الفصل الثالث عشر

العرب والبربر

لولا شيوع هذا الاسم — البربر — في الماضي والحاضر، واستعماله حتى في زماننا لأغراض سياسية استعمارية، تمييزًا وتحقيرًا وتفرقةً؛ لَقلنا العرب والمغاربة، وإننا لقائلون ومقررون ذلك قبل أن نختم هذا الفصل.

على أننا مضطرون، ونحن نتدرج إلى هذه النتيجة، أن نمحص الحقائق الجوهرية في الموضوع دون أن نحمِّل القارئ ونحمل نحن وقر الأبحاث الأثنولوجية والبيولوجية، ودون أن نثبت أو ننفي ادعاءات العلماء والمؤرخين في الماضي، قبل ابن خلدون وبعده؛ فإنها من وجهة نظرنا الحاضرة لا تجدي نفعًا.

ووجهة نظرنا هي وطنية إنسانية، ووطنيتنا هي عربية قومية، لا عربية إسلامية؛ فقد جهرنا بذلك مائة مرة ومرة، ولا ننفك نجهر به في كل ما نكتب عن هذه الأمة العربية ونهضتها وأشواقها وآمالها، إن كان في المشرق أم في المغرب. وإن لنا في الوطنية غرضًا أكبر فيها، وإن كان قائمًا عليها ومتصلًا بها، ما كتمناه مرة، ولا حاولنا.

ذلك الغرض ناشئ عن الحقيقة التاريخية الظاهرة الباهرة، وهي أن العرب عنصرهم من العناصر الإنسانية المتحضرة، العريقة في الحضارة الناشرة أعلامها في العالم، وإن لها مطالب قومية، وأماني سياسية، لا تتجاوز حد تحقيقها إلا لتكون والأمم الأخرى على ولاء تام، وعاملة لتحقيق الإخاء الإنساني، والسلم الدولي العام في العالم.

فالمغرب بأجمعه، من برقة إلى طنجة، بركان مشتعل، يتفجَّر من حين إلى حين، ما دامت سياسة الاستعمار الأوروبية سائدة في شئونه ومستثمرة لكل أسباب الثروة والسيادة فيه، وكذلك كل قطر من الأقطار العربية في المشرق. فما دام في أوروبا اثنان: المرسل المنصِّر، والسياسي المستعمر، يتدخلان في سياستها الأجنبية، الأفريقية أو الآسيوية، ويسيطران حينًا بالقوة، وأحيانًا بالدعاية والمال عليها؛ فالحال التي وصفت لا تتغيَّر، والبركان لا ينطفئ.

فالمرسل وأعوانه: الدين والثقافة الأجنبية والمشاريع الخيرية ذات الأهداف السياسية، والسياسي وأعوانه: المال والدعاية والمشاريع الاقتصادية ذات الأهداف الاستعمارية؛ يسعون جميعًا لإحياء نعرات قديمة، أو بالحري يخترعون نعرات جديدة، مبنية على التاريخ المشوَّه، والثقافة المموهة، تذرُّعًا بحب الخير للبلاد التي يريدون استثمارها، وتوصُّلًا في الحقيقة إلى تبليغ رسالة التفرقة؛ لتتم السيادة الأجنبية وتتلاشى الوطنية.

وقد اخترعوا في هذا الزمان: الفرعونية بمصر، والفينيقية بلبنان، والبربرية بالمغرب الأقصى، اخترعوا هذه النعرات القومية القديمة، هذه النزعات الثقافية العقيمة، القومية ظاهرًا، الاستعمارية باطنًا، هذه النزعات والنعرات التي لم يكن لها اسم أو أثر في الزمان السابق للحرب العظمي.

وهؤلاء المخترعون لهذه النزعات هم أعداء الوطن العربي، وأعداء أوطانهم، بل أعداء السلم في العالم، يخلقون لدولهم المشاكل العويصة في الخارج، ولا يجلبون للأوطان الأجنبية غير بلية التفريق والشقاق.

المرسل المنصِّر، والسياسي المستعمر، ذاك يريد أن يهدي العرب «الخام» كما يقول — أي البربر — إلى الدين «الصحيح»، وهذا يريد أن يستثمرهم، ويستعمر بلادهم، ولسان حال الاثنين يقول: «يجب أن يصيروا تابعين لنا، وخدمًا يخدموننا، وعساكر يحاربون حروبنا، وإن كان فيهم المتمرد والضال، فعلينا أن نؤدِّبَ الأول ونهدي الثاني لخيرهما، وإلا فعلينا أن نستميل الواحد إلينا ليكون عونًا لنا على الآخَر؛ فنخترع لهذا الغرض نزعةً ينزعونها تحل محل نزعاتهم الوطنية والدينية، فنزيِّن للمصريين الفرعونية، وللبنانيين الفينيقية، وللمغاربة البربرية، ويجب علينا أن ننير أذهانهم بما نفهمه نحن من التاريخ، وبما يوافقنا نحن من الثقافة.»

ورأس كل علم، وكل ثقافة، وكل فهم، وكل حكمة في الموضوع هو أن البربرية والفينيقية والفرعونية لا تمت إلى العرب بصلة ما، بل هي والعروبة متناقضة متعادية.

لانكلِّف أنفسنا نفي هذا القول أو إثباته؛ فالبربرية والفرعونية والفينيقية في نظرنا نزعات مصطنعة، نزعات عقيمة سقيمة، نزعات مائتة، ولا نظن أن عرب اليوم يريدون أن تكون لهم صلة ما بالقديم العقيم، بالأموات المائتة، بل يريدون أن تكون صلاتهم بالسلف الصالح الحي المحيي المنير الهادي الباني للعروبة وللحق، الباعث فيهم روحًا جديدة ونزعات وطنية تمتاز عن نزعات الماضي بإنسانيتها الجديدة الشاملة.

وبما أننا في مباحث هذا الكتاب نعود عودات قصيرة إلى الأصول التاريخية والقومية والدولية، نمحصها ونجلوها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا؛ لاتصالها بموضوعنا وبأغراضنا المار ذكر بعضها، فعلينا الآن أن ننظر في أصل هذا الجنس البشري الأفريقي وفصله وأثره في تطور شئون المغرب.

يقول فريق من العلماء الذين لا يشوب علمهم مأرب سياسي أو غرض وطني أو دولي: إن أهل البلاد الأصليين من شعبين أسمَرَيِ البشرة، الواحد من صحراء أفريقية غير الزنجية، والثاني من جنوبي أوروبا، ويضيفون إليهما عنصرًا ثالثًا صغيرًا من أوروبا الشمالية أبيض اللون.

هؤلاء هم المغاربة الذين كانوا في البلاد منذ القِدَم، وبعبارة أوفى منذ أول التاريخ المدوَّن.

ويقول فريق آخَر من العلماء المنزَّهِين عن الأغراض الخاصة، والممعنين في المباحث الأثنولوجية البيولوجية، وفروعها الجغرافية والنباتية والجيولوجية: إن برزخًا، في عهد جيولوجي قديم، كان يصل شبه جزيرة إيبارية — ألبانية — بالمغرب الأقصى، ودليلهم على ذلك الجبلان المتقابلان المعروفان اليوم بجبل طارق، وجبل موسى المقابل له في القارة الأفريقية.

هذان الجبلان، في الزمن السابق للعهود الجليدية، كانَا جبلًا واحدًا، بشهادة علماء الجيولوجيا والحيوان والنبات؛ ففي الجبلين اليوم تشابه في طبقاتهما، وفي حاضر نباتهما، وفي آثار الماضي من حيوانهما، وقد مَرَّ بك في الفصل الذي عقدناه عن جبل طارق أن لحيوانات أفريقيا القديمة الحديثة — القرد والفيل والدنياسور — آثارًا وجدوها في الكهوف بذلك الجبل. وكما نزحت الحيوانات، وانتشرت النباتات الأفريقية من الجنوب إلى الشمال، نزح الإنسان السابق للتاريخ، إنسان العصر الحجري؛ والدليل على ذلك في جماجم من بقايا ذلك العصر في أوروبا شبيهة شكلًا وحجمًا بالجماجم الأفريقية.

إذن، وبموجب هذه الآراء العلمية، تكون الحقيقة على عكس ما كان يُظَنُّ؛ أي إن الأوروبيين من أفريقيا، وليس الأفريقيون من أوروبا، ولهذا الرأي الأخير غلاة من أهل العلم في زماننا، ولكن علمهم يتصل إما مباشرة وإما بالوسائط الثقافية والتبشيرية، بسياسة البلاد الاستعمارية، فيقولون: إن المغاربة الأصليين كلهم من أوروبا؛ ولذلك فللأوروبيين الحق أن يستولوا على بلادهم، ويحكموها ويستثمروها، وينشروا فيها الدين المسيحي.

والرأي الأجدر بالاعتبار هو أن الشعب المغربي الأصلي من القارتين — من صحراء أفريقيا وجنوبي إسبانيا، وقد يضاف إليه عنصر أبيض البشرة من شمالي أوروبا.

هذا الشعب المغربي الأصلي كان في البلاد قبل أن أسست قرطنجة، وقبل أن اتصل بالمغرب شيء من حضارة الإغريق.

ثم جاء شعب من المشرق يختلط به، فينقلنا من العلماء الطبيعيين إلى العلماء المؤرخين. ومن هؤلاء مَن يقول إن المغاربة — أو البربر كما صاروا يدعون — هم من بلاد كنعان، بل هم من الكنعانيين، فأخرجهم اليهود في أيام يشوع بن نون. ولهذا القول أشياع من زماننا يروقهم مثل هذه الأبحاث، وما الفائدة منها؟ لا فائدة ألبتة، وأما النتيجة فقد تكون وخيمة؛ قد يتحد غدًا المغاربة على إخراج اليهود من المغرب كما أخرجهم اليهود في قديم الزمان من أرض كنعان، ونحن نرجو أن يكون اليهود المغاربة مخلصين لوطنهم، متعاونين وإخوانهم المسلمين على دفع الأخطار عنه، فلا يلحق بهم شر أو أذى.

ومن العلماء المؤرخين مَن يردون كل شيء في حضارة الأمم الشرقية والغربية إلى اليونان، حتى قبل أن صار لليونان حضارة ما. فهؤلاء مثل أصحاب الرأي الكنعاني، والرأي العلمي البيولوجي، وليس في علومهم الافتراضية ما ينفع كثيرًا أو يضر.

بقيت المسألة التي تهمنا أكثر من كل ما تقدَّمَ، وهي مسألة نزوح العرب إلى المغرب وبداية عهده، وبما أن هذا البحث تناوله كبير من مؤرخي العرب وأمعن فيه، وبما أن تاريخه أو بالحري المقدمة منه، لا تزال من الكتب التي تتداولها أيدي الطلاب والأدباء، فعلينا أن ننظر فيما يقول، وقبل ذلك نلوم ابن خلدون؛ لأنه استعمل لفظة بربر بدل مغاربة، فشهرها بالعربية، بعد أن وضعها الأجانب الفاتحون، كما سنبين فيما بعدُ.

يقول ابن خلدون في أول المقدمة: إن عرب اليمن لم يصلوا قبل الفتح الإسلامي إلى المغرب، بل ينكر ذلك بشيء من الغيظ المقرون بالتحامل على أسلافه المؤرخين، وهذا كلامه بالحرف الواحد:

ما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في أكاذيب مؤرخي اليمن.

ثم يقول في الفصل الحادي والعشرين من المقدمة:

وأعتبر ذلك بحال العرب السالفة مثل التبابعة وحمير، وكيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة، وإلى العراق والهند أخرى.

وقَانَا الله مثل هذا التناقض والاضطرابات. فمما هو ثابت من الأخبار التي تؤديها علومنا الأثرية والتاريخية في هذا الزمان، أن البلاد العربية الجنوبية كانت صلة الوصل التجارية بين الهند وبلاد الحبشة ومصر وسوريا، ثم ظهر من درس الآثار المصرية المكتشفة في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، أن تجار العرب — عرب قحطان، عرب اليمن وحضرموت — وصلوا إلى مصر في تجارتهم، واستمروا في أسفارهم برًّا إلى بلاد المغرب. هذا الطريق من الهند في السفن العربية إلى حضرموت، ومنها إلى سبأ فالبلقاء فمصر وبلاد المغرب، طريق قديم جدًّا يعود إلى عهد الأسرة الفرعونية الحادية عشرة، أي ٢٠٠٠ قبل المسيح.

ومن اضطراب ابن خلدون في تقرير المسألة أنه يذكر زناتة العرب فيقول: إن أولية هذا الجيل بأفريقية والمغرب مساوية لأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلا الله تعالى.

ومن زناتة تفرَّعت شعوب كثيرة «أكثر من أن تُحصَى»، منها مغراوة وبنو يَغْرِن وجراوة وغيرهم ممَّن لا تزال أسماؤهم شائعة بين القبائل، وقد كانت مواطنهم من طرابلس إلى تلمسان إلى وادي ملويه بالمغرب الأقصى، وكانت الرياسة فيهم قبل الإسلام لجراوة، ثم لمغراوة وبني يغرن.

ويروي ابن خلدون في نسب زناتة أن نسَّابتهم يزعمون أنهم من حمير، ثم من التتابعة. وفي رواية أخرى أنهم من ولد جالوت، وأن زناتة هو جانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت، وجالوت هذا يمتُّ بنسبه إلى قيس غيلان، أَوَليس جالوت من نسب غلياط الفلسطيني، وزناتة من الفلسطينيين أعداء يهوذا؟

ولكن ابن خلدون يحلِّل جانا تحليلًا دقيقًا لطيفًا، خلاصته أن جانا جُمِعت على جانات، وعُمِّمت بإضافة النون إليها، فصارت جاناتن، والجيم تُنطَق عندهم بين الجيم والسين، وأميَل إلى السين، فيقال سانات أو جانات، فأبدلوا الجيم زايًا لاتصال مخرج الزاي بالسين، فصارت زانات، وحذفوا الألف التي بعد الزاي في اشتقاقاتها الأخرى تخفيفًا؛ لكثرة دورانه على الألسنة. أي: جانات = زانات = زنات = زناتة.

والظاهر أن ابن خلدون كان ضائعًا بين حبه للبربر وغيرته على العرب، فيغالب هواه في الأمرين، فيغلب حينًا وحينًا يُغلَب، ولا ينجو في الحالين من الاضطراب. فهو في زناتة مثلًا يقبل بعروبتها، ويفنِّد مزاعم النسَّابة فيها، فيقول إن الذي حمل نسَّابة زناتة على الانتساب إلى حمير هو الترفُّع عن النسب البربري؛ لزعمهم أن البربر كانوا خولًا وعبيدًا للجباية.

ثم يقول: «وهذا وهم؛ فقد كان في شعوب البربر مَن هم مكافئون لزناتة في العصبية أو أشد منهم، مثل هوَّارة ومكناسة، ومن غلب العرب على ملكهم مثل كتامة وصنهاجة، ومَن تلقَّفَ الملك من يد صنهاجة مثل المصامدة. كل هؤلاء كانوا أشد قوةً وأكبر جميعًا من زناتة.»

ولا تفاضل اليوم ولا تفاخر، فأبناء البلاد من سلالة الشعبين، وقد تكون السلالة اختلطت بالتزاوج حتى في أيام الزناتية الشهيرة، رهبة الكاهنة، التي ادعت «المعرفة بغيب الأحوال وعواقب الأمور»، فحكمت في قبائل زناتة خمسًا وثلاثين سنة، وعاشت مائة وسبعًا وعشرين، وقد استبدت الكاهنة حتى على أبنائها الثلاثة، الذين كانوا سائدين في قومهم، فانتهت إليها الرياسة الكاملة الشاملة، هذا في أيام الفتح الأول، فحارَبَتْ تلك الزناتية الوثنية المسلمين، واعتصمت بجبل أوراس، فكانت الغالبة في بداية أمرها، والمغلوبة في نهايته، وبعد أن قُتِلت في إحدي المعارك، لحق أبناؤها بقائد المسلمين، «وحَسُنَ إسلامهم، واستقامت طاعتهم، وعُقِد لهم على قومهم، ومَنْ هم في سواحل مليلية.»

ومن سلالتهم في الريف اليوم قبيلة بني بويحيى المتحدرون من الجد الأول جانا بن يحيى.

نقف عند هذا الحد والعلَّامة ابن خلدون، فنشكر له ما صفا من علمه، ونعيد ما قلناه في كفاءة الشعبين، وهما سواء في نظرنا، يوم كانوا وثنيين يحاربون الإسلام، ويوم صاروا مسلمين يحارب بعضهم بعضًا؛ فالذي يهمنا من أمرهم اليوم، ويهمنا أن يهتموا هم له، هو أن أبناء البلد الواحد أعزاء إذا تضامنوا وتعاونوا، أذلاء إذا كانوا متنابذين متخاذلين.

بقي أن نقول ما معنى كلمة البربر وما أصلها. لقد كانت هذه اللفظة شائعة في العهد القديم، يُطلِقها كل شعب فاتح ذي حضارة راقية على مَن يخالفه في الجنسية أو اللغة أو الدين، ويراد منها تحقير الشعوب الصغيرة والتنفير منها والحطُّ من قدرها.١
أما أصل الكلمة فهو على ما يظهر أفريقي، فأُخِذت من لفظة برباري المعرَّبة عن فرفاروس Vervaros، ومعناها: «اللفظ المشترك بين اللغط وبين نطق الألثع.» ثم صار اليونان يطلقونها على كل مَن تكلَّم بلغة غير لغتهم، وقد أطلقها الرومان على كل مَن لم يخضع لسلطانهم من الأمم.

والذي يبدو لنا أن الإغريق، وقد وصلوا إلى هذه السواحل قبل تأسيس قرطجنة، أطلقوها على أهل البلاد؛ لأنهم كانوا «يفرفرون» أي «يبربرون»، أو كما نقول نحن اليوم: يتراطنون بالأعجمية. وأطلقها عليهم الرومان لأنهم حاربوهم، وتمرَّدوا على سلطتهم، وحاولوا غير مرة التخلص منها، فقالوا: إنهم برابرة — من البربر!

فما عذر العرب بالأمس في التمسُّك باسمٍ أُطلِق على إخوانهم أبناء البلاد تحقيرًا وامتهانًا؟ وما عذرنا نحن اليوم؟ ليس ما يسوغ الاستمرار في هذا الخطأ، بل هذه الإهانة.

إن في المغرب اليوم شعبًا واحدًا وإن تعدَّدت عناصره. أَوَليس في شبه الجزيرةِ اليمنيُّ والحجازي والنجدي؟ أَوَليس في القحطاني — لدى التحليل لعوامل الوراثة والجنس — ما يختلف عن العدناني؟ وأين في مضر وربيعة اليوم ما كان من عداء وضغينة في قديم الزمان؟ إنهم جميعًا اليوم عرب، تجمعهم اللغة العربية، وشعر امرئ القيس، كما يجمعهم القرآن والإيمان.

أما العناصر المختلفة في الشعب المغربي، فهي لا تتجاوز الثلاثة، ومنها العنصر الأوروبي الضئيل، ويجوز أن نقول إن في البلاد فرعين لشعب واحد: المغاربة العرب، والعرب المغاربة. فهؤلاء منحدرون من الفاتحين وأبناء الفاتحين بالأندلس، وأولئك منحدرون من القبائل الأولى — الزناتية وغير الزناتية — زمن سلالة العرب الفاتحين.

figure
مبنى المعهد الخليفي.

أولئك الأولون من المغاربة، وفيهم النصارى واليهود والوثنيون، قاتَلوا القرطجنيين والرومان، وقاتلوا كذلك العرب الفاتحين فانهزموا، ودخلوا في الإسلام فوحَّدَهم، والأصح أن نقول عمل في توحيدهم والعمل مستمر، فلا يزال في المغرب بعض القبائل من أولئك المغاربة الأولين الذين كانوا يتقلبون بين المسيحية واليهودية، ويحتفظون بأشياء من الدين الوثني.

هؤلاء القبائل يتكلمون اليوم الشلحَت، وهي لغة قديمة ولكنها لا تزال في بداءتها، وقد لا تخرج منها لجفاوةٍ وعقمٍ في أصولها، وهي تختلف طبعًا عن العربية، كما ظهر من بعض الأسماء والأعلام التي مَرَّ ذكرها، لا ماضي لها من الأدب، غير بعض القصص وجلها منتحل، عربي الأصل أو مغربي عربي. وفي الشلحة ألفاظ وأوضاع معرَّبَة وألفاظ عربية «مبربرة»، واشتقاقات تدل على قواعد أولية.٢
أما أدبها فجله قصصي منقول غير مدوَّن، وقد جمع طائفة من قصص البربر أو أخبارهم كاتبان فرنسيان رنه باسه Bassét ومرسيه  G. Merciea، فترجماها إلى الفرنسية، ثم إلى الإنكليزية بمساعدة تشانسي ستاركويزر Chauncy Starkweather، ومزية هذه القصص: الإيجاز، والسذاجة، وقساوة الأحكام، وخلط الواقع بالخيال. منها ما هو على ألسنة الحيوانات، ومنها أخبار القبائل، وبعضها تقليد لقصص ألف ليلة وليلة، كالقصة التالية مثلًا:

البستان المسكون

كان لرجل غني بنتان، طلب ابن الخليفة إحداهما، وطلب ابن القاضي الأخرى، فرفض والدهما الطلبين؛ فجاء الشابان في الليل إلى البستان الذي كان له، واجتمعا ببنتيه هناك، وكانا يجتمعان بهما كل ليلة ويتحدثون، فرآهم الوالد ذات ليلة، وفي اليوم التالي ذبح ابنتيه وسافَرَ للحج.

بعد ذلك اجتمع ابن الخليفة وابن القاضي بشاب يُحسِن العزف على الرباب والناي، فقالا له: نريد أن تعزف لنا على الناي في بستان ذلك الغني الذي رفض أن يزوِّجنا من ابنتيه. ليلة الغد نوافيك هناك.

ذهب صاحب الناي إلى البستان، فما وجد الشابين، فبقي وحده يعزف على الناي، وظل يعزف حتى منتصف الليل، فاشتعل إذ ذاك مصباحان، وظهرت البنتان من الأرض تحت المصباحين، فقالت إحداهما للشاب: نحن شقيقتان، نحن بنتا صاحب هذا البستان، قتَلَنا والدنا، ودفننا هنا، وأنت في هذه الليلة أخونا، سنعطيك المال الذي خبَّأه والدنا في ثلاثة مواعين. احفر ها هنا تجد المال.

فحفر صاحب الناي في ذلك المكان، فوجد الثلاثة المواعين وقد مُلِئت ذهبًا، فحملها إلى بيته، وعادت البنتان إلى قبرهما.

مثال من أخبار القبائل

في ديار إجْلُو ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، لهم ألفان ومئتا بيت، وعندهم تسعمائة وستون رأسًا من الخيل. بلادهم على البحر، لها ميناء برصيف، فيه قوارب للصيد.

خرج بعضهم ذات يوم يصطادون السمك، فإذا مركب قادم من البحر، فعادوا إلى البر خائفين، وأخبروا أهلهم.

رَسَا ذلك المركب عند شاطئ إجلو، وظلَّ هناك حتى منتصف الليل، فدخل الميناء ورفع علمًا أحمر.

أما الأهالي فقد اجتمعوا جميعًا، كبيرهم وصغيرهم، وأرسلوا كتابًا إلى سيدي هاشم يقولون فيه: احضر حالًا، دهمتنا النصارى ودخلوا الميناء.

فأرسل سيدي هاشم رسله إلى القادة يقول: يجب أن توافوني إلى ديار إجلو؛ لأن النصارى هناك في الميناء.

اجتمعت القبائل المجاورة، وزحفت على إجلو، فقال سيدي هاشم يخاطبهم: ارفعوا علمًا أحمر٣ مثل علمهم. ففعلوا، فلما رأى مَن في المركب العلم، أرسلوا رسولهم في قارب، فنزل إلى البر، وتقدَّمَ من المسلمين.

فقال سيدي هاشم يخاطب رجاله: لا تؤذوه، ولا تباشروا العداء، حتى نعرف السبب لنزوله في أرضنا.

فسألوه: ماذا تريد؟

فأجاب قائلًا: الأمان باسم الله.

فقال الجميع: أمان الله عليك وعلينا.

فقال المسيحي: نريد أن نتاجر معكم.

فقال سيدي هاشم: لا بأس، نحن نتاجر. فماذا تريدون أن تشتروا؟

فقال المسيحي: الزيت والسمن والحنطة والبقر والغنم والدجاج.

فجمع المسلمون الحنطة والغنم والدجاج وكل ما ذُكِر، فاشترى المسيحي، ودفع ثمن ما اشتراه، مسرورًا بما لقي من حسن المعاملة، ثم قال: تمت المتاجرة، فيجب أن نسافر إلى بلادنا، ولكننا سنعود إليكم.

فقال سيدي هاشم: يجب أن تعلم أننا عاملناك بالمعروف، وما كان أهل إجلو راضين بذلك، وقد ردعناهم فارتدعوا؛ لأنهم أعطوك عهد الأمان، وقد أعطيناك كذلك كل ما تبتغي، فعندما تعود إلينا اجلب لنا معك عشرة مدافع كبيرة وعشرين مدفعًا صغيرًا.

المسيحي: كما تريد، سنعود ومعنا المدافع بعد سنة في مثل هذه الأيام.

•••

وفي بلاد النصارى اليوم شركات مثل هذا النوتي تبيع الأسلحة، المدافع الكبيرة والصغيرة، والطيارات والدبابات، لمَن يريد من الشعوب، على قاعدة «ادفع واحمل»، ولو كانوا من أعداء بلادهم. هي التجارة، ولا بأس، نحن نتاجر، كما قال سيدي هاشم لذلك النوتي. نعطيك ما تريد إذا جلبت لنا معك المدافع الكبيرة والصغيرة.

ولا نظن أن سيدي هاشم في هذه القصة كان سيئ النية، يجلب المدافع من بلاد النصارى ليحاربهم بها، بل كان على الغالب يحتاج إليها ليوطد حكمه في القبائل، أو ليحارب أعداءه من أهل البلاد أو من أهله.

وهذا تاريخ المغرب، وفيه — مثل تاريخ الأندلس — صفحات وصفحات مكتوبة بدماء العرب والبربر الإخوان وأبناء العم. هي الحروب الأهلية، هي الحروب القبلية، هي الحروب المذهبية.

بنو مرين ملوك تلمسان، وآل زيري ملوك فاس، وبنو خزرون ملوك سجلماسة، وبنو وَمَاتو وَيَلومَي سادة المغرب الأوسط، يحتربون جميعًا بالسيوف والبنادق، وبمدافع النصارى.

البربر يقاتلون البربر، والعرب الرابحون.

دادا٤ يَغِمْراسِن يحمل على دادا عثمان، ودادا إسنكيان يغزو بلاد دادا سكيمان …

والعرب الفاتحون يدخلون البربر طوعًا أو قهرًا في الإسلام.

ثم تنقلب الآية، فيحارب الأمويون الشيعة من سلالة إدريس، ويخرج المرينيون على الموحدين، والمرابطين، ويستظهر بنو الأحمر بالأندلس إخوانهم في الدين سلاطين المغرب، على النصارى، ثم يظاهرون ملوك النصارى على سلاطين المغرب عندما تقوى شوكتهم في ثغور الأندلس.

دادا يغمراسن يحمل على دادا سكيمان! وانشقت صفوف زناتة، وتجدَّدت العداوات بين يغرن ومغراوة، فتمكَّنَ الأمويون من بسط سيادتهم على المغرب.

ثم عادت السيادة الكاملة الشاملة إلى البربر في عهد يوسف بن تاشفين، فانقلبت الآية، وصار العرب يحاربون العرب!

ودادا يوسف يأكل داداوات أمية!

«وسرح كتائبه في البسائط، وخلال المعاقل، تنسف الزرع، وتحطم الغروس، وتخرب العمران، وتنهب الأموال، ويكتسح السرح، وتقتل المقاتلة، وتسبي النساء والذرية …»

وغزا الدادا الأعظم غزوته الموفَّقة، وقفل وجنوده عن البلاد إلى أوطانهم، «وقد امتلأت أيديهم من الأموال، وحقائبهم من السبي، وركائبهم من الكراع والسلاح …»

وقد انتهينا من كل هذا، ومن غيره من إرث القبائل المشئوم، وإرث المذاهب الأشأم؛ فلا كان العرب، ولا كان البربر رابحين.

ونحن اليوم في عهد جديد، عهد العروبة، عهد القومية العربية الشاملة، والأعمال الوطنية المعززة لها.

فالمغاربة عرب في دينهم، عرب في ثقافتهم، عرب في قوميتهم، عرب في قصصهم، عرب في أخلاقهم وطبائعهم، وإننا لَنرى التطوُّر عاملًا حتى في أسماء أهل المغرب التي كانت «بربرية» خالصة، فأضحت «بربرية» عربية، وسيتم التطور فتغدو عربية صافية.

وفي الأسماء برهان على ما في القلوب وما في الأماني؛ فلو تغلَّبَ اسم هربرت على اسم غسطون في فرنسا مثلًا، لَكان في ذلك دليل على انقلاب اجتماعي، وتطور قومي.

وهذا ما حدث وما هو حادث في المغرب؛ فالأسماء العربية الإسلامية دخلت على الأسماء المغربية، فغيَّرَتْ أولها حينًا، وأحيانًا آخِرها أيضًا، أي اسم العائلة.٥ وهذا التطور — وقُلْ هذا الارتقاء — في الأسماء مستمر، وستزداد الأسماء العربية انتشارًا في المنطقة الشمالية؛ لتعميم اللغة العربية في مدارسها.

والجدير بالذكر كذلك أن قبائل الريف حتى في النواحي التي يتكلَّم أهلها لغة الشلحت، يكتبون صكوكهم وحججهم باللغة العربية.

أهداني المراقب العام لإيالة الريف، الضون إميليو بلانكو إيزاغا  Don Emilio Blanco Izaga كتبًا له في قوانين الجماعات، أي قضاة القبائل، ضمنه كل ما يتعلق باصطلاحاتهم وتقاليدهم وأوضاعهم في البيع والكراء والتملك، وفيه رسوم فوتوغرافية للصكوك والوثائق التي تتعلق ببيع المحصولات وحقوق المياه والري، وكلها مكتوبة باللغة العربية.٦

عليَّ أن أقول كذلك إن هذا الشعب المغربي، وفي ماضيه قبل الإسلام وبعده، ما له وما عليه، هو مثل عرب البادية في أمور كثيرة؛ فهو قلَّمَا يرى غير ما تراه العين، وغير ما يُلمَس من أسباب القوة، لا خيال له ولا نزعات روحية عالية، انغمس في الكهانة وخرافاتها في الماضي، ولا يزال بروحه وبزواياه أشياء منها.

وهو مع ذلك شعب باسل، صادق الكلمة صريحها، عزيز الجانب في خشونته وبداوته، وفي نزوعه إلى الاستقلال.

اعتنق الإسلام وقبله بحذافيره أو على قدر ما فهم منه، وما اقتبس من الثقافة العربية في الماضي شيئًا يُذكَر، وقد قدَّمْتُ مثالًا من قصصهم التي يقصها الرواة القصاصون.

أما اليوم فهم يتعلَّمون باللسان العربي في مدارس وطنية، وبدءوا يفهمون معنى العروبة، وأبناء الريف منهم خصوصًا متصفون بتوقُّد الذهن والنجابة. قرأت على لوحة في مدرسة سان خرخو الكلمة التالية للخليفة الحسن:

إني آمل بل إني أتيقَّن أن النهضة العلمية الحقة التي ستكون أساسًا متينًا للنهضة المغربية العامة، سينبعث نورها من أبناء الريف السامية أفكارهم، المتوقدة بالنجابة عقولهم.

١  في مجلة السلام التي كانت تصدر بتطوان، في الأعداد الثامن والتاسع والعاشر منها، مقال ممتع للأستاذ الحاج محمد بنونة: «صور من تاريخنا الوطني».
٢  كالثاء مثلًا للتأنيث؛ «حنجير»: صبي، «ثحنجير»: بنت. والياء والنون للجمع؛ «ثمغر»: امرأة، «ثمغرين»: نساء. «إربز»: رجل، «إربزين»: رجال. ومن الألفاظ العربية «المبربرة»؛ «تاحدادت»: حداد، «تاخرازت»: خراز. «تابقالت»: بقال. التاء تاء النسبة، والتقاء الساكنين في لغة الشلحت أكثر شيوعًا منها في لغة الإنكليز.
٣  يظهر أن العلم الأحمر في تلك الأيام كان كالعلم الأبيض في أيامنا؛ رمزًا للسلم.
٤  دادا: السيد الأعظم.
٥  وهاك مثالًا من الاثنين:
أسماء مغربية «بربرية» أسماء مغربية عربية
ماكس بن زيري حميد بن يصل
يطوفة بن بلكين باديس بن المنصور
حاموش بن بندوكسن حماد بن بلكين
نكاس بن مكسوسن زيري بن عطية
بلكين بن دوناس المعز بن زيري
بلكين بن محمد بن حماد
مسعود بن عثمان
عثمان بن شعيب
٦  مثال من توزيع المياه للري: مياه نهر النكور تُستعمَل للري بين بوعياش، وموسى وعمر وأمزورن كما يلي:
  • أول يوم: بوعياش.
  • ثاني يوم: بوموسى.
  • ثالث يوم: بوعياش.
  • رابع يوم: بوموسى وعمر.
  • خامس يوم: آيت بوعياش.
  • سادس يوم: أمزورن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤