الفصل الثاني

أحاديث وأخبار وزيرية

رُوِي أن الفقيه أبا العباس المكناسي الملقَّب بالحبَّاك كان خطيبًا بجامع القروين فعُزِل، ثم طُلِب لخطبة جامع بالأندلس، فأبى وقال: إن كان عزلي بجرحة فلا يحل لكم تقديمي، وإن كان بغير جرحة فقبولي من قلة الهمة!

أرويها لا لأنفي وجود مثل الحبَّاك في حكومة المغرب المخزنية، ولا لأثبته، فليس أسهل من الشك أو القول الملتبس غير النفي المطلق. والسهل محبوب، إلا أنه في مثل هذه المواقف مشجوب، أما الإثبات فإنه ليعسر على مَن قضى شهرًا أو شهرين في البلاد، وقد يستحيل إن طالت الإقامة؛ لما في السياسة الحزبية والأغراض الشخصية في كل مكان من المنافسات والسعايات التي تفسد الحقائق أو تخفيها.

إنما الأمم الأخلاق … صحيح، ومن الأخلاق ما هو متين وما هو جميل، وقد تقرن المتين بالجميل وقلَّمَا تعكس؛ فالأخلاق المتينة في المتوظفين، كالاستقامة والإباء والعزيمة والصراحة والثبات والجرأة الأدبية، هي كلها من المُثُل العليا التي تقل بمجموعها، ولا تندر بمفردها، في كل حكومة من حكومات العالم.

وأما الأخلاق الجميلة، أي اللطف والوداعة والكرم والأريحية، وما إليها من الرأفة والورع والتقوى، فهي في هذا المغرب، كما هي في الشرق العربي موفورة مشهورة. وقد يصح التعميم إن قلت إن الفرق الصارخ الأظهر بين الأوروبي والعربي — المغربي أو الشرقي — هو في هذه الأخلاق الروحية، أي الكرم واللطف والوداعة والأريحية.

لا أقول إنها تقل في الأوروبيين، ولا أقول إنها موفورة، إنما يظهر لي أن في البلاد العربية على الإجمال قاعدتها، وفي البلدان الأوروبية شواذ القاعدة. فكيفما ولَّيْتَ وجهك في الشرق العربي — والمغرب الأفريقي منه — تجد في أبنائه أمثالًا مشرقة من اللطف والكرم والوداعة والأريحية، وكيفما ولَّيْتَ وجهك في بلد أوروبي يتمثَّل لك في أهله الجد والنشاط، والعزيمة والثبات، والكبرياء والأنانية. أما الصدق والاستقامة فلا تفاضُلَ فيهما — الصدق والاستقامة من المزايا الشخصية لا الشعبية أو الوطنية. وهذا تعميم آخَر، أتركه على وجهه ليرى غيري رأيه فيه.

أعود إلى الحبَّاك لأسترعي، لما روي عنه، أنظارَ الموظفين في الحكومة المغربية وغيرها من حكومات شرقنا العربي، وأقتصر في هذا الصدد الآن على صور وأحاديث لكبار رجال المخزن الشريف بتطوان. فالحديث حقيقة، والتصوير فن وحقيقة، على أن ظاهر الحقائق يختلف أحيانًا وباطنها، بَيْدَ أن ظاهر الفن ينبئ إجمالًا بباطنه، ولا يضيق فيه مع ذلك مجال الجدال.

•••

ختمت الفصل السابق بتهكُّم الخليفة الحسن على وزيره ذي اللحية الطويلة، فأعود إليك لأعطيك المثل لما قدَّمت. سأعرِّفك بعد ملاحظة صغيرة، وأنت الكريم العاذر، أن الخليفة ليس وحده المنفرد بذلك التهكُّم، فإن له زميلًا هو المقيم العام نفسه. لقد سمعته — والأصح أن أقول: رأيته — غير مرة يسخر من ذوي اللحى الطويلة بمسحة يد من ذقنه إلى صدره، ثم يقول: لا بد للوزير منها. أي إن الوزارات لا تليق بغير أصحاب اللحى الطويلة البيضاء. والحقيقة المطوية، التي يكشفها التهكُّم، هي أن العقل في أصحاب تلك اللحى لا يقدِّم ولا يؤخِّر كثيرًا، إنما الجلال هو المنشود — الجلال هو زينة السدة الوزيرية.

وهناك الحقيقة الأخرى المزعومة، وفيها المثل الذي وعدتك به، فما هي الصلة يا تُرَى بينها وبين صورة الجلال؟ بين عقل يقصر ولحية تطول؟ وهل هناك من صلة؟ هل هناك سر لا يُكشَف بكلمة سحر أو سيادة؟ لا أظن أن الخليفة أو المقيم العام يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، ولا أظنهما يدعيان الاكتشاف للصورة أو لسرها المكنون، إن كان هنالك من سر.

إن التهكُّم على اللحى الطويلة والسخرية منها، لَمِن الآثار القديمة في الفكر والمجون، حُفِظتْ في بعض كتب الأدب ودواوين الشعر. اللحية الطويلة هدف كل ذي نكتة عريضة، أو مرارة مريضة. وهل من مبرِّر لهذا النوع من الأدب أو قلة الأدب؟ هل يصح ما يقوله أولئك الأذكياء والمجَّان من أن العقل يقلُّ كلما كبرت لحية صاحبه، فينقلها عنهم صائغو الأمثال، فيقولون: «مَن طالت لحيته قصرت فطنته»؟

إنها لفرية منكرة، وإنها في ظني قديمة العهد، افتراها وزير من وزراء فرعون المُرْد، أو حلَّاق مصري كان يكره الآشوريين كُرْهَيْن؛ لأنهم المبرزون في زمانهم باللحى الطويلة، ولأنهم آشوريون. ثم شرع الأدباء وأصحاب النكتة، من عرب وعجم، يردِّدونها كما تردِّد الببغاء السلام عليكم.

لستُ من الذين يؤثرون الالتحاء على المرودة، وليس لأحد أقاربي أو أصدقائي أو معارفي على ما أذكر لحية طويلة أو قصيرة. أما أولئك اللحيانيون اللبنانيون، المقيمون في الأديرة أو الفارون منها، خلاصًا لأنفسهم في الحالين، فالقارئ يعلم — وقد يجهل فيقرأ ويصبح من العالمين — بما هو قائم بيني وبينهم. هدانا الله جميعًا، وجعل دفاعي عن ذوي اللحى الطويلة، المتقدمين والمتأخرين، هذا الدفاع المجرد من الغرض؛ جعله الله مقبولًا لديهم، فيدافعون عني يوم القيامة — كما قال ابن خلدون متمنِّيًا في دفاعه عن حسب الأدارسة ونسبهم!

أنكرت صحة المثل السائر القائل: مَن طالت لحيته قصرت فطنته. وقلت: إن مصدره فرية افتراها الأقدمون، والأرجح أنهم المصريون، على أعدائهم الآشوريين اللحيانيين، وأزيد على ذلك أن لا أثر ولا دخل للعقل في الشَّعْر النابت على وجه الإنسان، أو الشَّعْر الواثب أو المتدلي منه، أو الشَّعْر المتكتل والمتشعب فيه، أو الشَّعْر المرسل الفائض كفضة الفجر على صدر صاحبه، وبكلمة أخرى أوضح أقول إنه لا صلة البتة بين الآلة المفكِّرة في المخ والآلة الغازلة والناسجة وراء العثنون، وحسبي في إثبات ذلك أن أذكر من مشاهير العلم والفن والأدب والسياسة والشعر مَن طالت لحاهم وهم كثيرون؛ فأعدِّد منهم: طولستوي وتانيسون ورودن وطاغور في زماننا، وإمام الطبيعيين دروين، وذلك العبقري ليوناردو ده فنسي، وذلك رائد التعليم في بلادنا العلَّامة الحكيم المحبوب كرنيليوس فانديك، والشهابي الكبير الأمير بشير، وشاعر أميركا الأكبر والتوتمان، والموسيقي المشهور غونو، والبطل غاريبلدى، والقائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، وهذا فضلًا عن أنبياء من موسى — عليه السلام — إلى وكليف الممهد للبدع الإصلاحية في الدين، إلى بريغام يونغ المؤسِّس للكنيسة المرمونية؛ كل هؤلاء العباقرة، جبابرة العقل والروح، طالت لحاهم — كما طالت أيامهم — وابيضَّتْ، وكانت رمز العظمة والجلال في زمانهم.

وهي كذلك في زماننا، فإن شذت القاعدة، فسخف عقل ذي اللحية الجليلة، أو قصرت فطنة مَن طالت لحيته، فلا أظن أن أحدًا من علماء الفيزويولوجية يعزو ذلك إلى عملية خفية، شبيهة بالعمليات الاقتصادية المألوفة، التي تفقر الواحد لتغني الآخَر. لا أظن أن أحدًا يقول قولًا علميًّا: إن لشَّعْر اللحى من الطفيليات ما يعيش على حساب الغير؛ يمتص غذاءه من المادة السنجابية في الدماغ. إذن إلى أن تثبت هذه الصلة الطفيلية وتتحقق علميًّا، أثبت أنا في الدفاع عن اللحى الطويلة الجليلة الجميلة، وأبرئها من التعدِّي على العقل والفطنة.

واذكر — رعاك الله وأطالَ أيامَك ولحيتَكَ إن كنتَ من الملتحين — أني عطفت على اللحى الطويلة بنعتين آخَرين هما: الجمال والجلال، الجمال القائم بالاعتناء الفني، والجلال الملازم للنعمة، الجمال والجلال بالنمو الوارف والمقص المشارف، والمشط واﻟ … — عفوًا مولاي — إن من زملائك الأنبياءَ، فلا بأس كذلك بشيء من الطيب.

أما اللحى المزاحمة في الروائع للمعامل الكيماوية، اللحى العامرة بالأشياء السارحة، اللحى الناشرة أنانيتها الدينية أو السياسية أفقيًّا وعموديًّا من تحت العنانين ومن فوق الخدود، تلك اللحى الرهبانية والبلشيفية، مهزلات التقوى والتقشُّف، أو المساواة والتعسُّف، تلك اللحى المخيفة، مفزعات الأطفال ومجفلات النساء والرجال، تلك اللحى الشبيهة بالمكانس، أو بعقلية العوانس، تلك اللحى المذكرة بريش قنفذة تهاج — فإن في المغرب ولا شك، كما في أديرة الشرق وبلاد البلاشفة، كثيرًا منها، عفا الله عنها.

وأما في الحكومة المغربية، فهي على أنواعها غانمة، غانمة في الأقل بالوظيفة، وما رأيت منها في دوائر المخزن العالية غير تلك التي تستحق الثناء والاحترام، وفي مقدمتها لحية صاحب الفخامة السي أحمد غنيمة رئيس الوزراء ووزير الداخلية.

لهذا الشيخ الوزير طلعة بهية زكية، لا شرقية ولا غربية، طلعة حقًّا بهية، كأن الشمس الشارقة بجوار القطب الشمالي نفحتها بتذكار الحب، فاحمرَّتِ الوجنتان، وازرَقَّ الناظران، وابيضَّتِ البشرة، ورقَّ الأديم، فتقول لولا القيافة إن هذا الشيخ الجليل اسكتلندي أو صقلي، وهو مغربي عربي من أقحاح المغاربة العرب، ذو لحية متواضعة، لا طويلة ولا قصيرة، بياضها شامل كبياض جبل صنين في فصل الشتاء.

ولكن في قلبه تشرق على الدوام الشمس المغربية، وفي طلعته يتجلَّى من الأخلاق الجميلة أجملها، أي الوداعة والبشر، وهو إلى ذلك مثقَّف بالثقافة الإسلامية الغربية، فصيح اللسان، سليم البيان، يرصع حديثه بالأشعار، ولا يُكثِر فيعثر.

رأيته لأول مرة في مجلس الخليفة الحسن، فكانت كلماته القليلة زهرات من الحكمة المألوفة، منشورة على طبق الترحيب، فتشم في موضعها ولا تمس. تنعش الفؤاد، ولا تطمع بمكان من الذاكرة.

ورأيته للمرة الثانية في مكتب الصدارة متربعًا على ديوان منخفض متكئًا على وسادة فوق وسادة، وراء منضدة متجانسة والديوان، فذكَّرَني لأول وهلة بصورة من الصور الصينية المرسومة على الديباج، تمثِّل الحكمة والوداعة والحنان. هي الأخلاق الجميلة التي ذكرت، وها هو ذا مثلها المشرق القائل: إن المنطقة الخليفية تنعم اليوم بما لا تنعم به إسبانيا نفسها.

والفضل في ذلك، يا أستاذ، لهم ولنا، الفضل فيه للحكومة الإسبانية الوطنية، ولجنوده الذين حارَبوا مع الجنرال فرنكو، واستبسلوا في سبيل دعوته. هو التعاون، هو الإخاء العامل. إننا والإسبان اليوم إخوان:

أخاك أخاك إن من لا أخًا له
كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح

ولقد برهن رجال هذه الحكومة، حكومة فرنكو، على صدق إخائهم بما فعلوا ويفعلون، وبذلنا نحن في سبيله دماء أبنائنا؛ فكانت النتيجة ما قلت من أننا ننعم اليوم بما لا تنعم به إسبانيا نفسها. فكل حاجاتنا الأولية — الدقيق والسكر والأرز والبن — هي أوفر عندنا وأبخس مما هي في إسبانيا. أتعجب لذلك؟ إذا بان السبب زال العجب. كانت الحكومة الإسبانية الوطنية تستورد المواد الأولية غالبًا عن طريق إيطاليا، فتدفع عليها رسمًا جمركيًّا يتراوح بين اﻟ ٢٠ واﻟ ٢٥٪، وكان الجنرال يعطينا هذه الأرزاق بأسعارها الأصلية، دون أن يضيف إليها شيئًا من نفقات الشحن والنقل أو من الرسوم الجمركية.

ولقد حقق خُبري ما قاله فخامة الرئيس عن وفر الأرزاق وجودتها؛ فالخبز في نزل الجزيرة الكبير أسمر خشن، وفي نزل تطوان الصغير أبيض نقي، والسكر في المنطقة الخليفية أجود وأوفر منه في إسبانيا. هذا في أثناء الحرب الأهلية، وقد استمر بعدها.

كل دواوين الوزراء مثل ديوان رئيسهم شرقية منخفضة، وكذلك هي دواوين الكتاب الشبيهة بالديوان الإمامي بصنعاء اليمن، سبعة أو عشرة منهم يجلسون على وسائد مفروشة فوق الزرابي، وراء منضدات صغيرة متضعة، تقوم مقامها أحيانًا الراحات، وبها الطروس يكتبونها.

قال وزير العدلية السي محمد أفيلال، دفاعًا عن القديم الصالح من العادات والتقاليد: ينتقد الشباب هذه الدواوين، ويقولون إن الكراسي والمنضدات العالية خير منها، كأن مقامنا ومقام الحكومة لا يعززان بغير الكرسي العالي والمنضدة المصنوعة بأوروبا. الشباب يا أستاذ متطرفون في تحبيذهم كل شيء أوروبي، كل شيء جديد، صالحًا كان أم غير صالح، وفينا نحن الشيوخ مَن هم متطرفون في جحودهم ومَن هم رجعيون، لا يرون غير الخير في بقاء القديم على قِدَمه. إن في القديم أشياء صالحة ينبغي أن يحافظ عليها، وأشياء كانت صالحة في زمنها فأمست في زماننا غير صالحة، فيجب أن ننبذها.

قلت: وأنتم الصلة الطيبة بين المصالح من القديم والجديد.

فقال: الصلة مستمرة إن شاء الله، خذ المثال من القديم الصالح.

قالها وهو يشير إلى ديوانه المفروشة أرضه بالبُسُط، المزيَّنَة بالتعاليق والآيات، المنضَّدَة دواوينه بالوسائد:

ماذا يضر أن يكون مفروشًا بالفرش المغربي؟ يقول عبد الخالق طريس: يجب أن تغيِّر ديوانك، يجب أن نكون عصريين في مكاتبنا ومساكننا كما نحن في أعمالنا الإصلاحية. فأقول له: وهل جلوسي متربِّعًا أمام هذه المائدة الوضيعة يضر بأعمالي الإدارية؟ فإذا كان الخلل في الإدارة ناشئًا من شكل الديوان لا من صاحبه، فعبد الخالق هو على حق. ما قولك يا أستاذ؟

أذكر أني أجبت بكلمة في الرموز، وأن الأشكال الظاهرة في حياتنا الاجتماعية أو السياسية أو الشخصية ترمز إلى ما بأنفسنا؛ «وليس أجمل من هذا الديوان الرامز إلى ما بنفس معاليكم، فأنتم فيه قطبه الناطق العامل. أما لو كان الوزير من الشباب، بقيافة إفرنجية، فإن التناسب بين الرامز والمرموز إليه يضيع. هذا من الوجهتين النظرية والذوقية، أما من الوجهة العملية فالكرسي الصلب أصلح للشباب من الديوان الوثير … عوَّدوهم الأخشيشان.»

هزّ الوزير رأسه ضاحكًا، ثم قال: «الدهر معلمنا جميعًا، فهو الذي يعقد العرى في العادات والتقاليد، وهو الذي يحلها، ولله — سبحانه وتعالى — البداية والنهاية.»

لمعالي الوزير السي محمد أفيلال وجه سامي الشكل والسمات، بسمرته وانخراطه، وبالعظم الفارغ فوق الوجنتين، أما اسمه أفيلال فما هو بعربي ولا سامي؛ هو اسم عائلة من العائلات التي خرجت من إسبانيا في آخِر القرن الخامس عشر أو بعده، والأرجح أنه إسباني Avilal كأسماء العائلات الأخرى المقيمة اليوم بتطوان، ومنها: طريس Torres، ومدينا  Medina، ومالينا Malina، وصالص  Salas، وقسطيلو  Castillo، وأراغون Aragon.
كما أن كثيرًا من الإسبان أسماؤهم عربية، كرامازان (رمضان)، والفارز (الفارس)، وأباد — من بني عباد — وفي الأندلس بين قرطبة وأشبيلية قرية اسمها بدرو أباد  Pedro Abad، وزامورا (زمور)، وقديرة، ومنها المستشرق كوديرا Codera.
ومن غريب ما في هذه الأسماء أن الاسم الأول لا يتناسب والاسم الثاني، أي اسم العائلة. مثال ذلك: بدرو أباد، وميشال رمضان، وعبد المحسن قسطيلوس، ومحمد راغون … وغيرهم كثيرون.١
سألت العلَّامة الوزير رأيه في هذه الأسماء النصرانية الإسلامية، والإسلامية النصرانية، فقال: إن كثيرًا من الإسبان أسلموا يوم كان العرب سائدين في الأندلس، وكثيرًا من المسلمين تنصَّروا بعد خروج العرب من البلاد، ثم حدثت تردُّدات في الشعبين، فعاد أبناء المسلمين المتنصرين إلى دينهم،٢ واحتفظوا بأسمائهم الإسبانية العائلية كطرس وموليتا وراغون، وعاد أبناء المسيحيين إلى دين آبائهم، وظلَّتْ أسماؤهم إسلامية عربية.

قلت: وهذا قديم استُحدِثَ، ثم عاد إلى قِدَمه.

فقال: ولا بأس. قد يكون في التذكارات أحيانًا ريحانة للقلوب، ولكن المحافظة على الأصل هي في كل حين عين الخير والكرامة — أعيد قولي! القديم على قِدَمه اعتباطًا لا يجوز، والجديد على الإطلاق لا يجوز. إنما الحق والصواب في التمحيص والاختيار. هذه العدلية مثلًا نعود بها إلى الأصل، وفي استقلالها خيرنا وكرامتنا، أما أن تظل العدلية مقيَّدة بالقديم البالي، فليس فيه خير ولا كرامة. وإننا ساعون للإصلاح، ورافعون — إن شاء الله — المحاكم إلى المستوى العصري العالي، حسبنا اليوم أن العدلية قد استقلت كل الاستقلال، فلا تمييز ولا استئناف إلى محكمة إسبانية عدلية.

ووزير الأحباس السي محمد بن موسى يشارك زميله وزير العدلية في هذا الاغتباط، ولكنه غير مدهوش.

«لا إشراف أجنبي اليوم ولا تفتيش؛ كله بيدنا، ولكن هل يستعظم هذا العدل من الدولة الحامية؟ يوم كان أجدادنا مسيطرين في الأندلس تقاضوا النصارى الجزية، وما تعرَّضوا لشعائر دينهم ولا لكنائسهم وأحباسهم. فالمعاملة بالمثل أقل ما يكون.»

سألت معالي الوزير عمَّا إذا كان للحرمين أحباس في المغرب، فقال: «قد تكثر في المنطقة الجنوبية، أما في منطقتنا فليس في غير مدينة العرائس، وذلك يسير.»

ثم قدم لي أعداد «الجريدة الرسمية لوزارة الأحباس» التي تصدرها الوزارة كل ثلاثة أشهر، وهي تبحث في شئون الأحباس على أنواعها، وفي إدارتها وكل ما يتعلق بها، وفيها للدرس والاعتبار أشياء طريفة، منها أن كل شيء فيها يجري بموجب ظهير يصدره الخليفة، أو كتاب من رئيس الوزارة مصدَّرًا بالحمد لله وحده ولا يدوم إلا ملكه. وإليك نموذج هذه الكتب:

يُعلَم من هذا الكتاب الشريف، والأمر المنيف، أنه وفقًا لما اقترحه وزير الأحباس من تعيين القدر من المال الذي يُخصَّص للتعليم الإسلامي سنويًّا من وفر الأحباس … وبعد اطلاع صاحب السمو — الخليفة — وموافقته أذن بتخصيص مبلغ ١٩٠٠٠٠ ألف بسيطة … إلخ.

يُعلَم من هذا الكتاب الممضي باسمنا بصفة رياسة الوزارة، واعتماد رتبة الصدارة أنه بعد اقتراح وزير الأحباس قد أمرنا بإعفاء فلان من وظيفة ناظر أحباس قبيلة كذا، ولينصرف لحال سبيله، والسلام.

أحمد الغنمية، لطف الله به

من هذه الكتب يستدل على أن وزير الأحباس يقترح الأمور، والصدر الأعظم يستشير الخليفة في المهم منها، ثم يصدر الكتاب الآمِر بالتنفيذ.

ومما يظهر من الميزانية العامة أن الأحباس غنية في هذه المنطقة، وهي منتشرة في حواضرها وبواديها؛ فقد بلغت مداخيلها في سنة ١٩٣٨ في المدن: تطوان وأصيلة والعرائش والقصر الكبير وشفشاون، وفي بوادي الإيالات الخمس: الجبلية والغمارية والغربية والريفية والشرقية؛ ١٢٨٢٢١٥ بسيطة، أي نحو مائتي ألف ليرة سورية.٣
والأحباس اليوم نوعان: الكبرى التي يُصرَف منها على التعليم الديني والمدني وعلى المساجد، وأحباس المنقطعين التي تُصرَف على الفقراء والمحتاجين والمرضى وبعض الحيوانات، منها طير اللقلاق،٤ فقد كان لها مستشفى بتطوان في أيام الدولة المغربية السابقة للحماية، وكان للأبراج أيضًا أحباس في تلك الأيام يُصرَف ريعها في إصلاح الحصون وشراء الرايات التي تُرفَع فوقها أيام الجُمَع والأعياد، أما اليوم فقد أُضِيفت إلى أحباس المنقطعين.
رأيت في الميزانية أرقامًا بالبسيطة الإسبانية وأخرى بالبسيطة المخزنية، فسألت الوزير: ما الفرق بينهما؟ فقال: «إن النقد المخزني قبل الاحتلال كان مؤسَّسًا على الريال الفضة، وهو يُقسَّم إلى عشرين مليون «غرش»! والبليون يساوي ربع بسيطة، أي خمسة وعشرين سنتيمًا صك منه الريال ونصف الريال وربع الريال.٥ ونسبة هذا الريال المخزني إلى الريال الإسباني «دورو» كنسبة ١٣٠ إلى ١٠٠، أي إن البسيطة الإسبانية تساوي نحو بسيطة وربع بسيطة مخزنية.

هذا النقد المخزني منعت الحكومة الفرنسية التعامُل به بعد الحماية، وقد نُقِل إلى طنجة ما كان منه في هذه المنطقة، نُقِل في أيام الثورة بواسطة السماسرة أو بالتهريب للمتاجَرَة به؛ فالصيارفة هناك يبيعون المائة ريال المخزنية بمائتي ريال إسبانية.»

كانت البسيطة تباع في طنجة يوم كنت هناك بأقل من ربع قيمتها الأصلية،٦ وهي في إسبانيا وملحقاتها جامدة على النصف، بالرغم من تجارة السماسرة التي لا يظهر منها غير الخسارة، ولكن للنقد والقطع والفوارق الصاعدة والهابطة في أسواقها أسرارًا شبيهة عندي بالأسرار اللاهوتية، لا تُفهَم بغير الإيمان والنعمة؛ فَلْندعها لأصحابها وَلْنمضِ في طوافنا الشريف.
كان باشا تطوان غائبًا عن المدينة يوم زرناه في مركزه، ولكن حظنا بلقاء خليفته أنسانَا ما كان من خيبة الأمل. لا أظن أن كل خلفاء٧ الباشا مثل هذا الخليفة، فهو فقيه حقيقي كامل، لا خيالي ولا مزيَّف؛ علمنا ذلك بعد المصافحة والسلام، ونعمنا بما علمنا. قبيح بنا ذم الفقهاء وفيهم مثل ابن أحمد بوعيسى. قال — دام ظرفه، ودامت صراحته وابتسامته:

«أكُلُّ مَن تعلَّم حرفًا صار فقيهًا؟ ما أكثر الفقهاء في هذا البلد، يا أستاذ، وما أقلهم! خدمنا الحكومة والبلاد بصفة كاتب ومستشار في وزارات عديدة، خدمنا عشرين سنة، وهذي هي النتيجة؛ خليفة لباشا تطوان! أضاعوني، وأي فتى أضاعوا …

الشرع الشريف؟ قطع اليد، جَلْد الزاني، رَجْم الزانية؟ لا يا أستاذ. هذه الأحكام القديمة قد أُلغِيَتْ، ونحن اليوم نسير على هذا الدستور (قدَّمَ لي قانون العقوبات والغرامات) هل تقدَّمْنا؟ لست أدري. إن في الأحكام القديمة عدلًا ورحمة. خُذِ الزنى مثلًا؛ فمَن ذا الذي يستطيع أن يُثبِتَ الزنى على امرئٍ أو امرأة؟ أين الشهود الأربعة يشهدون أنهم رأَوا …

أين هؤلاء الشهود؟ فهل يدعوهم الزاني أو تدعوهم الزانية ليشهدوا الفعلة المنكرة؟ الله — سبحانه وتعالى — يلطف بنا فيعسر استكشاف ضعفنا. هي الشريعة السمحاء، والحمد لله.»

والسي محمد بن أحمد بوعيسى، الخليفة الأول لباشا تطوان، يشهد كذلك بالمحبة والحكمة والرحمة ليسوع بن مريم القائل: «مَن كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه المرأة بحجر.»

مشى معنا إلى حديقة المركز المزدانة بشجرة من الأريكاريا باسقة مجيدة، تفرش أغصانها أفقيًّا كالأرز، هي أكبر وأجمل ما شاهدت من نوعها. أما زهور الحديقة، فهي على أنواعها في وفر مضطرب التنظيم يتوسطها حوض من الماء تسبح فيه الأسماك الذهبية.

قال الفقيه الفيلسوف وهو يطوف بنا: «هذه الحديقة والأرض المجاورة لها كانت ملك يهودي من يهود المدينة، فاشتريناها بثمن غير بخس، وَلْينقلب الطمع نارًا في صدر صاحبه. هل في الدنيا أطمع من اليهود؟»

قلت: «وهل يكثرون عندكم؟»

فقال: «القليل منهم كثير.» ثم ذكر الآية: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ، واستطرد قائلًا: «اليهود والفأر!»

قلت: «ولكن الفأر عدوُّ الإنسان في كل مكان.»

فقال: «هو كذلك، الضعيف عدو الإنسان في كل مكان. اليهود والفأر، لسان حالهم يقول: خلقتنا اللهم للشر، فأَعِنَّا عليه.»

وفلسطين؟ وقف أمام غصن من الورد، وأشار إليه قائلًا: «هذه فلسطين، غصن من الورد وشوكة من عوده. يسَّرَ الله أمور المسلمين، وأنقذهم من أعدائهم.»

ثم مَدَّ يده إلى وردة سبقت عيني يده إليها — توارَدَ الفكران واتجه القلبان — فقطفها وقدَّمَها إليَّ قائلًا: «شرفتم، بارك الله فيكم، ووفق المسلمين.»

اجتمعت بعدئذٍ بسعادة الباشا في حفلة شاي أقامها المقيم العام، وهما — أي الباشا وخليفته — والأحرى أن يقال: إن الخليفة ورئيسه على غرار واحد في التساهل والحكمة.

كانت تلك الحفلة أوروبية مغربية معًا؛ فقُدِّم فيها «الشاي» والحلوى، على الطريقة الأهلية، للمغاربة ولمَن شاء من الأوروبيين، وقُدِّمَ لهؤلاء فوق ذلك ما طاب من الخمر والوسكي، ومعهما اﻟ «سندويتش» على أنواعه، ومنها لحم الخنزير.

وكان الشريف الوزاني محمد يشرب «الشاي» ويرمق اﻟ «بار» بنظرات آكلة شاربة! فقدَّمْتُ له كأسًا من الوسكي فرفضها، وأشار إلى الباشا: «ها هو ذا، يغرمني والله غدًا.»

قلت: «اشرب وأنا أدفع الغرامة.»

فقال: «لا والله، هو يغرمني.»

وكان صاحب اللطف والظرف يسمع الحديث، فدنا مِنَّا، والابتسامة تتقدمه. فقلت له: «هذا محمد الوزاني يريد أن يهلك معي في هذه الساعة ولا ينعم معكم في الآخرة، فما قول سعادتكم؟»

فأجاب قائلًا: «النعيم والجحيم بيد الله.»

فقال الوزاني الصغير: «وبيدكم قانون العقوبات والغرامات. لا والله لا أشرب.»

فضحك الباشا وقال: «خذها من يد الأستاذ، ولا حرج.» قالها وأشاح بوجهه عَنَّا.

وذكرت أنا القانون لمشاربي، وهو أن السكر في المحلات العمومية يُعاقَب عليه بغرامة من المائة بسيطة إلى الخمسمائة، أو بالسجن من العشرين يومًا إلى المائة. هوِّن على نفسك، فلستَ بسكران ولا دار المقيم بمحل عمومي.

وفي هذا القانون الموقت الصادر من الصدارة العظمى سنة ١٣٥٤ جدول العقوبات والغرامات، «على السرقات والاختلاسات، والحرية والأضرار والجراحات، والجرائم والزلات المرتكبة في أموال الغير والمخلة بالأمن العام»،٨ يقضي فيها باشاوات المدن وقواد القبائل بصفة قضاة صلح، كما ذكرت في فصل سابق.

والباشا يرأس المجلس البلدي المؤلَّف من اثني عشر عضوًا؛ سبعة مسلمين، وثلاثة إسبانيين، ويهوديَّيْنِ اثنين، يُعيِّنهم جميعًا المقيمُ العام.

أما ميزانية المجلس، فهي تتراوح بين المليونين والثلاثة الملايين بسيطة، بعجز في بعض السنين تسدِّده الحكومة.

ومن خير ما يهتم به هذا المجلس: الملجأ الصحي للفقراء؛ فهو مجهَّز بأدوات الفحص والتطهير والجراحة، وثمانية أطباء إسبانيين وطبيبة واحدة، تعاونها سيدة من أهل البلاد.

هذا الملجأ مفتوح للفقراء أجمعين من المغاربة والأوروبيين، يعاين فيه نحو مائتين من رجال ونساء وأطفال كل يوم، فمَن كان مرضه بسيطًا عُويِنَ وأُعطِيَ الدواء في الحال، ومَن كانوا يحتاجون إلى معالجة يُرسَلون إلى المستشفى الأهلي. أما المعاينة والأدوية والإسعافات الأولية في الملجأ، فهي كلها مجانًا.

ومما هو جدير بالذكر والثناء، أن هذا الإحسان لا يُقيَّد بمعاملات رسمية — لا إذن ولا استرحام، ولا فحص ولا استعلام. يجيء المريض إلى الملجأ توًّا، فيُعايَن دون أن يُسأَل سؤالًا مزعجًا — الفقير والمتظاهر بالفقر على السواء.

سألت المدير: ما هي الأمراض المتفشية في المنطقة؟ فقال: «الملاريا في الدرجة الأولى، ثم السفلس في الرجال والنساء، والموروث من الأمراض الزهرية في الأطفال، ثم السل.»

يوم كنَّا عائدين من زيارة المعهد الحرِّ، وهو في حي المسلمين القديم، على رابية منه، تصعد إليها في زنقات مدرَّجة، مررنا ببيت مكتوب فوق بابه «معالجة الأمراض الزهرية»، فسألت رفيقي عن السبب في وجوده بهذا الحي فقال: «لأن فيه بيوت المومسات، فرأت البلدية أن يكون العلاج قريبًا من الداء.»

وقد أدهشني قوله: إنهن يُفحَصن يوميًّا، ولا يتساهل أطباء المستشفى في أمرهن. «يجب على كل فتاة، وكلهن في هذا الحي مسلمات مغربيات، أن تُبرِز شهادة الطبيب للطالب، وأن تكون الشهادة محرَّرَةً في ذلك اليوم.»

والجدير بالذكر أيضًا أن شبان اليهود لا يُؤذَن لهم بالدخول إلى بيوت هؤلاء المومسات؛ فهن يطردنهم، ويأبين وصلهم. أما شبان النصارى، فلا حرج عليهم ولا هم يرفضون. لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً (الآية). ولا تجهلها على ما يظهر الفتاة المسلمة.

أما اليهوديات، فإنَّ لهن بيوتًا خاصة — عمومية شاملة — لا حرج فيها ولا حظر، ولا حرز ولا إحراز: «تعالوا إليَّ، أنا يهوديت، وإن كنت من شعب الله الخاص فإني معشوقة الأمم والشعوب. تعالوا إليَّ بأوزاركم فأزحزحها بلمسة، وأزيلها بقبلة، هو الكرم الرباني.» ومع ذلك فهي وشعبها: أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا، ولا تنسى المسلماتُ ذلك، ولا ينساه المسلمون.

قال الراوي: «كان في تاز حاكم وزيره الأكبر يهودي، فلما توفي السلطان بفاس كتم اليهودي الخبر عن الناس لغرض في نفسه؛ أحب اليهودي أن يجلس على العرش، ويمشي تحت المظلة السلطانية، فلمَّا علم بذلك السلطان الجديد هَمَّ بإرسال جيش عليه، فأشار الحكماء بغير ذلك قائلين: يهودي لا يستحق هذا الاهتمام، فالطلبة يريحون مولانا منه. وجاء الطلبة يقولون: اليهودي هذا يستحق هدية سلطانية. فعيَّنوا لها أربعين منهم دخل كل واحد في صندوق، فحمَلَ الصناديقَ أربعون بغلًا، ساقوها إلى تاز، يتقدمهم خبرها، فلما وصلت القافلة إلى المدينة رحَّبَ بها الوزير، وأمر بنقل الصناديق إلى داخل القصر، ثم فتحها، وكانت فاتحة الخير؛ فكلما انفتح صندوق وثَبَ منه طالب والسيف بيده، فانقَضُّوا على الوزير اليهودي، وقطَّعوه إربًا إربًا.

وإن لأولئك الطلبة عيدًا يقام بفاس كل عام، فتُمثَّل فيه رواية الصناديق واليهودي الذي أحب أن يجلس على العرش، ويمشي تحت المظلة السلطانية.»

١  ومنهم الأديب الحاج بدرو راغوني عبد الكريم مؤلف التاريخ المسمى «نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر»، ومنهم نقولا «بوباديليه»  Bâbadilla أبو عبد الله، رفيق القديس فرنسيس الإسباني في الأيام الأولى من رسالته، وقد عاوَنَ الاثنان القديسَ أغناطيوس لوبولا في تأسيس الرهبنة اليسوعية.
٢  من الإسبانيين مَن أسلموا عن عقيدة، ومنهم مَن فعلوا ذلك تخلُّصًا من الجزية والأحكام التي كانت تُفرَض عليهم، وكان المسيحيون الأصليون ملقَّبين بالصدئيين — عليهم صدأ الحديد — ليتميَّزوا عن أولئك الذين دخلوا في المسيحية من المسلمين واليهود، وبعد زوال السؤدد العربي تخلَّف عدد من المسلمين في إسبانيا وهم مقيمون على إسلامهم، فدُعُوا بالمدجنين، ولكن الملك كارلوس الخامس فرض عليهم جميعًا في سنة ١٥٢٥، إما النصرانية وإما الجلاء؛ فظعن الكثيرون، وتنصَّرَ الآخرون فسُمُّوا «مورسكوس»  Morescas ليتميَّزوا عن المسيحيين الأصليين «الصدئيين»، ثم حدثت فتنة اتُّهِمَ هؤلاء المورسكوس بها فطُرِدوا جميعًا من إسبانيا، وكانت الردة التي أشار إليها العلَّامة الوزير.
٣  تُصرَف كلها إلا قليلًا في بعض السنين؛ ففي سنة ١٩٣٨ بقي في صندوق الأحباس أربعون ألف بسيطة، ويتبيَّن من درس هذه الميزانية أن القيمة التي تُصرَف على الوزارة والموظفين والقواد في القبائل والمفتشين بلغت ٢٤٣٠٠٠ بسيطة، أي نحو أربعين ألف ليرة سورية، أي عشرين في المائة. أضِفْ إليها ما يُدعَى «صوائر مختلفة» وهي تبلغ نحوًا من خمسة في المائة، فيكون مجموع ما يُصرَف لإقامة الأحباس وإدارتها ربع الريع السنوي. لستُ أدري أكثير هو أم قليل، إنما أثبته ها هنا لمَن يهمهم الأمر.
٤  «اللقلاق طائر أعجمي يشبه الأوزة، طويل العنق، يأكل الحيات، ويُوصَف بالفطنة والذكاء، ومن ذكائه أنه كان يتَّخِذ له عشَّيْنِ يسكن في كل واحد منهما بعض السنة، وأنه إذا أحس بتغير الهواء عند حدوث الوباء ترك عشه وهرب من تلك الديار» (القاموس).
ومن فطنته أنه قلَّمَا يسكن في غير المآذن والزوايا بالمغرب، فيحافظ على حب أهله، ولا يطالبهم بما كان من إحسانهم إليه في الماضي. فإن أُقفِلَ مستشفى اللقلاق بتطوان فالزوايا والمآذن لا تزال ترحب به. ومن صفاته الحميدة أنه ذو شرف ووفاء في حياته الزوجية، فلا يدخل عش جاره، وإن دخل خطأً طردته منه اللقلاقة الأم؛ لذلك اتخذ الأمريكيون اللقلاق رمزًا للأمانة الزوجية والشرف العائلي، فعندما يُولَد للزوجين ولدٌ يقال: زارهما اللقلاق!
٥  رأيت قطعة من نصف الريال وقد حُفِر على أحد وجهيها في الوسط: أُجِيز ضربه بباريز عام ١٣٣٦؛ وحولها: قيمة خمسة دراهم مخزنية لضبط الحقوق المرعية. وعلى الوجه الآخَر في الوسط ضمن نجمة بستة رءوس، شعار المغرب نجمة بخمسة رءوس، ومحفور حولها بين كل رأس وآخَر: محفوف بالسعادة واليُمْن والإقبال والعز المنيف.
٦  في طنجة وجبل طارق كانت الليرة الإنكليزية تباع بمائة وخمس وعشرين بسيطة، والدولار الأمريكاني بخمس وعشرين بسيطة. أما في إسبانيا: فقد كان الدولار يُشترَى بعشر بسيطات، والليرة الإنكليزية بخمسين بسيطة. والسر في ذلك، كما قلت في المتن، يفوق إدراكي.
٧  تُقسَّم المدينة إلى سبعة أحياء، لكل حي خليفة — نائب — للباشا أي المحافظ، وفيها أربعون شيخًا، وشيخ واحد للحَيِّ الإسرائيلي.
٨  جدول السرقات مثلًا يعين الشيء المسروق أو القيمة المسروقة وعقابها، وهذا يبدأ من اﻟ ١٠ إلى اﻟ ٢٥ بسيطة، ويُعاقَب سارقها بالسجن من اليوم الواحد إلى الثلاثة الأيام، وبغرامة من الست بسيطات إلى الاثنتي عشرة بسيطة، وينتهي بالخمسمائة إلى الألف بسيطة، عقاب سارقها من اﻟ ٢١ إلى اﻟ ٣٠٠ يوم حبسًا، ومن اﻟ ٢٥١ إلى اﻟ ٥٠٠ بسيطة نقدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤