الفصل الحادي عشر

في جبال الريف

بعد طريق وادْ لاو تهون الطرق كلها. قلت هذا لرفيقي البستاني، صباح رحلتنا الريفية فقال: إن شاء الله. فعراني شيء من القلق؛ لأن الرفيق الصديق صادق فيما لا يقول صدقه في وجيز قوله، وما توسمت الخير في اﻟ «إن شاء الله» التي فاه وقتئذٍ بها.

توكلنا في كل حال عليه تعالى، وسرنا شرقًا بجنوب، في طريق شفشاون، فأطللنا ثانية عليها، وجزنا حماها، قاصدين باب تازي، ولكن الرفيق شاء أن يزور قرية له بين البلدين. أقول: له، بالرغم عن اسمها وأهلها؛ فهي تُدعَى مدشر الحاج فرنكو، ويقوم بتأسيسها بعض اللاجئين من المنطقة السلطانية، فمنحتهم الحكومة أرضًا قرب عين الرامي، شرقًا بجنوب من شفشاون، عند أفق مئذنةِ جامعها الكبير.

عرجنا على مدشر الحاج فرنكو، الذي كان منذ ثلاث سنوات غابًا من شجر الدلم والسنديان، فقطعت الأشجار وفحم خشبها، وجمع الفلين للتصدير، ثم بُنِيت الأكواخ، نحو عشرين منها، والمسجد والمدرسة، وها هو ذا الشيخ الذي يعلِّم الثلاثين ولدًا القراءة والكتابة، وها هو ذا زعيم القوم يعدِّد للبستاني مطالب المدشر الجديد؛ فقد ساعدتهم الحكومة بشيء من المال لابتياع أدوات البناء والزراعة، ووعدتهم بالمزيد، فطمأنهم ألفريد، وأكَّدَ لهم أن ما وُعِدوا به آتٍ إن شاء الله، وكانت «إن شاء الله» هذه المرة باعثة على الأمل والخير.

«مدشر الحاج فرنكو» لقد اختار هذا الاسم هؤلاء اللاجئون، اعترافًا بالجميل وعملًا بما يوصي به الورع والعلم، فالرجل الكريم صالح، والصالح تقي، والتقي لا بد له من محجة يحجها لوجه الله. إذن الحاج فرنكو؛ فهو المحسن إلى هؤلاء الفارين من وجه الموت، وهذا المدشر حافِظ لاسمه وذِكْره.

مع كل ذلك أقول إن الفضل في تأسيسه، ونجاحه، ورضا أهله، عائد إلى «الحاج» البستاني، الذي اهتمَّ بأمره منذ البدء، وهو لا يزال يعنى به وبشئون أهله، «إخواننا المغاربة».

ومن دار المراقبة بباب تازي، التي تعلو تسعمائة متر عن البحر، تُشرِف على الطريق التي سلكها أولئك المهاجرون من فاس، ودونها جبل باب القرن، ونهر صغير هو الحد بين المنطقتين السلطانية والخليفية، وللمشهد نُطُقٌ — اللفظة لصديقي الشيخ الأزطوطي — رائعة في جهاته الأربع؛ فهناك فوق باب القرن جبل خزانة، وعلى الأفق الشرقي بُوحَد، والشمالي ماكو ومُشْكَرَلا، وفي الجهة الغربية تبدو خيمة بوهاشم مبرقعة بين الوصيفات السافرات للشمس.

وفي هذه النواحي، بين شفشاون وباب تازي تقطن قبائل الأخماس السفلى والعليا، وهي تُربِي على العشرين ألف نفس، وفي الجنوب، على الحدود، قبيلتا غَزَّاوة وزِرْوال القاطنون في المنطقتين، نصفهم سلطاني والنصف الآخَر خليفي.

نستمر في التصعيد فنصل بعد ثمانية كيلومترات إلى قرية جميلة المكان، لا ترى هي فيه، أو إنها محجبة على الدوام. فهاك شلال المياه يطيح من نفنف عالٍ، فيذهب في ساقيه تتزاحم على ضفتيها أشجار التين والرمان والعرائش الشائكة والزاهرة. هناك الصخور تختفي وراءها البيوت، والأشجار تحجب المياه عن الأنظار، والظلال الممتدة فوقها وخلالها، تتعقب التائه والتائهة، والشلال والساقية، والهواء الناعس الهامس يضيع كل ما يحمله من الطيب، والسكينة التي تنوب عن القرية فتستقبلك في غابة من السنديان العتيق والزيتون، حول الجامع القديم، تحت جفن الجبل الذي يرى القرية شرافات، المختبئة في واديه، بين أشجاره وصخوره.

أما الجامع، فهو وحده يستمتع منذ القديم بجمال المكان، ويقال إنه أقدم جامع في هذا المغرب، بناه طارق بن زياد، وهو مبيض من الخارج، ولا ندري ما بداخله؛ لأنه كان مقفلًا، وما كان هناك مَن يفتح لنا بابًا من أبواب العلم والتقوى، إنما علمنا أن الجامع مشهور أيضًا بغير قِدَمه؛ فإن له أوقافًا كثيرة، وقد كان مقرًّا للعلم، فاشتهر علماؤه بإحسانهم القراءات العشر.

نفع الله الجيران بقدسيته وبعلم علمائه، نفع الله غمارة، إننا لفي جبلها الآن، جبل غمارة المشهور، منذ عهد ابن خلدون وقبله، بغير العلم والتقوى. جبل غمارة، عش الدسائس، ومدرج الفتن — نفعه الله بشرافات. وإن غمارة لمثل جامع شرافات، عريقة في القِدَم، فقد كانت تصول في الجبل والساحل يوم وصل موسى بن نصير في فتوحاته إلى طنجة، وهي اليوم تشرف هذه الجبال باسمها، وتفسح فيها لغيرها من القبائل.

ومن حسنات أولياء الأمر في عهدنا الحديث أنهم عنوا بهذه القبائل فأحصوها، وسجلوا في لوحات على الطريق عددها، وعدد مداشرها، ومساحة أرضها. نحن الآن في جوار بني خالد التابعة لغمارة، وهذه اللوحة عند مفترق الطريق إلى ديارهم تقول: بنو خالد ١٠٧٨٠، مداشرها ٧٦، أرضها ٦٢٥ كيلومترًا مربعًا.

وهذا مركز الشرطة المشرف على وادٍ منبسط متسع ريان، يجري فيه نهر، وتقام فيه سوق لِبَنِي دكرون، وفي القرية مركز لقائد قبيلة الأخماس العليا، وإلي جوانب هذا الوادي من الجهات الأربع تتشامخ الجبال١ وقمة غمارة منها مكللة بالثلج.

دخلنا منطقة الهول في المشاهد الجبلية، وشاهدنا لأول مرة غابةً من الصنوبر، بل هناك على رأس الجبل غابة من الأرز.

الأودية تتباعد، والرواسي تتعالى، والمنحدرات تفاجئك بالنفانف، والنفانف بالمهاوي، وتحت المهاوي البطاح والربى، تتموج في اخضرارها واصفرارها وظلال بساتينها، تتموج في نور الشمس خلال الغيوم البيضاء الشفافة، شيء يشبه لبنان في الناحية الشمالية، ويقلده في صنوبره — وفي أرزه — تباركت الأرض التي تتعاون والإنسان على كل شيء صالح حتى في التقليد، وتبارك أرز المغرب في غاباته المديدة، التي كانت في قديم الزمان للبنان.

نحن الآن فوق البحر، بألف وأربعمائة متر، نحن قريبون من جبل كتامة. نسير بين أشجار من الأرز اللبناني قائمة في أسناد الجبل ومنحدراته، فوق الطريق وتحته، هي أضعاف غابة أرزنا المشهور، إنما علو الأشجار هو دون العشرين مترًا، ومحيطها لا يتجاوز ثلاثة أمتار،٢ وقد رأينا منها المحروقة اللحاء، فعلمنا أن الأهالي يحرقونه قليلًا ليستخلصوا القطران منه، فمنعت الحكومة ذلك؛ لأن الحرق وإن كان سطحيًّا يضر بالخشب إن استُعمِلَ للبناء أو للصناعة.

بعد مفرق بني خالد نشرف على البحر، فيهتف الرفيق قائلًا: هناك الجبهة — أي بورتو كباس.

إنما بيننا وبينها أودية، وبطاح وكثبان من الرمل، ومساحات على الساحل تحضن القرى المسيَّجة بالصبير. لقد زار ألفريد الجبهة مرة، وقضى أيامًا طيبة بين أهلها، فهشَّ لها من أعالي الجبال؛ إذ تراءت له على الساحل القريب البعيد:

وتلفتت عيني ومُذْ خفيت
عنها «البطاح» تلفت القلب

وهذه إساغن، اسم لغير مسمى، أو لقرية خفية مثل أكثر القرى في جبال المغرب، وهذا المخفر العسكري المخزني بإساغن، إنه يعلو ألفًا وخمسمائة متر فوق البحر، ويستقبل جبل تديغين المتوج بالثلج، في أواخر شهر مايو، وهو على مسافة ساعتين مشيًا في ذلك المخفر.

وفي جواره، بين الأخضر والأدكن والأبيض من الجبال، إلى جانب الطريق، نصب تذكاري، حديث الأسلوب الفني، بفراش من الرخام أمامه مُدرج بدرجات واسعة مديدة، تعلو بتؤدة إلى السدة القائم النصب فوقها، وهو في نحو عشرة أمتار، مضلع ومجنح، ومكلَّل بما يشبه العمارة في التماثيل المصرية القديمة.

أُقِيم هذا النصب في هذه الأعالي الجبلية في قلب المنطقة الخليفية، تذكارًا للثورة التي قادها الجنرال فرنكو إلى ذروة النصر، والأصح أنه تذكار لاجتماع بعض ضباط الجيش الأفريقي، إخوان فرنكو، في هذا المكان، في أواسط يوليو سنة ١٩٣٧؛ ليقسموا اليمين بأن يعلنوا الثورة، ويخلصوا لها، ويجاهدوا في سبيلها حتى النهاية.

والجدير بالذكر كذلك أن هذا النصب لا يتميَّز دينيًّا بشيء — فهو وطني فني، لا إسلامي وإن كان في المغرب، ولا مسيحي وإن كان إسبانيًّا — فكأن الذين أوحوا به، والفنانين والبنَّائين الذين كونوه، يقولون: إننا والمغاربة العرب أبناء وطن واحد.

لم يكن الجنرال فرنكو حاضرًا ذلك الاجتماع في جبل كتامة، في هذا المكان منه، بل كان يومئذٍ حاكمًا في جزائر الكنار، أو سجينًا أو منفيًّا هناك. من الواجب، ونحن واقفون عند هذا النصب، أن نُعلِم القارئ بما تقدَّمَ من حياته السياسية وأدى به إلى ذلك المنفى، وسنوجز الكلام.

حياة الجنرال فرنكو مرتبطة بحياة الجيش الإسباني منذ أيامه الأولى في المغرب، فكان وهو ضابط صغير يغار على الجيش غيرته وهو القائد الزعيم؛ فيطلب تطهيره من الفساد، وتحسين أحواله المادية والمعنوية، بل إعادة تنظيمه على أحدث الأساليب العسكرية.

وبالرغم عما تسرب إليه من الدعايات السياسية، وتغلغَلَ في صميمه من نزعات أحزاب الشمال، بقي فيه كثيرون من أصدقاء فرنكو وأنصاره.

ولكن الحكومة الملكية، بعد انتهاء الحرب في المغرب ونفي عبد الكريم، أهملت فرنكو، فقضى سنة في السياحة والدرس، دون أن يبعد عن موضوع حبه وجهاده.

وما كانت الحكومة الجمهورية لتحسن الإصلاح الذي استمرَّ يطالب به. فلما قُلِّدَ خيل روبليس Gil Rubles منصب الوزارة عيَّنَ الجنرال فرنكو رئيسًا لفرع من أركان الحرب، وفوَّضَ إليه أمر إصلاح الجيش، وإعادة تنظيمه، فباشَرَ فرنكو العمل ولما يتمِّمه، ولا عجب.
فبعد أن فازت الجبهة الشعبية، واستولى الثوار — أحزاب الشمال — على الحكم، في فبراير سنة ١٩٣٦، عُزِل الرئيس سامورا Zamora وأقيم مكانه منيوال أنسانيا Anzania الذي كان يقول يوم كان وزيرًا للحربية في مستهل الجمهورية، إنه سيرسل فرنكو إلى جزائر البليار ليخلص منه.

وهاك أنسانيا يعود إلى الحكم، وهاك فرنكو بين يديه، وقد زادته نكبات بلاده، على يد المتطرفين من أحزاب الشمال، سخطًا وألمًا، ونشاطًا في السعي لإنقاذ الجيش من عوامل الفساد والتفسُّخ، وإنقاذ الأمة بواسطته من عوامل التحزب والفساد والخراب.

فماذا عمل أنسانيا بفرنكو؟ عيَّنَه حاكمًا عسكريًّا بجزائر الكنار، تلك الجزائر القصية في الأقيانوس، وهو يظن أنه قضى عليه وعلى أحلامه، وما خفي على فرنكو شيء من مقاصد الوزير، فقبل الوظيفة — وقُلِ المنفى — وقاسى هناك ما يقاسيه السياسي المنفي من المراقبة والتجسُّس، وظلَّ مع ذلك مستمرًّا في مساعيه، وما كانت الأحوال في مدريد أقل اضطرابًا منها في تلك الجزائر، بل كان المتطرفون أشد عليه في ذلك المنفى، فهُدِّدَ مرة بخطف ابنه، وغير مرة بالقتل. تفاقمت الأمور وبلغ الصبر منتهاه.

ثم حدث الحادث الذي كان الشعلة لنار الثورة، ذلك الحادث هو اغتيال العلَّامة كلفو سوتيلو Calvo Sotilo زعيم الحزب الملكي. قُتِلَ في مدريد في الثالث عشر من يوليو ليلًا، بشكل شبه رسمي فظيع.

وقد كان الضباط الذين أقسموا تلك اليمين على اتصال دائم بفرنكو؛ فأُعلِنت الثورة في مليلية صباح اليوم السابع عشر، وفي تطوان مساء ذلك النهار.

وفي اليوم التالي وصل الجنرال فرنكو في الطيارة إلى تطوان، فاستقبله إخوانه الضباط وفي مقدمتهم الكلونل بايبدر لولب الحركة، وقلبها النابض في المغرب. ثم عُقِد اجتماع عسكري، قُرِّرَتْ فيه خطط العمل، ورُدِّد صدى اليمين التي أقسموها في جبل كتامة حيث يقوم اليوم هذا النصب التذكاري.

في ذلك الحين كان بعض قادة القبائل موالين لفرنكو، فبَثَّ الدعوة بواسطتهم في القبائل الأخرى، وأخذ المغاربة ينضمون إلى جيشه، ولكن نقل الجنود، بعد إعلان الثورة لم يكن متيسرًا؛ لأن البواخر الحربية الإسبانية كانت ترصد أبواب المضيق، ومع ذلك فقد جازت الفرقة الأولى في القوارب، وبعد ذلك سارت الجنود المغاربة والإسبان من تطوان إلى ساحات القتال.

إن أكثر مَن تطوَّعوا في جيش الجنرال فرنكو هم من جبال الريف، والريف منذ عشر سنوات كانت تحارِب إسبانيا. فما السبب في هذا الانقلاب؟ قرأت في جريدة إنكليزية رصينة مقالًا لمُكاتِبها في إسبانيا يقول فيه إن السبب في تطوع عرب المغرب هو مادي محض، ينحصر في المعاملة الحسنة، والرواتب العالية. وقد ردَّدَ غيره من الصحفيين هذه الفكرة السطحية، واكتفوا من الأسئلة بظاهرها.

إن لانقلاب عرب المغرب من أعداء إلى أصدقاء، ومن مقاومين إلى مناصرين، أسبابًا غير الرواتب وحسن المعاملة، ومن هذه الأسباب أن الحكومة الملكية بعد انتهاء ثورة عبد الكريم، أهملت قادة تلك الثورة، وأبعدتهم عن مناصب الحكم، فباتوا لها أعداء، وما سعت — بعد أن رأت نتيجة سياستها — لإصلاح الأمر. فأولئك القادة رؤساء في قبائلهم، التي انقادت لهم، فاشتدت الضغائن على الإسبان، وحلت محل الثورة حركة فكرية خفية.

وفي عهد الجمهوريين تفاقَمَتِ الأمور؛ لأن سياسة مدريد الخارجية المغربية حذت حذو السياسة الفرنسية في المنطقة السلطانية، فاتفقت الحكومتان اتفاق أصحاب المصلحة الواحدة، فأهملت مطالب المغاربة، واحتقرت قادتهم، وفرضت المراقبة عليهم، فشعر الجميع، التابعون والمتبوعون، بالذل والهوان، وتحوَّلَتِ الثورة الفكرية إلى نهضة وطنية، على الحكومة الجمهورية.

ولو لم تكن ثورة فرنكو، لكانت ثورة المغرب.

أضِفْ إلى ذلك أن الجنرال فرنكو وإخوانه الضباط كانوا يعطفون على المغاربة، ويخلصون الولاء لهم وللمغرب، فنصروهم على الجمهوريين، وسارعوا إلى السلاح والتطوع، فكان عددهم يزداد يومًا فيومًا، حتى بلغ في مدة الحرب الأهلية مائة وثمانين ألفًا، وما كانت شجاعتهم في الحرب مع فرنكو بأقل منها يوم كانوا حربًا عليه، بل حاربوا مستبسلين؛ لأنهم كانوا مؤمنين. فلقد آمنوا بفرنكو ودعوته، كما آمنوا بقادتهم والزعماء، وقد خاضوا المعارك متيقِّنين أن انتصارهم هو انتصار المغرب، وأن في تحقيق مبادئ الثورة تحقيقَ مطالبِهم الوطنية وآمالهم القومية.

والجدير بالذكر هو أن الإحساس الديني الشديد في المغاربة والإسبان، كان من العوامل القوية التي كوَّنت الثورة، وضمنت لها النصر؛ فقد تصوَّرَ الثوار، وصوروا للمغاربة، أن الجمهوريين أعداء الدين وأعداء الله، وأن الانتصار عليهم هو الانتصار على الكفر والإلحاد. إن في ذلك التصور من الوهم والخداع ما في كل دعاية من الدعايات السياسية في هذا الزمان.

•••

نعود إلى رحلتنا الريفية، بعد أن وقفنا هنيهة أمام النصب عند باب الريف، نقصُّ على القارئ القصةَ التي تتعلَّق به بداية ونهاية ومستقبلًا. فإن للتعاون الإسباني المغربي نتائج دائمة، ظهر بعضها، والأمل كبير بما سيظهر فيما بعدُ.

نعود إلى رحلتنا الريفية، بل نبدأ الآن بها، وقد قطعنا جبال غمارة، واستقبلنا جبال الريف، فعاد الزمان إلى أوائله، على الأقل في الأسماء، أسماء الأماكن والبلدان.

إساغِنْ – كتامة – زَرْقَتْ – تَرْغيسْتْ؛ هذه الأسماء تبعدنا عن العربية، ولا تُدنِينا من لغة معروفة مألوفة، فالشائع أنها بربرية، وقد لا تكون كذلك من غير الوجهة الذوقية. أما من الوجهة التاريخية والجنسية، فقد تكون غوطية أو بيزنطية أو أفريقية أو فينيقية.

وصلنا من إساغن إلى ترغيست حيث تلتقي ثلاث سواكن: الياء والسين والتاء، وثلاث قبائل: بنو مَزْدَوي وبوخنُّوس وبونصار، وثلاثة ألغاز: بربري ومغربي وعربي.

والزمان يعمل في تكوين اللغز الرابع — الإسباني العربي. فيقف رحَّالة المستقبل عنده سائلًا كما نقف اليوم سائلين: وما البربري، وما المغربي، وما العربي، وما السبَنْرَبي؟

اللغز السبنربي هو هنا في ترغيست، وسنكفي رحَّالة المستقل مئونة السؤال. ترغيست مركز عسكري في وسط المنطقة، عند الحدود الغربية لجبال الريف؛ فالإسبان العسكريون فيها أربعة آلاف، والمدنيون ألف واحد، والمغاربة تسعمائة نفس لا غير. إنما في جوار البلدة القبائل الثلاث التي ذكرت، وعددها جميعًا أربعة عشر ألفَ نفسٍ.

إسبان ومغاربة، في هذه البقعة الجبلية العالية، الطيبة الهواء المرهفة الغرائز الحيوانية، إسبان ومغاربة متآخين متحابين في هذا الزمان السعيد — في العقد الرابع من القرن العشرين — وقُلْ متناسلين، بالرفق والتؤدة. مرة كل شهر، كل عام، كل عشرة أعوام، فالمحصول بعد خمسمائة أو ألف عام هو واحد. هو هذا اللغز الأثنولوجي السبنربي، إنه يكون لغزًا، نعم، لولا هذه الأسطر العشرة الشارحة لأصله وحاله في التكوين.

فلو كان ابن خلدون، أو غيره من العلماء في الماضي، مدقِّقًا محقِّقًا في أصول الأشياء والناس مثلنا اليوم، لكفانا مئونة السؤال والافتراض والحدس، ومع ذلك سنعود في فصل آخَر إلى الموضوع فنسأل ونفترض ونحدس في: مَن هو البربري في المغرب، ومَن هو العربي، ومن هو العربي المغربي البربري؟

إننا الآن في ترغيست، على ألف ومائة متر فوق البحر، في سهل مفتوح للرياح الأربع، وما هي مع ذلك الكينا والحديد في المناخ، فتشعر بنشاط يذهب بتعب الأسفار، ويبش للغسق، فالمساء، فطنجة للعشاء مهما تكن، وفراش بعد ذلك من تراب، ووسادة من حجر.

ولكن في ترغيست قائدًا عربيَّ الاسم واللسان والروح، يقول للحجر: لِنْ، فَيَلِينُ. هو الحاج أحمد بن شعيب بورجَيلة، الحصيف الحكيم والتقي الورع، فقد حجَّ، ثم ساح في الشرق العربي، جاب الأمصار فتمصَّرَ، ثم عاد إلى هذه الجبال الريفية يتولى شئون القبائل، ويُشرِف على بناء المستشفى الجديد، ودار الصناعات، ويضيف الزائرين لترغيست أو المارين بها.

والحاج أحمد محدث فكه مفيد، يحدِّثك في شتى المواضيع إلا السياسة؛ فقد كان من القادة في جيش عبد الكريم، والسكوت بعدها أولى. أما القبائل، فالذي يعرفه عنها كان يجهله ابن خلدون.

صنهاجة؟ نعم، في هذه الناحية جذم منها وعدة بطون، عربية الاسم وغير عربية، تجمعها صنهاجة سراير. أما البطون العربية الاسم فهي: بنو شيبت — وهم في رأيه من بني شيبة الحجاز حافظي مفتاح الكعبة، إلا أن التاء القصيرة هناك أمست طويلة في المغرب — وبنو أحمد، وبنو بشير، وبنو بونصار. وغير العربية هي: تغزوت، وزرقت، وبنو خنُّوس، وبنو مزدوي، ولكل هذه القبائل ولي واحد كبير، جامع شامل في بركاته وفي اسمه هو سيدي محمد بن صديق أخَمْليش، المدفون بحيُّون في قبيلة بونصار.

صناعات؟ موجودة، فبنو مزدوي مشهورون بصناعة البارود، وتغزوت مشهورة بصناعة الأسلحة.

قلت: وهل تفكرون في غير الأسلحة والبارود في هذه الجبال؟

فضحك وقال: كنَّا نقول «الكلاطة٣ قبل كل شيء.» فصرنا نقول «المدرسة قبل كل شيء.» ولكن منزلة الكلاطة محفوظة، ولا عزيز بعد الله غيرها وغير المدرسة.

قلنا للحاج أحمد: إن لعائلة بورجيلة فرعًا في لبنان، ولكنهم نصارى وفيهم بطريق. فقال: زادنا الله نعمة. ووعدنا بأنه سيزور لبنان — إن شاء الله — ليتعرف إلى أهله فيه.

ودَّعناه صباح اليوم التالي، وفي القلب غرس من بستان مودته، وشيء من الأمل باجتماع البورجليين، اللبنانيين والمغاربة.

وودَّعنا سهول ترغيست المرابط في أفقها جبل الأرز، فأطللنا ثانيةً على البحر البعيد الأفق، وبعد أن انطوى الأفقان وتوارَيَا، طلعت علينا طلائع ورْياغل في أراضي الوطا والنكور.

بنو ورغايل صناديد الريف، هذه ديارهم، تشرف عليها من مركز المراقبة بقرية بني حديفة، ونلاحظ أن البيوت في جبال الريف هي مثل البيوت اللبنانية القديمة مبنية بالحجارة، مربعة منبسطة السطوح، إلا أنها مسيَّجَة بالصبير، وبين البيت والآخَر فسحات مديدة يكثر فيها اللوز والتين والزيتون.

بعد بني حديفة نستقبل جبلًا ولا كالجبال، هو جبل الحمام، وليست الصفة الممتازة في الاسم أو فيما يأوي إليه من الحمام، بل هو جبل ولا كالجبال لأن فيه يُعقَد ديوان الأولياء، كما تقول الأساطير.٤

وهذه تماسِنْت أم القرى في ناحية الغيس من جبال الريف، وهي تمتاز بعد بساتينها الزاهرة، وسهولها الخصبة، ومياهها الجارية، ومدرستها الزراعية؛ تمتاز بشيء شبيه بالأساطير. كيف لا وهي مسقط رأس ذلك العلَّامة الفقيه المنقطع النظير في زمانه، وكل زمان؛ فقد كان كاتبًا غزير المادة، ولكنه ما كتب غير الحواشي، ملأ بها هوامش الكتب.

فلو علم به أبو بكر الخوارزمي لهبط من عليائه إلى تماسنت ليحيِّيه، ويفلي حواشيه، ولو سمع به الزمخشري لنوَّر ضريحه عامًا بعد عام بزيت الزيتون.٥

كادت حواشي فقيه تماسنت تُنسِينا الحاشية المهمة في تاريخها الحديث، وهي أن الشريف الريسوني مدفون فيها.

وإني أتصور ذلك المحبر للحواشي، وبيده سيرة الريسوني، يكتب على هامش صفحتها الأولى: أخطأ وأصاب، وعند الله كل الصواب.

وعنده تعالى الثواب لمَن يُحسِن العمل مهما يكن، والعقاب لمَن لا يُحسِنه؛ فقد رافقنا من مرقب بني حديفة رجل يُدعَى ابن علي العبد لاوي، فظننته من اسمه — لاوي — يهوديًّا، ولكنه يحمل الاسم قصاصًا له ولمَن تحته من بني عبد الله عائلته. بنو عبد الله — عبد لاوي — كذلك تُنحَت أو تُنسَب الأسماء في المغرب، وكذلك تفسد اللغة. فهل يستعظم القصاص بعد تحويل الله إلى لاوي؟

وكنَّا أثناء الاقتباس لهذه العلوم اللغوية والإلهية، نهبط من الجبال إلى مرفض الوادي الكبير، وادي النكور، فعرجنا على إفْزورَن، وزرنا مدرستها الشبيهة بما شاهدنا من مدارس القرى والقبائل، بصفوفها وكتبها ورسومها الملونة النباتية والجغرافية والفيزيولوجية المعلَّقَة على الجدران، وبنظافة غُرَفها وتلاميذها من بنين وبنات.

وفي وادي النكور يجري نهران، النهر المسمى باسمه، ونهر الغيس، ويقوم إلى جانبه الشرقي من الوادي جبل تمسمان وبني توزين، فيمتد شمالًا إلى البحر، وينتهي في شبه رأس عند الخليج.

إن وادي النكور لَأرحب الأودية وأخصبها في هذه الناحية، كثير المياه والبساتين، كغوطة دمشق، وفيه من قديم المدن وحديثها اثنتان هما أجدير وسان خرخو.

سان خرخو، هاك رطانة جديدة في الأسماء، حلَّتْ محل الرطانات القديمة التي كانت شائعة في هذا المكان؛ فالطرف البحري منه قَنْتُ الزيت، والشاطئ الرملي تَغْذيت، والقرية التي غمرتها المدينة كانت تُعرَف بتَغْرَوِيت، كأنها تنتقل من شكل إلى شكل دون أن تبرح أولى درجات الارتقاء.

قد تأسَّسَتْ هذه المدينة الجديدة على رأس البر، عند خليج النكور، سنة ١٩٢٥، ودُعِيت باسم القائد سان خرخو الذي نزل بجنوده على هذا الشاطئ في آخِر مرحلة من ثورة عبد الكريم. عدد سكان هذه المدينة اليوم ستة آلاف من الإسبان، ألفان من أهل الريف، وثلاثون أو أربعون يهوديًّا. مياهها تُجلَب من جبل هو على أحد عشر كيلومترًا منها، وفيها مأوى لفقراء الأهالي، ومدرسة دينية، ومستشفى عصري، ومحكمة شرعية، ومجلس بلدي مؤلَّف من إسبان ومسلمين، رئيسه الحاج سليمان الخطابي، باشا المدينة.

الخطابي الورياغلي: نحن في ديار بني ورياغل التي أشرفنا عليها من الجبال، وهي من أكبر القبائل الريفية، تُقسَّم إلى جذمين: مرابط وخطابي، ويُقسَّم الخطابي إلى بطون أهمها: بنو عبد الله بن علي، وبنو علي بن علي، وبنو يوسف بن علي، ومن المرابطين: بنو حديفة، وبنو بوعباش. وتكثر الآية في أسماء البطون والمداشر في أكثر القبائل الريفية؛ ففي ورياغل مثلًا: آية يوسف، وآية إبراهيم، وآية عمر وبكر. وفي تَغَرسيت آية مشيطة، وفي شوكت من بني سعيد آية حمُّو، وكلها تُكتَب بالتاء الطويلة! آيات في الخلط بين العربية وغير العربية، وبين الإسلام والوثنيات التي تقدَّمَتْه في هذا المغرب.

والنكور منها في القِدَم والغموض. يذكر ابن خلدون شيئًا من فصلها، ولا يتجاوزه إلى الأصل؛ فقد كانت اسمًا لمدينة اختطها سعيد بن صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن الفاتحين، وكان يُعرَف بالعبد الصالح، استخلص بلاد النكور لنفسه وأقام فيها، وكثر نسله، فاجتمعت إليه قبائل غمارة وصنهاجة وأسلموا على يده.

هذا مثال من تاريخ ابن خلدون وعلمه، فالنكور مدينة اختطها ابن صالح اليمني، والنكور بلاد استخلصها لنفسه وأقام فيها، وليس في اسم المختط للمدينة، أو المستخلص البلاد، ما يدل على أصل النكور، أو يحل عقدتها.

ويقول ابن خلدون إن بلاد النكور تنتهي من المشرق إلى جراوة، مسافة خمسة أيام، ومن المغرب إلى مروان من غمارة، وإلى مسطاسة وصنهاجة. هذي هي بلاد النكور التي تكاد تكون أكبر من بلاد الريف، ولم يَبْقَ منها اليوم غير الوادي والنهر، الذي يخترق المنطقة من الشمال إلى الجنوب، مثل نهر الغيس، ولكن مخرج النكور من جبال غزناوة، ومخرج الغيس من جبل مزدوي بالقرب من ترغيست، والنهران لا يجتمعان في آكال، كما يقول ابن خلدون، بل يجريان من الجنوب الغربي والجنوب الشرقي، كل في طريقه مستقل عن الآخَر، فيقترب الواحد من الآخَر قليلًا في الوادي ولا يلتقيان، ثم يصبان مفترقين في الخليج، تجاه تلك الجزيرة الغربية التكوين الشبيهة ببارجة حربية راسية في ميناء سان خرخو.

ومما لا ريب فيه هو أن مدينة النكور كانت في هذا الوادي، وربما مكان أجدير اليوم؛ لأنها كانت تُدعَى أيضًا بين النهرين.

وهذه بين النهرين، أجدير عاصمة بني ورياغل، ومسقط رأس عبد الكريم الخطابي. مررنا بالبيت الذي كان بيته وهو اليوم مقر المراقب المحلي، أما المرقب العام لإيالة الريف فهو بسان خرخو. والريف كله، وهو نصف المنطقة الشمالية،٦ مقسوم إلى إيالتين: هذه التي نجتازها، والإيالة الشرقية التي نحن قادمون إليها.

عدنا في الوادي بجانب النهر، فجزناه بالسيارة عند سفح الجبل واستأنفنا التصعيد والدوران في طريق وعر، كثير الغبار، هو الطريق الجديد إلى مليلية، وقد تغيَّرَتْ كذلك تربة الأرض، فهي حوَّارية كلسية، دكناء جافة، ينبو النظر عنها، ويتعب الراكب في القليل من طريقها.

وما كان منه غير القليل؛ فبعد أن أدركنا — بين عزيب الميضاد ودار دريوس — أعلى نقطة في هذه الجبال، أي تزتز، التي تعلو ١٩٥٠ مترًا عن البحر، انفسحت الأرض، واخضرَّ بساطها المديد، فإذا نحن في سهل كسهل البقاع خصبًا وهواءً وبِشرًا.

وفي هذا السهل، بل في هذه المنطقة من المغرب الأقصى، شاهدنا لأول مرة الجمال، وعلمنا أن القبائل التي تقتنيها هي ثلاث رُحَّل لا غير، منها قبيلة بني بويحيى.

وفي هذا السهل، بل في جبال الريف كلها، لا تبيض البيوت من الخارج كما في الناحية الغربية، بل هي من لون الأرض التي تحيط بها، كبيوت القرى في اليمن.

وإلى بلدة تستوتين في هذا السهل تصل سكة الحديد من مليلية، فتمر بعد تستوتين بالجبل الذي وقعت فيه الوقعة الأولى في ثورة عبد الكريم، ومنه إلى سلوان محل النكبة التي نُكب بها الجيش الإسباني.

ومن سلوان نجنح إلى الشمال، ونستمر نازلين، فندنو بعد قليل من البحر، ومن الغروب.

فهذه — بعد سلوان — الناضور، وفيها مركز المراقبة العامة للإيالة الشرقية، وهذه — على بضعة عشر كيلومترًا منها — مدينة مليلية.

١  أعلى جبل في المنطقة الخليفية جبل كلعلي (٢٤٠٠ متر) في جبال غمارة على نحو ستين كيلومترًا، شرقًا من شفشاون.
٢  جاء في دائرة المعارف الإنكليزية (الطبعة الرابعة عشرة) أن في أعالي جبال المغرب الشمالية أرزًا عمره يتراوح بين الأربعمائة والخمسمائة سنة. علو الشجرة من ١١٥ إلى ١٣٠ قدمًا، ومحيطها من ١٦ إلى ٢٠ قدمًا، فقد يكون ذلك في غير الجبل الذي قطعناه.
٣  الكلاطة: هي الاسم العام في المغرب لكل بندقية. وهناك زيدان: البارودة القديمة التي تُحشَى بالبارود. والخماسية — الأوروبية — ذات الخمس طلقات، وأم كحلة «عروس المغرب».
٤  أيُّ الأساطير: الفينيقية أم الإغريقية؟ وهل لديوان الأولياء صلة بذلك الديوان الإغريقي الذي كان يُدعَى The Areopaqus of the Holy.
٥  ولا بد لهذه الإشارات الأدبية من حاشية تنيرها. قيل لأبي بكر الخوارزمي عند موته: ماذا تشتهي؟ قال: النظر في حواشي الكتب. وقال الزمخشري: الزيت مخ الزيتون، والحواشي مخ المتون.
٦  حدود الريف هي شمالًا: البحر المتوسط من كبدانة شرقي مليلية، إلى مثيوة شرقي الجبهة، أي بورتو كباس. وجنوبًا: المنطقة السلطانية من كتامة إلى نهر ملويه. وغربًا: من مسطاسة قرب البحر إلى كتامة على حدود المنطقة الجنوبية. وشرقًا: نهر ملويه إلى كبدانة. ويتبع بلاد الريف جغرافيًّا وتاريخيًّا، ثلاث جزر هي كبدانة والنكور وبادس، أما اليوم فهي في وصفها السياسي تابعة لمدينة مليلية المستقلة عن المنطقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤