الفصل الثاني عشر

مليلية وجبال الحديد

لو كان الإنكليزُ الفاتحين لهذه المدينة في القرن السابع للميلاد، والمستعمرين الحاكمين السائدين فيها ثمانمائة سنة، فخسروها بعد ذلك لفساد تسرَّبَ إليهم، أو لقوة أو حيلة في الصائل عليهم، وكانوا اليوم فيها مثل هذه الشرذمة من العرب المسلمين؛ لما كان السائح الإنكليزي يختلف كثيرًا في نظره وشعوره، عندما يدخل مليلية عن هذا السائح العربي.

المسألة قديمة جدًّا، هي أقدم من قطيع لابان، وأقدم من جب يوسف، وأقدم من دم هابيل؛ هي مسألة قديمة حديثة وعقلية وجدانية، والرأي السديد فيها هو دائمًا جديد، دائمًا جديد.

فمهما تغيَّرَت وتلوَّنت وجوه الحق والوجدان، فالحق والوجدان لا يتغيَّران، ومهما ارتقت القوانين، وتطوَّرت الشرائع، في حقوق التملُّك الشخصي أو الدولي، فالحقيقة الدائمة التي لا يعتريها شيء من الفساد أو التغيُّر، هي أن الإقامة والزمان، من أركان حق التملُّك، إن كان للأمم أو للإنسان. ولا تفسد ذلك، ولا توقف أحكامه، اللهم إلا وقتيًّا، حيلة لابان مثلًا، أو خيانة إخوة يوسف، أو ضربة قايين الذابحة.

وحينما يُسطَى على الإنسان في ملكه، بالقوة أو بالحيلة، أو يسيء هو إلى نفسه بما رَكَّ من خلقه، فيبسم للساطي ويداجيه، أو يخنع له ويواليه، فيفقد ذلك الملك، ويسلي نفسه مثل لابان ويعقوب بالعهود، فإن نظري قد يتغيَّر في المسألة، ويظل وجداني واحدًا لا يتغيَّر.

والسبب في ذلك هو أني من أولئك الذين يعطفون على الضعيف المظلوم، وإنْ كان ضعفه من نفسه وظلمه من يده، وإني في هذا — ولا ريب — مسيحي. فإن كنت أعجب بالقوي، فإعجابي لا يقرن دائمًا بالحب، ولا بذلك الشيء الذي يحمل أكثر الناس على أن يكونوا من الأكثرية في المجتمع الإنساني؛ إني إذن مقلد لذلك الذي صُلِب، والحمد لله. فلو شهدت ديكين يَقْتَتِلان لملت بقلبي إلى الديك المغلوب، وإن كان لجار غير محبوب!

ولو كان الإنكليزي أو الفرنسي أو الإسباني هذا الديك المغلوب اليوم في مليلية، لكنت إنكليزيًّا أو فرنسيًّا أو إسبانيًّا في شعوري ووجداني.

إنما الديك عربي، وقد فقد الزاهي من ريشه، وذهب الزمان بعرفه وصوته، فليس في مليلية اليوم ديك عربي يصيح، ولا ديك عربي فصيح. فهل يلام السائح العربي إذا وقف وقفة شعراء الجاهلية عند الطلول والآثار؟

جلست قليلًا في المدينة التي فتحها العرب في أيام الفتح الأول، واحتلوها وعمروها، وكانوا السادة فيها ثمانمائة سنة، فعرتني رعشة من الأسى. ليس هنا أثر عربي، ولا إسلامي.

والعرب المسلمون — ألفان لا غير — ضائعون بين ستين ألفًا من الإسبان، وقلما يتميزون عنهم في هيئتهم وزيهم.

مشينا مع الدليل — وهو مسلم في ثوب إفرنجي، وعربي بلسان إسباني مغربي — إلى قهوة في الشارع الكبير، فاجتزنا شوارع كبيرة تعدَّدَتْ فيها المقاهي على الأرصفة، تحت الخيم، وازدحمت بها الرجال والنساء، فخلتني في مدريد أو في باريس، وهذا بائع الجرائد وليس بينها جريدة عربية.

قال الدليل: غدًا نزور الجامعة الإسلامية. فسررت، وما طال ذلك السرور؛ فقد زرنا «الجامعة» صباح اليوم التالي فإذا هي جمعية خيرية تأسَّسَتْ منذ أربعة أعوام للاهتمام بشئون المسلمين المقيمين والذين يؤمون المدينة من الجبال، وقد باشرت الأعمال التي تقتضيها الشئون الضائعة المتبعثرة. فمن ذلك: أن تبني مسجدًا، وتؤسِّس مدرسة بل مدرستين، للبنين وللبنات، وملجأ للعَجَزة، وآخَر للأولاد الفقراء المتشردين، وغرفة تجارية كذلك. ومن مقاصد الجمعية: تنظيم سلك العمَّال وأصحاب الحِرَف؛ لتحسين أحوالهم، وللدفاع عن حقوقهم ومصالحهم.

رافقنا الرئيس إلى أولى هذه المؤسسات، وهي بناية بطابقين، وراءها حمام عام، ووراء الحمام المسجد، وفي البناية دكاكين هي وقف عليه. لقد قدَّمت البلدية الأرض هبة للجمعية، وقدَّمت الحكومة لها بعض المساعدة المالية، وجلبت لها معلمًا من لبنان يعلِّم في مدرستها العربية.

كل هذه الأعمال الخيرية القومية المدنية والدينية، تقوم بها الجمعية، بمساعدة الحكومة. قالها الرئيس بلهجة فيها سرور، يخالطه امتنان. ونهضة المسلمين هذه، في مدينة كانت لهم، فأمست أوروبية مسيحية حديثة العهد، كما قدمت؛ لا سابق لها، تمهيدًا أو إنشاء، لا بد من الإسبان ولا من المسلمين أنفسهم. فقبل أن تأسست هذه الجمعية كان القطيع بلا راعٍ يرعاه، ولا مَن يهتم بشئونه من المحتلين؛ فالحالة الحاضرة في الإنشاء والإصلاح والتعاون هي مظهر من مظاهر التجدد القومي في بلاد العرب، والنشاط الديني في بلدان الإسلام كافة. فالدولة الأوروبية المسيطرة على بلد إسلامي ترى من صالحها أن تساعد في تحسين أحوال المسلمين، الدينية في الأقل والاجتماعية، وهذا — من فضل ربك — في مليلية اليوم، وإن كان قليلًا. فالكثير الضائع، لا يفدى بالقليل أو بالكثير من هذه الأعمال الخيرية.

مليلية أحد الثغور الأفريقية والآسيوية على البحر المتوسط، بل أحد الثغور العربية في الماضي. عرتني — إذ جلست فيها — رعشةُ أسى تلتها رعشةٌ من الخوف؛ خفت على بيروت وطرابلس، خفت على حيفا ويافا، حتى على الإسكندرية؛ فالأوروبيون اليوم فيها جميعًا، والهجرات الأوروبية إليها متواصلة، والمشاريع الأوروبية فيها تزداد يومًا فيومًا، والمدارس الأوروبية تنشر أعلامها في جدار المدارس الوطنية، والحكم الأوروبي يحل محل أحكامها الأهلية، من إسكندرونة إلى … حذار يا إسكندرية. فإن تهاونًا في سيادتك القومية يصير فتقًا فبابًا للسيادة الأجنبية.

وليس التيار الأجنبي اليوم كتيار الأمس في مجراه؛ فهو اليوم مكهرب نشيط، سريع التدفق والشمول. فالانقلاب الذي استغرق مائة أو مئتي سنة في هذه المدينة من مدن المغرب، لا يستغرق خمسين سنة في مدن الشرق العربي، هذا إذا استمر التيار الأجنبي في مجراه الفيَّاض الغلاب.

وهو مستمر إن كانت الأمة العربية لا تتنبَّه له، هو مستمر إن كان أمراء العرب وملوك العرب وساسة العرب لا يهتمون للثغور العربية اهتمامهم للعواصم، هو مستمر وهو غالب، إن كان العرب لا ينهضون نهضة واحدة، موحدة الصفوف والمحجة؛ ليدفعوا هذا الخطر عن ثغور هي عربية منذ ألف، منذ ألفين، منذ ثلاثة آلاف سنة.

لقد خفت عليك يا بيروت، خفت وأنا في مليلية عليك! فعندما تلفظ الروح القومية فيك نفسها الأخير، تمسي مدارسك وجامعاتك قبورًا لها، وعندما تتلاشى فيك الوطنية العربية تنقلب المعاهد الحية عليك، وتغور طوع إرادة الأجانب في كل ما يبتغونه منك، وحينما يستسلم الرعيل الأخير من فرسانك الأحرار، يذل سادتك وزعماؤك وينبذون قصيًّا، فتهجر المساجد والكنائس، ولا يبقى لمئذنة صوت، أو لقبة صدى، وقد تبقى فيك، يا بيروت، شرذمة من اللبنانيين العرب المسلمين والنصارى، كهذه الشرذمة الإسلامية في مليلية.

بيروت، حيفا، يافا، الإسكندرية، ثغور هذا البحر الأبيض جميعًا؛ إني أخاف عليك، إن لم تقم الدولة العربية الموحدة، المفعمة بروح المدنية الحقة — مدنية العلم والدين مقترنين، مدنية المادة والروح متعانقين — فتحميك من التيار الأوروبي الصائل الغلاب، وتردُّ عنك أخطار الاستعمار الحديث التي بدأت تدسُّ سمومها في دسم الثقافة والتجارة والسياسة والدين.

بيروت النصارى، بيروت المسلمين، استيقظي، لبنان الدروز والموارنة استفق، استفق. فلقد غزاك نصارى الشرق، السريان والكلدان، كما غزاكَ وكما غزاكِ يا بيروت، المستعمرون وأعوانهم المهاجرون، الأرمن والشركس والآشوريون.

وستزداد الأقليات قوةً في لبناني العزيز، فتسمى الأكثرية حلية، ويمسي أهله الأصليون أقلية صغيرة ضئيلة، ضعيفة ذليلة، وذي هي الشرذمة الإسلامية في مليلية تشهد على ما أقول.

فيا ملوك العرب، ويا أمراء العرب، إن الأجل قريب، وإن اليوم الذي ستشاهدون رهيب، إلا أن تستفيقوا، وتعملوا بعزم وإخلاص، العمل الواحد، مهما اقتضاه من بذل النفس والنفيس، فتحموا الثغور العربية على هذا البحر الأبيض، تحموها تحقيقًا لأماني أهلها، تحموها بالرغم عمَّا يريده أهلها، تحموها وأنتم في البداية والنهاية أهلها، وإن لم تدركوا معنى التبعة، وقيمة التبعة التي ألقاها الله على عواتقكم، فأنتم الخاسرون، وأنتم المظلومون. فالثغور اليوم ذاهبة، والعواصم ذاهبة غدًا، ولات ساعة مندم. وهذه مليلية تشهد على ما أقول.

ومن غريب أمر مليلية أنها في أواخر القرن الماضي، وفي زمن الحكم الإسباني كله، أي منذ انتزعها الإسبان من العرب، في النصف الأخير من القرن الخامس عشر إلى آخِر القرن التاسع عشر، لم تكن على شيء يُذكَر من الرقي والعمران؛١ فقد كان عدد سكانها، سنة ١٨٩٥ ثلاثة آلاف نفس، وهم اليوم سبعون ألفًا منهم ألفان مسلمون، ثمانية آلاف من اليهود، وقليل من الأوروبين غير الإسبان.

ولكن بعد الاحتلال الإسباني، والحصول على جبل الحديد، وتوسيع المرفأ ومد السكة إلى الجبل، اتسع مجال العمل والتجارة للإسبان، فتهافتوا على مدينة المناجم، فأخذت تزداد عمرانًا، واستعادت سالف عهدها في الازدهار.

فالمناجم، ولا غرو، مصدر ثروتها وازدهارها، في الماضي والحاضر، والمناجم التي كان العرب سادتها في الماضي، هي اليوم باب من أبواب الرزق لعمَّال العرب.

فهل يكتفون به يا تُرَى وقد فُتِح لهم باب من أبواب العلم الذي كان أجدادهم سادته وحَمَلة مشاعله في العالم، ومن العلم اليوم ما لم يدركه أولئك السلف، ولا كان من أسباب الحضارة في زمانهم؟ فعلينا نحن أن ندرك الحقيقة القاسية في علوم هذا الزمان، وهي أن النفط والفحم والحديد هي لمدنيَّتنا كالماء والهواء والغذاء للإنسان، وأن الفحم والنفط والحديد للأمم هي قوام حريتها واستقلالها وسيادتها التامة. فالأمة التي لا فحم، ولا نفط، ولا حديد عندها، تكفي في الأقل حاجاتها، في أيام السلم والحرب، هي أمة وُكَلَة، فلا حرية ثابتة لها، ولا استقلال يدوم.

ولنا أن نقول إن السيادة الحقيقية في زماننا، وما يصحبها من استعباد العباد، إنما هي لشركات النفط والحديد، وللحكومات التي تتحالف وتتآلف وإياها. وفي إسبانيا اليوم مَن يدركون هذه الحقيقة، ولا يطمئنون إلى حالٍ تُوجِب عليهم استجلاب النفط دائمًا من خارج بلادهم، ودفع ثمنه نقدًا ذهبًا؛ لذلك بدءوا يبحثون عنه، وسيجدونه في الجهة الجنوبية الغربية من منطقة حمايتهم في المغرب.

أما الحديد، فإن في إسبانيا مناجم منه غنية المادة، ولكن الحديد الأجود هو ها هنا في هذه الجبال المجاورة لمليلية.

وهناك حقيقة أخرى من حقائق علومنا العصرية القاسية، وهي أنه كلَّمَا تقدَّمنا في هذه المدينة، مدينة الفحم والنفط والحديد، ازدادت حاجاتنا، وازدادت أسباب صنعها وتعاطيها، وازدادت كذلك أنواع العمل في سبيلها، عمل الفرد وعمل الأمم.

أما الفوز في تنظيم هذه الأعمال وانسجامها للأمم التي تُحسِن العلم، فليس في تقسيم الأعمال وتوزيعها فقط، بل في تقسيم ما تنتجه من المال وتوزيعه بين العمال وأصحاب العمل على السواء.

هو ذا سر النجاح الذي بدأت تدركه إسبانيا الجديدة، فتعمل به في بلادها وفي منطقة حمايتها بالمغرب. إسبانيا، ومن شأنها الوثوب من حال إلى حال، من تطرف إلى آخَر، في تاريخها القديم والحديث، إسبانيا هي اليوم قادمة على تجربة في الاستعمار مقلقلة لدول الاستعمار جاراتها، وإن لها في ذلك إيمانًا عظيمًا، هو إرثها ومددها في كل أعمالها؛ فهي المدركة كذلك أن العلم والعمل، والابتكار فيهما، غير ممكن وغير مثمر، بدون السلم والأمن والطمأنينة. وكأني بها تقول: ليطمئن المغاربة بالًا، أطمئن أنا، وإن عدلت أنا عدلًا إنسانيًّا لا سياسيًّا، يخلد المغاربة إلى السكينة، ويخلصون الولاء، ويستقيم التعاون وإياهم لخيري وخيرهم.

إن إيمانها لعظيم، وقد تكون فيه مبدعة لعهد جيد في صلات الأمم بعضها ببعض، وفي العمران البشري، المادي الثقافي الروحي.

•••

إن لمليلية فحصًا، مثلما لسبتة وطنجة، ولكنه صغير — لا يتجاوز الكيلومتر الواحد في كل جهة من جهاتها البرية. فإذا سلكنا الطريق المغربية منها، نصل بعد قليل إلى حدود المنطقة الخليفية، حيث مراكز الشرطة والجمرك وجوازات السفر.

أين المغاربة؟ أين أبناء الريف؟ هم دون هذه الحدود، في القرى القريبة من الجبال، وفي الجبال وأعاليها، وها نحن أولاء في شِيكَر عند سفح الجبل، على بضعة عشر كيلومتًرا من مليلية، وهذه كذلك فرخانة، ولا يزال عليها أثر العتق والقِدَم؛ فقد كانت في أيام السلاطين مركزًا عسكريًّا لحراسة الحدود المغربية، وهي تُسمَّى قصبة مولاي إسماعيل؛ لأنها بنيت في أيامه (١١٢٠ﻫ)، وهذه بقية كئيبة من صورها.

وفي فرخانة اليوم مدرسة عربية، يتعلَّم فيها مائة من أبناء القبائل، وهي مجانية بكل ما فيها، وتقدِّم — فوق الكتب والقراطيس — الفطور والشاي للتلاميذ كل يوم، وكسوة كاملة لكلٍّ منهم، ثلاث مرات في السنة.

وفي الطريق الجنوبية من مليلية نصل بعد ربع ساعة في السيارة إلى المدينة الجديدة الجميلة التي بناها الإسبان؛ إلى الناضور Villa Nador، وفيها نحو ألف من المسلمين، وخمسة آلاف من الإسبان المدنيين. هذه المدينة قائمة على بحيرة تتكون من البحر، وتتصل به بعد أن تكون قد بلغت خمسة عشر كيلومترًا من الأرض، ووقفت عند سفح الجبال الشرقية، فتفيأتْ قسمًا مما أكلت — لسانًا رمليًّا طويلًا، يفصل بينها وبين البحر، فيُزرَع بطيخًا.

أريد أن أقول إن الناضور على الجهة الغربية من البحيرة، التي أَسْمَاها الإسبان «مارتْشيكا»، البحر الصغير، وفي هذه النواحي قرية غريبة الاسم، تجتمع فيه ثلاث لغات، قرية لبني نصر — تُلفَظ أنصار — من قبيلة مزوجة، تُدعَى «أولاد بُوَيْفو كُوُّزِين مارتشيكا»! فهل في العالم يا تُرَى قرية أخرى تحمل مثل هذا الاسم الضخم الفخم الرخيم، الجامع بين الإسبانية والعربية والمشلحة الريفية؟

لقد أنسانا هذا الاسم «البحر الصغير» والناضور القائمة على ضفته الغربية، وجبل كبدانة المقابل لها، واللسان الرملي الذي يمتد من سفح ذلك الجبل إلى البحر الكبير، بالقرب من مليلية، فتخرج البحيرة من ذلك الباب لتجتمع بسيدها البحر.

وفي الناضور مركز المراقبة العامة للإيالة الشرقية، ومعسكر كبير، رأينا الفراخ منه في الساحة أمام المركز. هناك رأينا عقاب الحرب يفقس بيضه، فيخرج منها الفراخ حاملين البنادق. سلاحك! إلى الأمام! الصوت الرهيب هو صوت العقاب، يسمعه مائة من أولئك الفراخ، صبيان من الخامسة إلى العاشرة، يمشون بخطوات شبيهة بتلك التي اخترعها الألمان. فراخ تخرج من البيض حاملة البنادق، جنود المستقبل، أبناء الحروب الدائمة!

وفراخ، في الميتم الريفي، يتعلمون القراءة والكتابة والقرآن الكريم، ذلك الميتم قائم في حديقة غنَّاء، وفيه أربعون من بنات وبنين، تقوم بخدمتهم امرأة مسلمة، ومعاونات لها، ويشرف على المعهد شيخ ذو لحية مثل لحى الأنبياء، طويلة مرسلة بيضاء.

ومما راقنا كذلك ثوب البنات الريفيات؛ فالبنات في ميتم أوروبي أو أميركي يكمدن بالثوب الصفيق القاتم، فيغدون كالراهبات أو كالسجينات، وما ذنبهن غير اليتم. أما في هذا المعهد فتراهن يمرحن في أثواب من الشيت، نعم، ولكنها زاهية الألوان، تعلوها المناديل الحمراء، وقد شُدَّتْ على الرءوس من وراء بأسلوب اللبنانيات، وكذلك تلبس نساء الريف، وهن في الجبال سافرات، ويُقِمْنَ أسواقًا خاصة بهن للمتاجرة، أسواقًا نقَّالة لا يحضرها الرجال.

خرجنا من الناضور نقصد جبل الحديد، فمررنا بقرية مغربية صافية إلا في اسمها؛ إسجانجن — باللفظ المصري للجيم — وهي مقسومة قسمين، نصفها على رأس الرابية، بيوت مربعة منبسطة السطوح محصنة بالصبير، والنصف الآخَر حديث البناء، في السهل، فيمر الطريق في السوق الغربية، وفيها عدا المدرسة العربية مدرسة صناعية.

ومن إسجانْجِن نباشر الأسناد في الجبل المنتسب إلى قبيلة بني بويَغْرور، المسمى باسم أحد بطونها، وِيْكْسِن — لا يروعنك التقاء الساكنين، فاذكر أنك مررت بترغيست، حيث التقت ثلاثة حروف ساكنة — ولبني بويغرور بطون أخرى منكرة الأسماء، إلا واحدًا هو أولاد شعيب.

ومن قبائل الريف ذات الأسماء العربية، أصلًا وفرعًا، قبيلة بني بويحيى، تلك التي تقتني الجمال، تلك التي تحفظ عهد البادية، وقديم صحبة «البُل». فمن بطونها المباركة: أولاد علي، وأولاد فطُّومة، وأولاد عبد الدايم، وأولاد موسى، ومُوحَن — لا بد من عثرة ولو في نعيم العربية. فموحن هو اختصارهم لمحمد! سامحهم محمد، وسامحهم الله.

وها نحن أولاء في جبل وِيْكْسِن، جبل الحديد، نترجل أمام بناية من بنايات الشركة، فيستقبلنا المدير، ويتلطف فيطوفنا بالمناجم القائم بعضها فوق بعض.

نمشي إلى رفٍّ من رفوف الجبل، فنشرف على منجم يحفر فيه العمال بالمعاول، فيخرجون التراب والحجارة يملئون بها العربات التي تسير على خطوط الحديد إلى آلات التكسير والتصويل.

ونصعد إلى رفٍّ آخَر فنشاهد المعول التجاري يعمل العجائب في حفر الجبل ودك صخوره. ونستأنف السير، والنظر والفكر والأذن تباري الرجل في العمل الواحد الشاق، ولكن لكل عامل حيلة يستعيد بها النفس والنشاط؛ فكنا من حين إلى حين نستوقف المدير لندوِّن في دفتر المذكرات كلمة قالها أو وصفًا لآلة أو عملية في التنجيم، وكذلك تتهم الرجل الذاكرة بالضعف، وتشارك الذاكرة الرجل في الراحة.

ثم نستأنف التصعيد في جبل بني بويَغْرور، الذي باعه «بو حمارة» لهذه الشركة الإسبانية؛ أعطاها امتيازًا مجهول الحدود والشروط، إلا في المديرية العامة، سنةَ كان ثائرًا على سلطان المغرب المولى عبد العزيز،٢ وقد تكون الحكومة الحامية عالمة ببعض تلك الشروط والحدود ولكنها متكتمة. قال لي المقيم العام الكولونيل بايبدر جوابًا على سؤال سألته: قريبًا تنتهي مدة الامتياز، وسيكون للمنطقة بعدئذٍ حقوق في الاستثمار.

أما الآن فالشركة الإسبانية للمناجم الريفية هي ربة هذا الجبل، ولكنها وإن كانت قد بدأت في الحفر سنة ١٩١١، توقَّفَتْ طويلًا؛ فقد حالت الاضطرابات والثورات مدة عشرين سنة دون الاستثمار، فلم تباشره حتى سنة ١٩٣١.

في هذه المناجم سبعمائة من العمال المسلمين، ومائة لا غير من الإسبان، وفيها القوانين والأساليب في الإدارة، والحقوق والواجبات في العمل، تامة شاملة طبقًا «لإنجيل» العمال في هذا الزمان؛ فالعمل ثماني ساعات، وأسبوع العمل خمسة أيام، والأرباح الإضافية مضمونة، ومخزن «الكوربوراتيف» مفتوح للعمال وأهلهم جميعًا.

لهذا المخزن لجنة مؤلَّفة من إسبان ومغاربة تتولى إدارته وتضبط حساباته السنوية، فتوزِّع الأرباح على العمَّال كل بالنسبة إلى قيمة ما يشتريه من المخزن، وقد بلغ ربح أحد عمال المغاربة خمسمائة بسيطة، وهو من الذين يشتغلون بخمس بسيطات يوميًّا، أي أقل الأجور، وهي تبلغ الخمس عشرة بسيطة للعمال الحاذقين والفنيِّين.

من الأعمال الإضافية التي تقوم بها الشركة أنها أنشأت مدرستين للعمال وأبنائهم، الواحدة للبنات والأخرى للبنين، فيتعلَّم فيها ليلًا مَن يشاء من العمال أنفسهم، ويتعلم أبناؤهم في النهار. وقال المدير: والإقبال حسن في النهار وفي الليل. الطالب المغربي من العمال يرغب خصوصًا في تعلُّم الحساب، والعامل المغربي نبيه نشيط يتعلَّم بسرعة العمل على الآلات الميكانيكية والتجارية.

وقفت لأدوِّن ذلك في مذكرتي؛ فقد كنا نصعد في الجبل من طبقة إلى طبقة، ورف إلى رف، حتى بلغنا ما يقرب القمة التي تعلو ستمائة وخمسين مترًا عن البحر، فمن تحت تلك القمة إلى المكان الذي وقفنا أولًا فيه حُفِرت الطبقات الأربع، فبدت كالنيران، وكلها مكوَّنة من التراب الأحمر والحجارة الحمراء المثقلة بالحديد.

هو الحديد الخام من هذه المناجم في بطن الجبل، بل في بطونه الكائنة بعضها فوق بعض، وينقل منها بعربات على خطوط من حديد إلى معمل التكسير، إلا الآلات، ويا لهول تلك الآلات الكسَّارة، المركبة في ثنيات الجبل، المتصل بها من أسفل ومن أعلى شبه قنوات من حديد، فتتدهور في العالية جلاميد الصخور، تقذف بها تلك العربات؛ فتتناولها الآلة بأضراسها الجبَّارة، وتكسرها بقوة هادئة خارقة كما تكسر اللوز والجوز بمكسرتك الفضية على المائدة!

هذه الآلة تكسر يوميًّا من الثلاثة إلى الأربعة آلاف طن، فترسل في القنوات السفلى إلى آلات التصويل والتحليل، فيفرز منها الكبريت والإكسير، وما تبقَّى يحتوي على ٧٠٪ من الحديد الأحمر hematite، وهو كما يقول المدير: أحسن حديد في العالم.

هذا المحصول من المناجم، أي نحو مليون طن في السنة، يُشحَن في سكة الحديد، وهي ملك الشركة، إلى الميناء بمليلية، ومنها إلى إسبانيا؛ ليُستخلَص الحديد ويُصنَّع من هناك؛ ذلك لأن هذه العمليات تستهلك من الفحم الحجري ما يكلِّف استجلابه إلى مليلية أكثر من نفقات شحن الحديد الخام إلى بلياوة مثلًا حيث تكثر مناجم الفحم.

ولكن الفحم موجود في المنطقة الجنوبية، والنفط موجود في الجهة الجنوبية الغربية من هذه المنطقة.

الفحم والحديد والنفط في المغرب،٣ وكل المناجم بيد الفرنجة اليوم، ولا أظن أن أحدًا يطمع في أن تكون كلها اليوم بيد المغاربة.

إنما هناك عدل منشود، ووسط محمود.

فلأصحاب البلاد قسمتهم من ثروة البلاد.

ولأصحاب الامتيازات حقوقهم الفنية والمالية والاقتصادية، التي يجب أن تكون بعيدة عن السياسة وحدودها.

وعلى الحكومة الحامية في البلاد، إن كان في المنطقة السلطانية أو الخليفية، أن تعدل في الفريقين عدلها الأعلى، المنزَّه عن السياسة والمطامع السياسية، وإلا فما معنى الحماية؟

ولأن تُهمَل الفريقين أقرب إلى العدل من أن تحمي فريقًا دون الآخَر.

١  مليلة من البلدان التي أسَّسَها الفينيقيون القرطاجيون، وقد أَسْمَوها روسدار، ولا يزال لتلك المدينة أثر عند الصخرة الكبيرة على البحر، ثم جاء البربر فبنوا بلدة إلى جانبها أو وسَّعوا المدينة الفينيقية، وهي التي استولى عليها الرومان، ثم الغوط في القرن الخامس للميلاد، ثم العرب في الفتح الأول، فأطلقوا عليها اسم مليلة على وزن سفينة، ولكنها حُرِّفت فصارت مليلية. وقد بلغ عدد سكَّانها في عهد العرب ما هو اليوم، أي نحو سبعين ألف نفس، فشغلوا المناجم المجاورة لها، واستخرجوا منها الحديد والقصدير، وقيل الذهب أيضًا. فازدهرت في عهدهم، واضطربت شئونها، فتقهقرت في زمن الحروب بينهم وبين الإسبان، تلك الحروب التي انتهت بانهزامهم سنة ١٤٧٠، فقد حاوَلوا غير مرة بعد ذلك أن يسترجعوا المدينة فلم يفلحوا، فعقدوا معهم معاهدة صلح وولاء في سنة ١٧٨٠، في عهد السلطان محمد بن عبد الله بن إسماعيل، وجُدِّدَتْ في سنة ١٨٥٠ في عهد السلطان عبد الرحمن بن سليمان.
٢  راجع [الجزء الأول – الفصل الأول: من الاستقلال إلى الحماية].
٣  المناجم الغنية، على أنواعها، هي في المنطقة السلطانية، وجلها بيد الشركات الفرنسية. أهم تلك المناجم: الفسفات الذي صدَّرَ المغرب منه سنة ١٩٣٥ مليونًا وثلاثمائة ألف طن. وقد صدَّرَ من الفحم الحجري خمسة وثلاثين ألف طن، ومن المنغنيز مائتي ألف طن، أما الرصاص والزنك فالمغرب وطنهما الأول. وهناك أيضًا مناجم الحديد والصفر والفضة والذهب والنيكل والقصدير والألماس، وكل هذه المعادن يقول الخبراء إنها تضمن للشركات المستثمرة مائتي مليون فرنك ربحًا في السنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤