الفصل التاسع

من القصر الكبير إلى القصر بأصيلة

في هذا الأوقيانوس الذي تلطَّفَتْ حواشيه بأساطير الأقدمين، وحول جزائره الخالدات، وعلى شواطئه الذهبية، نشر حَنُّو الفينيقي، منذ ألفين وخمسمائة سنة، أشرعته الزاهية الألوان، المقدسة في هيكل البعل، وسجَّلَ في تاريخ الرحلات الاستكشافية العمرانية خبر رحلة الإنسان الأولى، التي ربطت قرطنجة بطنجِس (طنجة) ووصلت طنجِس بجزائر الخط الاستوائي، بعد أن أسَّسَ تلك المستعمرات والمدن المخلدة لذِكْره وذِكْر رفقائه أبناء فينيقيا الأفريقية.

أجل، إن أول مَن رحل رحلة استكشافية عمرانية في العالم هو حنُّو الفينيقي، الذي تقدَّمَ كولمبوس بألفَيْ سنة.

وفي هذا المغرب الأقصى، بمدينة طنجة، وُلِد الرحَّالة العربي الأول ابن بطوطة، وقام برحلاته في الشرق والغرب وفي أواسط أفريقيا، كاشفًا لأسرار البلدان وشعوبها، واقفًا عند آثارها وأطلالها، مسجِّلًا لما شاهَدَ من عجيب العادات والتقاليد والعقائد، ولما سمع من غريب الأخبار والقصص والأساطير، مصوِّرًا ببيانه تلك الصور الأدبية التي لا تزال مشرفة مُطرفة في صفحاته الخالدة.

أجل، إن أول مَن رحل رحلة استكشافية أدبية في العالم هو هذا العربي المغربي أبو عبد الله محمد المعروف بابن بطوطة، وكان ذلك بعد حنُّو بألف وثمانمائة سنة.

فإن كان الفينيقيون من العرب، أو كان العرب من الفينيقيين، لا فرق اليوم عندنا، فقد تبيَّنَ من دَرْس الآثار المكتشفة في خرائب القصور والقبور — في جبيل والبحرين — أن الشعبين من جنس واحد، هو الجنس الفاتح بفرعيه العمراني والأدبي، الجنس السامي الجامع بين الخيال الروحي والحقائق المادية، وإنَّ فخْرَنا اليوم بالرائدين الفينيقي والعربي من روَّاد الاستكشاف العمراني، والاستكشاف الأدبي، لَهُوَ فخر واحد، لا ينقص إذا ما ذكرنا حنو، ولا يزيد في ذكرنا لابن بطوطة.

وإن صاحب هذه الرحلة الأدبية العمرانية السياسية لَمِنْ سلالة هذين الرائدين العربيين الفينيقيين، ولكن بين يومه وأيامها أحقابًا من الزمن طلعت فيها نجوم للفينيقيين وللعرب، وأفلت نجوم، فبعد أن أشعلنا في العالم مصابيح العلم والأدب والعمران، وشيَّدنا لها المعاهد والقصور، دُمِّرت الديارُ، وأُطفِئت الأنوار، وطُمِست الآثار. ذهبت النكبات بما شيَّدْنا فأمست الأمة المجيدة ذات تاريخ مجيد، بمآثره وكنوز العلم والأدب، ثم جاء المستشرقون الأوروبيون يرحلون رحلاتهم العلمية، فيكتشفون تلك الكنوز ويدرسونها، متطلعين منها إلى ماضينا العربي الفينيقي، ذلك بعد أن كنَّا نحن المدرسين المعلمين لتلك الأمم، أممهم، البانين لهم حاضر حضارتها السعيد، المتطلعين مما شُيِّدَ فوقه إلى مستقبلنا الحافل بالأمجاد.

ومن أولئك المستشرقين المستكشفين: العالِم الإسباني دومنغو باديا لبلخ  Domingo Badia Leblich المعتنق الإسلام، المنتحل اسم علي بك العباسي، الذي ساح في هذا المغرب الأقصى سياحته العلمية، الاجتماعية الأدبية، في العقد الأول من القرن الماضي، أي منذ مائة وثلاثين سنة، فكانت الرحلة الأوروبية الأولى من بابها.
وقد طبع كتاب رحلته باللغة الفرنسية، في ثلاثة أجزاء سنة ١٨١٤، طُبِع بباريس في تلك الهدأة النابليونية بين جزيرة إلبا وواترلو، يوم عادت الملكية البوربونية تصلح العرش المتداعي للملك لويس الثامن عشر. وقد قدَّمَ الطابعُ الكتابَ بكلمة وجيزة تُوقِفنا في هذا الزمان مدهوشين لما كان ينتاب الأمم في كل زمان من الخوف على التمدن، بل من الذعر والهلع، فتنادي بالويل والثبور، وتذرف الدموع على الحضارة والدين والثقافة والعمران، المهددة كلها بالخراب والاضمحلال. اسمع لأرميا تلك الأيام:
لم تكن أوروبا في زمن ما مهدَّدة كما هي اليوم بالنكبة الجارفة التي ستعود بها مسرعة إلى التوحُّش Barbarie، فالعلوم والفنون، والتمدن ثمرتها، كادت تكون على وشك الزوال من بلادنا، عندما أعادت العناية الإلهية جلالتكم إلى عرش القديس لويس وهنري الرابع رحمة بالإنسانية …

واسمع لأرميا هذا الزمان، وقد رأى تلك العناية وتحقَّق مقاصدها. فهي تبعث اليوم بالحليفتين إنكلترا وفرنسا لتنقذ الديمقراطية، بل الحضارة نفسها، من الأخطار التي تهدِّدها بالاضمحلال، وتنذر بعودة الأمم إلى التوحُّش. إن بين أرميا الأول وأرميا الثاني قرنًا وربع قرن من الزمن، وليس ما يدعو للذعر والهلع في الحالين غير فرق واحد، وهو أن تلك الأخطار الوهمية كانت في الماضي نابليونية فرنسية، وهي في الحاضر هتلرية ألمانية، وقد تكون بعد مائة سنة بلغارية أو تركية.

أما المدنية فهي تفدي نفسها دائمًا بالمال، وأما الديمقراطية أختها بالسفاح، فإن لها مثل القطط سبعة أرواح، فلا خوف على الاثنتين ولا هما تحزنان!

نعود إذن مطمئنين إلى موضوعنا وصلته الآن بعلي بك العباسي؛ فقد جاء هذا العالِم الإسباني المغرب في عهد السلطان العلوي المولى سليمان، يحمل إليه الهدايا المثيرة للظنون. لم يكن علي بك من الأغنياء ليرحل رحلة أميرية كلامارتين بعده مثلًا أو السير ولفريد بلونت وزوجته حفيدة اللورد بيرون، إنما كان مقرَّبًا من نابليون بونابرت، وقيل إنه كان رسوله إلى العالم الإسلامي في المغرب والمشرق، مهما يكن من الأمر فإن ما حُمِل إلى السلطان لا يتناسب ومقاصده العلمية؛ فمن تلك الهدايا مدفعان وعشرون بندقية وثلاثون مسدسًا وبرميل من البارود الإنكليزي، تقبَّلَها السلطان شاكرًا، وقد أكرَمَ صاحبها إكرامًا خاصًّا ممتازًا بإهدائه — في ظرف من الدمقس المطرز بالقصب — رغيفين من الخبز. فهنَّأَه الوزير بهذه الهدية قائلًا: لقد صرت أخًا للسلطان!

وقد برهَنَ جلالته غير مرة على هذا الإخاء. فهاك آية من الكتاب الكريم يخطها بيده ويقدِّمها له ليحفظها ذكرًا منه، وها هو ذا وضيفه في المخلوان بالقصر، يحدِّثه في بعض الشئون الشخصية، ويُعِيب عليه طول شاربيه، فيأمر بالمقص ويشير بمقدار ما يجب أن يشذب لتتم في وجهه آية الحُسْن والتحلية.

وقد اهتَمَّ المولى سليمان، وهو الفقيه العالم المحب للعلماء، بأدوات علي بك العلمية لرصد النجوم، وقياس درجات الأرض، وتسجيل الحرارة والرطوبة في الجو، فرفع إحداها بين يديه معجبًا بها، فقدَّمَها هدية إليه، فرفضها قائلًا: لا نُحسِن استعمالها، فهي تنفعكم ولا تنفعنا.

إن رحلة علي بك العباسي لتمتاز بالوصف الجغرافي والطوبوغرافي للأماكن التي مَرَّ بها، وتحقيق درجات الطول والعرض للمدن التي زارها، مع تصحيح بعض الأغلاط التي كانت شائعة في أيامه؛ فقد كان يحمل خارطة لبلاد المغرب، ظهر فيها مثلًا نهر لوكوس شمالي مدينة القصر الكبير، وهو يمرُّ جنوبًا منها، ثم ينعطف شمالًا إلى مصبه في ميناء العرائش، كما قدَّمْتُ في فصل سابق.

لقد كانت القصر الكبير — على ما يظهر من كلام هذا المستشرق — أكبر من طنجة في القرن الماضي، بل كانت المدينة الأولى، بعدد سكانها وأهمية مركزها التجاري، بين مدن الجنوب والسواحل الشمالية. بيوتها مبنية بالطوب، وسطوحها مفروشة بالقرميد كما في أوروبا، وسوقها الكبيرة عامرة بالمخازن والناس، وبينهم النساء المحجبات يلبسن الجوارب.

أما اليوم فالقصر الكبير هي المدينة الثالثة١ أو الرابعة في هذه المنطقة، تتقدمها طنجة، فتطوان، فالعرائش. لم يقف علي بك في القصر الكبير، في طريقه من طنجة إلى فاس، ليصفها بالتدقيق الذي يميِّز وصفه للعرائش وطنجة؛ فقد كان نهرها شمالًا منها — على خارطته — فردَّه إلى مكانه في الجنوب، وما رأى حتى من ظاهر حالها غير طوب بيوتها، وجوارب نسائها.

هذه المدينة هي اليوم قريبة من مركز الحدود بين الحمايتين الإسبانية والفرنسية، أي من عرباوة، على خمسة كيلومترات جنوبًا منها. أما اسمها، فهو يعود إلى قصر قديم فيها كان يُعرَف بقصر كتامة لأحد قادة بني سريف، عبد الكريم الكتامي، نسبةً إلى قرية من قرى هذه القبيلة، لا إلى كتامة القبيلة المشهورة في المغرب.

وفي القصر الكبير اليوم ما لم يكن بالأمس في سائر المغرب، ولا في خيال علي بك العباسي. في القصر الكبير، محطة لسكة الحديد بين طنجة وفاس، ومطار عسكري إسباني تحطُّ فيه أيضًا الطيارات الألمانية للسفر من أوروبا إلى مدينة القصر الكبير، ومنها إلى الجزائر الخالدات التي تُدعَى اليوم باسم ذلك الطير الغريد الكنار — جزائر كناري. وفي القصر الكبير كذلك مدرسة ليلية للأميِّينَ، وفروع للأحزاب السياسية في العاصمة، ومركز للإذاعة!

ومن شرفة بيت الإذاعة كان زعيم من زعماء المغرب يخطب يوم زيارتنا (١٦ مايو) خطبة من نار، تتطاير بشرارها إلى ما دون عرباوة، إلى قلب المنطقة السلطانية، إلى مقر السياسة الفرنسية؛ فيردِّد الجَمْع المحتشد في الساحة كلمة الخطيب: ليسقط الظهير البربري، ليحيا المغرب موحَّدًا مستقلًّا.

هذا ما سمعه سائح اليوم، وأما السائح بالأمس علي بك العباسي، فقد سمع الخطيب وهو يخطب خطبة الجمعة في المسجد بفاس، يقول: لا تبيعوا للنصارى، ولا تشتروا من النصارى، لا تتعاملوا والنصارى في أي حال كان.

تغيَّرت الألفاظ، وما تغيَّرت المعاني. تبدَّلت اللهجات، وما تبدَّلت الغايات. هي المقاطعة الاقتصادية منذ قرن وربع قرن. هو الدفاع السلبي في الماضي وفي الحاضر، أما أن الضعيف لا يعتدي على القوي فهو معلوم، وأما أن العرب اليوم، بل الإسلام، في موقف الدفاع فهو معلوم مؤكد أيضًا، ولكن أمم النصارى تخطب كلها اليوم ودَّ الإسلام والمسلمين، العرب وغير العرب، فهل نحن في آخِر ليل المسيحية والإسلام؟ هل نحن ندنو من الفجر الأول، فجر اليوم السعيد في تاريخ الأمم الكبيرة والصغيرة، القوية والضعيفة، في المشرق والمغرب؟ وهل نحن مُقبِلون على عهد جديد في السياسة الأوروبية؟

قُلْ: إن شاء الله، وتعال نكمل رحلتنا.

ليت كل شيء في هذه البلاد المغربية مثل هذا الطريق بين القصر الكبير والعرائش؛ فهو أجمل طريق في المنطقة الشمالية، ومن أجمل الطرق في العالم؛ إن كان في تعبيده، أو في السهول الخضراء التي يمر بها، أو في تشجيره إلى الجانبين من المدينة الواحدة إلى الأخرى — أي مسافة سبعة وثلاثين كيلومترًا — بشجر الكينا النامي نموًّا ماتعًا سويًّا، المغروس على المتر والخيط بقياس واحد هندسي! وأجمل من كل ذلك الرعاية المشمول الطريق بها؛ فقلَّمَا تجد فيه موضعًا حافرًا أو ناتئًا، وقلَّمَا تجد في صفي أشجاره مكانًا واحدًا فارغًا، أو شجرة واحدة متأخرة أو سابقة في نموها. هذا الاعتناء الدقيق يندر في أعمال أهل المغرب العامة. هو أوروبي ولا غرو، يُشاهَد مثله في أكثر الأعمال العامة في أوروبا، وخصوصًا في تشجير جوانب الطرق، وتزيين الحدائق بفرنسا وإسبانيا.

أما السهول، فلم تكن مأهولة يوم مَرَّ بها علي بك العباسي، ولم تكن غير مرعى للماشية؛ فكان يرى في طريقه خيمة هنا وأخرى هناك، وأكواخًا للعرب الرعاة، وقطعانًا من الغنم والبقر تُرعَى حيث نشاهد اليوم سهولًا مزروعة، وبيوتًا في أطرافها للمزارعين.

في مثل هذه المقارنات بين مظاهر الحياة والطبيعة في الأزمنة المختلفة يظهر بعض فضل الرحلات العلمية والأدبية. لقد تحوَّلَ وجه هذه الأرض شكلًا ولونًا، من الكلأ إلى الحنطة، وفي ذلك شيء من التقدُّم. ليت شعري ماذا يكون حالها بعد مائة سنة؟ فلو عاد علي بك العباسي إلى المغرب اليوم لأدهشته ولا ريب نتيجة اكتشاف البخار بعد وفاته ببضع سنوات، بل لأدهشته إحدى نتائجه في سكة الحديد، ولأدهشته أكثر من ذلك ظاهرة اللاسلكي والإذاعة في اكتشاف الكهرباء والأثير الكهرطيسي في الفضاء. فما الذي يدهش يا تُرَى مَن يعود بعد مائة سنة إلى هذا الوجود؟!

على أن هناك تقاليد وعادات هي من الجمود كالجلمود، فلا تغيُّرَ فيها ولا تبدُّلَ، وهذا المغرب في بعض مظاهره الاجتماعية، وعاداته وتقاليده الدينية، لا يزال اليوم كما كان منذ مائة، بل خمسمائة عام؛ فهذا صبيٌّ على جواد وبعض خلانه يطوفون به في المدينة احتفالًا بانتهائه من قراءة القرآن. هي حفلة الختمة التي يفرح بها ذلك الصبي وأهله، ويهلِّل لها الناس فتحييه الرجال، وتزغرد له النساء.

هذه العادة عربية من قلب بلاد العرب، وهي لا تزال شائعة هناك، وخصوصًا في نجد، مع هذا الفارق؛ فالصبي في حفلة الختمة بالرياض مثلًا يمتطي جوادًا ويشهر سيفًا، وكذلك مَن يراكبونه من خلانه فيطوفون في المدينة وهم يهتفون: سامعين لامعين — أي إنهم سامعون دعوةَ الجهاد يلبُّونها وسيوفهم لامعة!

وهاك قبرًا ذا قبة لولي الأولياء ركب في حياته الدنيا هواه، فحلَّل لنفسه المحرَّمات، وأكثر من الصلاة والشعوذة، فقال الناس إنه ذو كرامات، وأنه إذا شرب الخمر حوَّلَه الله لبنًا على لسانه!

ومما شاهد علي بك في العرائش، التي كانت قرية لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة آلاف نفس، وهي اليوم مدينة سكَّانها عشرة أضعاف ما كانوا في تلك الأيام، شاهَدَ خارج القرية مقامًا لولية أسماها مريانا — مرجانة — مقامًا يُزَار كما تُزَار مقامات الأولياء في هذه الأيام للعبادة والتوسُّل، وليس هذا المقام الوحيد لولية تُستغاث في بلد من بلدان الإسلام؛ فلا يُستغرَب ذلك في المغرب، وقد مَرَّ بك في فصل سابق ما كان للنساء في الماضي من المنزلة الرفيعة في الكهانة، أما اليوم فلا أثر في العرائش، على ما أعلم، أو في غيرها من المدن لمزار الولية مرجانة، أو لولية غيرها بين الأولياء.

ولم يكن في هذه المدن الشمالية التي زارها العباسي أو مَرَّ بها صرح يُذكَر من الصروح، أو جامع يمتاز بشيء يُذكَر من الفن في الهندسة أو التزيين؛ ذلك لأن هذه الناحية الشمالية لم تكن على جانب كبير من العمران، فالمغرب الأقصى في عهد المولى سليمان وأسلافه كان يبدأ بالرباط على شاطئ البحر، وبمدينة فاس في داخل البلاد.

إنما كان لطنجة، على ما يظهر من أخبارها في الكتب القديمة العربية، ماضٍ مجيدٌ، وخصوصًا في عهد الإسلام الأول، يوم مَرَّ بها إدريس الكبير في طريقه إلى المغرب، ثم طرأ عليها من الطوارئ في الحروب، ومن الانقلاب في الاستيلاء، ما جعلها في المنزلة الثانية أو الثالثة بين المدن الشمالية.

أما أصيلة، القائمة على شاطئ الأوقيانوس بينها وبين العرائش، فهي اليوم من المدن الصغيرة أو القرى الكبيرة، سكَّانها لا يتجاوَز عددهم الثمانية آلاف نفس، على أنها في أهميتها التاريخية والأثرية، قديمًا وحديثًا، مثل طنجة في زمانها الغابر.

كانت أصيلة — أو أرسيلا كما تُكتَب بالإسبانية Arcila — من المستعمرات الرومانية، وقُلِ الفينيقية قديمًا، وقد كانت في أيام العرب أول مدينة العدوة مما يلي المغرب، كما يقول ياقوت الحموي، نقلًا عن أبي عبيد البكري. ويقول ياقوت أيضًا إنه «كان عليها سور، ولها خمسة أبواب.»

وذلك السور دُمِّر في الحروب بين العرب والبرتغاليين والإسبان، ولم يَبْقَ منه غير برج واحد من أبراجه على البحر، ظاهره برتغالي لا عربي، كان البرتغاليون جدَّدوه، ثم دمَّرَه العرب في استرجاعهم المدينة، أو الإسبان عندما رموها «بالقنابر» في النصف الثاني من القرن الماضي.

على ذلك الشاطئ وراء تلك البقية من السور، شيَّدَ الشريف أحمد الريسوني قصره الكبير، الذي يضاهِي فنًّا وجمالًا واتساعًا، أعظم القصور العربية في الأندلس أو في المغرب.

ولقد بناه يوم كان حاكمًا في أصيلة من قِبَل السلطان عبد الحفيظ، فاتهمه الجنرال سلفستر بالتسخير في بنائه، ولا أذكر فيما قرأت أو سمعت من أخباره أنه ردَّ هذه التهمة أو فنَّدها، وهو الصريح الصادق في أعماله وأقواله، فلو لم يكن سلفستر صادقًا في الاتهام لما سكت الريسوني، وكأني به يقول — وهو العالم بما كان من مسلك الحكَّام المسلمين وغير المسلمين قبله: أطعموا المحابيس وشغِّلوهم؛ فخير لهم أن يعيشوا ويشتغلوا من أن يموتوا من الجوع والكسل.

وكذلك كان في تشييد القصر بأصيلة، وفي تشييد ما تقدَّمَه من القصور في غرناطة وقرطبة، وبلنسية وفاس ومكناسة.

إن القصر بأصيلة لَهُوَ الريسوني مجسمًا للخلود — الريسوني بفكره، بعمله، بضميره، ببسطة يده. وبكلمة أخرى: إن عظمة الريسوني مجسَّمة في هذا القصر؛ فهو آية في الإسراف بناءً وتزيينًا. أما في الهندسة والفن فليس فيه ما يُحسَب ريسونيًّا؛ إنه لَعربي أندلسي بصحنه وردهاته وبهوه الكبير، كما أنه عربي بمقصوراته المثقلة جدرانها بالرسوم والأصباغ وبالآيات القرآنية والأشعار. كيف لا وفي الحمراء مثلًا مقصورات أخَذَ عنها صنَّاع المغرب كل ما زيَّنوا به جدران الديوانخانة في الطابق الأول؛ فالجدار مقسوم إلى ثلاث مناطق غنية: الأولى من الأرض إلى الوسط، فسيفساء زليجية بالأصفر الفاتح والأخضر الغامق والأزرق النيلي. والثانية جص منقوش، ملوَّنة رسومه بالأخضر الفاتح والأبيض المسيج بالرماد. والثالثة خشب محفور بالأشكال المقرنصة المصبوغة بالأخضر والأصفر والأحمر، تعلوها تلك التي تتصل بالسقف، وهي مثلها من الخشب، في رسوم هندسية، دوائر ومثمنات، بدل التقرنص، مصبوغة بالأصباغ التي ذُكِرت، وقد أُضِيف إليها التذهيب. فمن الرسوم المذهَّبَة في أعلى الحائط إلى الفسيفساء الزليجية في أسفله، وبينهما الجص الملون والخشب المحفور؛ هو ذا الإسراف في الفن، بل البذخ والتبذير. فلو وُزِّعَ ما في هذه الغرفة الصغيرة — هي مربَّعَة لا تزيد في طولها وعرضها على الخمسة الأمتار — لو وُزِّعَ ما فيها من النقوش والرسوم والأصباغ وأشكال التزيين الأخرى، على بهو حجمه خمسة أضعاف حجمها، لظَلَّ كثيرًا، ويحسب خارجًا عن التوازن الصناعي والتناسب الفني في البناء.

ولكن التناسُبَ قائم في صحن القصر، وفي وسطه بركة بنافورة من الرخام الطلياني، حوضها قطعة واحدة من المرمر الرقيق، دائرتها خمسة أمتار أو تزيد. هو حوض أنيق الشكل. وهذه النافورة — أو الشاذوران كما تُسمَّى في اليمن — قائمة في وسط صحن طوله مثل عرضه خمسة وعشرون مترًا، تعلوه قبة من زجاج بينها وبينه طابق ثانٍ فيه بهو الاستقبال كبهو السفراء في الحمراء، يليق بأن يكون بيت القصيد لأعظم القصور الأوروبية. مساحة هذا البهو ثلاثون من الأمتار في عشرين، سقفه من الخشب المحفور المزين بالرسوم الهندسية المصبوغة بالصباغ اللازوردي، المطليَّة بالذهب، وفي وسطه قبة كبيرة هرمية الشكل، وإلى جانبيها قبتان صغيرتان مثلها شكلًا، يحيط بكلتيهما أربع كوات محفورة مقرنصة وملونة بألوان السقف الذهبية واللازوردية. إذا ما وقفتَ في هذا البهو يجذب السقف ناظريك، فلا ترى الجدران — وهي مثل تلك التي في الديوانخانة — مقسَّمَة إلى مناطق فنية متعددة متنوعة، ولكن الإسراف فيها يتناسب ومساحتها، فيزين ولا يشين.

هذا البهو يفضي إلى بهو آخَر ولا يفصل بينهما غير صفٍّ من العمد والأقواس الأندلسية، ثم إلى رواق، وراء صف آخَر من هذه الأقواس والعمد يُشرِف على البحر، ويُرَى تحته البرج الباقي من السور البرتغالي، وقد بَدَا صغيرًا حقيرًا بين بحرين، ومن تلك الناحية البحرية يجيء النور وتجيء الشمس في الأصيل، فيملأان الرواق من فيضهما، ثم يدخلان رويدًا رويدًا إلى البهوين، فيلمسان أرجاءهما وألوانهما ورسومهما لمس الحب والاحترام ملمسًا لطيفًا يزيد بما لهما من جلال وفخامة.

وهناك فوق الديوانخانة في الطابق الأول مقصورة أخرى مثلها في الطابق الثاني مزيَّنَة جدرانها بالرسوم الهندسية الملونة التي ذكرت، إلا أن المنطقة الوسطى المحفورة رسومها في الجص باقية على لونها الطبيعي. أإهمالًا من الصنَّاع أو عمدًا لست أدري؟ فهي بين القسم الزليجي والقسم المذهب فوقها آية في الجمال الرائع الخلَّاب، كأنها منطقة من عاج بين منطقتين من الذهب واللازورد. منطقة من العاج، من ذلك اللون العاجي المحروق المنقطع النظير الذي يميِّز صور رمبرانت الزيتية عن سواها من روائع المصورين. هو فن جميل أصيل.

والعجيب أن صاحب القصر الشريف الريسوني كان ينام في هذه الردهة، ينام ناعم البال كأنه نائم في كوخ بجبل العلم! إن ذلك لعجيب عجيب في نظري. فكيف ينام المرء، وهذا الجمال الفني يقبض عليه من السقف والجدران كأشعة الشمس الشارقة بين عينيه، أو كقوس قزح بين جفنيه. إن كان بي شيء من النعاس، ودخلت هذه الردهة، يطير في الحال على جناح البهجة والحبور.

أقول فوق ذلك: إن في الطابق الأول مسجدًا، ولا يفوتني أن أذكر كذلك أن في ناحية من القصر، بالقرب من هذا الجمال الفتَّان، الملطف للشعور، المرهف للإحساس، في هذا الجوار الفني القدسي، ذلك السجن الذي أشعل في صدر الجنرال سلفستر نيران السخط والغضب، وكان من أسباب نكبة الريسوني، كما يقول السياسيون، وفي القول مقاصد تضيع عندها الحقيقة؛ فالظلم ظلم فظيع منكر يوم نريد أن نعزل الحاكم الظالم ونقضي عليه، والظلم عدل وحكمة ومرحمة يوم لا نريد غير تأييد صاحبه وتعزيزه.

لقد أشرت في مواضع شتى من الفصل السابق إلى الأسباب التي حملت الحكومة الإسبانية على حجز أملاك الريسوني، ومنها هذا القصر، ثم أعادت إلى ولده خالد الأملاك دون القصر الذي هو الآن ملك الحكومة الخليفية، وقد رأينا العمَّال يمدون الأسلاك الكهربية، ويصلحون بعض الغرف لأغراض عامة، فيضاف إلى الآثار العربية الخالدة، ويغدو مثل الحمراء والقصر بأشبيلية مزارًا للسيَّاح والمستشرقين.

انتهينا من الطواف في القصر، ووقفنا في ساحة البلدة أمام القلعة البرتغالية التي لا تزال قائمة هناك، ومشينا من الساحة نتذوق روح «أصيلة» في بيوتها وشوارعها، فإذا هي كالعرائش والقصر الكبير، لا يميزها عن سائر المدن الشمالية غير ذلك القصر المنيف، قصر الشريف الريسوني. الوداع يا أيها الشامخ بأنفه على تلك البقية من آثار الأجانب الذين كانوا بالأمس من المتغلبين.

وها نحن أولاء في الطريق عائدين إلى تطوان، ترافقنا البهجة، ويحدونا الإعجاب، فلا نزال في ظلال الأشجار، وبين بهاء السهول المتمومجة بفتي الحنطة والشعير. إن أخصب أراضي المنطقة الخليفية هي ها هنا في هذه النواحي الغربية البحرية، بين الربى الوادعة، المكسوة بالأزهار والنبات الطيب الأريج.

فها هي ذي حجرة النخل أو العقبة الحمراء مركز الحدود الدولية المغربية؛ فالفرع الشمالي من الطريق ينتهي إلى المدينة الخضراء (٢٤ كيلومترًا) والشرقي الذي نحن فيه يستمر إلى المدينة البيضاء (٦٣ كيلومترًا). قلت إن حجرة النخل مركز فأخطأت؛ إنها لمراكز عدة للشرطة والحراسة والمراقبة والجمرك وجوازات السفر!

فما أقرب طنجة، وما أبعدها!

وهذا النهر نهر المُهَرْهَر، يسير الهُوَيْنَا، وهو ينقبض ويتلوى بين المنطقة الخليفية والفحْص، أي الأرض الطنجاوية الدولية.

فيمَ الإقامة بالزوراء … وفيمَ الوقوف؟ دُرْ بنا دون هذه المراكز السياسية الدولية. دُرْ بنا فوق تلك الرابية … دُرْ بنا في هذا القاع السندسي وراءها … دُرْ بنا بين هذه الربى الممرعة التي تدعو الرجايع … وفيها مرقب وثكنة للحكومة الحامية.

ومن المرقب ترى الحدود الدولية بين طنجة وتطوان، فيشير إليها الدليل، ويمكن اللفظ، ولا يفوتنا العلم: هناك الحدود الدولية!

اثنان وخمسون كيلومترًا بين هاتين المدينتين الشقيقتين: طنجة، وتطوان. اثنان وخمسون كيلومترًا تحسبها في أشواقك الإنسانية كيلومترًا واحدًا، وفي علومهم الدولية اثنين وخمسين ألفًا من الكيلومترات!

١  عدد سكانها ثلاثون ألف نفس، منهم خمسة آلاف من الإسبان، وبضعة عشر من الإنكليز والفرنسيين والألمان، وألفان من اليهود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤