا الفرق الأكبر — فالمخصَّص لها خمسة وسبعون مليون فرنك، منها اثنان وخمسون مليونًا للتعليم الفرنسي الإسرائيلي، وثلاثة وعشرون مليونًا لتعليم المغاربة المسلمين، أي إن مليونين ونصف مليون ليرة تُخصَّص لأبناء الأقلية، ومليون ليرة لأبناء الأكثرية الساحقة في البلاد.

فإن غضضنا الطرف عن مجموع المخصَّص بالتعليم، وهو قليل جدًّا بالنسبة إلى عدد سكان البلاد، فأي عذر نلتمس للسلطة الفرنسية هناك في هذه القسمة الضئزى بين أبناء الأقلية وأبناء الأكثرية من السكان؟ ألأن اليهود أصدقاء الفرنسيين وأعوانهم في سياستهم الاستعمارية يتساوون وأبناء المستعمرين، فيخصون مدارسهم بمليونين ونصف مليون ليرة، ولا يخصون مدارس المسلمين أهل البلاد بغير مليون واحد؟

إن نفقات المدارس الإسبانية، في المنطقة الخليفية، لا تتجاوز المليون بسيطة، ويجب أن يسقط منها النصف في الأقل، أي رواتب المعلمين الإسبان والمعلمات في المدارس الأهلية، ويضاف إلى نفقات التعليم الأهلي، فتكون النتيجة أن أكثر من أربعة أخماس ميزانية المعارف تُصرَف على أبناء الأهالي، وأقل من خُمس واحد على تعليم أبناء الإسبان.

ها هو ذا أحد وجوه التفاوت بين الحكمين الفرنسي والإسباني في المغرب، وسنذكر غيره في فصول أخرى، ونزيدك علمًا بما يبذله الإسبان في سبيل التعليم في المنطقة الخليفية.

١  المخزنيون — الدرك — في القصر ثلاثون، وفي الحراسة أربعة وعشرون، أما الحراسة نفسها فهي مؤلَّفَة من ثمانين جنديًّا وعشرين فارسًا.
٢  هي بالتفصيل:
المقيمية العامة ١٤٦١٠٠
الكتابة العامة أي مكتب كتابة السر العامة ٤٠٢٥٩٢٠
نيابة الأمور الوطنية ٣٥٥٣٥٢٥١
المحاكم الإسبانية ٦٨٠١٨٠
٣٥٣٨٧٤٥١
٣  ميزانية المعارف هي ٣٣٠٠٠٠٠ بسيطة، فأسقطت للمدارس الإسبانية ١٣٠٠٣٠٠٠، وهي على ما أرى فوق الحقيقة لا دونها.
٤  لو فرضنا أن المنطقة السلطانية هي خمسة أضعاف المنطقة الخليفية، وعليها قسمتها من الدين؛ فالقسمة تبلغ سبعين مليونًا أي ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف ليرة، وليس على المنطقة الخليفية اليوم ثلثها. فالالتزامات العامة، كما تُسمَّى في الميزانية، هي دون الخمسة الملايين بسيطة (٤٦٧٦٢٨٤)، أي نحو تسعمائة ألف ليرة لبنانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤