الفصل الثامن

الشريف أحمد الريسوني١

عندما جلس السلطان الولد عبد العزيز على عرش أجداده، بعد وفاة والده السطان الحسن في سنة ١٨٩٤، أدخل الله الرحمة على قلبه أو على قلب بعض الصالحين في بلاطه، فصدر الأمر السلطاني بالعفو عن سجين في الصويرة هو الشريف أحمد الريسوني.

كان للشريف أحمد يومئذٍ نحو أربعين عامًا من هذه الحياة الدنيا، قضى ثلاثة منها في ذلك السجن مكبَّلًا بالحديد، جزاء ما تقدَّم من ذنوبه في طرق المغرب وجباله، بعد أن كان يقطع الطرق على الطريقة البدوية الشريفة: اللهم لنا وللمحتاجين!

أما الدافع به من ركن داره إلى الطرق السلطانية يقطعها على رعايا السلطان، فهو أنه في تلك الأيام من شبابه المتأخر جاءته امرأة تشكو رجالًا سرقوا بيتها وقتلوا زوجها وولدها؛ فجاشت في صدره الحمية، فدعا بعض صحبه الشبان للجهاد في سبيل تلك المرأة المنكوبة بنكبات ثلاث، فلبوا الدعوة مهللين مكبِّرين، ثم أركبوا المنكوبة فرسًا، واندفعوا وإياها يبحثون عن اللصوص، فأدركوهم في إحدى الأودية وقتلوهم جميعًا. أما الغنيمة، فقد أعطوا المرأة ما سُرِق من بيتها، وأخذوا هم بغال اللصوص وسلاحهم.

ولكن المرأة لم تكتفِ بأن يُرَدَّ إليها المسروق، بل دنت من جثة الرجل قاتل زوجها، فقطعت رأسه بيدها ونبذته قصيًّا لتفصل روحه عن جسده، فيكون ناقصًا يوم القيامة!

قال الشريف أحمد: تلك المرأة علَّمتني أن الخير ليس في الكتب، بل فيما يقوله بني مصوَّر، قبيلة أمي، وهو أن المصوَّري يُولَد في السرج والبندقية بيده.

حصان وبندقية، والسلام على سلطان الرعية!

والأمان والخير للمظلومين والفقراء، فقد كان الشريف أحمد أعرابيًّا قحًّا، يطيب له الأخذ والإعطاء، نهَّابًا وهَّابًا، موزِّعًا لخير الله وعدله، يدافع عن المظلومين، ويساعد الفقراء، ويظلم سواهم في سبيله تعالى؛ فتطوَّرت مهنته، وصار يشن الغارات على القرى، فينهب الأموال، ويؤدِّب الرجال، ويفرض مشيئته، ويوزِّع خيره على الناس.

فقال الناس: ما هذا بقاطع طرق، هذا قائد رجال، فارس فرسان. وردَّدَتْها القبائل، فانضم تحت لوائه كثيرون من بني عروس قبيلته وبني مصور قبيلة أمه، ومن أنجَرَا وغيرها؛ فصار رئيس العصابة قائد جيش يشتهي الحرب.

وكانت أخبار الريسوني تصل إلى فاس فتزعج السلطان في قصره، فصبر وتحقق، ثم أرسل عليه فرقة من الجيش؛ فحاربها وبدَّدَ شملها.

قال الشريف: كانت عساكر مولاي الحسن تتردَّد في محاربتنا، وتنذرنا فنفر هاربين، وكان بعضهم وهم فقراء جياع، يبيعوننا السلاح والذخيرة «ذيالهم».

وعندما تقع الوقعة والتذبيح، كان الريسوني ورجاله يلبسون أثواب مَن يقتلون منهم — كما كان يفعل البدو في الأحساء بالأتراك، قبل أن أخرجهم منها ابن سعود — ويدخلون القرى فينهبونها باسم الحكومة المخزنية.

حصان وبندقية، والسلام على سلطان الرعية.

ضجَّتِ البلاد من هذه الصولات والغزوات، وعجزت عساكر المخزن عن القبض على الريسوني، فعمد السلطان إلى الأسلوب الناعم يأمر به معتمده بطنجة، فأغرى المعتمد الريسوني بالوعود، فجاء طنجة آمنًا مطمئنًا، ونزل في دار الاعتماد ضيفًا كريمًا، ثم أُرسِلَ مكبَّلًا بالحديد إلى صوَيْرة، حيث ذبحت الثلاث السنوات من حياته، وذاق هو الشديد الشديد من العذاب. «ظل الحديد على رجليَّ ويديَّ وعلى عنقي والله ثلاث سنوات.»

فلا عجب إذا دخلت التوبة قلبه بعد أن خرج من ذلك السجن، ولا عجب إذا صار التقي التائب فقيهًا يعلِّم القرآن، إنما العجب لقداسة تفسدها السياسة، أو لسياسة تفتح القداسة أبوابها!

كانت شئون المغرب يومئذٍ في اضطراب داخلي وخارجي؛ فالفرنسيون والمنافسون لهم يستغوون السلطان الشاب بالهدايا، والقبائل في الجبال تلبي دعوة ثائر باسم الدين يُدعَى «بو حمارة»؛٢ فهاج هائج الريسوني وفي قلبه شعلة من الحب لبلاده، أيضلِّل الأجانب السلطان الولد ويخادعونه ابتغاء السيطرة على بلاده؟ أيثور عليه شريف كاذب باسم الدين، والريسوني المنحدر من السلالة النبوية ساكت قابع في بيته؟ إنها لمن المخجلات! إنها لمن المنكرات!

دعا الريسوني رجاله، وشرع يؤلِّف جيشًا من القبائل؛ ليقوم بثورة عامة على الحكومة المخزنية، فيستأصل شأفة «الولي» الكاذب «بو حمارة»، ويوقف الأجانب في طغيانهم، وما عتم أن باشَرَ العمل، بل عاد إلى سالف سيرته.

خرج على السلطان دون أن يقلع عن قطع الطرق، وتفنَّنَ في جولاته وصولاته، فصار يخطف الرجال ذوي الوجاهة واليسر، ويحفظهم رهائن إلى أن يدفع أهلهم الفدية المعينة من المال.

وكانت مطامحه تكبر، وجسارته في تحقيقها تزداد يومًا فيومًا، حتى إنها شملت طنجة، وكر السياسة الدولية، ودهاقينها القناصل. فقال يخاطب نفسه: ها هنا الفدية الكبرى، وها هنا البوق بل الأبواق تذيع اسمك في أوروبا وأميركا فتلفت إليك وإلى قضيتك الدول كلها.

وقرَّرَ الريسوني أن يخطف قنصلًا من القناصل، وأن يخص بهذا الشرف قنصل الولايات الأميركية المتحدة إيون برديكاريس.٣

كان للريسوني في خطف القنصل الأمريكي وعائلته ثلاثة أغراض: أولها الفدية، وثانيها الأمل بتدخُّل الحكومة الأمريكية النزيهة في شئون المغرب فتدفع عنه تعدِّي الدول الأوروبية، وثالثها الدعاية للقضية الوطنية وحامل لوائها الشريف الريسوني.

ومَن هو هذا الريسوني؟ تساءلت الصحف والوزارات يوم حمَلَ البرق إلى عواصم العالم اسمه واسم القنصل المخطوف، فجاءت الأجوبة تترى: هو لص من اللصوص … هو بطل من الأبطال … هو رئيس عصابة تقطع الطرق … هو زعيم نهضة وطنية … هو خارج على سلطان المغرب … هو ثائر على النصارى في البلاد المغربية.

•••

أحمد بن محمد بن عبد الله الريسوني الحسني العلمي — نسبةً إلى جبل العلم — هو من قبيلة بني عروس، ومن سلالة كبير أولياء المغرب عبد السلام الشريف، الذي يمتُّ إلى الحسن بن علي بن أبي طالب.

وُلِدَ الشريف أحمد في قرية زيْنَة تحت سقف من القش بكوخ مسيج بالصبير، في يوم مجهول وعام لا يُعرَف بالتحقيق؛ فقد يكون ١٢٧٠ﻫ أو العام الذي قبله أو بعده، سُئِل مرةً عن عمره فقال: العرب لا يعدون السنين. ثم وجَّهَ السؤال إلى خادمه: كم عمرك يا مبارك؟ فأجاب مبارك قائلًا: قدر ما يريد سيدي. عشر سنين، عشرين سنة، ثلاثين. والله لا أدري!

مما لا ريب فيه أن الريسوني، يوم خرج من السجن بالصويرة، كان قد جاوَزَ الأربعين، ويوم خطَفَ القنصل الأمريكي كان قد دخل في العقد الخامس من عمره، فلم تكن أعماله من نزق الشباب أو عنجهية البدو، ومما لا ريب فيه كذلك أنه من الأشراف، وأن مناقب الشريف في شخصيته وسجاياه.

وُلِد الريسوني زعيمًا ووُلِد فارسًا. اذكر ما يقوله بنو مصور قبيلة أمه، ولكن السرج والبندقية بعد أن كانا للغزو، أصبحَا للوطن، وأهل البوادي بعد أن كانوا لأنفسهم، أصبحوا للريسوني.

وقد كان للشريف من غير البوادي، ومن غير المال الذي جمعه بالطرق التي يبرِّرها «السرج والبندقية»، ومن غير الشخصية الفذَّة شخصيته، قد كان له قوة رابعة هي في الزعامة السياسية الدينية حليفته الأولى. قلت إنه من السلالة النبوية، فإن كان هناك ما يشوب النسب الشريف، قولًا أو عملًا أو تاريخًا، فليس هناك ما يشوب إيمان صاحبه، وبعد إيمانه بالله ورسوله كان الشريف أحمد مؤمنًا بما يُسمَّى في المغرب البركة.

البركة في بيت الشريف هي من الخوارق التي يأذن بها الله، بل هي القوة الإلهية التي تدفع عنه الشر والأذى، وتحمل الناس على طاعته، فيتقاتلون مستبسلين في سبيله.

كان الشريف أحمد يقول: إذا قلتُ لرجل اذهب إلى مكة أو إلى مصر، فهو يلبس برنسه حالًا دون أن يسأل سؤالًا ويذهب باسم الله … أذكر أن والدي غضب يومًا على أحد عبيده، فأمره أن يذهب، ويقول لإخوانه العبيد إن الشريف يأمرهم بضربه بالسياط. التقيت بالعبد خارجًا من البيت، فسألته: إلى أين أنت ذاهب؟ فأجاب: لأُضرَب بالسياط. فقلت: وما ذنبك؟ فقال: لا أدري، الشريف يدري.

ويوم خلع ضرسًا من أضراسه ورماه، تهافَتَ عليه عبيده وكسروه، فأخذ كل منهم قطعة منه بركة يتبرَّكون بها.

وقد تظهر البركة في عمل من أعمال صاحبها أو في مجرد إرادته. مرَّ الشريف أحمد برجل متسلِّق تحت زيتونة فلم يسلِّم، فسأله الشريف: لماذا لم تسلِّم؟ فأجاب الرجل: الشمس بعيني فما رأيت سيدي؟ فقال الشريف: أنت لا تستعمل نظرك فلا حاجة لك به. حلَّت البركة في الإرادة الشريفية، ونفذت الإرادة في الرجل، ففقَدَ نظره.

بمثل هذه الخوارق كانت تتعزز شخصيته، وتستقيم أغراضه، فتنقاد إليه القبائل وتستبسل في سبيله، وهو في نظرها وإيمانها سبيل الله والمغرب.

وقد كان الريسوني يشرف اليهود بشيء من «البركة» عندما تفرغ يده من المال، وتُسَدُّ أمامه السُّبُل الأخرى إليه. قيل له مرة: ثلاثة لا يقاتلهم العرب؛ النساء والحلاقين واليهود. فقال: ولكن المال عند اليهود، فكيف نأخذه منهم إن لم نروعهم في الأقل.

لم يكن الريسوني محبًّا للمال، ولا كان يرى نفعه في غير السياسة، فيأخذه من أهل الرهائن مثلًا ويوزِّعه على رجال القبيلة الموالية له، أو الموشكة على الولاء.

جاء رسول السلطان إلى الريسوني، وهو في الجبل يحكم بأمره، فعرض عليه الأمان لقاء الطاعة والإخلاص للعرش، فقال له: لا نيتك ولا نية عبد العزيز تخفى عليَّ، سأغتني بواسطتك. فقال الرسول: وهل تظن أن مولاي عبد العزيز يعزني كثيرًا فيدفع المال فديتي؟ فقال الريسوني: غيره يدفع وسترى. ثم أرسل يخبر كبار القبيلة أن عنده بضاعة للبيع، فجاءوا يشترون، فتقدم لهم الرسول، وقد كانوا يعرفونه، فقطعوا رأسه في الحال وهو ينظر إليهم.

تكرَّرَتْ مساعي الصلح، بالرغم من قتل الرسول الأول، وما أفلحت إلا في تعيينه معتمدًا في طنجة للسلطان عبد العزيز. طنجة مهد الفتن والفساد والفوضى، طنجة عش الدسائس الأوروبية والمناورات الدولية والسياسات الاستعمارية، وما كانت الضواحي والطريق منها إلى تطوان ترتع بالأمن والسكينة، وكان معتمد الحكومة المخزنية ينفض يده من كل تبعة، فلا قوة تعيد الأمن إلى نصابه، ولا قوة لتحمي حتى مَن يخرج من الأوروبيين للصيد في ضواحي المدينة.

وكان المغربي العربي إذا أثرى، وطمع بقصرٍ يبنيه لنفسه، يستهدف السلطة المحلية، فينتقل من الغبطة إلى الشبهات، فالتُّهَم، فالسجن. ولا أُذُن تسمع، ولا عين ترى، وكان المزارع يبيع ثمار بستانه فيضطر الشاري نفسه أن يحرس البستان من اللصوص.

وبكلمة وجيزة شاملة كانت الأحوال تنذر بتفكُّك الملك، وبذهاب السيادة الشريفية من المغرب الأقصى. وكانت الدول الأوروبية تتآمر على ذلك المغرب، كما كانت تتآمر على الدولة العثمانية وتستعِدُّ لتقسيمها، ولقد تمَّ التقسيم لجزء كبير منها، فخلص مصطفى كمال البقية الباقية، وأنشأ منها دولة جديدة.

أبمثل هذا كان يطمع الريسوني؟ لستُ ممَّن يعتقدون ذلك. في كل حال لا فائدة تُرجَى اليوم من البحث في غوامض المسألة، حسبنا سرد الحوادث.

لقد كانت طنجة كما وصفت، وهل لا تزال في حكم السلطان شرعًا وعملًا، يوم باشَرَ الريسوني حكمه، فحكم باسم المولى عبد العزيز، وما عتم أن أعاد الأمن والنظام إلى المدينة وضواحيها، ثم شرع ينظف الطريق بين طنجة وتطوان. ومَن ذا الذي يحسن مثله هذا العمل؟ هو زعيم قاطعي الطرق يعرف كيف يقطع رءوس قاطعيها في عهده. حكم الباشا الريسوني بيد من حديد، وبقلب من جلمود الصخر؛ فقد كان المظلوم في أيام أسلافه يجيء الباشا شاكيًا، فيرسله إلى أحد أعوانه ينظر في أمره، فيقول ذلك المظلوم: وما هذا الباشا؟ فهو لا يقتل ولا يرتشي، ولا عبيد لديه يحملون السياط. فجاء الريسوني يُصلِح الباشوية مبدأً وعملًا، جاء بالسيف والسياط، وبالضمير الذي له عين وفكر، وليس له قلب وعاطفة. فكان الناس يرون كل يوم رأسًا معلَّقًا في السوق، فصاح الأوروبيون قائلين: هذه فظاعة. فقال الريسوني: هذا عدلنا. فراحوا يحتَجُّون إلى قناصلهم، واحتَجَّ القناصل إلى دولهم، واحتجَتِّ الدول إلى السلطان بفاس؛ فأرسل السلطان قوةً عسكرية إلى طنجة لتجيء بالريسوني إليه، فقابله الريسوني بوجهه المقنع للإرهاب، فقال القائد: لا أريد محاربتكم، ولكني أسألكم لو اقتتلنا، فكم من رجالي يقتلون وكم من رجالك؟

فأجابه الريسوني قائلًا: قد نقتل مائة من رجالكم وتقتلون خمسين منا.

فقال القائد: وبكم تشترون حياتهم؟

فابتسم الريسوني ابتسامة هزلية لاحت كالبرق تحت جبينه المدلهم، ثم اتفق والقائد على الفدية أو الجزية أو الرشوة، فدفعها، وبقي في طنجة يحكم بأمره، ولا يغيِّر من عدله.

وعلمت القبائل بما كان من أمر ذلك القائد، فقال كبارها وصغارها: إن الريسوني أقوى من السلطان الشاب، وإن ذلك السلطان بيد الفرنجة الطامعين ببلادهم، وبيد وزرائه الخونة. فهاج هائجهم على الأجانب الفرنجة وعلى الحكومة المخزنية، فقتلوا فرنسيًّا في أنجرا، وسجنوا إسبانيين في قبيلة أخرى، وضربوا وسلبوا المسيحيين في الدار البيضاء، وهجموا على أصيلة فنهبوا وخطفوا حاكمها.

سارَعَ الريسوني إلى أصيلة بقوة من رجاله، فدخل المدينة باسم المولى عبد العزيز، وأعاد إليها الأمن والنظام — والحكم السلطاني.

فهل أرضى السلطان؟ وهل أسكت الدول؟ لا هذا ولا ذاك، فقد عقد القناصل اجتماعًا، وقرَّروا الاحتجاج الشديد على الريسوني وحكمه، مدَّعِين أنه يريد أن ينفِّذَ «عدله الفظيع» حتى في الأوروبيين.

وكانت الدول يومئذٍ في صراع سياسي بخصوص المغرب، ولا سيما طنجة، فزار الإمبراطور غليوم تلك المدينة زيارة عاصفة، وتقرر بعد ذلك عقد مؤتمر الجزيرة، وعزل الريسوني من منصبه. ومن العازل؟ السياسة تقول: السلطان. والحقيقة تقول: الدول.

•••

كان مؤتمر الجزيرة معقودًا يوم عاد الريسوني، في ديسمبر ١٩٠٦، إلى بيته بزَيْنَة، ويوم كانت المدرعات الأوروبية، بعد بضعة أشهر، في ميناء طنجة؛ لتنفيذ ما قرَّرَه المؤتمر، كان الريسوني قد حشد جيشًا من القبائل، وجدَّدَ الثورة على سلطان المغرب باسم الوطن الذي بدأت تعمل فيه عوامل الاستعمار الأوروبي. فهذه طنجة تخرج من حوزة السلاطين، وتنذر البلاد بالتقسيم والخراب.

قامت الحرب، ووقعت الوقعة الأولى بين رجال الريسوني وعساكر المخزن في زينة نفسها؛ فقُتِل القائد المخزني، وتقهقرت رجاله تحت وابل من رصاص البوادي، على أنهم عادوا في اليوم التالي بنجدة فيها مدفعي جزائري من الجيش الفرنسي، فكانت طلقات المدافع هذه المرة تصيب الأهداف، فانهزم الريسوني ورجاله، وشُغل العسكر عنهم بالقرية فنهبوها، وأضرموا فيها النار.

كانت تلك الهزيمة بداية حرب عوان دامت سنتين، وقد حاوَلَ جنود السلطان ورسل سره القبض على الريسوني حربًا أو سلمًا، بأية وسيلة كانت، فلم يفلحوا.

– نريد رأس الريسوني.

– سأجيئكم بقلبه — طائعًا مواليًا.

– الريسوني لا قلب له.

– القلب عندي إذا أذنتم بالمفاوضة.

فأذن السلطان عبد العزيز للسير هنري مكلين، نديمه ومعلم جيشه، أن يقابل الريسوني، فكتب السير هنري إليه يفصح عن رغبته في الاجتماع به، ويسأله أن يضرب له موعدًا، ففعل.

وقد اجتمعا في مكان خارج طنجة، فتعهَّدَ مكلين للشريف بالأمان والسلام إذا هو رافقه إلى فاس لمقابلة السلطان.

كان الريسوني يحترم مكلين، ولا يشك في حسن نيته، ولكنه كان يخشى الخيانة والغدر، وهو لا يزال يذكر الصويرة، ويذكر سجنها والحديد؛ لذلك رفض طلب مكلين وزوَّدَه بطلب منه؛ فهو يُعِيد النظر في الأمر إذا جاءه بخط من السلطان يؤمنه على حياته.

عاد مكلين إلى فاس، وما لبث أن كتب ثانية إلى الريسوني يقول إنه موفَّق في مهمته، وسيعود قريبًا إليه.

فقد أجاب السلطان عبد العزيز طلبه، لا بخط واحد بل بخطين؛ الأول: إلى الشريف يحمل الأمان والاطمئنان، ومعهما الوعد بأن يعيد إليه أملاكه المحجوزة، ويعيِّنه في منصب عالٍ، في غير طنجة؛ لأنها خرجت من يده.

والخط الثاني: إلى قائد جيشه في جبال بني عروس يخبره بما كتب إلى الشريف، ويأمره بأن يزوره مجاملًا مهنِّئًا، وللكتاب حاشية تقول: خذه بالحسنى، وابذل الجهد في إقناعه ليقابل مكلين، فيقبض عليه ويجيء به إلينا.

هي البركة، تلزم الشريف في القريب من أمره والبعيد؛ فقد نزلت بفاس، في القصر، في مكتب القصر، فحالت بين الكاتب وبصره، فوضع كتاب الريسوني في غلاف القائد، وكتاب القائد في الغلاف المعنون باسم الريسوني.٤

وجاء مكلين يحمل إلى الريسوني كتابه، وهو لا يدري بما دبَّرَه السلطان وأفسده الكاتب، ولكن الريسوني كظم ما عراه من الدهشة والاشمئزاز بعد أن فضَّ الكتابَ وقرأه، ثم قال لمكلين: سأعطيك الجواب بعد أن أستشير أخي، هو في خيمته مريض، فلم يتمكَّن من الحضور لمقابلتكم، سأرسل كلمة إليه.

قال ذلك وخرج من الخيمة، فأمر أحد رجاله المرافقين له أن يسارع إلى المضارب، ويأمرهم بالشد للرحيل، ثم عاد إلى مكلين يقول: أتريد أن ترافقني إلى خيمته؟

ما شَكَّ مكلين في صدق الريسوني، فركب معه وسارا يتبعهما الخدم والمرافقون، إلى تلك الخيمة، وأين هي؟ لقد طال الطريق، فطمأنه الريسوني قائلًا: وصلنا، وصلنا.

وصلوا إلى الخيمة — إلى الخيام — فرأى الضابط الإنجليزي نفسه في معسكر الريسوني محاطًا بالجنود، فقال إذ ذاك الشريف: هذا جوابي.

فأعطاه كتاب السلطان فقرأه وهو يجحظ ويقطب من شدة الدهش والغيظ، وقد أقسم بشرفه أنه جاهل كل الجهل تدبير السلطان وقصده، ثم قال: حقكم أن تأسروني.

فقال الشريف: لست بأسير، لا والله. أنت ضيفنا إلى أن تشاء حكومة بريطانيا أن تعود إلى بلادك.

ومشوا جميعًا في موكب مهيب إلى زَيْنة.

وفي اليوم التالي اهتزت أسلاك البرق اهتزازًا عنيفًا بين لندن وفاس، ولندن وطنجة، وتعددت الرسل بعد ذلك بين طنجة وتلك القرية الصغيرة في الجبل.

غضب الإنكليز ولا عجب، وارتاع السلطان الشاب، وضحك الريسوني، وما كان مكلين على شيء من الهم، بل كان وخادمه يتمتعان بكل أسباب الضيافة التي يستطيع بذلها وتسخيرها الشريف المضياف.

وكان الشريف الآسِر يصارِح أسيره فيما يبتغي من دولته.

– الحكومة البريطانية غنية، يا مكلين، ونحن اليوم في حاجة إلى المال … أتريد أن تخرج للصيد؟

ما رأيك، يا مكلين، في قيمة الفدية؟ أيجب أن تكون أقل من أربعين ألف ليرة؟ … اليوم جميل للنزهة. تفضلوا، نتريَّض قليلًا.

كثيرة؟ أتقول القيمة كثيرة؟ مقامك، يا مكلين، رفيع في نظرنا، والحكومة البريطانية عظيمة غنية. قُلْ ثلاثين ألفًا … هذه أحسن بندقية عندنا للصيد، هي إنكليزية.

لا والله، القيمة تحدَّدَتْ. اكتب إلى حكومتك أن الريسوني لا يقبل أقل من خمسة وعشرين ألف ليرة ذهبًا.

استمرت المفاوضات، وكتب مكلين بعد التردد إلى حكومته، فطلبت من الحكومة المغربية قيمة الفدية. على السلطان أن يدفع. كذلك قالت حكومة صاحب الجلالة البريطانية، وأصرت، بل هددت وأنذرت فأذعن السلطان، على شرط أن يدفع عشرة آلاف ليرة نقدًا والباقي نسيئة.

قال الريسوني لضيفه الأسير: وهل يدفع السلاطين ديونهم إلا بعد أن تُرَى المدرعات في ثغور البلاد؟ وأين مدرعاتي؟ لا بأس. عندي البركة.

فقال مكلين: وخير لكم أن تكونوا دائني السلطان من أن تكونوا من المدينين له.

الريسوني: وأيُّ المصيبتين أشد؟

مكلين: كل شيء نسبيٌّ، غير أن الله معكم. خذوا وطالِبوا؛ هي قاعدة الزمان السياسية.

وقد أخذ الريسوني عشرة آلاف ليرة ذهبًا من السفير البريطاني في طنجة، دفعها السلطان عبد العزيز، ثم طلب من السفير الحماية الإنكليزية، فرفع طلبه إلى الحكومة بلندن، فقبلت بذلك، وأصبح الريسوني من رعايا صاحب الجلالة البريطانية. هي السياسة الأوروبية في المغرب، بعجرها وبجرها.

ومن عجيب الاتفاق، فيما يتعلق بهذه الشاردة من سيرة الريسوني، أن يلتقي هذا الكاتب بالرجل الذي كان خادمًا للسير هنري مكلين في تلك الأيام.

كنت أطوف والدليل في إحدى كنائس أشبيلية، فقلت: لهجتك الإنكليزية ليست لهجة إسباني. فسُرَّ بذلك، واندفع يتكلم بلهجة زاهية، فقال: أنا لست من إسبانيا، أنا من جبل طارق. اسمي جوزيف غرِّيرو Guerrero، كنت خادم مكلين يوم أسره الرسولي — باللام بدل النون، وبدون الياء الأولى، كما كانت تُلفَظ في أوروبا وأميركا في تلك الأيام — الرسولي! لا أزال أتصور وجهه المخيف ونفسه الكريمة، ولا أزال أذكر أيام ذلك الأسر، ليس في حياتي كلها أطيب منها.

•••

لم يكن الريسوني عدو الأجانب ظاهرًا، بل عدو السلطان الضعيف الرأي والوطنية المنقاد إلى الأجانب. فقد شُقَّ عليه أن يرى العرش العلوي متداعيًا، وأن تكون اليد الهادمة يدًا علوية من سلالة إسماعيل الكبير، فأراد أن يصون ذلك العرش لنفسه، أو لمَن يعززه من السلالة الحاكمة؛ لذلك لم يحمل على الأجانب، ولا كان في بداية أمره يخشاهم. على أنه لم يدرك ما للحوادث من عوامل التطور والانقلاب في الدول والرجال.

فقد ازدادت أحوال المغرب اضطرابًا بعد مؤتمر الجزيرة، ولكن الريسوني، خلال الحرب التي قامت بين الأخوين عبد العزيز وعبد الحفيظ، وبعد أن شبَّتْ نيران الثورة على الإسبان في الريف، كان معتكفًا في بيته، وعندما انهزم السلطان عبد العزيز ونصب مكانه عبد الحفيظ، قصد الريسوني فاس مهنئًا السلطان الجديد، وآمِلًا بالتفاهم والتعاون في سبيل البلاد والملك؛ فأكرمه السلطان عبد الحفيظ، وأفضى إليه ببعض ما كان يقلق نفسه ويشغل باله.

– النصارى يطمعون ببلادنا، ويسعون للاستيلاء عليها؛ فيجب أن نتعاون على الدفاع عنها.

– والله لو قال سلفكم هذا القول وكان مخلصًا للوطن، لما حاربته، لا والله. ولو عاد للجهاد لكنتُ أول مَن لبَّى الدعوة.

وقد تحدَّثَا في بعض الشئون الفرعية، فوعده السلطان بباشاوية أصيلة بشرطين: أن يتخلَّى عن الحماية الإنكليزية، وألَّا يطالِبَ بالباقي من المال فدية مكلين. فقَبِلَ الريسوني بذلك.

ثم استدعاه قبل أن غادر فاس، واستقبله في الخلوة — المخلوان — فكرَّرَ ما قاله في التعاون، وجاء بالقرآن فسأله أن يقسم اليمين أنه سيخلص له الولاء، ويساعد ما دام حيًّا في دفع الأخطار عن المغرب، فقبَّلَ الريسوني الكتاب، وأقسم الاثنان اليمينَ المغلظة على التحالف والتعاون في الدفاع عن البلاد، والمحافظة على وحدتها العربية الإسلامية.

وبعد ذلك باح السلطان عبد الحفيظ بسرٍّ من أسرار الدولة، قال: نحن في حاجة إلى المال — الخزينة فارغة والله.

فوعَدَه الريسوني بالمساعدة، وبَرَّ بوعوده بعد عودته من فاس، فأرسل إليه ثلاثمائة ألف دورو — نحو ثلاثين ألف ليرة ذهبًا — جمعها من القبائل.

انجلى الجو للمولى عبد الحفيظ في بداية عهده، بعد أن قمع ثورة القبائل، وقبض على زعيمها بو حمارة،٥ وقد رأى من مصلحته — كما رأى الفرنسيون أن من مصلحتهم يومئذٍ — أن تُمَدَّ ثورة الريف على الإسبان بالمساعدات الحربية. فكان ذلك، وقد انهزم الجيش الإسباني شرَّ انهزام في وقعة «سيدي موسى»، وانقسم البرلمان بمدريد في قضية المغرب، فاشتدت المعارضة على الحكومة، ولكنها قرَّرَتِ المضي في الحرب إلى أن يتم الاحتلال.

وكانت المنافسات بين الفرنسيين والإسبان مستمرة، تسكن ريحها حينًا، وحينًا تعصف، عملًا بتطور العنصر الألماني في قضية المغرب، ولم تكن سياسة الفرنسيين المغربية في عزلة عن ذلك التطور، بل كانت تتأثَّر دومًا به، فتشجِّع السلطان على مقاومة الإسبان تارةً، وطورًا تنصح بالتفاهم والولاء: نحن وإياك والإسبان على الألمان. أو نحن وإياك — في حال السكون الألماني — على الإسبان. ولا يعوزني المثل أعطيكه في القاعدتين؛ فقد ساعَدَ السلطان ثوَّار الريف على الإسبان، وقد عقد اتفاقًا والحكومة الإسبانية على احتلالها المنطقة الشمالية في السنة التالية. فهل تستوي اليمين والمعاهدات في زماننا؟ قال الريسوني بعدئذٍ — يوم تسالم والإسبان: قد حنِثَ السلطانُ بيمينه، فجعلني في حلٍّ من يميني.

كان الريسوني في تلك الأثناء قد تعيَّنَ باشا أصيلة، وبما أن بعض البوادي من عرب وبربر، ظلوا يذكرون قاطع الطرق المشهور معجبين به، فقد طفقوا يتشبهون به، وتمادوا في الشقاوة؛ فصار كل زعيم ريسونيًّا، وكثرت العصابات فكثر خطف الناس طمعًا بالفديات، فرأى الباشا الريسوني أن يعود إلى عدله الفريد الذي وصفه أوروبيو طنجة بالفظاعة.

فالعرب ينسون، كما كان يقول، وإن لم ينسوا فهم لا يصدقون غير ما تراه عيونهم. يجب أن يجسم العدل إذن في رأس يُعلَّق في السوق، وفي سجن يثقل حديده على أعناق الأشقياء، ولا يدخله نور أو هواء.

إنها لفضاعة، ولكنها في نظر حاكم مثل الريسوني مبرَّرَة بما كان يرتكبه أولئك الأشقياء، وهاك مثالًا من فظائعهم: جاءه ذات يوم قنصل إسبانيا في العرائش، مكفهر الوجه، مضطرب الأعصاب، يشكو زعيمًا من بني عروس خطف رجلًا وولديه من المغاربة المشمولين بالحماية الإسبانية،٦ وسلب مالهم وحبسهم رهائن في بيته، بفدية قيمتها ثلاثون ألف ريال، تُدفَع في يوم معين، وبما أنها لم تُدفَع في ذلك اليوم قتل الشقي رهائنه الثلاثة، وعلَّقَ رءوسهم على رمح تحت راية القبيلة، فحمل رجاله الرمح وطافوا به يدعون الناس للعصيان. فهل يجوز أن يُعامَلوا بعدل غير عدل الريسوني؟

ولكن عدله لم يكن ذا عين واحدة؛ فقد كان له عين أخرى ترى في السياسة القصاص الذي هو أبلغ من قطِّ الرءوس.

كان الجيش الفرنسي في تلك السنة (١٩١١) قد دخل البلاد واحتلَّ مركزًا بالغرب من القصر الكبير، وكان الإسبان يتأهَّبون لاحتلال المنطقة الشمالية بموجب الاتفاق الذي عقدوه والمولى عبد الحفيظ، فوصل إلى ميناء العرائش في شهر يوليو مركبان يقلَّان جنودَ الجنرال سلفستر Silvestre، جنود الاحتلال!

وفي اليوم التالي حدثت فتنة في القصر الكبير ضد الأجانب، ومنهم المغاربة المتمتعين بحماية إسبانية، فشكا هؤلاء أمرهم إلى القنصل الإسباني، فرفع الشكوى إلى الريسوني. الفرنسيون بجوار القصر الكبير، والإسبان على أبواب العرائش، وقد كان الريسوني يخشى الفرنسيين ولا يخشى الإسبان، بل كان يقول: الإسبان يستطيعون أن يحمونا ولا يستطيعون أن يظلموا. فهل يستعين بهم الآن على الفرنسيين؟ هي الفرصة التي اغتنمها ليرضي القنصل ورعاياه.

– سنساعد الجنرال سلفستر ليُنزِل جنوده في العرائش.

ونزلت الجنود في الليل، فاستقبلهم الأهالي ساكنين واجمين، ولكنها إرادة الريسوني، والخير في تحقيق مقاصده إن شاء الله.

كلمة ردَّدَها الناس إلا اليهود منهم، ولا عجب، فالريسوني ميَّزَهم عن الناس بما يجوز لهم وما لا يجوز. لا يجوز ليهودي أن يجلس في حضرة عالم … يجب على اليهودي أن يخلع نعله إذا مَرَّ في سوق فيها مسجد٧ … فهل يُلَامون إذا هم استقبلوا جنود سلفستر تلك الليلة بالمشاعل، ينيرون طريقهم إلى المدينة؟

الجنرال سلفستر رسول القدر إلى الريسوني، وصاحب عدل تأبط ميزانه وحمل الريسوني سيفه. صاحب عدل ذي وجهين، يقذف به القدر إلى بلاد لا تعرف غير العدل الواحد.

كان الاجتماع الأول في أصيلة، فقال الريسوني: نساعدكم إذا واليتمونا وأخلصتم لنا. وكتب الجنرال إلى حكومته يقول: إن الريسوني مخلص للإسبان، ولكن الفرنسيين يحاولون اجتذابه إليهم؛ فيجب أن نسرع في العمل مستعينين به ما دام مواليًا لنا، فقد ينقلب غدًا علينا.

وقال الريسوني في سلفستر بعد الاجتماع الأول: إنه شجاع ولكنه يتمنَّى لو كان في غير المغرب، فلا مكان لأسدين في غابة واحدة.

وما عتم أن وقع الخلافُ فالعداءُ بين الأسدين.

لقد ظنَّ سلفستر أن الريسوني يساعده في مطاردة الفرنسيين، ولكن الريسوني بعد أن تأكَّدَ أن الفرنسيين لا يطمعون بالمنطقة الشمالية، وبعد أن أراح ضميره من اليمين التي حنِثَ بها المولى عبد الحفيظ، اعتصم بحبل السياسة الحيادية؛ فترك الفرنسيين وشأنهم في الجنوب، واستقَلَّ هو في المنطقة الشمالية.

استقَلَّ مبدئيًّا واستقل عملًا إلا في بعض المواقف الحرجة؛ فعندما أراد سلفستر أن يرسل إلى أصيلة ضابطًا لمراقبة الجمارك، رفض الريسوني قائلًا: إني ممثل مولاي عبد الحفيظ، لا ممثل سلفستر.

بعد ذلك سعى سلفستر للتقرب من القبائل بتخفيض الضرائب، فيثيرهم على الريسوني، وقد كتب إلى حكومته بمدريد أن القبائل غير راضية بحكمه، بل اتهمه بابتزاز الأموال منهم ليبني قصره، وأنه ظالم قاسٍ، وفوق ذلك جشع بخيل. فردَّ الريسوني على هذه التهم بقوله: أنا آخذ وأعطي، وغيري يأخذ ويمشي.

ومن أعمال سلفستر المعادية أنه كان يغري باشا القصر الكبير بالمال ويوغره على الريسوني، فاستدعاه مرةً إلى أصيلة، فحال سلفستر دون مجيئه.

ومع ذلك فقد كان سلفستر يزور الريسوني مجاملًا مداريًا، ويُظهِر الثقة به في بعض الأحايين دون أن يفهم مقاصده. فقد كان لا يرغب في الإسبان بأصيلة، إلا بما يبرر وجودهم فيها، حتى لا يقول المسلمون إنه انقاد إلى النصارى أو تساهَلَ معهم، وفي هذا ما يفقده النفوذ الذي كان أساس حكمه وعدله.

أسدان في غابة واحدة وبطبعين متناقضين؛ الإسباني لجوج غضوب، والعربي هادئ طويل الأناة، وما كان الأول ليتعلم شيئًا من الصبر والتؤدة اللذين اتصف بهما الثاني، وقد كان إلى ذلك متقلبًا، يومًا يمدح الشريف في رسائله إلى حكومته، ويومًا يطعن فيه، وفي هذا الاضطراب من حاله كان يرى من الواجب أن يتفق والشريف الطامع بالسلطة والاستقلال؛ فوعده بأن يسعى لدى الحكومة، يوم عاد إلى مدريد، لتحقيق بعض آماله، فبَرَّ بوعوده، ولكن الحكومة سوَّفَتْ ثم رفضت، خشيةَ أن تُتَّهَم بالضعف، وهي يومئذٍ ترسل جيوشها إلى الناحية الشرقية لقمع الثورة التي كان يضرم نارها المجاهد الريفي أمزيان.

وفي أبريل من تلك السنة (١٩١٢) عُقِدت معاهدة الحماية بين الفرنسيين والسلطان عبد الحفيظ، فثار أهل فاس عليه وعلى الحكومة المخزنية، فرأى سلفستر أن يستمر في تعليل الريسوني بالوعود؛ ليتعاون وإياه على حفظ الأمن والنظام في المنطقة الشمالية فلا تمتد الثورة إليها، فأخلص الريسوني في ذلك التعاون، وما رأى من نتائجه ما يحقِّق شيئًا من آماله الوطنية.

فقد كانت الحكومة الإسبانية متذبذبة متقلبة في سياستها المغربية، فيجيء إلى الريسوني من الإسبان مَن يقول له: لا قوة لإسبانيا إلا في الجيش، فاتَّكِلْ على الحزب العسكري؛ لأنه والملك واحد. ويجيئه آخَر يقول: لا تصغِ إلى العسكريين، فلا نفوذ لهم في الحكومة أو في السياسة. ولكن الريسوني كان يسلك مسلك المتحايد، فلا يهتم لشئون إسبانيا الداخلية، ولا يقطع صلته بحزب من الأحزاب، فنفعته هذه الخطة في الحرب، وأطرته في أيام السلم.

ذلك لأن الحكومة، في فترات الخير، كانت تعود إلى المماطلة والتسويف، ففقد المغاربة ثقتهم بها، وبالشريف المتكتل عليها. هو ذا الخطر الذي بدت غيومه السوداء في الأفق المغربي الإسباني. لقد كان في إمكان الريسوني أن يخدم الإسبان، لو بقيت القبائل كلها بيده، ولكن الإسبان في سياستهم مع الشريف أحدثوا في تلك القبائل شقاقًا ظنُّوه من مصلحتهم، فمضوا فيه مستبشرين. مالت قبيلة بني عروس إليهم، وبقيت بني مصور مع الشريف، فضعفت القوتان وما انتفع الإسبان بذلك الشقاق.

اختلَّ الأمن في البلاد؛ فزاد الريسوني في عدله قساوةً، وما عدل دائمًا في قساوته، فكان يُكثِر من سجن أعدائه لأسباب حزبية، فغصَّ سجن أصيلة بالسجناء، وكان يقيِّد الثلاثة أو الأربعة منهم بالسلسلة الواحدة من الحديد الثقيل. هذا عدا ما كانوا يقاسون من الجوع والقذارة والروائح الخانقة والضرب بالسياط.

ضجت القبائل، وتعدَّدَتِ الشكاوى إلى الجنرال سلفستر، فجاء ذات يوم إلى أصيلة محقِّقًا، فطلب أن يرى ذلك السجن، فرفض الريسوني طلبه، فأصرَّ سلفستر، فسخط الشريف سخط العادل المتيقن صحة عدله، فتناقَشَ الاثنان مناقشة حق تأججت ناره، فتطاير منها شرر الحنق والضغينة.

– أنتم لا تُطعِمون السجناء.

– وهل يجب على الحكومة أن تُطعِم المجرمين؟ أهلهم يُطعِمونهم.

– أنتم تأمرون بالتعذيب وبالضرب بالسياط.

– وهل تُكرِم الحكومة مَن يسيئون إليها؟ هؤلاء وحوش، وأنتم الأوروبيون لا تفهمون عدلنا، فلو اقتديت بكم وعملت بما تسمونه عدلًا لكنت ترى اللصوص والقتلة والأشقياء في كل طريق وكل مكان … أتريد أن ترى السجن؟ هيا بنا.

مشى وإياه إلى السجن في ناحية من القصر، ففتح السجَّان الباب، فإذا هناك نحو مائة سجين في غرفة صغيرة مظلمة، فاحت منها الروائح المنتنة الخانقة، وعلت الأصوات والأنات. تتخللها صلصلة السلاسل والقيود. فرفع الجنرال سلفستر يده إلى وجهه، ورجع أدراجه وهو يقول: شيء فظيع، شيء وحشي!

ثم طلب أن يُحضِر بعض أولئك السجناء أمامه، فجيء بثلاثة فسألهم ما ذنوبهم، فكان جواب كل منهم أنه بريء. ما صدَّقَ سلفستر ادعاءهم، ولكنه استفظع القصاص، وطلب من الريسوني طلبًا جحظت له عيناه.

سلفستر : يجب أن تطلق سراح السجناء كلهم.
الريسوني (محدقًا نظره إليه) : أنا الحاكم هنا.

وتتابعت بعد ذلك الحوادث المنذرة بالإعصار.

أرسل الريسوني رسله إلى القبائل الموالية له يقول: إن الحرب قائمة بينه وبين الإسبان فَلْيستعدوا.

وكتب سلفستر إلى حكومته يُخبِر بما شاهد بعينه من فظائع الريسوني.

ورفع الريسوني الأمر إلى الحكومة الإسبانية بواسطة السفير الإسباني في طنجة، فزاد ذلك في سخط سلفستر وحقده.

وعندما قبلت حكومة مدريد بأن يفاوضها الريسوني مباشَرَةً، قدَّمَ سلفستر استقالته فرُفِضت.

ثم قررت الخطة التي تثبت قدمها في البلاد، منها أن يكون لجيش الريسوني ضباط من الإسبان، وأن يعين له مراقب إسباني.

ففضَّلَ الريسوني الخروج من أصيلة على أن يبقى فيها تحت أمر الأجانب. عاد إلى زينة، ولكنه وهو يعدُّ العدة للحرب، استمرَّ يعالج الأمر بالسياسة، فتفجرت القبائل وأرسلت إليه تقول: سلاحنا أكله الصدأ، وأيدينا ملت الانتظار.

حقيقة الأمر هي أن الريسوني لم يكن يرغب في محاربة الإسبان، ولكنه كان يقول: سأحارب سلفستر إذا هو سطا عليَّ.

وقد استمرت الحكومة الإسبانية في استرضائه، فقرَّرَتْ أن يُعقَد مؤتمر في طنجة لحسم الخلاف وتقرير المصير، فعُقِد ذلك المؤتمر برياسة سفير إسبانيا، وحضره قنصل العرائش السنيور زوغستي Zuqasti الذي كان يقول فيه الريسوني إنه أفضل مَن عرف من رجالات الإسبان.

… وكانت الكلمة لسلفستر، فاتهم الريسوني بأنه نكث عهده.

الريسوني : لو جاءت هذه الكلمة من أحد أبناء القبائل لما عاش بعدها. أما منك فلا بأس، أنا وإياك الآن تحت سقف واحد أخوان.
سلفستر : ولكنك حرَّضت القبائل علينا.
الريسوني : الصحيح عكس ذلك، فقد ردعتهم عنكم.
سلفستر : ضجَّتِ البلاد من أعمالكم البربرية.
الريسوني : وهذه من الكلمات التي لا تضمن السلم، فكأني بك تريد الحرب.
زوغستي (متوسطًا) : الصبر … أرجوكم.
سلفستر (مستمرًا في ثورته) : هو قاطع طرق. صبرت عليه، وقد عيل صبري.
الريسوني (بتؤدة) : لذلك أنا أقوى منك، ولكني أرى أن السلم بيننا مستحيل. أنت تعصف كالريح وأنا أضطرب في نفسي كالأمواج، أنت العاصفة وأنا البحر، أما العاصفة فتذهب وأما البحر فيدوم.

(قال هذا ونهض يريد الخروج، فقال السفير: إلى أين؟ فأجاب الريسوني: إلى بيتي بزينة.)

السفير (مسترضيًا) : أحب أن تنتظر إلى الغد؛ فقد أرسل رئيس الوزراء إليكم هدية من السجاد برهانًا على صداقة حكومتنا لكم.
الريسوني : ليس الوقت، يا سيدي، وقت هدايا، فإنْ أنا قبلت هدية منكم اليوم، فأبناء بلادي لا يحسبونها هدية.
السفير (مُصِرًّا) : السجادات قديمة جميلة تروقكم.
الريسوني (بتهكُّم) : أهنئ سيدي بحسن عدله.
السفير : لم أفهم.
الريسوني (مستمرًّا في لهجته الناعمة) : يقال إن العدل أعمى، فسأوضح؛ كان لي بيت بأصيلة فاستوليتم عليه، كان لي سلاح وذخيرة فأخذتموها، كان لي أثاث وفرش فتصرفتم به، وقد أسرتم عائلتي،٨ وجئتم الآن تقدِّمون لي بعض السجاجيد! لا يا سيدي، ضموها إلى ما أخذتم.
السفير (غاضبًا) : لم يُؤخَذ شيء من أشيائك، كلها محفوظة في أصيلة.
الريسوني : لن أعود إلى أصيلة.
السفير : أَلَا تريد أن تزور عائلتك هناك؟
الريسوني : عائلتي كبيرة، هي في المغرب كله.

يوم عاد الشريف الريسوني من مؤتمر طنجة إلى بيته بزينة، والجنرال سلفستر إلى مركزه بالعرائش، كان الجيش الإسباني في الناحية الشرقية قد انتصر على الثوَّار، عند نهر الكُرْط، في معارك شديدة، قتَلَ في إحداها زعيمهم أمزيان، وظهر لأول مرة في القتال الضابط الشاب فرنسيسكو فرنكو على رأس كتيبة ذكرها قائد تلك الحملة الجنرال بيرنغير بالثناء والإعجاب.

وقد تحسَّنت بعد ذلك الفوز معنويات الجيش الإسباني، ونشطت الحكومة في تنفيذ خطة الاحتلال في الناحية الغربية؛ فعيَّنت للمنطقة كلها مقيمًا عامًّا هو الجنرال الفاو  Alfau، ونصبت خليفةً فيها المهدي بن إسماعيل.

دخل الجنرال الفاو بألفين من الجنود مدينةَ تطوان، بدون قتال، في فبراير سنة ١٩١٣؛ فهاجت القبائل المجاورة، وثار ثائرها الأشد على الخليفة المهدي الموالي للأجانب، فكتبت حكومة مدريد إلى الجنرال سلفستر تقول: إن الطريقة المثلى لتعزيز مركز الخليفة في القبائل هي أن يزوره الشريف الريسوني. فسعى سلفستر لذلك دون جدوى، ثم جاءه أمر من حكومته بأن يطلق سراح عائلة الريسوني، وينقلها مكرَّمة إلى طنجة، ففعل، ولكن النتيجة لم تحقِّق الأمل في التقرُّب من الشريف، بل جاءت على عكس ما توقَّعَه السياسيون في مدريد.

فقد قالت القبائل: لا يزال الريسوني قويًّا، والبرهان على ذلك هو أن الحكومة تخشاه فأطلقت سراح عائلته.

وقد انضَمَّ بعد ذلك إلى القبائل الموالية له كثيرون من المعادية، وبما أنها نهضت في جوار تطوان للدفاع عن البلاد، بعد دخول الجنرال الفاو، فحاصرت واد مرتيل، وامتدت حركاتها إلى ناحية العرائش؛ رأى الريسوني أن دور المفاوضات قد مضى، وأن الحرب لا بد منها، فاستنفر جميع القبائل، فنفر معظمها إلى القتال.

كانت خطة الريسوني في الحرب تجمع بين الدفاع والمناوشة، فيترك الهجوم للعدو، ويرسل من مكامن جيشه، وراء الصخور وبين الصبير الذي يكثر في المغرب، جماعات تناوِش جيش سلفستر حيث يكون ضعيفًا. ومن أساليبهم أن يستدرجوا العدو إلى الجبال، ويرموه من أعاليها بالرصاص، أو يدحرجوا عليه الصخور، أضِفْ إلى ذلك طريقة الريسوني الخاصة، وهي القبض على رجالات الإسبان، في كل فرصة تسنح؛ ليكونوا لديه رهائن تُفدَى بالمال، أو كما كان يقول هو: يصير عندي بضاعة للبيع.

قامت الحرب، ووقعت الوقعة الأولى في ناحية من بني قرش، بالقرب من تطوان، فبلغ عدد القتلى فيها مائتين من الإسبان وثلاثين من المغاربة (رواية الريسوني) أو مائة وخمسين من الإسبان وثلاثمائة من المغاربة (البلاغ الرسمي).

وتعددت المعارك؛ فجاءت النجدات الإسبانية، الواحدة تلو الأخرى؛ لحماية المراكز التي كانت في حوزة الجيش، ولفتح الطرق، وخصوصًا طريق تطوان-طنجة، التي كانت بيد الريسوني. وما كانت تلك النجدات موفَّقَة كل التوفيق في خططها وحملاتها، فوقع خلاف بين المقيم العام الجنرال الفاو والقائد العام الجنرال سلفستر، أدى إلى استقالة المقيم؛ لأنه يميل إلى السلم، فخلفه الجنرال مارينا  Marina المتذبذب بين السلم والحرب.

استمر القتال، وبقيت طرق طنجة بيد الريسوني يجلب المؤن والمعدات، فلزمه النصر في أكثر المواقع في تلك السنة، سنة قامت في أوروبا الحرب العظمى.

وفي ذلك الصيف تكلَّلت انتصارات الريسوني بالمجد؛ فقد كانت أكثر القبائل الجبلية تحارِب تحت بنوده، فاجتمع في شفشاون قوَّادها وزعماؤها مع علماء بني غرفط والأخماس وأهل سريف، ونادوا بالريسوني سلطان الجبل؛ فكتب العلماء عهدًا بذلك تُلِي في جميع أنحاء البلاد.

هي سنة النصر، ختمها الريسوني بدخوله شفشاون فاتحًا مظفرًا، فهتف له أهلها، ونثرت نساؤها عليه وعلى رجاله ماء الزهر من قماقمهن، وهن يزغردن للشريف الملك، منقذ البلاد من الأجانب.

•••

هي البركة تلازم الشريف على الدوام.

وهي القبائل، وفيها المتذبذبة، وفيها الخائنة؛ فقد كان الريسوني ذات يوم ضيف إحداها، وهي تتظاهر بالولاء والإخلاص، فكذبها كلب من الكلاب. كان الشريف يشكو ألمًا في المعدة فلم يأكل غير القليل، وشرع يطعم كلبًا دنا منه، وعندما جيء برأس الخروف إلى رأس القوم لم يأكل شيئًا منه، بل قدَّمَ معظمه إلى ذلك الكلب، فأكل حتى العظم متلمظًا به، وبعد قليل سُمِع يعوي من شدة الألم وما لبث أن مات.

هي البركة، لا تفارق الشريف.

وهذا إدريس الريفي ألدُّ أعداء الريسوني، يرسل إليه في جبل الحبيب وفدًا يقول: سي دْريس يريد السلم … سي دريس يريد رضى الشريف … سي دريس يلتمس الإذن بالمقابلة …

فظنها الشريف دسيسة، ولكنه قَبِل أن يجتمع بالريفي بشروط ذكرها، فعاد الرسل يحملون تلك الشروط إلى سيدهم.

كان قد اجتمع بهم في بيت له خارج القرية، فلما عاد الرسل راح هو إلى المسجد يصلي، فسمع وهو في سجداته دويًّا كالصاعقة، هو دوي القنبلة التي جاء بها رسل الريفي، ووضعوها تحت السجادة التي كانوا جالسين عليها، وهم يشربون الشاي ويدعون للشريف بطول العمر!

هي البركة، رأى الناس مفعولها في ذلك البيت الخراب بعد أن خرج الشريف منه.

ولكن البركة لم تدفع عن البلاد ويل النكبة الأوروبية الكبرى؛ فامتدت إلى المغرب، وهيَّمَنَتِ المجاعة في أطرافه، فأشار على الريسوني بعضُ رجاله بأن يتقرَّب من الألمان، فيمدوه بالذخيرة والمال ليواصل الحرب، وردَّدوا ما كان يُشاع يومئذٍ، وهو أن الألمان لا محالة منتصرون، فإذا والاهم ينصبونه سلطانًا على المغرب أجمع.

وقد كان للألمان رسل منهم في طنجة، وغيرها في شمالي أفريقيا، يبثون الدعوة لبلادهم، ويغرون الزعماء بالوعود الخلَّابة؛ فوعدوا الريسوني بالمساعدات المالية والحربية إذا هو حمل على الفرنسيين في المنطقة الجنوبية، فرفض بتاتًا، وقيل إنه قَبِلَ منهم بعض الذخيرة والسلاح دون أن يعقد وإياهم عهدًا ما.

أما الإسبان، فقد سعوا لتخفيف الأزمة الاقتصادية بما بذلوا من الإسعاف في البلدان التي كانت في حوزتهم، وقد حاوَلَ رسل السلم، ومنهم المقيم العام والقنصل زوغستي، أن يُصلِحوا بين حكومتهم والريسوني، فلم يتوفَّقوا. ما لان عود الشريف وما تغيَّرَت كلمته: لا سلم ما دام سلفستر في المغرب.

ولكن سلفستر كان ماضيًا في زحفه وتغلغله، فوصل بجنوده إلى مدينة القصر الكبير واستولى عليها، ثم احتل مركزًا في الطريق إلى طنجة؛ ليحول دون اتصال الريسوني بها.

الطريق إلى طنجة — حياة الريسوني الحربية.

سلفستر يستولي على تلك الطريق! غصَّ الشريف بهذا الخبر؛ فجمع قواده في جبل الحبيب، وكشف لهم الستار عن الحالة: لم يبقَ من سبيل إلى تموين القبائل، والضائقة تشتد في البلاد. سأشترط على الإسبان في قبول السلم ألَّا يدخلوا الجبال. السهول لهم، والجبال لنا.

وما ذكر سلفستر؟ سلفستر لا يزال في المغرب، وقد كُتِب له النصر أو شيء منه.

ولكن البركة لا تزال مع الشريف.

كان المقيم العام يميل إلى قبول شروط الصلح التي عرضها الريسوني، وكان الجنرال سلفستر يرفضها، فاشتد الخلاف بينهما، وبلغ منتهاه يوم أرسل الريسوني رسولًا إلى طنجة لغرض خصوصي، فقُتِل هناك غدرًا — قتله رهط من الشرطة بأمر من الضابط المحلي الإسباني أو بعلمه — فاحتدم المقيم غيظًا، وأرسل إلى سلفستر يدعوه إليه، فوبَّخَه على ذلك الغدر، وطلب منه أن يستقيل.

أبى سلفستر، واحتجَّ مكابرًا، فجلس المقيم على منضدته قائلًا: إذن، أنا أستقيل.

وكتب حالًا كتاب الاستقالة ودفعه إليه ليقرأه.

البركة تلازم الشريف.

لا سلم ما دام سلفستر في المغرب.

وهذا سلفستر يرى ما فعله المقيم العام، فيخجل ويكتب مثله سطر الاستقالة.

وقد قبلت حكومة مدريد الاستقالتين، وعيَّنَتِ الجنرال خوردانا  Jordana مقيمًا عامًّا، والمركيز بللبا  Villalba خلفًا للجنرال سلفستر.

•••

لا سلم ما دام سلفستر في المغرب. أما وقد رحل، فالسلم أصبح قريبًا من مريديه. فجاء صديق الريسوني القنصل زوغستي يجدِّد السعي، وكان المقيم العام الجديد مؤيدًا له، فتحقَّقَتِ الآمال بصُلْح — صُليح — عُقِد في سبتمبر سنة ١٩١٥، على أن تكون الجبال للريسوني والشواطئ للإسبان.

وقد أعادت الحكومة الإسبانية أملاكه إليه، ومدَّتْه بالمال لتخفيف وطأة الجوع في القبائل، وتعهدت بدفع نفقات «محلته» أي جيشه المحدَّد بألف مقاتل؛ لحفظ الأمن والنظام في منطقته الجبلية، التي كانت عاصمتها تزروت في الطريق إلى جبل العلم.

فهل استقام الأمر للريسوني بعد انفراده في السيادة بتزروت؟ أَوَيستقيم الأمر لحاكمين، كلاهما ذو سيادة مطلقة، في البلد الواحد؟ قامت القبائل بعد ذلك الصلح تقول: خاننا الريسوني، باع البلاد للنصارى. وقد تألَّبَ عليه بنو حسن وبنو مصور وبنو عروس وغيرهم، فهجموا على تزروت بالبنادق والفئوس يريدون محق «محلته» وهدم بيته، فنازلتهم جنود «المحلة» وردتهم منهزمين.

كانت القبائل تحارِب مع الريسوني بشجاعة ركنها الإيمان، الإيمان بالله والبركة، أما في محاربتها الريسوني فقد كان الإيمان يفل من عزمها، ويضعف فيها الشجاعة والاستبسال. هي البركة التي كانت تخشاها، تلك البركة التي دفعت عنه مرارًا رصاص البنادق، وكل شر وأذى. كان يؤمن بها الأصدقاء والخصوم، وإذا حمل هؤلاء عليه فبقلب خائر ويد مضطربة، فيطلقون بنادقهم وهم يذكرون «البركة» فينهزمون.

وهذا أحد أبناء الريسوني يخرج عليه ويمشي برجاله إلى تزروت يريد اكتساحها، فينهزمون عند الأبواب، ويرابطون في قرية مجاورة، فيخرج الريسوني برجاله ليلًا، وقد حملوا المشاعل والبنادق ففاجئوا العدو «بالبارود» وألقوا المشاعل على سطوح القرية، فاشتعل قشها والتهمت النار القرية بأجمعها.

وجاءت في اليوم التالي ابنة ابن عمه، وهي فتاة حسناء، تسترحم الريسوني لا من أجل أبيها الذي فَرَّ هاربًا، بل من أجل أمها التي كانت مع الخوارج.

– العفو، العفو عن أمي، طوَّل الله عمر سيدي.

– وأنتِ، يا بنتي؟

– أنا تحت قدمَيْ سيدي.

– أنتِ في عيني وقلبي، ولا بأس على أمك.

ذهب سلفستر، واندحر الخصوم من القبائل، وغنم الشريف غنيمة الحسن والجمال! فاقترن بابنة ابن عمه الحسناء. فهل صفا له الجو بعد ذلك؟

•••

كان المقيم العام الجنرال خردانا مخلصًا للريسوني، يرعى عليه حرمته، ويعمل ما بوسعه لتعزيز سيادته في الجبال، فيحيل إليه كل مَن جاءه منها شاكيًا، وقلَّمَا يتدخَّل في شئونه.

على أن الحوادث كانت تحول دون تحقيق أمانيه في المسالمة والتعاون؛ فنقضت مرارًا ذلك الاتفاق الذي تحدَّدت بموجبه الحدود بين منطقة الإسبان والأراضي الجبلية المستقلة عنهم؛ فاضطر المقيم أن ينفِّذ خطته في المحافظة على العهود، فقاوَمَه الريسوني، وما كان مثله كريمًا حكيمًا.

– فلان وفلان وفلان المسجونون عندكم هم من منطقتنا، فيجب أن يُحاكَموا عندنا؛ لذلك أسألكم أن ترسلوهم إلينا.

– فلان وفلان وفلان لصوص وقَتَلة، ولكني حبًّا بخدمة إسبانيا وإكرامًا لكم، أعيدهم إليكم.

وأعادهم، بعد أن قطع أيديهم. فهل تستغرب غضبة المقيم؟ وهل يستغرب عمل الريسوني وقد برَّرَه الشرع الإسلامي.

قال المقيم: هي فظاعة. فقال الريسوني: هو عدلنا؟ وقد كنتُ رحومًا في تنفيذه. كان من الواجب عليَّ، وهم لصوص وقتلة، أن أقطع رءوسهم.

– أفي هذا الزمان؟

– في كل زمان.

– الحكم بما توجبه المعاهدة هو غير الحكم بما نريد.

– لا حكم يستقيم، لا بإرادتي ولا بما توجبه المعاهدة، إن كنت لا أقطع أيدي اللصوص، ورءوس المجرمين.

هي ذي العقدة التي يعقدها الشرع ولا يحلها القانون. هي ذي المعضلة في التوفيق بين الحكمين الإسلامي الصافي والمسيحي المدني.

وما كان المقيم موفَّقًا في سياسته الخليفية؛ فقد سأل الريسوني وألَحَّ عليه، أن يعترف بخلافة المولى المهدي، ويقبل منصب الصدارة العظمى، فكان يرفض قائلًا: تحتقرني القبائل وتخرج عن طاعتي إذا رأتني أنحني أمام لا شيء.

لقد كانت سياسة مَن تقدَّمَ خردانا من المقيمين مبنيةً على القاعدة: بلادي وإن أخطأت. فيحاولون أن يخدموا بلادهم بشتى الأساليب، مهما كلَّف ذلك من مال ورجال. أما خردانا فقد اتبع خطة الاعتدال والإنصاف في خدمة بلاده وبلاد المغرب؛ فسعى لعقد معاهدة القسمة بينهم وبين الريسوني، وأدرك بعد ذلك الخطأ فيها.

والحق يقال: إن المساومة في الرياسة، سواء أكانت أجنبية أم وطنية، تولد المشاكل والشرور. وإن الحق فيما قاله الريسوني يوم اجتمَعَ للمرة الأولى بالجنرال سلفستر: لا مكان لأسدين في غابة واحدة.

فقد كانت سلطة المقيم العام تضعف يومًا فيومًا؛ إذ إن الريسوني يحكم في الجبال بأمره، فيحول دون امتداد النفوذ الإسباني إليها، ولا يحترم في نفوذه الحدود والعهود، وما كان مع ذلك يعامِل المقيم، كما كان يعامِله، بالمعروف أو في الأقل بالمجاملة؛ فأثَّر ذلك أشد التأثير في نفسه، فكتب إلى حكومته يقول: إن سياسة الاعتدال التي اتخذتها قطعت طريق الجبال على التقدم الإسباني في البلاد.

اعترف خردانا بخطئه، وفي ذلك اليوم من نوفمبر ١٩١٨، وفي تلك الساعة التي كان يوقِّع فيها ذلك الكتاب، أُصِيب بنوبة قلبية، فسقط القلم من يده، وما رأى بعد ذلك نور الحياة الدنيا.

خلف خردانا الجنرال بيرنغِر Berenguer فكان مخالفًا له في سياسته، بيرنغر — وفيه شيء من سلفستر وشيء من مارينا — صمَّم على احتلال عسكري عام للمنطقة كلها، فكتب إلى الريسوني كتابًا صريحَ الكلمة شديدَ اللهجة، فردَّ عليه الريسوني بمثله: الحدود بيننا القوة.

عاودت الاضطرابات البلاد، وخصوصًا على الحدود الريسونية الإسبانية، فتعددت «العركات» بين رجال الريسوني والمخافر، وكثر التجاوز والإجرام في شتى المظاهر — تهريب السلاح والقتل والثارات — تتلوها الشكاوى من الجانبين إلى حكومتي تطوان وتزروت.

وقد كان طريق طنجة-تطوان مفتوحًا، فسارع الريسوني إلى قطعه، والاستيلاء عليه لجلب الذخائر والسلاح تهريبًا في الليل … تلك البضائع للتجَّار تستحيل بعد أيام بنادق ورصاصًا للجيش.

سلطان الجبل؛ يجب أن نضع حدًّا لسلطته، يجب أن يُذَلَّ، يجب أن يذهب. رُدِّدَتْ هذه الكلمات في تطوان، ورُدِّدَتْ في مدريد، فاختارت من قوادها أشدهم بأسًا، وأصلبهم عودًا؛ لتضرب الريسوني الضربة القاضية.

عاد الجنرال سلفستر إلى المغرب.

وهناك على رأس جبل العلم، المقدس بروح عبد السلام الطاهرة، في ليلة مقمرة، اجتمع زعماء القبائل من بني عروس وبني غرفط وغمارة والأخماس، ومعهم علماء زاوية تلدي — أكبر علماء المغرب — فولوا وجوههم شطر المشرق، قبلة مسلمِي الغرب، وتَلَوا حزبًا من القرآن، فصلوا وسجدوا، ثم نادوا بالريسوني سلطان الجهاد، وعندما أطلق الناس بنادقهم مهلِّلين، صاح بهم أحد الشيوخ قائلًا: ادَّخِروها للنصارى.

عاد سلفستر إلى صراعه في الأمس، عاد إلى الريسوني بروح جبَّارة، وقوة قهارة، ففتح طريق طنجة، أهم طرق المواصلات الخارجية، واحتلَّ الفندق، باب المواصلات الداخلية. انتزعه من يد عدوه الشريف، فقال ذلك العدو شارحًا أمره: وجاءت الطيارات، طيور الجن ترمي بيض الموت علينا في الفندق، فتراجعنا.

ثم اشتبكت رجاله والعسكر الإسباني في وادي الراس، فدامت المعركة يومين، وكُتِب فيها النصرُ للريسوني، فقال المنتصرون: البركة والله أقوى من جيوش إسبانيا.

ولكن سلفستر، بعد أن استولى على طريق طنجة والفندق، تقدَّمَ إلى أصيلة وصمَّمَ على تطويق بني مصور.

بل كان للقوات الإسبانية، المقسومة إلى ثلاثة أقسام، ثلاث محجات؛ فمن تطوان تطلعت القيادة العامة إلى شفشاون، ومن العرائش إلى بني غرفط، ومن «سلفستر» — كان يعلل سلفستر نفسه، وهو ينظر إلى جبال بني عروس، بالدخول إلى الزاوية المباركة بتزروت.

وما وقف الريسوني عند انتصاره في وادي الراس، بل استمَرَّ يجمع المقاتلة، ويجلب العتاد لحرب طويلة.

عاد سلفستر إلى المغرب، والريسوني لا يخادع نفسه.

ومما هو جدير بالذكر أن الضبَّاط المغاربة، المعلمين في المدارس الحربية الفرنسية والمدربين في الجيش الفرنسي، كانوا يساعدون الريسوني، كما ساعدوا بعده عبد الكريم.

ولا يفوتني أن أذكر كذلك أن الضابط فرنسيسكو فرنكو، القائد يومئذٍ لكتيبة في اللفيف الأجنبي كان مرابطًا في وادي «لاو»، فاشترك في المعارك التي أدَّتْ إلى احتلال شفشاون في أكتوبر من سنة ١٩٢٠.

وبعد احتلال تلك المدينة فتحت الطرق الثلاث بينها وبين وادي «لاو» والعرائش والقصر الكبير، وتُرِكت «عشاش النسور في جبلَيْ بوهاشم والعلم» للريسوني.

في فصل الشتاء من سنة ١٩٢١ بدأ نجم الريسوني يأفل، وفي صيف تلك السنة أفل نجم الجنرال سلفستر، وطلع نجم عبد الكريم الخطابي، الذي أضرم نار الثورة في الناحية الشرقية، فكانت فاتحة انتصاراته نكبة الجيش الإسباني في أنوال.

هناك نكب الجنرال سلفستر، الذي كان قد نُقِل إلى مليلية — مليلية — ليتولى قيادة الجيش الشرقي، ومنه في تلك الأيام تسعة عشر ألفًا في أنوال بجبل أرويت، فهجم الريفيون عليهم، وفتكوا به فتكًا ذريعًا؛ قتلوا ستة عشر ألفًا منهم، ولحقوا بالبقية الهاربة يثخنون فيها، ثم قطعوا على سلفستر الطريق إلى الساحل، فوصلوا إلى أبواب مليلة.

بعد هذه الهزيمة لم تقم للجنرال سلفستر قائمة، بل أمسى ولا خبر له ولا أثر إلا ما كان من إشاعات. فعندما وصلت النجدة إلى مليلة استقبلها النائب العام، فسأله أحد الضباط عمَّا حلَّ بالجيش، فقال: إن سلفستر انتحَرَ — وقيل إنه قُتِل — ولم يبقَ واحد من القيادة العليا، وإن الهلع والذعر استولَيَا على الجنود الهاربين.

كان الريسوني عالمًا بما حَلَّ بالإسبان في الريف، بل كان عالمًا، يوم دنا نجم مجده في المغيب، بما يُعَدُّ للإسبان هناك؛ فقد تراسل وعبد الكريم بخصوص الثورة، فرغب الزعيم الريفي في التعاون ورغب الشريف عنه. أما السبب الحقيقي في ذلك فهو مجهول.

قال لي أحد قادة الريسوني إن المؤن كانت قد نفذت عند الشريف، وإنه كان يأمل أن فوز عبد الكريم يمكنه من تحويل بعض قواته إلى الجبهة الغربية، فخمدت فيها نار القتال ريثما تصل في الأقل المؤن والذخيرة.

وقد قال الريسوني نفسه — روتها روزيتا فوربس في كتابها «سلطان الجبل»:

إذا أخلف الإسبان وعودهم التي قطعوها لي، أراجع فكري بخصوص عبد الكريم.

أما الإسبان فقد كانوا يسعون للسلم في الناحية الغربية، ويواصلون في الوقت نفسه القتال؛ ذلك لأن تغلغُلَهم في الجبال كان محفوفًا بالأخطار، وعندما أبطأ الجنرال بَريرا Barera في زحفه من شفشاون، وفتح الطرق إلى جبال الأخماس، استعادته حكومة مدريد، وبعثت بالجنرال سان خرخو مكانه، فاستأنف الزحف في ربيع السنة التالية (١٩٢٢) تتقدمه الطيارات، فحلَّقت فوق جبل بوهاشم، تمهيدًا للجيش في تطويقه تزروت.

وجاءت «طيور الجن» تضرب تزروت ﺑ «بيض الموت»، فاستمرت في ذلك ثلاثة أيام وهي تهدم وتحرق كل قائم فيها عدا الجامع ودار الريسوني.

حدَّثَني ضابط إسباني قال: كنت في الحملة التي فتحت تزروت، وكنتُ أول مسيحي دخل بيت الريسوني في تلك الوقعة، ساعة كانت طياراتنا ترمي القرية بالقنابل فيسقط منها في ساحة البيت، وهو جالس هناك تحت السنديانة٩ لا يبالي.

ولكن «طيور الجن» أجبرته أخيرًا على التسليم، أو بالأحرى على الرحيل، ففَرَّ ورجاله إلى حيث كان قد أرسل عائلته — إلى جبل بوهاشم ملجأ أهله.

وفي يوليو من تلك السنة سقطت زاوية تلدي، أقدس الزوايا لدى الرياسنة، بعد أن دافعت عنها قبيلة الأخماس بضعة أشهر، وشارَكَ الطلبة في ذلك الدفاع، وعندما انهزموا حملوا معهم المخطوطات القديمة التي كانت مخزونة في زاويتهم المشهورة، كما فعل سابقًا أجدادهم، منذ أربعمائة سنة، يوم خرجوا من إسبانيا ومعهم الكثير من كتب المكتبة العامة بغرناطة.

هي المرحلة الأخيرة في جهاد الريسوني؛ فقد جاءه بعدها الرسل يقولون: إن الجنرال بيرنغر قد عاد إلى إسبانيا، وإن المقيم العام الجديد اسمه برغيت  Burguete، وأنه يحمل في حقيبته طيبات سياسة جديدة؛ فألحوا عليه في الصُّلْح، فأبى أن يكون هو الطالب، وثبت مطمئنًا في موقفه حتى تَمَّ ما كان يتوقَّعه.

عرض المقيم الجديد السلم بواسطة الجنرال خيرونا والقنصل زوغستي والترجمان سرديرا، فاجتمع هؤلاء به في الجبل أولًا وثانيًا، وقد حضر الاجتماع الثاني بعض قادة القبائل التي كانت ترفض السلم، وتريد جهاد النصارى حتى النهاية، فصرَّح الريسوني بمطالبه وعددها، فبدأ الإسبان يقبلون …

وعندما قاموا يودِّعون قال للخدم: خذوا هذه السجاجيد والوسائد ونفِّضوها؛ فقد وسَّخها النصارى!

فعاتبه بعدئذٍ أحد أولئك النصارى، فقال: قد تعمَّدْتُ ذلك، لأسكِّن خواطر أولئك المشايخ، وإلا استحال عقد الصلح مع المحافظة على ولائهم؛ ففي تنفيض السجاجيد مصلحتكم قبل مصلحتنا.

تلك المفاوضات والاجتماعات أسفرت بعد بضعة أشهر — في الخريف من سنة ١٩٢٢ — عن معاهدة صلح وسلم وولاء، ولكن الإسبان لم يسلموا بمطالب الريسوني إلا بشرط واحد، وهو أن يزور الخليفة بتطوان. فَلَانَ الشريف قليلًا وساوَمَ حتى في هذا الأمر؛ أرسل عائلته إلى العاصمة لتزور المهدي بن المولى إسماعيل.

أما مطالبه فهي: (١) أن تُعَادَ إليه أملاكه المحجوزة. (٢) ويُؤذَن لعائلته بأن تسكن في القصر بأصيلة. (٣) وتُبنَى تزروت مقره. (٤) ويُعيَّن للقبائل قادةٌ من كبار رجاله. (٥) ويدفع لجيشه ما حبس من المال أيام الحركة.

وقد تعهَّد هو بأن يسرح ذلك الجيش، إلا الحرس منه، وأن يساعد الإسبان بما له من نفوذ في القبائل ليحتلوا الجبال، ولكنه لم يعترف بالمهدي خليفة للسلطان، ولا لأحد من الحكَّام، وما طلب لنفسه وظيفة أو مالًا.

ولا تغيَّرَ موقفه تجاه البيت العلوي الحاكم؛ فقد أراد أن يكون للبلاد سلطان من هذا البيت حقيقةً ومعنى، قانونًا وعملًا، وإن كان لا بد من الحماية فهو يفضِّل الإسبان «لأنهم يستطيعون أن يحمونا، ولا يقوون على ظلمنا.»

•••

بعد هذه الخاتمة لجهاد الريسوني، اشتدت الثورة على الإسبان في بلاد الريف، وامتدت إلى قلب المنطقة غربًا؛ فانضَمَّ إليها قبائل بني سعيد وبني حسان، حتى بعض أصدقاء الإسبان كالبقالي في غمارة وغيره من القواد.

وحسبنا ذكر بعض الحوادث البارزة؛ ليدرك القارئ مقدار ما قاسته وبذلته إسبانيا في المغرب:
  • (١)

    لقد تجرب في تلك الحروب أكبر قوادها؛ ميلان إستراي وسلفستر ومولا وبيرنغر وخُردانا وسان خرخو، وكان الكومندان فرنكو تحت قيادة أكثرهم في معظم القتال، فقد خاض غمار سبع وأربعين معركة خلال ست سنوات (١٩١٨–١٩٢٤)، فحارَبَ الريسوني، وحارَبَ عبد الكريم.

  • (٢)

    من الحاميات في غمارة، التي حمل عليها الثوار، وأذاقوها الأمَرَّين في الحصار: حامية سولان، فقد قطعوا عنها الماء، فشرب الجنود برميلين من الخل، حتى البول؛ فمات الكثير بينهم صبرًا.

  • (٣)

    استغاثت المعسكرات في قبائل بني سعيد، فأرسلت النجدة الأولى إلى كوب دسْتَه، التي كانت محاصَرَة من جميع جهاتها، فأفنيت بأجمعها، فتَلَتْها الثانية والثالثة في الهزيمة والفناء. كان الكومندان فرنكو يومئذٍ بوادي لاو، فهروَلَ إلى تطوان، يعرض نفسه وجنوده لإنقاذ كوب دسته، فمشى إلى قصده وما أدركه؛ لأن الثورة كانت قد امتدت إلى ضواحي شفشاون وتطوان، فقطعت المواصلات بين البلدين وطنجة.

  • (٤)

    كان الجنرال خيرونا محتلًّا شفشاون ومعه كتيبة من اللفيف الأجنبي بقيادة فرنكو، فاضطر أن يجلو عن البلدة سرًّا في الليل؛ لينجو من جنود عبد الكريم، الكامنين وراء الآكام، وبين الصخور والصبير. مشى فرنكو بكتيبته تلك الليلة، ينقلون المؤن إلى الجيش المرابط بدار عكوب، ويا لها من ليلة تعدَّدَتْ أهوالها! وما كانت أهوال الطبيعة — الأمطار والأوحال والبرد والرياح والظلام الدامس — «لم يكن الواحد منَّا يرى الآخَر» — بأشد من هول المغاربة، الخفاف الأحمال، يرسلون مع الأمطار والرياح وابلًا من الرصاص على أولئك الإسبان؛ فقُتِل في الطريق الجنرال سرانو، وجُرِح الجنرال بيرنغر وعدد غير قليل من الضباط.

توالَتِ النكبات على الإسبان خلال السنوات الثلاث التي تَلَتِ الصلح بينهم وبين الريسوني، وما اطمأنَّ بال الريسوني وهو في تزروت الجديدة، يمحص النفس تحت سنديانته، ويقدِّمها صافية في الزاوية المباركة بين يدي الله. ما اطمأن سيد تزروت، ولا اطمأنت تزروت:

عوى الذئبُ فاستأنَسْتُ بالذئب إذ عَوَى
وصوَّتَ إنسانٌ فكدْتُ أطيرُ

لله من هذا الإنسان، الذي يجر بلاياه على الجماد والحيوان! فتزروت المتفيئة جلال الغابات في جبال بني عروس، تزروت المقدسة، المدمرة، المجددة البناء لا تزال رهينة الردى، ولا تزال الفواجع تتأثَّر سيدَها الريسوني.

والسبب في ذلك وفاؤه للإسبان، وبره بعهده لهم: سأساعدكم لتحتلوا البلاد، ولكن هذا الخطَّابي يعترض لنا في جبالنا.

كان عبد الكريم يحتل المنيع من الجبال الغربية، والإسبان ينهزمون، والريسوني برًّا بعهده، يبذل ما له من النفوذ في القبائل؛ ليجتذبها إلى الإسبان، ويضمن ولاءها لهم. لا بد إذن من اصطدامٍ بعبد الكريم.

هي ذي خلاصة تلك الحوادث المفجعة التي تلت الصلح الإسباني الريسوني، وهاكم الخبر للنكبة التي خُتِمت بها حياة الشريف.

بعد أن خرج الجنرال جيرونا من شفشاون، دخلها جيش الزعيم الريفي وهي مقسومة إلى حزبين؛ غمارة والأخماس. فكانت غمارة قلبًا وقالبًا مع عبد الكريم، وكانت الأخماس تتذبذب بينه وبين الريسوني؛ فسعى لاستخلاصها بالمساعدات — بالسلاح والذخيرة والمال — والاستعانة بها على غمارة. وعمد عبد الكريم في بدء الأمر إلى السياسة والكياسة في مقاومة المساعي الريسونية.

من ذلك أن أخاه محمدًا الذي كان محتلًّا القلعة بشفشاون، أرسل وفدًا إلى الريسوني يدعوه للتعاضد والتعاون، فعاد الوفد خائب الأمل،١٠ ثم بعث خمسة وعشرين من رجاله يطوفون في قرى الأخماس لبَثِّ الدعوة لعبد الكريم، والحث على مناصرته، فكانت «خزانة» أولى تلك القرى وآخِرها.

رحَّبَ أهل خزانة بهم، وأضافوهم، ثم هجموا عليهم بالسلاح في الليل، فقتلوا خمسة منهم، وقبضوا على زعيمهم، ففَرَّ الباقون هاربين.

وقد أُرسِلت على الأخماس حملة تأديبية، بقيادة السي يزيد بن صالح، قائد بني يرزين يومئذٍ، ومن كبار قادة عبد الكريم، فدارت رحى القتال بينهم وبين تلك القبيلة، وكانوا منتصرين؛ قتَّلوا من رجالها وشرَّدوا، ثم حرقوا القرية التي غدَرَ أهلها برُسُل السِّلْم إليهم.

بعد ذلك زحفوا على تزروت، مقر صديق الأخماس، وعونهم العنيد، فالتقت هناك بنادق ابن صالح — تسعمائة منها — بخمسمائة من بنادق الريسوني، فدامت المعركة يومين، قُتِل فيها خمسون من رجال عبد الكريم، ونحو مائة من حملة الشريف.

وفي اليوم الثالث دخل البيت قائد خمسين، يُدعَى الهلالي، ريفيٌّ من الريف، فقبضوا على الشريف الهَرِم — كان يومئذٍ مريضًا وفي السبعين من عمره — وقبضوا على أهله، ومعهم ابنه وأبناء عمه وحريمه، وبعض خدمه، وذهبوا بهم جميعًا إلى تماسنْت.

•••

من السجن بالصويرة سنة ١٨٩٤ إلى الأسر بتماسِنْت سنة ١٩٢٥؛ هي ذي خاتمة مراحله في المغامرات السياسية والروحية، بل هي ذي حياة مجاهد عربي، شريف، فصيح، شجاع، صادق، أبيٍّ، وفيٍّ، كريم.

من الصويرة إلى تماسنت تعصف هذه الروح الجبارة، القصيرة الربيع، الضئيلة الصيف، الطويلة الشتاء، والشتاء الطويل لا يتقدَّمه خريف، ولا يتلوه ربيع!

فبعد خمسة أشهر من واقعة تزروت، وقبل أن نوَّرت الشقائق في جبال الريف، مات الريسوني في تماسنت ودُفِن هناك.

وفي تلك السنة، وذلك الربيع، دُفِنت كذلك آمال عبد الكريم الخطَّابي، بعد أن جمع الفرنسيون والإسبان كلمتهم، فسلَّم للقيادة الفرنسية (مايو ١٩٢٦)، ثم نُفِي إلى جزيرة ريونيون في البحر الاستوائي، وكان لا يزال إلى يومنا هذا في منفاه.

جمع الله كلمة العرب، فيُضيء نورهم مرةً أخرى في العالم.

١  في هذا الفصل خلاصة أخبار وأحاديث مدونة وغير مدونة؛ أما الأولى فقد جاءت في كتاب «سلطان الجبل» للكاتبة الإنكليزية المعروفة برحلاتها الأفريقية والعربية، السيدة روزيتا فوربس التي زارت الشريف الريسوني في مقره بتزروت، بعد أن سكنت حركاته، وأقامت في ضيافته بضعة عشر يومًا تدوِّن أخباره وأحاديثه قدر ما كانت تفهم من لهجته المغربية. وأما غير المدونة، فهي التي جمعها الكاتب من شتى المصادر المغربية والإسبانية، فهي تكمل الرواية الإنكليزية في بعض المواضع، وتمحصها وتصحِّحها في بعضها الآخَر.
٢  راجع [الجزء الأول – الفصل الأول: من الاستقلال إلى الحماية].
٣  راجع [الجزء الأول – الفصل الأول: من الاستقلال إلى الحماية].
٤  مثل هذا حدث في مكتب الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت يوم كانت الحرب قائمة بين ابن سعود وابن الرشيد، وكان الشيخ مبارك محايدًا يريد الشر للاثنين.
٥  راجع [الجزء الأول – الفصل الأول: من الاستقلال إلى الحماية].
٦  كل مغربي طامع بالفرار من العدل في تلك الأيام — أو من الظلم — كان يلجأ إلى دولة أجنبية طالبًا حمايتها، وكانت الدول تمنح الطالب حقوق الرعوية لأغراضها السياسية في المغرب.
٧  كان الريسوني مع ذلك أرفق باليهود من أسلافه حكَّام المغرب، الذين كانوا يوجبون على اليهودي أن يخلع نعله ليس فقط في سوق بها مسجد، بل أمام بيت القاضي أيضًا والقائد، وكان يُجبَر في مدينة فاس أن يمشي حافيًا.
٨  كانت الحكومة لا تزال آسرة حريم الشريف في القصر، ومعهن ولده خالد.
٩  هذه السنديانة العتيقة يقدسها الرياسنة، فعندما بنى الشريف بيته لم يقطعها، بل بنى البيت حولها.
١٠  قال الريسوني لمؤلفة كتاب «سلطان الجبل» ما أترجم حرفيًّا:

إنْ عَلَّمَ الأجنبي الوطني، فالوطني أخيرًا يغلب الأجنبي. هذا عبد الكريم الخطابي قد تعلَّم في مدريد وصار مهندسًا تخصَّصَ في علم المناجم، ولكنه استخدم علمه للتخريب. هو يحارب القدر، بدل أن ينتفع بما أرسله الله. لما كان صبيًّا طلب والده مني أن أساعده ليرسل ابنه إلى مدريد يتلقَّى فيها العلوم ففعلت، فكان جزائي أن يعاديني عبد الكريم، ويحرِّض القبائل عليَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤