الفصل العاشر

جحيم السجون ونعيمها

يوم كان الإسبان يلومون الريسوني على قساوته في مُقاصَّة الأشقياء والمجرمين، ويستنكرون سجنه بأصيلة، كان يقول لهم: هذا عدلنا. على أنه لم يكن منفردًا بذلك العدل، ولا مخترعًا لشيء من العذاب جديد؛ فالسجون في الماضي كانت على السجناء كالجحيم، ولا فرق بين الآسيوية منها والأوروبية، وقد كان من الإسبان أنفسهم حكَّام يشبهون الريسوني، بل يفوقونه، في عدله، وفي سجنه. لا أعود إلى التاريخ مستشهدًا بالحجَّاج الثقفي وإخوانه، في كل زمان ومكان؛ فحسبي أن أذكر واحدًا منهم إسبانيًّا في زماننا.

كانت جزيرة كوبا، درة الأنطيل، آخِر مستعمرة في العالم الجديد، وفي عهد حاكمها الجنرال وَيْلَر، الذي اشتهر بقساوته وبسجنه، كالريسوني؛ ثار الأهالي في آخِر القرن الماضي على إسبانيا، وظفروا باستقلالهم. ليس تاريخ تلك الثورة موضوعي، إنما أذكر الآن — وحديث السجون حقًّا ذو شجون — أني زرت مرةً سجن القلعة، قلعة مورو بهافانا، بعد استقلال الجزيرة.

تلك القلعة هي على البحر، ووراء جدرانها السفلى، المتلاطمة عليها الأمواج، سراديب عرضها متران، وعلوها لا يبلغ الثلاثة الأمتار، لا يدخلها الهواء والنور إلا من بضع كوات في جهتها البحرية. ذلك هو السجن، دخلناه على نور الشموع، فإذا هو خالٍ خاوٍ إلا من أشباح المظالم التي يتصوَّرها الزائر في ظلماته، ورطوبته، وهوائه الفاسد، ويرى آثارها بحلقات الحديد التي لا تزال بالجدران، وبالسلاسل المتصلة بها. ها هنا بهذه السلاسل والأطواق كان يُقيَّد السجناء، في عهد الجنرال وَيْلر وأسلافه، فيقضون الأسابيع، الأشهر، السنين، وليس مَن يرى بؤسهم — جحيمهم — ويسمع شكواهم، غير الله.

وفي زماننا كذلك بمكة المكرمة، كان القبو، قبو الملك حسين، وهو مثل هذه السراديب في عتمته ورطوبته وفساد هوائه، يُسَاق إليه المذنب، الشقي والتقي البريء، ويُنزَل بهم هناك، فيقضون الشهور والسنين، وليس مَن يرى جحيمهم، ويسمع أنينهم وشكواهم، غير الله.

ولكن صبره — تعالى — هو غير صبرنا، وعينه — سبحانه وتعالى — غير عين الناس؛ فيرى سجن وَيْلَر بهافانا، وسجن الريسوني بأصيلة، وسجن الحسين بمكة، يرى هذا الجحيم في السجون، وفيه الخمسون، المائة، المائة والخمسون من عباده، يموتون كل يوم، يُمِيتهم الجوع والقنوط، تُمِيتهم الروائح والأمراض؛ يرى كل ذلك ويصبر، ويسمع الصراخ والأنين ويصبر.

ثم يرى، ويسمع، ويستجيب.

وقد كان السامعَ المستجيبَ — سبحانه وتعالى — يوم بعث ابن سعود إلى مكة ليطهرها من الأرجاس، ويطلق سراح سجناء القبو فيها.

وكان السامع المستجيب يوم أضرم نيران الثورة في صدور أبناء كوبا، فكانت النهاية لسجن وَيْلَر، وحكم إسبانيا هناك.

وكان السامع المستجيب يوم أوحى إلى الجنرال سلفستر بأن يزور سجن الريسوني، فرأى ما رآه، وكانت تلك الغضبة المنقذة المطهرة — مثل سيف ابن سعود، مثل ثورة الكوبان.

ذهب الله بتلك السجون فيندر مثلها اليوم في العالم، وقد لا تجد لجحيمها أثرًا في غير أخبار التاريخ، ومنها ما قدَّمْتُ في هذا الفصل.

أما الجزء الثاني من عنوان هذا الفصل، فقد يحسبه القارئ ضربًا من المجون، أو مظهرًا من مظاهر المبالغة في التشويق والإصلاح، ولكني أؤكِّد للقارئ أن التشويق في هذه الصفحات لا يجاوز حدَّ المنطق في غريب المشاهدات، وحدَّ الشعر في عجيب الحقائق، وقد جاء في الأمثال الإنكليزية: رُبَّ حقيقة أغرب من خيال.

•••

قال السنيور أراغون ذات يوم سائلًا: هل زرت السجن بوادي لاو؟ ثم مكرِّرًا: يجب أن تزوره. ثم شارحًا: ووادي لاو قريب من تطوان.

فقلت: وهل القريب عندكم مثله عند البدو؟

فقال: كلا، وادي لاو هو على أربعين كيلومترًا من تطوان — أربعين لا غير.

توكَّلْنا على الله، وخرجنا من العاصمة إلى واد مرتين، فاجتزناه إلى الجسر، وقطعنا الجسر إلى الساحل، ثم سرنا شرقًا، فبدا الطريق بالجبل أمامنا، الغاطس في البحر الشبيه برأس الشفعة بلبنان، فأشرفنا بعد القليل، من علو مائتَيْ متر على الأمواج الساجية، ودرنا حول الرأس، ثم هبطنا منه، فإذا نحن في وادٍ فسيح كواد مرتين، يُدعَى أمسا، ويجري فيه نهر وادع، مزدانة ضفاته بالدفلى الزاهرة.

ومن وادي أمسا شرعنا نصعد وندور، ونهبط ونغور، من مناكب الجبال إلى مرافض الأودية، الحافلة بالدفلى الوردية والزهور البيضاء. الوادي يتلو الوادي، ورءوس الجبال تنادي سفوحها الخضراء والذهبية، المعانقة هناك السهول؛ الناخَّة هنالك إلى البحر، وقد تخلَّلَها ساحات من الرمل بين الصخور، وبين الماء والزهور. هي الدفلى بزخرفها وبهجتها، تهديك إلى تلك الخلوات، وتناديك من أبوابها، وترافقك في المرافض النضرة، فلا تكاد تودِّع في المرفض الواحد حتى تسلِّم في الذي يليه.

طريق الدفلى إلى السجن، أعجب طريق إلى أعجب السجون.

ومتى ينتهي هذا التصعيد والتغوير، يالفريد؟١ فابتسم الرفيق البستاني ابتسامة لا أمل فيها، ولا وهم.

فقلت: أَوَجئتَ يالفريد، بدمك البارد من لبنان، أم اكتسبته في هذا المغرب؟

فما أجاب، بارك الله فيه، بغير كلمة واحدة: تعوَّدْنَا.

مرت الساعة، ونحن في التصعيد والتغوير مستمرون، نطوي الجبال الخضراء المشرفة على البحر الأبيض، فيدنينا الطريق منه حينًا، فنستأنس بعينه الزرقاء الناعمة اللحظ، وحينًا يُبعِدنا منه، فيختفي صاحبنا فتعود إلى النفس الوحشة والكآبة.

إن مائة كيلومتر في طريق قويم في السهول لَأقل مشقةً من عشرة كيلومترات في مثل هذه الجبال.

وأين وادي لاو، يالفريد؟ قلتُ إنه على مسافة ساعة، وهذا ربع فوقها، وهاك رأس جبل آخَر، وهناك، هنالك الطريق على ما أرى، أم هو شرخ في رأس الجبل. قل لي، طَمْئِنِّي.

هو هو الطريق ينادينا، وإن بينه وبيننا لست أدري كم من الأودية، وما عتمنا أن علمنا، والحمد لله؛ فقد كان ذلك الجبل آخِر المحنة، فهو يشرف على الوادي المقصود، الذي يرفضُّ إليه نهر اللاو.

خمسة وأربعون كيلومترًا من تطوان إليه، لو كانت في سهل لقطعناها بنصف ساعة، وقد حسبنا الساعة ونصف الساعة يومًا كاملًا.

قلت في نفسي، ونحن نهبط من الجبل الأخير، سأعدُّ الأكواع والأودية في العودة، ولقد فعلنا أنا والرفيق المشرف — اسمه بألَّيْنِ من ألات التعريف — فكنتُ أنا أعدُّ الأودية وهو يعدُّ الأكواع، فجئنا بإحصاء عجيب في إحصاءات العالم.

قد شُغِلنا في المراقبة والعدِّ فقصر الطريق، ولا غرو، وقُلْ: قصرت الكربة، وخفت المشقات.

وهاك ما أحصيناه: إن في هذا الطريق العجيب الذي لا يتجاوز الخمسة والأربعين كيلومترًا مائتي كوع، عدا التفريجات والانحرافات، وعشرين واديًا، خمسة منها فسيحة بسهولها وأنهرها — نهرين جاريين وثلاثة جافة — وخمسة عشر واديًا ضيقًا، بسواقٍ تجري في الشتاء. فهل في العالم يا تُرَى طريق آخَر مثله بمسافته القصيرة، وأكواعه وأوديته المتعددة؟

أما الجبال التي قطعناها — في الربيع، والحمد لله، لا في الشتاء — فهي كلها خضراء ماتعة بالغابات والأدغال من صغير السنديان والبطم والغار، والدلم والسرو والدردار، وغيرها مما أجهل أسماءها، ولا يعرفها الأهالي، وإلى جوانب الطريق في بعض الأماكن، يجيء الطيون — طيون لبنان — وكذلك قصعينه وقندوله، مسلِّمين مرحِّبين.

حيَّاكم الله، في كل مكان، وحيَّاك أيتها الأكواع والأودية. مائتا كوع، وعشرون غورًا إلى وادي لاو — المكان قريب من تطوان؟! صلِّ على النبي يا ابن أراغان!

على أن في وادي لاو، غير السجن، مما ينسيك مشقات الطريق وعجائبه؛ في وادي لاو مسجد ذو مئذنة فريدة في بابها وجلبابها، علوها نحو عشرين مترًا، مثمنة الأضلع بخمس طبقات، وفي كل ضلع شبه شباك مبني بالزليج، وفي الرأس قبة مخمسة الأضلع بشبابيك خمسة؛ فيكون مجموع الشبابيك خمسة وأربعين. عُدْنا إلى الإحصاء، والحق في ذلك على الباني، لا عليَّ؛ فقد تعمَّدَ الإكثار من هذه الشبابيك، لا للنور والهواء والشمس، بل للزينة، فليس بينها غير ثلاثة أو أربعة شبابيك صادقة، تنير طريق المؤذن، المجلبب، في صعوده وهبوطه، بجمال الشبابيك الكاذبة؛ فهل يجوز، وقد تعمَّدَ هذا التزيين، أن نهمل عَدَّ طبقاتِه وشبابيكِه، وألوان زليجه الزرقاء والخضراء والصفراء. إنها حقًّا لأغرب وألطف مئذنة رأيت في المغرب والمشرق!

وهذه المدرسة في جوار المسجد، تستقبلنا فيها المعلمة والمعلمان، فعلمنا أن أحدهما يعلِّم العربية، والآخَر القرآن، والسيدة تعلِّم اللغة الإسبانية، وأن عدد التلاميذ في المدرسة خمسون، من بنين وبنات، بينهم عشرون من الإسبان والإسبانيات، ومما علمناه أن المدرسة تقدِّم لكلٍّ من التلاميذ والتلميذات الفطورَ كلَّ يوم، والشاي مع الحلوى بعد الظهر، وكسوة كاملة ثلاث مرات في السنة.

سألت عن سن البنات، فقالت المعلمة: من الرابعة إلى العاشرة.

وسألت عمَّا كان من إقبال الأهالي على تعليم البنات، فقالت: الإقبال قليل، ولكنه في ازدياد …

قلت: وتلك الفتاة الشقراء الجالسة إلى جنب فتاة سمراء، أهي مغربية؟ فأجابت قائلة: هي ابنتي.

هذه السيدة المعلمة هي زوجة المراقب «أنطونيو سرفيرا برسيلو»  Antonio Servera Barcelo، والمراقب هو أيضًا مدير السجن، والمدير هو منقطع النظير في سجنه، وإدارة سجنه، وروح سجنه، بل هو روح ذلك السجن، وملاكه الحارس.

مشينا في ذلك السهل الفسيح إلى البستان البشري، إلى سجن ذي ساحات رحبة، تحيط بها بيوت ذات طابق واحد، مفتوحة الأبواب، وخالية من الحديد، من السلاسل والقيود.

وهاكم بعض السجناء جالسين خارج سجونهم، أمام الأبواب، وفي الأروقة، كلٌّ يعمل عملًا؛ فهذا خياط الجلاليب، وذاك إسكاف يصنع الأحذية، وهاك الحائك، والحداد، والدبَّاغ، والنجَّار.

ومنهم حلقات يتعلَّمون هذه الصناعات، وغيرهم يعالجون ألياف القنب، فيستخلصون الخيوط منها لصنع النعال. وهذا أستاذ في علم الاقتصاد يستخرج الخيوط السليمة من برنس خلق ليصنع منها برنسًا جديدًا.

وما هم في أثواب خلقة أو رسمية — مخططة للتشهير — بل هم في أثوابهم اليومية، كأنهم عمَّال في معمل، لا سجناء.

لستُ أقول، مع كل ذلك، إن ما شاهدناه يميِّز هذا السجن عن سواه من السجون الجديدة في العالم المتمدن اليوم، وحسبي أن أذكر سجن بغداد مثلًا، فهو أوسع من هذا في فسحاته، وأصلح في بيوته، وأجود في صناعاته.

أما مزية هذا السجن الفريدة، فليست صناعية، ولا صحية، ولا فنية، فكل هذه الصناعات حسنة، ولكن ميزته روحية. أجل روحية، فقد كتب كثيرون من المصلحين في إصلاح السجون، وتحسين المعيشة فيها. ولكن طولستوي وقد رأى بعينيه سجونًا في روسية كالتي شبهتها بالجحيم، فصاح الصيحة الداوية النافذة، الجوابة لعواصم العالم، الصيحة المزعزعة لجحيم السجون، فقال: أَحْسِنوا إلى السجناء يحسِّنوا سلوكهم. أَحْسِنوا الظن بهم، تُوقِظوا الخير الراقد في قلوبهم. أيها المديرون لسجون العالم، ثقوا بفطرة الإنسان الطيبة، تظهروها من مكانها، وتخلصوها من الموبقات.

وقد وصل صوت طولستوي الخالد إلى هذا الشاطئ الأفريقي، إلى وادي لاو في أرض بني سعيد من المغرب الأقصى، بل وصل ذلك الصوت الخالد إلى جزيرة مايرْقا، مسقط رأس أنطونيو برسيلو، يوم كان رئيسًا في المدفعية.

سألته أهذه الفكرة فكرته أم هي مقتبسة؟ فقال: قرأت لما كنتُ ضابطًا في الجيش ما كتبه طولستوي في إصلاح السجون، وخصوصًا الأسلوب والنظر في معاملة السجناء. ففطرة الإنسان الطيبة، تنكمش فتتوارى وتكاد تضمحل، إذا ما عُومِلت بالقساوة والظلم، وهي تظهر وتنمو إذا ما عُومِلت بالمعروف، هذا الكلام أثَّرَ بي أبلغ التأثير ورسخ في ذهني.

ثم دارت الأيام بحياة برسيلو، فقضى مدة في الجيش يعالج المدافع، ويُطلِقها في الحرب على إخوانه الآدميين، إلى أن سنحت الفرصة لوضع ما حمل بصدره من مبادئ طولستوي موضع العمل. تلك الفرصة الذهبية سنحت له في هذا الوادي على هذا الشاطئ الذهبي للبحر الأبيض؛ فقام منذ ثلاث سنوات، يوم تأسَّسَ هذا السجن، يعمل بها وهو مسرور بعمله، مطمئن إليه مغتبط بنتائجه.

يقول المدير برسيلو لأولئك العاثرين المحكوم عليهم بالسجن من السنة الواحدة إلى الحد الأخير، أي السجن المؤبَّد: أنتم هنا عمَّال لا سجناء، وما دمتم تعملون عملكم بجد وإخلاص فلا باس عليكم، بل أنتم الرابحون؛ فإنكم تتعلمون الصناعات، وتصبحون من رجال المجتمع الإنساني المنتجين الصالحين. لا قيود حديدية عندنا، ولا غرف مظلمة، هذه الشمس لكم بخيرها كله، وهذا الهواء الطلق من حقكم الاستمتاع به، وهذه الحقول احرثوها وازرعوها وكلوا من خيرها. أنتم في هذا المكان أحرار، عمَّال أحرار، فكونوا أمناء أوفياء، حتى تعود إليكم الكرامة والسعادة.

وهو يعيِّن منهم الرعاة والخدم والحرَّاث: احملوا معاولكم، واتبعوني.

وقد شاهدناهم في الحقول يزرعون، وفي البساتين يحرثون، وفي بيوت الدواجن يطعمونها وينظِّفون مآويها.

قال المدير برسيلو يخاطب هذا الكاتب: إني أثق كل الثقة بكل واحد منهم. لا، يا سيدي، ما فَرَّ واحد منهم هاربًا منذ تأسيس هذا السجن، إني مسرور جدًّا بهذه النتيجة الباهرة لعملي، وإني أؤكِّد لك أن المغربي صادق أمين إن عُومِلَ بالمعروف، وهو إن وعد بَرَّ بوعده؛ فلو قلت لهؤلاء اخرجوا صباح اليوم للنزهة أو اذهبوا إلى تطوان، وعودوا قبل الغروب، لفعلوا. وقد طالما أرسلت الرسول منهم إلى المدينة بألفين أو ثلاثة آلاف بسيطة ليبتاع بعض حاجات السجن، ففعل، وعاد بها في الوقت المعين، ومعه لائحة الحساب وما يكون قد تبقَّى من المال، وها هو ذا واحد منهم.

كان الشاب السجين داخلًا من باب السجن الخارجي، عائدًا من الحقل، فناداه المدير فجاء فحدَّثْنَاه.

قلت: ولماذا سُجِنت؟

فأجاب: خمرة اليهود، سيدي، وبنات اليهود، ومزاحمة عليهن، وعركة مع المزاحم، وكانت الخمرة تدور بالرأس، واليهودية تلعب بالقلب، فطعنت الرجل بالخنجر — جرحته وما قتلت — هذا ذنبي، لعن الله خمرة اليهود واليهوديات!

لهذا الشاب أم في تطوان، فيقول له المدير، حين يرسله إلى المدينة: لا تذهب إلى بيتك لتشاهد أمك؛ لئلا يعرف الجيران، فيفسدون عليك حريتك. فيعمل بما يُؤمَر به، دون سؤال.

– ما زرت أمي مرةً واحدةً. المدير لا يريد.

وهناك ما هو أعجب؛ كان المدير قد أخبرني أن من السجناء مَن انتهت مدتهم، ففضَّلوا البقاء في السجن على الخروج منه، وهو لا يُجبِرهم على ذلك ما داموا قائمين بالأعمال المعينة لهم. ثم دلَّ على أحدهم فسألته: لماذا أنت باقٍ في السجن وقد انتهت مدة قصاصك؟ فقال: وليش تعب الراس سيدي؟ هنا عمل، وراحة وهواء طيب، وأكل وكسوة، والحمد لله.

وقد أكَّدَ الحمدلة بيده، وهو يرفعها ورعًا إلى رأسه.

وفي مثل هذا السجن لا بد من مخزن يباع فيه ما بقي، بعد الاستهلاك من محصول ومنتوج؛ فها هو ذا المخزن، بوكالة أحد السجناء، أما العجيب فيه فهو أنه في كل سنة يعدل الحساب، فالذي يبقى من الدخل، بعد حسم النفقات كلها، يُوزَّع على السجناء.

إني مسجل الحقائق المجردة من كل تنميق.

قال المدير برسيلو: ربح السجن في السنة الماضية ألف بسيطة، وزَّعْنَاها على السجناء بالسواء.

فهل يُستغرَب بعد هذا تفضيل السجين البقاء في السجن بعد أن تنتهي مدة قصاصه؟

كان فيه يومَ زرناه سبعون سجينًا، وخمس عشرة سجينة، فزرنا السجينات في سجنهن الخاص — في بيتهن. دخلنا الباب المفتوح فألفيناهن يغزلن جميعًا، فسألت الأولى والثانية والثالثة: ما ذنبك؟ لماذا سُجِنتِ؟ فكان جواب الأولى: مقدور. والثانية: من الله. والثالثة وهي تنظر إلينا بعين سخينة: ذنبي كبير، كبير.

ولما خرجنا كمَّلَ أحد المرافقين العرب جوابهن قائلًا: جرمهن قتل الأطفال.

قلت: ما فهمت.

فقال: هن زانيات قتلن أطفالهن بعد الولادة لإخفاء الجريمة الأولى، فارتكبن جريمتهن.

•••

هذا الوادي في جبال بني سعيد سُمِّي قديمًا باسم أهله الأولين بني لاو، وهم بطن من أربعة بطون — أماسة ونفوسة وضربة ولاو — تُدعَى البُتر نسبة إلى جدهم مادغيس الملقب بالأبتر، وهو وأخوه بُرنس أبوَيْ شعوب البربر.

وقد يكون الاسم — وادْ لاو — مركَّبًا من اسمَيْ بني لاو وبني عبد الواد، أصحاب الدولة المعروفة باسمهم الماهد لها يَغِمْراسِنْ بن زيان، فاستمرت مائة ونيفًا من السنين، وانقرضت في أيام السلطان الظاهر برقوق سلطان مصر. بنو عبد الواد وبنو لاو — واد لاو — وفوق كل ذي علم عليمٌ كما يقول ابن خلدون.

أما بنو سعيد، عرب هذه الناحية اليوم، فإن لهم سبعين مدشرًا — قرية — منتشرة في الجبال، أبعدها على ثلاثين كيلومترًا من الوادي، وأقربها القرية الجديدة القريبة من المرقب، وفيها نحو أربعين بيتًا، بَنَى السجناء بعضها.

وفي هذا الوادي الممتد عنقه في ثنايا الجبال، المفتوح قلبه للبحر، يجري نهر اللاو الذي شاهدنا أحد نبعيه عند جبل شفشاون. أما النبع الآخَر، فهو ينبثق من جبل باب تاز، وبعد أن يجتمع الفرعان قرب شفشاون، ويُستعمَلان هناك لتوليد الكهرباء، يخرجان نهرًا واحدًا، ثم ينضم إليه فروع أخرى، فيصل إلى مرفض الوادي نهرًا غزيرًا، إنما منخفض عن السهل إلى ضفتيه؛ لذلك باشَرَتِ الحكومة بناء سدٍّ يبعد عن البحر اثني عشر كيلومترًا، لرفع المياه، فيحيون بالري ثلاثة آلاف هكتار من الأرض، ويؤسِّسون إذ ذاك معملًا للسكر بعد أن يزيدوا بزرع القصب الذي يُستخرَج منه، وقد كانوا يوم زيارتنا يشتغلون في تأسيس معمل للغزل مجهَّز بالآلات الكهربية.

ها هي ذي أسباب العمران الشامل البركات، ها هي ذي في وادي لاو البساتين — بستان الأولاد، بستان الرجال، بستان العمل — المدرسة والسجن والصناعة والزراعة. لا أظن أن في العالم كثيرين من أهل الإنسانية العاملة والغبطة الشاملة المتمثلتين في السنيور أنطونيو برسيلو وزوجته، العاملين الأوليين في هذه البساتين، بهذا الوادي المبارك، على هذا الشاطئ القصي المتواري بين الجبال.

•••

عدنا من التطواف إلى بيت المراقب، حيث كانت زوجته أعَدَّتْ لنا فنجانًا من الكاكاو — الكاكاو بوادْ لاو — وأطباقًا من الحلوى، فجلسنا حول المائدة نحن الخمسة — المراقب والعربيان رفيقاه وأنا والبستاني — وما جلست السيدة معنا، بل وقفت تخدمنا. هي عادة الأهالي، المضيف يخدم ضيفه فاقتبستها عنهم.

ويروق العربي، العالِم بما يعتري صلات الأهالي بالأجانب من التكلُّف والترفُّع في البلدان الشرقية، يروقه أن يشاهد الإسباني والمغربي مجتمعين متآخين بدون تعمُّل أو تصنُّع، بدون ترفُّع أو تواضُع من أحدهما. لقد شاهدت ذلك في أماكن عديدة، في النادي بتطوان، في قاعة الرقص، في المدارس، في البيوت.

دعانا عبد الحميد القادري، شيخ الطريقة القادرية بتطوان، للعشاء في بيته، ودعا معنا محافظ المدينة، فجلس في الحلقة جلسة ابن البلد، وأقبل على الزاد بيده، بالأسلوب السهل الممتنع، دون أن يلحن مرة — حكمت الاستعارة — بلغة السماط، دون أن يدلمز أو يبالغ بالتأنُّق.

وجلسنا جميعًا، نحن ومراقب العرائش وأعوانه، من ضبَّاط ومدنيين، إسبان ومغاربة، في ذلك البيت الصغير بقرية بني غرفط، كأننا من أهل الولي، جئنا نحتفل بمولده ونشارك في العمارة المباركة.

ومن أجمل الحفلات التي جمعت بين الشعبين، فاختلطَا اختلاط الخمر بالماء، وتشابَهَا إلا في القيافات؛ حفلة شاي أقامها السي عبد السلام الحاج، الذي دعاه الأستاذ يوسف العيسي طارقَ بن زياد لمهابة طلعته العربية، ويدعوه أصحابه بالأمير لكرمه الحاتمي؛ فإن له بيتًا بتطوان مفتوحًا للضيافة، وخصوصًا حين يؤم المغرب أحد مشاهير العرب.

حضر يومئذٍ نحو مائة من عيون المغاربة والإسبان، يلبون دعوة الطلاب الذين أرادوا أن يكرمونا في بيت أميرهم، وكان بين الحضور اليهود واليهوديات، فلعبد السلام الحاج قلب واسع، مثل بيته، يفتحه للحسان من سائر الأمم والأديان:

أدين بدين الحب كيف توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني!

تُرجِم هذا البيت لأحد كتَّاب الإسبان، وسُئِل عمَّا إذا كان بين شعراء إسبانيا مَن يضاهي هذا الشاعر العربي معناه وهواه، فقال: مثله لا يكون غير عربي، أو من وحي العرب.

وقال عبد الخالق طريس في عبد السلام الحاج: قلبه مثل قالب العسل؛ فيه مائة خلية، ولكل خلية خليلة.

فرفع الإسباني يده معجبًا بهذا التشبيه، وقال: ما نفد معدن النبوغ العربي، ولن ينفد. الإسباني والمغربي صنوان حتى في المجاملات الشرقية.

١  تشيع في المغرب الأسماء الأولى الحاملة «ال» التعريف، كالتهامي الوزاني مثلًا، والعربي الفاسي، والمكي الناصري، والطبيب بنونه، وهذا أخ لهم من لبنان ألفريد البستاني، ومثل من نجد في النداء «يالأمير».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤