الفصل الخامس

شِفْشَاون

صروح مديدة منخفضة، ظاهرها أبدًا جديد، صروح بيضاء كزهر السوسن، ناعمة كفجر الربيع، مزخرفة منمنمة. صروح كقصور الجن، بنات الخيال وقصصِ المحال، بعُمُدٍ كفتيات الحور، بأقواس كالنونات، خطها قلمٌ ساحر، فعكستها يد عابثة. صروح بتيجان اقتُبِسَتْ من أعالي الحصون؛ لتنوح فوقها الحمائم، وتغرد الحساسين. صروح لفنانين مولهين، فرُّوا من حقائق الوجود إلى حقيقة الحياة الخالدة، من الأشكال المتنافرة إلى الوئام والتجانس في وحدة الجمال. صروح خفيفة الظل فوق أرض قاسية، تحت سماء كلها بهاء وحنان. صروح كاللعب لأطفال الأرباب، وما هي باللعب ولا هي للاعبين.

ولمَن الصروح؟ أَلِجبابرة الحديد وعبيد البخار؟ أَلِلطائعين الوادعين الصالحين النافعين من ذريَّة مباركة لا إنسية ولا جنيَّة؟ أَلِلحيوان والإنسان، للذابح والحارس من الناس وللناهبة المسافات؟

حصِّنْ فؤادك واستمع. إن هذا الصرح لسكة الحديد في محطها، وذلك الصرح لمجزر تطوان، والآخَر على الهضبة الخضراء هو مخفر عسكري.

هي الفنون والروح العربية الإسبانية المتزاوجة المثمرة، هي الهندسة الساحرة الأندلسية الغرناطية، وقد تجسمت فيها الأمنية القصوى، الناشئة من فنون الشرق والغرب، ومن تشوقات القلوب المعتصمة بآثار الماضي المجيدة، وبخرائبه الفتانة — بروح الماضي وذكراه.

هي هي صروح الروح الخالدة، وقد شيدت، بعد الحمراء والزهراء للحديد الممدود، وللفحم والوقود، وشيدت للجزارين يجازون الأنعام على الطاعة والوداعة والخير، وشيدت لحماة الأمن والنظام.

الصروح البيضاء المتوَّجَة بتيجان الحصون، المحصَّن فيها الفن المغربي الإسباني، تودِّعنا ونحن خارجون من تطوان.

والطريق الأسحم الصقيل ينساب بين الروابي الخضراء، المتألق طلُّها في روض الصباح، الراقص زهرها للشمس الشارقة. ينساب ذلك الأسحم الصقيل بين تلك الروابي في سفوحها وثناياها، وعلى صدرها المجلود وفوق جبينها الصامد لسهام الشارقة الغاربة.

الطريق وأبناء الطريق وزينات الطريق، يحدجها الفجر، ذلك العابد في سمائه، بعين الحب التقية، ويلفها بنسماته العاطرة، يدخل على قلبها نور محرابه الدرِّي.

الطريق وأبناء الطريق: رجال البوادي يسوقون الدواب المثقلة بأحمال الأرض الجوَّادة يسوقونها إلى المدينة بما تنبت الأرض وتثمر، بالحطب والفحم والبقول والحبوب، وبنات البوادي بقبعاتهن الشبيهة بالمظلات تتناعس تحتها العيون النجل في سمرة الخدود، وهن ممتطيات ظهور الأتن الوديعة، الطائعة الصابرة المكدودة.

الطريق، والحركة والسكون في الطريق، سكون الفجر الوفي الأزلي، وحركة الشعوب المتقلبة الزائلة، جيلًا بعد جيل، منذ وطئت هذه الأرض أرجل الفينيقيين، ثم الرومان، ثم البيزنطيين، ثم الغوط والعرب والفرنجة اللاتين، إلى زماننا، فرأت عين الفينيقي منذ ثلاثة آلاف سنة ما نراه نحن اليوم؛ هذه الوجوه السمراء الجافة الإهاب، وهذه العيون السوداء الناعسة، وهذه النعال والبرانس والشماريق، وهذا السكون في الوجوه والعيون، الحاجب العزم والشدة والاستعزاز.

بوادي المغرب من عرب وبربر، صلة الخير بين المدينة والأرياف، بين معدة جشعة وقلب خاشع، بين شهوة لا تزول ورحمة لا تحول، بين فم يردِّد دومًا: هات هات، وأيد تلبِّي يومًا بعد يوم، مبسوطة غير مقبوضة لا تكل ولا تمل.

الطريق وزينات الطريق، ومنها سيارات هذا الزمان تطوي المسافات وتنهبها وتخفيها، وهي تمزج أنفاسها الغازية بأنفاس الطبيعة الشذية، فتمر بالحقول والمروج، وبالزهور والرياحين، كأنها من الطريق اليابس العابس العقيم، لا تستحق وقفة ولا نظرة، ولا نشقة عابرة.

الطريق، طريقنا إلى شِفْشاون، بعد حبس في المدينة يومه شهر، وشهره دهر، حيَّاك الله حيَّاك!

الطريق والربيع الزاهي إلى جانبي الطريق، وفوقه على رءوس الربى، وتحته في الوادي الريان، بجوار النهر، نهر مرتيل النائم الكسول. أهو نهر ورع متقشف لا تهزه نشوة الربيع، فيسير ويدور على هواه، هادئًا ساكنًا بطيئًا، سيرَ الخير في العالم، ويتقبَّل الجزية التي تؤديها له الربى والجبال — ساقية هنا وسلسبيلًا هناك — بيد صفراء ناحلة! …

الربيع واحد في المغرب وفي لبنان، طرفي هذا الشاطئ الأفريقي الآسيوي، هو واحد في فيضه وأشكاله وزمانه، يجيء البلدين على اليوم — على الساعة — في الروزنامة، لا يبطئ ولا يسرع، ولا يتقدم ولا يتأخر، فيُسمَع صوت الحسون، وتُشهد طلعة السوسن في آنٍ واحد هنا وهناك.

وذي هي النباتات اللبنانية ذوات الأريج الكامن والمنتشر — الصعتر والقصعين والقندول الزاهر — وهاك الدفلى البيضاء والحمراء تتمايل على ضفتي النهر، وقد شاهدنا في بعض الأماكن شقائق النعمان والأصفر من الأقحوان.

وها هو ذا العلم يغزو حتى هذه الأصقاع المغربية القصية. تلك الأبراج من الحديد والعمد من الخشب هي لأسلاك البرق، والأخرى لأسلاك الكهرباء، تسير جنبًا إلى جنب بين أشجار الزيتون البرية والخرنوب. عجبت لزيتونهم الذي لا يلقحونه فيثمر ويضيء، ولخرنوبهم الذي يقدمونه للمواشي ولا يدبِّسون.

وها هو ذا مخفر آخَر من مخافر القبائل، ومنها بجوار تطوان بنو قُرِّش. قُرِّش، أم هي قُرَيش؟ يجب أن تردَّ هذه الأسماء إلى أصلها العربي، ولكن المغاربة لا يبالون بما يحل بالأصول، وإن هم داووها فبالإهمال، فيطول يومها، ولا يحول اعتلالها.

وقد يخترعون أصولًا غريبة في الدين والتفسير، فيتنكَّر التوحيد لأهله، أو يتقنع بقناع الصوفية، ويُؤثِر الزوايا على المساجد، والمرابطين على العلماء. هي الفتوحات والأقاليم القاهرة، وهي العقائد في قلوب الفاتحين، تنتقل إلى حقائبهم، فتتأثر بالمناخ والمحيط وبتقاليد المغلوبين أنفسهم. بَعُدَ الإسلام عن مهده، فسادت في أندلسه الفلسفة، وكادت تتغلَّب عليه، وسادت في مغربه روح القبائل البربرية، ففتح أبوابه لتقاليدهم وخرافاتهم الوثنية — لأوهامهم وسحرهم وتعاويذهم — بعد أن أخفق في مقاومتها، وعجز عن التغلب عليها.

هذه الكلمة جرَّها مخفر بني قُرِّش — قريش؟ — ونحن ندنو من مدينة هي معقل الدين، والعلوم الدينية، أو كانت. فقد قيل لنا إنها نجف المغرب، وإنها لسبب آخَر نابلس المغرب. وقد يكون التشبيه مثل الأسماء المشوهة بالتحريف، فنبحث في نجف المغرب عن السراديب والمدارس فيها، فلا نجدها، وقد نجد في نابلس المغرب بعض اليهود؛ فالتشويه في التشبيه مستقبح كما هو في الأسماء ومضلل كذلك.

ولكن في الأسماء الكثير من الفصيح السليم، وفيها ما يبرِّره الأصل البربري؛ فقد ذكرت المخفر وهو في اصطلاحهم مرقب، وقرب المرقب المدشر أي القرية. فالمرقب مقبول مكرم في قواميسنا العربية، والمدشر مرفوض مجهول، إلا في القواميس البربرية، وهي غير موجودة، ولا أحد من أهل البلاد العرب والبربر، يستطيع أن يردَّ اللفظة إلى أصلها اللغوي فينكشف سرُّها.

إذن نقول المدشر، وقد مررنا بمداشر عدة، وما شاهدنا غير نموذج منها، كوخ أو كوخين بجوار المرقب، والنموذج طبق الأصل مبني من القش والطين بشكل هرمي، أما المدشر فهو مختبئ في الوادي أو في ثنايا الروابي.

وهاك شفشاون مجموعة ظلال على الأفق المشرق، وهاك النهر في ناحية غير تلك التي كان رفيقنا فيها، فسألت الرفيق ألفريد البستاني — الذي تعلَّمَ جغرافية المنطقة بالأسفار المكررة في البوادي والحواضر: كيف انتقل النهر من يميننا إلى يسارنا، وسبقنا فأصبح أمامنا؟ فعلمت أن نهر مرتيل لا يزال مكانه وراءنا، وقد اختفى في أحد الأودية المنحدرة من منبعه. أما هذا الذي أمامنا فهو نهر سيف اللاو، والسِّيف ساحل للوادي — في القاموس — كما هو للبحر.

إننا إذن في رأس وادي اللاو، وقد كُتِب لنا التعرُّف إليه، من رأسه إلى قدميه، وسنشهد هناك العجائب المبهجة، وستشهدها معنا، أيها القارئ الصبور، إن ثبَتَّ في الصبر والتسيار، فها هو ذا الآن سيف اللاو، وها هو ذا نهر السيف، المنحدر من جبل شفشاون في أحد فرعيه، ومن جبل باب تاز في الفرع الآخَر. فجبل شفشاون أمامنا هناك، على الأفق الشرقي، ولا يزال للثلج أثر في أعاليه، وإلى جانبه جبل القلعة، ووراءه — وراء ذلك الأفق المشرق — باب تاز وجبالها.

إن نهر السيف لأنشط من نهر مرتيل، فيُرَى كأنه يجري وكأنه يُسرِع في جريه ويقهقه في انحداره. تُرَى ضحكته الفضية وتُسمَع، وإن له مرحلة يجتازها من نَبْعَيْه، فيقف الفرعان متحدين طوعًا للعلم، وقد شيد لهما مركزًا قريبًا من شفشاون، وفيه الأدوات والمحركات لاستثمار قواهما. نهر السيف، وقد حُشِدت قواه لتوليد الكهرباء، فرأينا أبراجها في الطريق، وهي تحمل النور إلى المدن — إلى شفشاون وتطوان والعرائش، وإلى القصر الكبير والصغير، حتى إلى سبتة وطنجة.

دنونا من البساتين، وقد نوَّرت أشجارها، وفاح طيبها، وعدنا إلى الصروح، الصروح البيضاء المتوَّجَة بتيجان الحصون، الحاملة خارجًا وداخلًا رسالة الحمراء في الهندسة الغرناطية شكلًا ومعنى — جمعًا وتفصيلًا — في النقش والتلوين، وقُلِ التلحين، وقُلِ الغناء، وإن أجمل الألحان لفي هذا الزخرف وهذه الألوان.

هي الصروح المغربية الإسبانية، الغرناطية المغربية. هذه ثكنة للجيش، وهذا — في وسط جنينة زاهرة بالقرنفل والورد والنرجس والياسمين — مركز المراقَبَة، وذلك إلى جنبه مركز المخزن الشريف، تحيينا في الأول إسبانيا وقد أقامت للحماية مراقبات يديرها أبناء حكومتها من عسكريين ومدنيين، وهذا مراقب الناحية — ندخل فإذا نحن في شبه «حمراء» صغيرة منمنمة، فتبدو المكاتب فيها كموائد الصيارفة في المعابد. وها هو ذا المراقب الضابط الشاب، في جزمةٍ لامعة وثوب أصفر عسكري، إنه لمن المتناقضات.

ولكن في شفشاون صرحًا أندلسيًّا واحدًا لا تناقض فيه — هو النُّزُل الجديد. فإن كنتَ ممَّنْ جابوا الأقطار القاصية والدانية، وشاهدوا في المدن الحديثة والقديمة كل عجيب طريف، فأصبحت يابس الشعور، لا بهيج يبهجك، ولا عجيب يعجبك، فَاطْوِ هذه الصفحة ودونك غيرها، وإن كان لا يزال لوح نفسك طريًّا تطبع فيه الآيات الطبيعية والفنية، فتزيدك علمًا وحبورًا، فواصِل ما أنت الآن فيه، ولا تَخْشَ الخيبة أو الملل.

ليس هذا النُّزُل القائم بين الجبال، على هامش المدينة، بنُزُل ضخم فخم عظيم، ولا هو في ظاهره على شيء من النادر والممتاز في الجمال، ولكن في داخله السحر الساحر ينقلك بلحظة عين إلى الأندلس — أندلس العرب. ذلك السحر هو في ردهة الاستقبال؛ في النقش والزخرف والألوان، على الجدران والعُمُد، وفي السقف وتحت قدميك. هات القهوة يا غلام!

إن كتاب هذا السحر لمن «حمراء» بني الأحمر الخالدة — ياللَّحْمَر بلهجة المغرب — وأدوات السحر من معامل البلاط الزلِّيجي بأشبيلية، وأستاذ السحر من هذه البلاد المغربية، والسحر الحلال، هاكه في هذه الرسوم الهندسية، بخطوطها الخضراء والصفراء والحمراء، وفي هذه الفسيفساء — الأرابِسْكِيَّة — السوداء الزرقاء البنية، تتجلى في السقف، وترقص على الجدران وحول العمد، وعند قدميك. هات الخمر يا ولد!

إننا في غرناطة، في المضيف السلطاني بالقَصَبة!

هو السحر القديم، وفي الطابق الثاني السحر الحديث الجديد. في الطابق الثاني ننتقل انتقالًا آخَر سحريًّا؛ من غرناطة إلى باريس أو نيويورك، من الفن الساحر المتعب للأعصاب إلى الصناعة الموفورة الراحة والرفاه، من الترف الذهني والعاطفي إلى الترف الجسماني، من الكرسي الخشب المطعَّم القاسي إلى الكرسي المنجد الوثير، من الألوان المثيرة للأفراح والأشجان إلى اللون الواحد الساكن المسكِّن، الممزوج بماء الحياة والاطمئنان!

وإلى جانب كل غرفة من غرف النوم نعيم هذه الدنيا؛ حمام مجهز بجميع أسباب الرفاه والبهجة، بأحواضه الكبيرة والصغيرة، بزليجه الأشبيلي، بأنواره الكهربية، بمواسيره الخفية الحاملة إليك الماءين الحار والبارد … يا غلام، أين المدلِّكة؟

أيها القارئ العزيز، إن كنت ممَّنْ شاهَدوا عجائب الدنيا في الشرق والغرب، وما زِلْتَ تهتز دهشًا وطربًا لكل مشهد غريب عجيب، وعند كل مظهر من مظاهر الجمال والأناقة، فإنك لمَن الفائزين، وإنك الغني السعيد.

وقفنا في طنف من أطناف النُّزُل نمتِّع النظر بالمشهد الطبيعي المتمِّم للجمال الهندسي والفني؛ فسألت معاوِن المراقب الذي كان رفيقنا ودليلنا عن بيتٍ ببرج على رأس إحدى الهضبات في الجانب الآخَر من الوادي، فقال: هو مسجد.

– ومَن يقصده للصلاة وهو بعيد عن المدينة؟

– قلَّمَا يُقصَد.

– ولماذا بُنِي هناك؟

– بناه أحد المراقبين ليزيِّن به تلك الربوة.

الزينة والزخرف! الجمال اللطيف في الهندسة والصناعة والفن، وفي الحياة العاطفية؛ إن الإسبان لأشد نزعة إليها، وأبلغ شغفًا بها من العرب، بل هي الصلة المتينة بين الشعبين تنحصر اليوم في الفن الهندسي والثقافة وتشتمل غدًا … دَعِ التنبؤ للأنبياء.

خرجنا من النُّزُل نمشي إلى الساحة الكبرى، فإذا هي تغصُّ بالناس من المدينة والمداشر المجاورة إليها. هو يوم السوق التي تقام فيها كل أسبوع فتحتلها النساء والرجال للمتاجَرَة، فتتربَّع المرأة على الأرض، ويجلس الرجل القرفصاء إلى جانب ما هو معروض للبيع من البقول والثمار والحبوب، ومن الأقمشة والأحذية والبرانس، ومن مواعين الفخار والنحاس، من الدبوس — كما يقول العطار اللبناني — إلى جهاز العروس. سوق عامرة بالجماهير من بدو وحضر، وبما تناثَرَ فيها على الأرض للبيع والشراء، فتتمُّ الصفقات — وهذا ما أدهشني — باليسير من الكلام بالصوت الخافت. لا صياح، ولا ضوضاء، ولا ازدحام.

قوم متمدنون، يجلسون على الأرض ويتاجرون — فمَن هم يا تُرَى؟ هل هم العرب؟ هل هم البربر؟ وهل هم من الجنسين وقد تخالَطَا وتشابَهَا، فتحسب العربي بربريًّا والبربري من العرب العرباء. إنهم لبيض الوجوه، يغلب في النساء الحُسْن، وفي الرجال الهيبة وشدة البأس.

وهذه اللهجة العربية لهجتهم قد أدهشتني، فأثارت بي كوامن الذكرى؛ لأنها أليفة الأُذُن بسرعتها ووقفاتها وغنَّاتها، وبما فيها من نحت وإدماج وتسكين لا يجيزه أحد من اللغويين الملتحين أو المُرْد المحافظين أو المجددين: حيَاكِلَّه — حياك الله. لبْاسْعْليك — لا بأس عليك!

اللهجة والوجوه، نقلتني النقلة السريعة البعيدة، نقلتني إلى اليمن هناك، في الأعالي — في يريم وذمار وصنعاء — رأيت أمثال هذه السحن البيضاء، وهناك سمعت مثل هذه اللهجة الغناء ذات القفزات والوثبات والوقفات والمدَّات.

وهذه السوق بقناطرها الواطئة ومخازنها الصغيرة، وقد تربَّعَ التجَّار في دكاكينهم على حصير أو فراش أو بساط، هذه السوق بدرجاتها ومتعرجاتها، وبروائحها الشبيهة بالبخور الهندي والبهار والكمون، وقد سُحِقت في الفهر الواحد، ومُزِجت ببقية من بوتقة العطار؛ هذه السوق بجوِّها وروائحها تنقلني إلى اليمن.

وهذه البيوت، لولا قرميد سطوحها، يمانية.

وهذه المدرسة لصبيان القرآن، يتعلمون قراءته بالألواح المكتوبة لا بالكتاب المطبوع: اليمن. وهذه الأنوال: اليمن. وهذا الترفض الشفشاوي: اليمن.

أقف عند هذا، فلا تضلنا التشابيه والانتقالات. إن لشفشاون، على ما ذكرت، صفاتها الخاصة، رأسها النظافة — النظافة في ساحتها، وفي أسواقها المدرَّجة، وفي أهلها، وفي بيوتها.

وقف بنا الرفيق الدليل أمام مدرسة دينية عالية — هي مدرسة شفشاون لتعلم القرآن والفقه، فدخلنا فإذا نحن في صحن فارغ نظيف كقلب البادية، لولا شجرة الليمون والشاذروان الصامت، لا ماء فيه، وحول الصحن المدرسة بطابقين فيهما غرف التدريس والأكل والنوم. لكل طالب غرفة صغيرة فيها سرير وخزانة ونضد للكتابة، كل ما فيها بالمجَّان، وكل ما فيها نظيف.

ولكن الرفيق وبَّخَ المدير؛ لأن الرواق أمام الباب لم يُكنَس في ذلك اليوم؛ فاعتذر المدير وراح ينادي الخادم.

ثم قال رفيقنا: الحكومة تقوم بنفقات هذه المدرسة، وتدفع رواتب المعلمين والخدم؛ فعلينا أن نطالبهم بالواجب عليهم.

ليس في اليمن مثل هذه المواظبة على النظافة، وليست أنوال اليمن كأنوال شفشاون، وإن كانت في البلدين يدوية؛ فتلك شبيهة بأنوال لبنان الضيقة، عرض نسيجها لا يتجاوز الذراع، فيشغل كل عامل نولًا واحدًا.

أما أنوال شفشاون، فعرض نسيجها متر ونصف متر، فيشغل النول الواحد عاملان كلاهما بمكَّوكين، الخيط في الواحد مفتول وفي الآخَر محلول، فيجيء النسيج متينًا خشنًا مزغابًّا، ولا يُصبَغ كما في اليمن، بل يُنسَج من صوف الغنم، ويستعمل بلونه الطبيعي للمشالح والبرانس.

وأمام بيت الحائك تينة أو مشمشة، وعلى سطحه عريشة من عرائش العنب — لبنان.

خرجنا من المدينة ونحن نواصِل السير في بقعة من الأرض جبلية لبنانية، وهذا نبع النهر — نهر سيف اللاو — يتدفق من بين الصخور في نفنف زانته الطبيعة بشجيرات من الزيتون البري والبطم والسنديان، وإلى جوانب المياه تتزاحم الدفلى الزاهرة.

لا بد للدليل من قصة يقصها عليك، فقد أخبرنا أن السلطان الحسن، والد السلاطين الثلاثة عبد العزيز وعبد الحفيظ ويوسف، زار هذا المكان ونصب خيامه حيث كنَّا واقفين، وأن الشمس تشرق في أيام الجُمَع والأعياد على سرب من النساء يقصدن النبع للنزهة؛ فيلعبن ويغسلن في هذه المياه بين الصخور.

عدنا من النبع في طريق آخَر بين البساتين المسيجة بالصبير، المزدانة جوانبها بأقمار البيلسان، فكنَّا نسمع خرير الماء، ولا نرى غير بريق منه هنا وهناك بين أشجار اللوز والتين، ثم يظهر شلالًا عند طاحون أو ساقية في بستان، فيذكرنا دومًا بلبنان. هي ساعة في بقعة من الأرض طيبة مثمرة — وألذ ثمارها الذكرى والخيال. فمن النُّزُل، إلى المدينة، إلى النبع، انتقلنا ثلاث انتقالات.

شفشاون:١ بلدة حديثة العهد، أُسِّسَتْ سنة ١٤٧٠، عند سفح الجبل الحامل اليوم اسمها، على هضبات هي كالدرج إلى رأس النبع، وفي هذا الدرج الطبيعي الأسواق المعبَّدة والأدراج المرصوفة بالحجارة، وقد صقلتها أرجل الناس فأمست مثل نعالهم المسحاء الملساء، مزلقة للأحذية الفرنجية.

وفي شفشاون مزالق أخرى، لا للفرنجة بل للعلماء من أبنائها؛ فهم يذكرون الماضي، يوم كانت مثل النجف مدينة العلوم والأسرار الدينية، فيطمعون بالنِّعَم الخالدة، ولا يتقون فيقعوا بالزائل منها، ولكنهم لا يؤلفون الكتب ليبرِّروا المزالق ويشرحوها، وهذه من حسناتهم. ومنها أنهم يزدرون الجهل وأهله حتى الإهمال، فيسمعون الأساطير تُرَدَّد ولا يبالون.

فمَن ذا الذي أشرف على بناء شفشاون؟ هو ولي من الأولياء يُدعَى علي بن غاشد (راشد) — يلفظ الشفشاوني الراء كما يلفظها ابن باغيس (باريس) — ولمولانا ابن غاشد مزار عند مدخل المدينة، وكرامات في الحياة وفي الممات. فهو الذي امتشق حسامه، وضرب به الصخرة في سفح الجبل، فتفجرت منها مياه النهر!

وفي شفشاون اليوم ثمانية آلاف نفس نزح أجداد أكثرهم من الأندلس قبل سقوط غرناطة وبعده، ومن هذه الثمانية الآلاف ألفٌ أو مائةٌ أو عشرةٌ — لست أعلم بالتحقيق — يشكُّون في كرامات الولي المذكور، وينكرون أعجوبة سيفه المتحدر من سلالة عصا موسى.

وفي شفشاون مزالق لليهود؛ فيوم دخلت عساكر إسبانيا المدينة سنة ١٩٢٠، رحَّبَتْ بهم الجالية الإسرائيلية، فابيضَّتْ وجوه واسودَّتْ وجوه، وما كان المبيضون بمفلحين؛ فعددهم اليوم أقل مما كان منذ عشرين سنة، وقد تصير شفشاون شبيهة كل الشبه بنابلس.

أما حسنة حسناتها، بعد النظافة والأنوال ومعمل الزرابي والمدارس المدنية والدينية، حسنة هذه الحسنات مدرسة البنات، ومديرتها السيدة رحمة المدني حرم عبد السلام الأندلسي. والسيدة رحمة الريفية المولد، المتعلمة بطنجة، المحسنة اللغتين الإنكليزية والفرنسية؛ هي أول امرأة تعلِّم وتكتب في هذه المنطقة من المغرب الأقصى، وقد تصير ولية — طال عمرها — فتُدفَن إلى جنب مولى شفشاون علي بن راشد.

تُقسَّم هذه البلدة القدسية إلى خمس حومات أي أحياء، هي حومة رأس الماء، القريبة من النبع، وحومة الخرازين — الإسكافيين — وحومة ريف الأندلس التي سكنها النازحون من إسبانيا، وحومة سُويقة — كانت تقام قديمًا بها سوق — وحومة ريف الصبَّانين أي الغسَّالين.

سألت الدليل: وفي أية الحومات يسكن اليهود؟ فأجاب: في البلدة حفنة منهم منشورة على حواشي الحومات.

ليس في شفشاون من الآثار التاريخية غير القلعة التي بناها البرتغاليون، القائمة في الناحية الجنوبية الشرقية من الساحة الكبرى. في هذه القلعة تحصَّنَ الريسوني يوم كان يحارب الإسبان، وقال كلمته المأثورة يخاطب القبائل: هذه بلادي وأنتم أهلي، فلا خوف على البلاد ما دمت حيًّا، ولكنها ذاهبة بعد موتي.

وكانت هذه القلعة مركزًا لعبد الكريم بعد الريسوني، فحدث بين الاثنين ما سنذكره مفصَّلًا في موضعه، وما كان القدر ليرحم المجاهد الأول ولا المجاهد الثاني. قال بطل الريف للبطل الشريف: تعال شاركنا في الجهاد. فأبى، وكان الشريف يومئذٍ مريضًا في بيته بتَزْروت، ومتحركًا مع ذلك في سياسته. هي القبائل المتقلبة، والدسائس المتغلبة، ومن رجال عبد الكريم الذين حملوا غصن الزيتون يومئذٍ إلى الريف، الريسوني، وممَّن حملوا السيف عليه السي يزيد بن صالح قائد قبيلة بني يَرْزين، وباشا شفشاون الحالي.

زرنا الباشا في بيته، فاستزريت اللقب لما شاهدت صاحبه، وما محل الباشوية من هذه الطلعة البدوية الرائعة؛ لقد خطَّ الدهر في وجه ابن صالح سفر المغامرات والغزوات والشدات، فأجاد، وأيَّدَتْه لحية سوداء بيضاء كأنَّ غبار المعارك لا يزال لاحقًا بها، وأيَّدَتِ الدهر عينان غائرتان لا تزال النار بادية في رمادهما، وأيَّدَ الدهر فمٌ في سكوته هول، وفي ابتسامه أمن واطمئنان.

الباشا يزيد! حاشا وكلا. السي يزيد! بئست الألقاب المدنية والمخزنية. متى كان اﻟ «باشا» من تراب هذا المغرب؟ وهل لبني عثمان أثر غيره هنا وهناك في شرقنا العربي؟ أريد الجواب من عجيل باشا الياور. أريد الجواب من محجم باشا مهيد. لا يا أخي، لا تضيع الوقت في السؤال والجواب، إن هذه الألقاب وأغطيتها — سعادة، فخامة، معالي — لَمِن منكرات الدولة البائدة، ولو كانت من غير المنكرات فإنها تستقبح حينما تضاف إلى عجيل أو محجم أو فهد أو هزلول أو يزيد. أما اﻟ «سي» — نصف سيد أو أقل — فهو أقبح وأنكر. إذن نقول الشيخ، وليس أشرف منه لقبًا في البوادي والحواضر.

زرنا الشيخ يزيد بن صالح — أرأيت كيف تتجانس الأسماء والألقاب؟ زرنا الشيخ يزيد في بيته، فاستقبلنا في الباب وصعد أمامنا في درج ضيق عالي الدرجات — ذكَّرني باليمن — إلى قاعة الاستقبال المشرقة بألوان فرشها، على الأرض والدواوين والجدران، إشراق ابتسامته — وكان في إكرامه لنا عربيًّا قحًّا، خلقًا وتقليدًا. فجاء الخادم، عمليق من سود السودان، بقماقم خضراء وصفراء وقدَّم قمقمًا لكل زائر، فصبَّ ماء الزهر على الرءوس والأيدي، فمسحت الوجوه وسُبِّح بحمد الله. ثم جاء العبد الآخَر بمبخرة حُرِق فيها عود الند، فنشقنا منها وبخرنا الصدور، وسبَّحنا بحمد الله.

ثم جاء الخادمان باﻟ «أتاي المنعنع»، وبأطباق عليها أهرام من الحلوى، فشربنا الشاي في كئوس من الزجاج كأننا في الحجاز، وأكلنا من تلك المقرَّنات والمربَّعات المعسَّلة، وما سبَّحنا بحمد الله، وهو ها هنا أولى بالتسبيح. إن للتقاليد تقاليد تقيِّدها.

وكنَّا قد علمنا أن مضيفنا ممَّن حجوا في العام السابق، فسألناه رأيه في ابن سعود، فقال بأسلوبه الوجيز: عربي كريم وحاكم عادل. ثم أخبرنا أنه دُعِي لمأدبة أقامها الملك لبعض الحجاج، وأنه يحتفظ برقعة الدعوة.

وفي مساء ذلك اليوم بتطوان، في بيت عبد الخالق طريس، اجتمعنا بغيره ممَّن حجُّوا في ذلك العام، فأثنوا على عبد العزيز «العربي الكريم» و«السياسي القدير» و«الحاكم العادل»، وما تعرَّضوا بخير أو شر لمذهبه. إننا لفي المغرب السني الشافعي، ولكن المذاهب لا تحول في هذه الأيام دون الإقرار بالفضل، ولا تتنافى في العروبة.

طال الحديث، وطابت فيه المقارنة، فَلْنختمه بشيء منها يختصُّ بالبيوت، وهي إجمالًا على شكلين: بيت الشيخ يزيد بن صالح — مثال الشكل الواحد — والبيوت الحديثة في تطوان من الشكل الآخَر. الأول — وأكثر بيوت تطوان القديمة مثله — عربي مبنًى ومعنًى، عربي النطق والمزاج، بيت صغير متواضع يتوارَى ولا يتعالى، وبيت الأستاذ الطريس مثلًا هو عربي مغربي، عربي الشكل، مغربي المزاج، منفسح منشرح وراء جداره العالي الأصم، فيقوم بطابقيه حول صحن رحب، مفروشة أرضه، ومصفحة جدرانه، بالبلاط الزليجي، وفيه كما في بيت الأستاذ محمد بنونه الذي نزل به الأمير شكيب أرسلان يوم زار تطوان، ردهة استقبال مفروشة بالفرش الأوروبي مغرقة التقليد، وأخرى وطنية، مغربية الشكل والذوق، مغربية الروح والمظهر، وهي على الإجمال في الطابق الأول، في صدر الصحن، طويلة ضيقة، مشطور طولها شطرين، يفصل بينهما عمد بأقواس، ودرجة ترفع أرض الواحدة عن مستوى الأخرى.

وفي صدر هذه الردهة ديوان منخفض عريض طويل، مدى الحائط، حافل بالفُرش الوثيرة، المغطاة بالأبسطة، وبالوسائد الباهرة الألوان — مزاج المغرب — وإلى جانبي هذا الديوان في طرفي الردهة، أي زاويتَيْها، سريران عاليان، أو سدتان، أو عرشان. قد يستطيع الرياضي الحائز الجوائز في القفز أن يقفز من الأرض إلى ذلك العرش قفزة واحدة، ولا يستطيع مثلنا — أستغفر قارئي الرياضي — أن يدرك ذلك العز بغير درج يصعده.

كثيرًا ما فكَّرت، قبل أن أُقدِم على السؤال، في هذا الشيء المفخم المتخَّم بالفخامة، المكدس بالفُرش، المصفَّف بالوسائد، المرفه بالأطلس والحرير، البادي بكلَّته المزركشة كالعروس المجلوة. كثيرًا ما فكَّرت في ماهيته، مهنته، سبب وجوده، أهو من الأثاث أم من نوافله، أهو للزينة أم للاستعمال؟

وهل يجوز، في الحالين، لغير العروسين … إذن هو سرير الليلة الأولى. فكرتُ، أقول، ثم فكرت، وقد يستعمل بضع ليالٍ بعدها، وقد يسخر لشهر العسل بأجمعه، ثم يُترَك هناك لعسل الذكرى، وإنْ حام عليه الذباب، فكرت وفكرت، ثم تشجعت فسألت، فعلمت أنه لأهل البيت في الأيام العادية، وللضيف في الأعياد.

فشرحها رب البيت قائلًا: ويوم الضيافة عندنا عيد.

وكما أنهم يستعملون هذه السدة الملكية للنوم، فهم يستعملون الردهة الفخمة للمآدب؛ فيكرمون فيها الضيف إكرامين في مأكله ومنامه.

جلسنا حلقة حول طبق من النحاس، ونظمنا الزاد بالأيدي على الطريقة العربية في شبه الجزيرة اليوم، غير أن المضيف لا يشارك ضيوفه في الأكل، بل يحدِّثهم وهو واقف يُشرِف على الخدم.

وكان الخدم تلك الليلة من شبَّان كتائب حزب الإصلاح في أثوابهم — قمصانهم — الرسمية.

وكان الحديث في تطوان وتاريخها، فأخبرني جاري أن العلَّامة المفضال الحاج أحمد الرهوني — الرئيس السابق لمجلس التعليم الإسلامي الأعلى — كتب تاريخ تطوان في عشرة مجلدات — غير مطبوعة طبعًا، وقد أهدى النسخة الخطية إلى الأستاذ الطريس يوم زفافه.

تاريخ تطوان في عشرة مجلدات، يا ساتر يا معين، فكيف السبيل إلى الانتفاع بعلم الشيخ الرهوني؟

خطر لي خاطر أذكره الآن، وهو أني أعربت عن رغبتي في نشر نموذج منها، فتعلم دوائر الأدب العربي بالكنز التاريخي، فلا يبقى كنزًا دفينًا، وهدية عرس. بل لقد رغبت في نشر تاريخ تطوان بالشكل الملائم لمِعَدِ قرَّاء هذا الزمان الضعيفة، فسألت عبد الخالق أن يأمر أحد كتَّابه بتلخيص كل مجلد في صفحة واحدة، فأضعها أنا في بوتقتي وأغليها، ثم أقدِّم لقرَّاء هذا الكتاب خلاصة الخلاصة. فأجاب بالإيجاب، أي إنه وعد بأن يفعل.

وكرَّرْتُ الطلب فكرَّرَ الوعد، وتكرَّرَ الوعد، فتكرَّر الطلب؛ فعلمت وتيقَّنْتُ أن الوعود في المغرب مثلها في هذا الشرق العربي، وأننا والمغاربة إخوان، حقًّا إخوان!

١  وتُختصَر فيقال شاون، فتُكتَب بالإسبانية Xauen، وهي على مسافة خمسة وخمسين كيلومترًا من تطوان، وتعلو ستمائة متر من سطح البحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤