الفصل السادس

العرائش

من برقة على البحر الأبيض إلى طنجة، ومن أصيلة على البحر الأطلنتيق إلى بلاد نهر الذهب Rio de Oro، في كل بقعة من هذه الشواطئ الأفريقية، الشمالية والغربية، زيَّنَها الله بالجبال الخضراء والأنهار وبالمروج والبساتين، كان يتحدَّث الأقدمون ويسترسل المحدثون، في ذكر الأسطورة اليونانية، وتفاحات بنات اﻟ «هسبيريد» الذهبية، التي كانت شائعة في هذه الديار في زمن الرومانيين، وفي عهد البيزنطيين بعدهم.

إنما اختلف علماء الأساطير في موضع ذلك البستان — بستان بنات اﻟ «هسبيريد» وشجرتهن العجيبة — فقالوا إنه كان في البلاد الطرابلسية بالقيروان، وقالوا إنه كان بجوار طنجة، ومنهم مَن مضوا في التدقيق، فذكروا الأرض التي يجري فيها نهر لوكوس، وحدَّدوا المكان الذي سكنته اﻟ «هسبيريد» الحسان في ظلِّ شجرة تفاحهن الذهبي؛ فقالوا إنه على شاطئ النهر عند مصبه، حيث تقوم اليوم مدينة العرائش.

أولئك الحسان الثلاث، وقيل إنهن أربع، وقيل سبع، عدد الثريا «بنات الدجى»، كُنَّ يسكنَّ المغرب الأقصى، كما جاء في التقاليد القصصية على شاطئ الأقيانوس، حيث تختفي الشمس كل يوم، وكل يوم تعود، لتشرق عليهن وعلى بساتينهن، وفيه الشجرة التي كان يحرسها التنين، شجرة التفاح الذهبي التي أهدتها الأرض إليهن ذكرًا لقران الربة هيرا بزوس رب الأرباب.١
أما التنين حارس تلك الشجرة، فهو المعروف برمزه الذي لا يزال يُدعَى باسمه القديم نهر لوكوس،٢ ولا يزال رابضًا عند سيف الأوقيانوس، فيهدر عندما تزمجر رياح الجنوب، ويرغي ويزبد تحت سياطها الكاوية.
وهاك بجوار العرائش، في ذكرى النهر، بحراسته الدائمة، آثار المدينة القديمة — الرومانية؟ اليونانية؟ الفينيقية؟ — المدينة العريقة في القِدَم المسمَّاة شمِّيس  Chimmis تحدِّثك خرائبها، لو وُهِبت النطق، عن ذلك البستان الذي كان يظللها، وأولئك الحسان جيرانها، وتلك الشجرة كنزهن الذهبي.

وهو ذا الأوقيانوس حيث كانت الشمس «تختفي كل يوم، وكل يوم تعود»، فتشرق على البستان وتفاحه وحوره — الأوقيانوس الغول يشرب دومًا ماء النهر العذب ولا يرتوي، والنهر الذئب أي التنين يحرس الأرض التي لا تزال حافلة بالكنوز؛ بالشمس الشارقة، والشمس الغاربة، وبالسماء الصافية الأديم، وبالمروج الذهبية، والجبال الزمردية، بالكنوز العسجدية الخالدة.

ذهبت الأساطير وما ذهبت روحها المثمرة على الدوام — المثمرة تفاح اﻟ «هسبيريد» حينًا، وحينًا تفاح صدوم. فالعرائش الحديثة العهد تناجي شمِّيس القديمة، وخرائب شميس اليوم تنادي العرائش، وهو ذا التفاح الذهبي يستحيل في زماننا برتقالًا ورمانًا، إننا لفي فجر الزمان! ويستحيل خشخاشًا وحنظلًا، إننا لفي غسقه! وذي هي حسان اﻟ «هسبيريد» — بنات الدجى — مجسدة في بنات المغرب السمر الهيف، ذوات العيون النجل والثغور المتأهبة للقُبَل.

إرث الأساطير إنه لخالد في روحه، وإن تغيَّرَتْ أسماؤه، ودرست معالم أشكاله؛ فالتفاحة التي كانت تفاحة المعرفة والخطيئة، ثم صارت تفاحة الشقاق، أصبحت في زماننا تفاحة الحب والتناسُل، فحَلَّ الفارس العارس محل الذئب الحارس. إرث الأساطير تتوارثه الشعوب فيحول منه المنظور والمنقول، ولا يحول المحسوس والمعقول.

شاهدت بنات اﻟ «هسبيريد» مغربيات هذا الزمان، يبعن الرمان وأكواز الخشخاش — المنعشات والمنومات — في سوق الاثنين بطريقنا إلى العرائش، وهي سوق حافلة كسوق شفشاون، تقام كل أسبوع في بستان من النخيل بجوار قرية سيدي اليمني، فتُدعَى أيضًا باسمها.

وما أجمل الأسماء أسماء القرى والجبال والقبائل في هذه الناحية؛ إن أكثرها عربية نقية لا تشوبها العجمة، فهي ذي الفنيدق ودار شادي وسيدي اليمني، وهناك جبل الحبيب، وفيه منازل بني مصور وبني عروس.

وهذه فروع الطريق من تطوان، تنتهي إلى آفاق لازوردية، أو عند سفح الجبال الزمردية، أو تذوب في عناق المروج الذهبية، وفيها كلها الذكريات الطيبة والمرة لأحداث التاريخ وأساطير الشعوب. فها هنا انعراج إلى شفشاون، وفي الشمال الغربي انعراج آخَر إلى طنجة، والفرع الثالث يؤدي إلى أصيلة، والرابع إلى قبيلة بني عروس — عروس جبل الحبيب — والخامس عند العرائش يصل جنوبًا إلى الرباط، رباط الفتح، وهي على مائتي كيلومتر من العرائش.

وفي هذا الطريق المفروش أكثره بالزفت مخافرُ ومراقبُ من طراز ما شاهدنا بشفشاون، بيضاء ومنمنمة أندلسية عربية في هندستها، وفي وفر ما يزين جنباتها من الزهور، وبجوار كل مرقب بيت باشا البلدة أو قائد القبيلة،٣ وهو مركز الحكيم الوطني المخزني الذي يشرف عليه، يرقبه المراقب (المستشار) الإسباني.

لا أَنْهُر في هذه الناحية بعد لوكوس أو قبيله، وليس ما يجيز المقارنة بين هذه الجبال الوادعة وأهلها العرب الأشاوس من بني عروس وبني مصور أكبر قبائلها؛ هي الربى وهم الجبال المشمخرة المنفردة، هي الربى تنحني وتتَّضِع، فتتصل وتنفصل بلين ولطف واطمئنان، لا روعة ولا شموخ، ولا مباغتات في الأغوار والأنجاد، زُرِعت سهولها قمحًا، وغُرِست منحدراتها بالكروم والأشجار المثمرة.

أما في الحقول إلى جوانب الطريق فيكثر الدوم بين النبات البري، الدوم هنا غير شجر الدوم في شبه الجزيرة العربية، فهذا الدوم المغربي من فصيلة النخيل — مراوح البساتين عندنا — نبتته لا تتجاوز القدمين علوًّا، يُصنَع من ألياف ورَقِهِ القيطان والحبالُ، وبجوار حقول الدوم وخلالها طنافس بيضاء بالأقاحي وأخرى حمراء بشقائق النعمان، وخطوط زمردية مطرزة بزهر الدفلى، وغيرها منشورة بين الأشواك من الخرنوب والبطم والملول، وأما الزيتون البري فقد شاهدنا الكثير من أشجاره الضخمة المتينة في أرض سيدي اليمني.

ورأينا فلاح المغرب، كفلاح اليمن، يحرث أرضه بمحراث صغير، على بقر عجاف، فيمشط الأرض تمشيطًا لا يبلغ الشغاف من قلبها البكر. وهذه الأكواخ الهرمية الشكل المبنية بالقش والطين، ذكَّرتني بمثلها في بلاد اليوكاتان بالمكسيك.

بعد أن نجتاز قرية سيدي اليمني نرى في هذه الديار القديمة شيئًا حديثًا ينساب في طرف السهل كالثعبان، وقد صعد من رأسه دخان كدخان الأتون، يتخلله الشرر الأحمر؛ نرى ذلك الشيء يجري، ولا نسمع له صوتًا، يجري كالثعبان الأسود تحت غيمة دكناء. هو القطار، قطار سكة الحديد الفرنسية الإسبانية بين طنجة وفاس، فيمر بأصيلة والقصر الكبير من هذه المنطقة.

وبعد سيدي اليمني يزدان الطريق على مسافة بضعة كيلومترات بشجر الكينا السامق السوي، فيخيم علينا إلى أن ندنو من العرائش.

وها هو ذا الأوقيانوس، بحر الظلمات، تفضض حواشيه الشمس وتذهِّب شاطئه، فتلطف تجهُّمه ولا تزيل من قلبه حقيقة الأساطير، وهي ذي قُبَيل أن نقطع الجسر إلى المدينة، خرائب شمِّيس، ثم النهر القديم الاسم والرسم نهر لوكوس، الذي يجري شمالًا من المنطقة الجنوبية، فيدخل هذه المنطقة ويتعرَّج عند المدينة إلى البحر، فيلتقي البحر والنهر ولا يتسعان في الميناء لغير المراكب الشراعية.

وها هنا بمدينة العرائش٤ وبجوارها مقر السحر القديم وجنات الأساطير الشعرية والمادية، ذلك السحر وتلك الأساطير لا تزال آثارها في سحرنا الجديد، وفي أساطيرنا الدينية والسياسية، ولا تزال نفسية الشعب القاطن هذه الديار كنفسية مَن تقدَّمَه من الشعوب المتحضرة وغير المتحضرة، من البربر صعودًا إلى الإغريق. الساحر والمسحور حديثهما كالقديم، ولا يختلف القديم والحديث منهما بغير الاسم والصورة والسبيل، أما بعد ذلك … فإياك نعبد، وإياك نستعين … وأنت السمع والبصر للعاشقين … وفيك السحر الحلال حتى للسياسيين!

•••

في هذا المغرب اليومَ ساحرٌ هو الجنرال فرنكو، وفيه المسحور وهو الشعب المغربي، وهاكم حروف السحر وتعاويذه وطلاسمه على جدران المساجد بالعرائش. أقف بك عند جامع الزاوية المصباحية، في آخِر جادة المعتمد بن عباد، فقد كان هذا الجامع صغيرًا حقيرًا، فأضحى بفضل الساحر كبيرًا كريمًا، الساحر الذي «أنفق في تجديده وتوسيعه من ماله الخاص، إعرابًا عن عطفه التام ومحبته الخالصة لإخوانه المسلمين»، كما هو مزبور في الأثر التذكاري على الجدار عند الباب.

وهذا مسجد القادرية «بُنِي في عهد الخليفة المعظم مولانا الحسن ابن مولانا المهدي ابن المولى إسماعيل، وعلى عهد حكومة الرئيس الإسباني الكبير الجنراليسمو فرنكو المنصور، كبرهان ساطع على إخلاص المحبة المتبادَلَة بين الأمتين المغربية والإسبانية، اللتين اتحدتا في ميدان الجهاد الشريف.»

وفي الأثر لمسجد محلة الفقراء زيادة في إيضاح الجهاد الشريف: «الجهاد الشريف لإعزاز الدين ومحاربة أعدائه.»

وفي أثر آخَر إفصاح فإيضاح لصداقة إسبانيا والمغرب «التي أنقذت العالم من استعباد الرجال الذين لا إله لهم».

إياك نعبد وإياك نستعين! نحن المغاربة والإسبان. أولئك القادريون الذين كانوا يعدون أواني الشاي لحفلة في المسجد تلك الليلة، فهم لا يجحدون النعمة، يدلونك على الأثر عند الباب، ولا يذكرون «مولاي الحسن» ولا «الجنراليسمو فرنكو»، بل يقولون: كله من فضل الله — عز وعلا — ثم من فضل مولانا عبد القادر قدَّسَ الله سره، وهم يقرءون المناقب مناقبه، ويذكرون ويرتلون: عبد القادر الجيلاني من إحسانك لا تنساني، ويشربون الأتاي المنعنع، ثم ينعسون٥ على فراش السحر، ويحلِّقون في سماء الأساطير.

وفي المعهد الديني بهذه المدينة، العرائش، المهد الحديث للسحر والأساطير. هو شبه دير للطلبة يقيمون فيه على نفقتهم بمساعدة من وزارة الأحباس، ويتلقَّنون مجانًا العلوم الدينية واللغوية في المسجد الأكبر؛ فقه الكلام وفقه العبادة والتوحيد وفقه اللغة، يقرءونها جميعًا على أساتذة تدفع الحكومة المخزنية رواتبهم، ولا يد للجنرال فرنكو في هذا السحر الإسلامي العربي، المدونة علومه في مختصر الخليل المصري وتحفة الغرناطي ورسالة ابن أبي زيد القيرواني. حتى في الصرف والنحو، لا يزال طلبة هذا المعهد يغبُّون من الأحواض القديمة الدكناء كابن مالك وابن هشام.

بَيْدَ أن في هذا المغرب سحرًا جديدًا هو ثمرة العلم والعمران؛ فقد كان الفقير في الماضي يرفع من كوخه صوتَ الضراعة إلى الله: بيتًا من لدنك يا رب، بيتًا مثل بيوت الناس. فجاءت حكومة الجنرال فرنكو تلبِّي باسم الله دعوة الفقير؛ فبنت بيوتًا في تطوان وفي العرائش، بيوتًا حديثة بهندستها ومرافقها، صحية جميلة، للمسلمين والمسيحيين. تقدِّم البيتَ الواحد للعائلة الواحدة بأجرة زهيدة في الشهر من العشر إلى العشرين بسيطة، وعندما يتم دفع ثمن البيت يُسجَّل لصاحبه.

إن في تطوان محلتين من هذه البيوت الجديدة، في كل محلة نحو مائتي بيت، في البيت الواحد أربع غرف ومطبخ وحمام. محلة للمسيحيين على هامش المدينة، ومحلة للمسلمين قرب الناحية الإسلامية منها، وفي العرائش شارع بخمسين بيتًا، خمسة وعشرين عربية الهندسة خارجًا وداخلًا للمغاربة، وخمسة وعشرين قبالها أوروبية الشكل للنصارى الإسبان.

وقد زادت الحكومة على ذاك حيًّا جديدًا خارج البلدة لمَن كانوا يعيشون هناك في أكواخ من «تنك»، كأكواخ الأرمن خارج مدينة بيروت. هناك في ساحة كبيرة بَنَتِ الحكومةُ الإسبانية الخليفية جامعًا ومدرسة، وسوقًا للبقول والثمار، ومغسلًا عامًّا، وحوضًا بصنابير لماء الشرب، وبيوتًا صغيرة بجدران من اللبن وسقوف من القش دفعًا لحرارة الشمس، ودارًا كبيرة لشيخ الحومة — المحلة — هي ذي إحدى مفخرات العرائش، ينطق بها أولئك الذين كانوا مقيمين بأكواخ التنك، وسيغدون بعد دفع خمس بسيطات شهريًّا لبضع سنوات، أصحابَ بيوت مثل بيوت الناس.

وإن في العرائش أيضًا، من فضل الحكومة الحامية، مختبرًا زراعيًّا ومشتلًا عامًّا يتولاهما مهندس إسباني وعمَّال من الأهالي يعاونون. ذلك المختبر قائم في وسط حرج من الصنوبر مساحته اثنا عشر كيلومترًا مربعًا، وحرج آخَر إلى جانبه من شجر الكينا.

figure
ساحة المحلة الجديدة، وفيها يظهر الجامع وحوض الماء والمدرسة.

لقد أبهجتني مشاتل الصنوبر المديدة، وفيها ما لا يقل عن المائتي ألف شتلة، يُنقَل منها إلى الجبال، ويأخذ منها الفلاحون والقبائل للغرس في أراضيهم، وهناك مشاتل من الأزدلخت والسنط والسرو والشربين والكينا، فضلًا عن أغراس الثمار على أنواعها. أما هذه فتباع، وأما تلك فتُعطَى مجانًا، إلا أن الإقبال عليها قليل؛ لأن فلاح المغرب لا يزال مقيَّدًا بقيود الجمود والجهل والكسل؛ فيجب على الأحزاب السياسية والمدارس والحكومة أن تهتم للأمر، يجب أن يُخصَّصَ يومٌ للشجرة في هذه المنطقة المغربية، وجمعية لأصدقائها.

وهناك من فضل ربك، ثم فضل الإسبان، مقر لعلم الطب والصحة سحره الحديث من غير الكتب التي يجدها المطبب المغربي في مغارة النبي دانيال. هناك المستشفى البلدي، بمعداته وأدواته الحديثة للفحص والعلاج والتطهير والجراحة، يتمتع بها المريض من أبناء البلاد مجانًا لوجه الله، ويعجب لأنوار سحرها التي تريه ما لا يرى في بدن الإنسان وفي الحشرات والجراثيم. هذا المستشفى هو صنو مستشفى تطوان، أطباؤه إسبانيون وممرضاته من راهبات البر والإحسان، مجانًا للجميع، إلا مَن استطاع أن يدفع شيئًا لقاء النعمة، فيُقبَل منه تخفيفًا للنفقات التي تقوم بها الحكومة.

أقف ها هنا لأُعلِم القارئ بأساليب هذا الرحَّالة طالب العلم؛ فقد كان سبيلي إلى أولي الأمر من الحكومتين المخزنية والإسبانية اثنان، أو ضابِطَا ارتباط، إن شئت الأبهة في التسمية، هما السنيور طوباو بيني وبين الخليفة، والسنيور أراغون بيني وبين المفوض السامي، ينبوعَا الأخبار الرسمية. أضِفْ إليهما الأديب البستاني ألفريد ومعاونًا له من الحكومة المحلية، دليلي في جولاتي الاستكشافية، وكثيرًا ما كان البستاني وحده صلة التعارف الطيبة بيني وبين زعماء البلاد ووجهائها، فتتم الآراءُ الوطنية الأخبارَ الرسمية وتصحِّحها في بعض الأحايين، وهناك صلة أخرى قد تكون أهم الصلات، هي الصلة بيني وبين الشعب المغربي، هي الريحاني نفسه السارح لأمره بخيرة الله، خير الأدلاء، مستزيدًا في الاكتشاف والتحقيق.

•••

العرائش مثل تطوان بلدتان قديمة وجديدة، وقد أُسِّسَتِ الجديدة خارج بوابة البلدة القديمة على قواعد البناء الحديثة في الهندسة والتخطيط؛ فهي في ساحتها وفسيح جاداتها إسبانية مثل غيرها، إسبانية جميلة، وهي في هندسة بيوتها وزخرفها الخارجي إسبانية عربية، وهي في ساحتها الكبرى، بنخيلها وأزاهيرها ومجالسها المدهونة باللونين الأحمر والأزرق، وفي «كرنيشها» على البحر بمقاهيه المدعاة للكيف «والنعس»، هي في هذه الصورة الفاتنة إسبانية استوائية، استوائية بدفء الخط الاستوائي لا بحرِّه، وبنسيم ليله لا بسموم نهاره.

بعد أن شاهدت ما تقدَّمَ ذِكْره ووصفه في هذا الفصل، خرجت صباح اليوم التالي وحدي أطوف بهذه المدينة الجديدة، ثم عرجت على العرائش القديمة، فدخلت البوابة الجليلة التي دخلها فاتحًا السلطان إسماعيل الكبير، الكبير بفتوحاته ومحظياته، فقال فيه الأديب المراكشي كنْسُس شعرًا شبه عربي — ولا عجب والاسم شبه كردي أو بربري:

في فتح العرائش قد تبدَّى
لقدركم على الشعرى الظهور
وأضحى الناس كلهم نشاوى
على طرب وما شربوا الخمور

والعرائش أول مدينة دخلتها الجنود الإسبانية سلمًا بقيادة الجنرال سلفستر، بعد الاتفاق الفرنسي الإسباني سنة ١٩١٢، نزل الجنرال سلفستر ورجاله ليلًا في القوارب من المدرعة الإسبانية باتفاق والشريف الريسوني الذي كان يومئذٍ في احتراب وإسبانيا، تتخلله الهدنات والمناورات، كما سنذكر مفصلًا فيما بعدُ.

إن السوق الكبيرة، بدكاكينها وأروقتها وقناطرها لأوسع ما شاهدت في هذه المنطقة، وهي تنعم في معاملاتها ببركتين: المعهد الديني في أحد طرفيها، والجامع في الطرف الآخَر، وهناك في حر الصيف البركة الكبرى، هناك إلى جانب الجامع مفيأة جميلة، هي كمسرح التمثيل، مقصورة بثلاثة جدران، مجالسها مثل جدرانها وأرضها، مصفحة بالبلاط الزليجي الزاهي الألوان، فمجرد صورتها تنعش الزائرين.

وهذه وراءها أسكفة المدينة القديمة والباب المفتوح إلى الجادات والزنقات، ببيوتها التي لا يُرَى منها غير الحائط الواحد والباب فيه. ما أشد فضول الغريب في هذه الزنقات، وهو يحاول التصور لما وراء الأبواب الموصدة من أسرار الحياة، ويقف كاللص عند باب مفتوح على شقه يسترق اللحظ إلى ما وراءه، فلا يرى غير مدخل ضيق ينتهي إلى باب آخَر موصد. هي الحياة المغربية، وقُلِ الشرقية العربية، بحجبها المتنوعة.

ولكن في الجادات عند زواياها شيئًا جديدًا، فريدًا في بابه. في الجادات التاريخ المكشوف لمَن شاء التعلُّم ماشيًا؛ التاريخ، تاريخ مشاهير العرب، خذه من جادات العرائش.

هذه جادات المعتمد بن عباد، وخبر نكبته ووفاته بأغمات مع التاريخ مسطور على اللوحة تحت اسمه.

وهذا شارع ابن سينا، وهو الحكيم الإسلامي المشهور أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، المولود عام ٣٧٠ﻫ/٩٨٠م والمتوفى عام ٤٢٧ هجرية/١٠٣٧ ميلادية، ثم ترجمة ذلك كله باللغة الإسبانية.

وهذه ساحة مولاي المهدي، وقد كتب على اللوحة: مولاي المهدي ابن مولاي إسماعيل ابن المولى محمد أول خليفة بمنطقة حماية إسبانيا بالمغرب، من عام ١٣٣١ إلى عام ١٣٤٢ / ٢ أبريل ١٩١٣ إلى ٢٥ أكتوبر ١٩٢٣ تليه الترجمة الإسبانية.

وهذا القصر الجديد المغربي الشكل القائم في ساحة الجندي المجهول، فوق بقية من السور القديم، وهو — أي السور — من عهد الأشراف السعديين، وعلى الجدار عند الباب أثر تذكاري يقول: في هذه الساحة وفي هذه البنية، كانت ثكنة الشرطة الشريفية فرقة رقم ٦، ثم صارت للشرطة الأهلية، وبعد ذلك للمراقبات الحربية … أولئك الذوات الذين كانوا أفضل ماهر أسَّس أخوَّة المغرب وإسبانيا تأسيسًا راقيًا، في ظل الخليفة مولاي الحسن والجنراليسمو فرنكو المظفر صفي المسلمين، ١٣٢٥–١٣٥٧ / ١٩٠٧–١٩٣٨.

هي طريقة مبتكرة في تعليم التاريخ؛ تعلَّمْه وأنت ماشٍ في أسواق المدينة، حبذا اقتباسها في مدن شرقنا العربي.

وبجوار تلك البنية ساحة مغربية بحديقة، ومَفْيَأة شبيهة بالتي تقدَّمَ ذكرها. حول الساحة مجالس بُنِيَتْ بالأسمنت وفُرِشت بالبلاط الزليجي الملون، وبوسطها ست مخمَّسات، في كل مخمَّسة شجرة من الليمون، حول مثمَّنة كبيرة غُرِست فيها أشجار السرو. لقد كان هذا المكان من البقع الجميلة في المدينة، وهو اليوم بأجمعه يندب سوء حاله؛ فالمجالس متداعية، والأطواب مكسرة، والأشجار مريضة مائتة، والمَفْيَأة في أسمال مرقعة بعد أن كانت في ثوب العيد. كل شيء في الساحة يتهم المغاربة بالكسل والمجلس البلدي بالإهمال. ها هنا قناعة بما هو كائن، ونسيان لما كان، ولا فكر ولا أمل ولا عمل لما يجب أن يكون. قد لا يكون السببَ كله في هذه الساحة المنكوبة كسلُ الأهالي وعدم اكتراثهم؛ فالمجلس البلدي مؤلَّف من مغاربة وإسبان، وهذه الساحة مثل الساحة الكبرى في المدينة الجديدة، في ذمة المجلس.

بعد تطوافي بالعرائش القديمة مستعينًا مرةً بصبي من صبيان السوق دلَّنِي على المدرسة التي يقرأ فيها القرآن — وهي مثل كل المدارس القرآنية التي شاهدتها بالمغرب — حظيرة أطهار يلوكون كلمة الله ولحية طويلة مطوية على صدر صاحبها الناعس! بعد هذا المشهد عدت إلى الساحة العامة فالتقيت هناك بباشا العرائش خالد بن أحمد الريسوني، الذي أضافنا يوم وصولنا، فسُرَّ جدًّا أني كنتُ أطوف بالمدينة وحدي، وسألني هل زرت المدرسة الأهلية للبنات؟ ومعمل الزرابي؟ وبيت الجمعية الخيرية الإسلامية؟ فكان جوابي ثلاث لاءات، فقال: وهل ترغبون في زيارتها فأرافقكم؟ هيا بنا.

مشينا إلى معمل الزرابي، فدخلنا بيتًا فيه نولان كبيران طول الواحد ثلاثة أمتار، يشتغل عليه عشرون بنتًا متقابلات، عشر من كل جهة، فتلتقط الواحدة منهن خيط اللحمة وتعيده من بين خيوط السدى إلى البنت أمامها فتحكم القطبة، ثم تقطعها بالسكين وتمسدها بفرشاة مغموسة بالماء، ثم ترسل الخيط الآخَر خلال السدى فيعاد إليها محبوكًا لتفعل به ما فعلت بالسابق، وكذلك دواليك إلى أن يتم الزربي. النسيج متراخٍ، والعمل بطيء؛ فالعشرون عاملة يعملن شهرًا ونصف شهر في زربي مساحته أربعة أمتار في خمسة أو أقل.

وهناك على الأرض عشر بُنَيَّات، تتراوح سنهن بين الرابعة والعاشرة، ينفشن الصوف ويفتلنه فتلًا متراخيًا، خيوطًا للنسيج.

قلتُ للباشا خالد مشيرًا إلى أولئك الصغيرات: أَلَا يجب أن يَكُنَّ في المدرسة بدل هذا المعمل؟ فقال يجيب عن سؤالي ولا يجيب: سنزور مدرسة البنات.

وكانت المدرسة الأهلية للصبيان في طريقنا، وهي التي أكثر من ذكرها، وبشيء من الفخر؛ لأن الأهالي يقومون بنفقاتها. هي بين الابتدائية والثانوية، يعلم فيها شبان مغاربة.

كان الصف يدرس ساعة وصولنا فصلًا في الصرف، فأَطْلَعني المعلم على كتاب التعليم، وهو من الكتب الحديثة المطبوعة بمصر، ثم أشار إلى جملة تمثِّل القاعدة أَبْدَلَ كلمة فيها لتناسب المكان، فقال: بدل نهر النيل في العبارة نقول البحر الأطلنتيق.

وفي هذه المدرسة شاهدت للمرة العاشرة أو العشرين «زريبة» القرآن، وقد امتلأت أرضها بالصبيان، من الرابعة إلى العاشرة، وهم يقرءون الأمثولة من ألواح بأيديهم، يقرءون بأصوات عالية مجفلة، كما كان الصبيان بلبنان يقرءون مزامير داود تحت سنديانة الكنيسة، يكرون ويفرون، يخبون ويرملون. ليت شعري كيف يستطيع الشيخ المدرِّس — المدرر باصطلاح المغرب — إصلاح أغلاط تلاميذه؟ والعجيب أن كل «المدررين» أو أكثرهم من ذوي اللحى الطويلة؛ قلت: إن هذا لعجيب. ولا عجب مع سبب، فالسبب في ذلك، دام حسن ظنك، أن الشيخ جاز حد سوء الظن فأمسى وصبيانه واحدًا في الطهارة!

مدرسة البنات هي أتقن تنظيمًا وأنظف وأكبر من غيرها، استقبلتنا فيها سافرة السيدة المغربية التي تعلِّم البنات القرآن على الطريقة الصبيانية، ثم سيدة أخرى تعلِّم القراءة والكتابة، وهناك غيرهما يعلِّمْنَ الصرف والنحو والجغرافية والحساب. استقبلننا باسمات دون أن يُظهِرن شيئًا من الدهشة لمفاجأتنا بالزيارة.

وفي المدرسة معلمات إسبانيات يعلِّمْنَ اللغة الإسبانية والخياطة والتطريز. عرضت المديرة أمثلة من أعمال التلميذات، وهي تقول مثلًا: هذا صنع فتاة عمرها خمس سنوات، وهذا خط بنت عمرها عشر سنين، وهي في ذلك تثني على التلميذات والمعلمات معًا.

ثم زرنا المعهد الخيري الإسلامي للعجزة والمحاويج من رجال ونساء، وللمتشردين واللقطاء من الصبيان والبنات. فيه مسجد صغير وغرف صغيرة مظلمة للنوم. النساء ينمن على فرش ممدودة على الأرض، والرجال على أَسِرَّة في غُرَف أخرى.

ومن أعمال هذه الجمعية التي تأسَّسَتْ سنة ١٩٣١ أن تمنع التسوُّل، وتأوي العاجزين عن العمل، وتساعد العاطلين منه، وتعلم البنات اليتامى، ثم تزوِّج مَن أمكن تزويجهن.

كان العرب قديمًا يكثرون العناية بمثل هؤلاء المحاويج والمتشردين، وقد كانت معاهدهم الخيرية متعددة متنوعة؛ ذكر ابن بطوطة بضعة عشر معهدًا في دمشق، منها معهد لبنات الفقراء فيعتني بتعليمهن وزواجهن، بعد تجهيزهن، كل ذلك مجانًا لوجه الله، وقد كانت تلك المعاهد منظمة خير تنظيم، وعلى جانب يُذكَر من أسباب الصحة والراحة والرفاه لساكنيها، والمنتفعين بها.

قلت ذلك لرفيقي فقال: هذا صحيح، وإننا باذلون الجهد لنبلغ الغاية في التنظيم والإتقان، وفي تعميم أسباب الراحة والنظافة والصحة. كل هذه الإنشاءات جديدة، ولا تزال في أولها تقوم بما يبذله الأهالي من مساعدة، ولا يخفى عليكم ما في شعبنا من الجهل، فنحتاج في الدرجة الأولى إلى التعليم. لا إصلاح يتم ويدوم بدون المدارس …

وحدَّثني أحد أدباء العرائش قال: كان الصبي خالد الريسوني — باشا العرائش اليوم — يكره العلم والتعليم والكتب والمدارس والمعلمين، فقيَّدَه والده يومًا بالحديد ليدرس أمثولته. هذا الرجل هو اليوم من أكبر دعاة التعليم في المنطقة.

جاء هذا الأديب يدعوني للاجتماع في أحد مقاهي البحر ببعض إخوانه الوطنيين المثقفين، النازعين إلى التجديد والتحرُّر. قبلت الدعوة فَرِحًا، فرحَّبَ بي شابان اثنان؛ الواحد ببرنس أبيض أنيق، والثاني معلم درس في الأزهر، وتشرَّبَ من محيط القاهرة الجديد أكثر من محيط ذلك المعهد القديم، فعاد إلى المغرب وهو يريد أن يفكَّه من قيوده الأجنبية، وقيود التقاليد والعادات القديمة العقيمة، ولا يرى إلى ذلك سبيلًا محققًا للآمال غير سبيل العلم — المدارس.

جلسنا في ذلك المقهى أمام الأوقيانوس الصخاب الأمواج، حول مائدة صُفَّتْ عليها فناجين الشاي، وكان الحديث في السياسة والأحزاب السياسية، فقال الأزهري الشيخ عبد القادر: لا خير في السياسة لبلاد مثل بلاد المغرب اليوم، أما الأحزاب السياسية فقد يكون بعض الخير في حزب واحد منها، ولكن تعدُّد الأحزاب بلية وطنية لمغربنا الحاضر.

فقال الأديب صاحب الدعوة: نريد أن تطَّلِع على حقائق الأمور، يا أستاذ. فلا تُخدَع بما ترى وتسمع، ولا تُخطِئ في أحكامك. قد يكون فخامة المقيم لغرض ما مشجِّعًا للأحزاب فتعدَّد وتتطاحن. نحن لا ننكر أنه محب للمغرب وأهله، ويريد لنا الخير، ولكنه لا يُوفَّق دائمًا في الوسائل التي يتخذها لخدمة البلاد. خُذْ مثلًا قضية الأحباس؛ لقد رفع المقيم المراقبة عن الأحباس، وامتَنَّ عليها بهذا الاستقلال، فرددت الجرائد والأحزاب كلمات الشكر والعرفان، ولكن ماذا فعل المقيم؟ بعد أن أطلق الأحباس من قيود المراقبة الإسبانية، عيَّنَ لها مديرًا لا يُحسِن إدارتها، وسيسوء حالها في عهد الاستقلال إذا كانت لا تحظى بمَن هو أهل لتولي شئونها. أحباس العرائش وحدها طائلة، يكفي ريعها لأعمال خيرية وإنشائية كبيرة.

figure
بنات مغربيات يتعلمن الحياكة.

فقال أبو البرنس … التازي: الحق مع الأخ مصطفى يا أستاذ. كثيرًا ما يخطئ العميد في انتخاب الرجال لخدمة البلاد؛ فإما أنه حسن النية فيؤخذ بالظاهر، أو بأسباب التدخل والتوصية، فيسيء إلى البلاد من حيث لا يدري، وإما أنه سيئ النية فيعيِّن لنا مَن هم غير أهل للإدارة، لا في العلم والاختبار ولا في الأخلاق، ليستطيع أن يقول، ويقدم الشواهد على قوله: إننا غير أهل لنتولى أحكام بلادنا. ولا تخلو البلاد من أصحاب الكفاية علمًا وأخلاقًا، ولكن التوسُّط والتوصيات — وخصوصًا ما يجيء منها من القصر الخليفي — يفسد على المقيم أعماله. أنا أعتقد أنه سليم النية يريد الخير للبلاد.

فقال الأزهري: ولا يفوتك، يا أخي، أن عندنا جماعة من الأقدمين يرغبون في إبقاء القديم على قِدَمه، ويتهافتون على الخليفة، ويتجاذبون نفوذه، فيزيدون في البلبلة والإفساد. لا أقول إنه يزمِّر دائمًا للذين يطبِّلون له لأغراض شخصية، ولكنه يضطر أن يجامِل ويداري وفقًا للأحوال حينًا، وحينًا لأن الأقامية تريد، وليس نفوذه لديها كما ينبغي أن يكون.

– وهل تفضل الصور في الوزارات على الرجال؟ سؤال سأله التازي. هل يجب أن يكون الوزراء دائمًا من ذوي اللحى الطويلة؟ لماذا لا يختار المقيم شابًّا لرياسة الوزارة؟ وشبَّانًا لوزاراته؟ أيخشى التطرُّف منهم؟ إن المراقبة كلها بيده، فإن اختار شابًّا للوزارة فهو يستطيع أن يراقب أعماله كما يراقب اليوم أعمال الشيوخ العُجُز، ويحول دون التطرُّف الذي لا تستقيم فيه مصالح المغرب، ولا مصالح إسبانيا. ليس في المغرب اليوم مَن لا يحب الإسبان ويخلص لهم؛ فالموظف ذو الكفاية هو خير لهم ولنا، والموظف العاجز والمفسد يضر بمصالح الجميع: المغاربة والإسبان.

انتقلنا من السياسة إلى الاقتصاديات، فقيل لي: إن الشركات الأهلية قليلة في البلاد، والحق في ذلك ليس على الإسبان وحدهم بل على المغاربة أيضًا.

في المنطقة شركة نقل واحدة هي إسبانية، وأكثر أسهمها بيد الرهبنات واليهود، لقد عُرِضت الأسهمُ على أهل البلاد فلم يُقبِلوا عليها لجهلهم قيمة الشركات الاقتصادية، ولعدم ثقتهم بها.

فقال الشيخ الأزهري: شعبنا في حاجة إلى التشجيع، وفي حاجة إلى المساعدة الفنية النزيهة، وأما أن الشركات الأهلية لا تنجح فلذلك أسباب وأسرار. في تطوان شركة كهرباء أهلية، غير الشركة الكبرى الإسبانية، عمَّالها الفنيون من الإسبان، اشترت هذه الشركة من الأدوات فوق حاجتها وطاقتها، فساعدتها الحكومة بمليون ونصف مليون بسيطة لدفع ديونها، وخسرت الشركة في السنة الأولى، فساعدتها الحكومة لسد العجز في ميزانيتها. فإذا كان الخلل الإداري من أعضاء الشركة الوطنيين، فالخلل الفني من الموظفين الفنيين الإسبان. عكس ذلك شركة الماء بتطوان، أو بالحري إدارتها التي بيد المجلس البلدي، فليس مَن يشكو هذه الإدارة — هي على غاية ما يرام.

التازي : الحق يقال، إن الحكومة لا تُلَام بقدر ما يُلَام الأهالي. تريد الحكومة أن تُشرِك الأهالي في المشاريع الاقتصادية، وهي تشجِّعهم على ذلك وهم يتردَّدون. الحق علينا لا على الحكومة الخليفية أو الإسبانية، في خلو المشاريع من أموالنا ومساهمتنا.
سألت سؤالًا عن حالة العمَّال في المنطقة، فعلمت أنها كانت في عهد الجمهوريين سيئة جدًّا؛ كانت أجرة العامل المغربي ثلاث بسيطات أو أقل أو أكثر قليلًا، وأجرة العامل الإسباني ثماني بسيطات، هذا عدا الإهانات التي كان يقاسيها المغربي من الإسبان العمَّال وغير العمَّال، أما اليوم فقد زادت أجرته، ولا احتقار ولا إهانة، إنما هناك مجال للتحسين … الاحتكار؟ لا احتكار البتة في المنطقة، والفضل في ذلك للحكومة الحامية.
الأزهري : لا نكران يجوز — ولا إطلاق. ضرورات العيش مضبوطة الإرادة والتسعير، فتُعطَى بالمقادير والأسعار المعينة، وخصوصًا منها الزيت؛ لأنه قلَّ في سنوات الحرب، والسكر والشاي والبن؛ لأنها تُجلَب من الخارج. أما الحنطة فهي موفورة، ولا قيد ولا تحديد في بيعها. إلا أن المراقبة شديدة والأوامر تُنفَّذ، فلا سبيل للاحتكار أو التلاعب بالأسعار. هذه من حسنات الحكومة الحامية، وقد ذكرنا لك بعض سيئاتها، وأهمها في الاقتصاديات ما قد تكون جاهله، أهمها جمرك واد مرتين، هل زرت واد مرتين؟ وهل رأيت المكان الذي كان جمرك هذه المنطقة؟ هناك عند مصب النهر وإلى شاطئ البحر كان للبلد ميناء عامر في الماضي، هو ميناء تطوان، وكان فيه جمرك دَخْلُه بأجمعه لخزينة المنطقة، ويشتغل فيه ويرتزق منه من العمَّال وأصحاب المراكب الشراعية أكثر من ألفين من المغاربة. فكانت السفن الحاملة البضائع إلى تطوان ترسو في البحر قرب مصب النهر، فتنقل أحمالها بالمراكب الشراعية إلى الجمرك؛ هذا الجمرك ألغته الحكومة الحامية في بداية عهد الجمهوريين، أو بالحري نقلته إلى سبتة، فصارت البواخر الحاملة البضائع إلى تطوان ترسو في ميناء سبتة تدخل جمركها، فتدفع الرسوم الجمركية هناك، فتدخل بأجمعها خزينة المدينة المستقلة، ثم تدفع تلك البضائع رسمًا جمركيًّا آخَر — ١٢ ونصف بالمائة — للحكومة المخزنية عند حدود المنطقة بكستياخو. لا يخفى ما في ذلك من الخسارة للمنطقة وأهلها، فعندما كان جمركها بواد مرتين كان ألفان من العمَّال المغاربة يرتزقون منه، وكان دخله بأجمعه للخزينة المغربية. إننا حقًّا لَمظلومون! ظلَمَنا الجمهوريون الذين ألغوا ذلك الجمرك، وعطَّلوا ذلك الميناء، فهل تُنصِفنا الحكومة الوطنية الإسبانية، فتُعِيد إلى واد مرتين جمركها، وتحيي ميناءها؟ الأمل بالله، وبها وبما عندنا نحن من همة.
١  وفي أسطورة أخرى أن أربيس، إحدى بنات الدجى، دُعِيت مرةً لحفلة عرس، فألقت تفاحة ذهبية بين المدعوات لتأخذها أجملهن، ملكة الجمال، فكادت تحدث فتنة، فسُمِّيَتْ «تفاحة الشقاق»، وقد ادعتها ثلاث من اللواتي حضرن ذلك العرس، هنَّ أفروديت وهيرا وأثينا، فمنحها الحكم بريس الربة الكبرى أفروديت.
٢  لوكوس شبيه اسم نهر الكلب بلبنان، اسمه اليوناني القديم Lykos أي الذئب، فمسخته التقاليد كلبًا، وللاثنين في الأقاصيص مصدر واحد يوناني؛ فالكلب حارس الممر عند النهر، كان ينبح كلما رأى العدو قادمًا إليه، والذئب عند أهل المغرب الأقدمين هو التنين الحارس لشجرة التفاح الذهبية في بستان بنات اﻟ «هسبيريد»، والمدهش المدهش إنما هو في لساننا العربي المثبت الصلة الخرافية بين الذئب والتنين؛ فقد جاء في مادة تن بعد تنين والتينان أي الذئب.
٣  قائد القبيلة مثل باشا المدينة، كلاهما يحافظ على الأمن، وينفِّذ أوامر الحكومتين الأهلية والحامية، ويجبي الضرائب، ويقضي كما تقدَّمَ في الدعاوى التي يقضي فيها قضاة الصلح عندنا. فهو من هذا القبيل موظف لحكومتين، حكومة المخزن وحكومة الحماية.
٤  تكتب بالإسبانية Arache، وهي على مائة وثلاثة كيلومترات من تطوان غربًا بجنوب، وعدد سكانها ثلاثون ألفًا.
٥  نعس في اصطلاح المغاربة ونام لهما عكس معناهما المعروف عندنا، فهم ينامون ثم ينعسون، ونحن ننعس ثم ننام كما يشاء الله والقاموس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤