الفصل الثاني

الجنرال فرنكو

كانت برغوس من المدن التي انضمت إلى الثورة في شهرها الأول، وقد اتخذها الجنرال فرنكو مركزًا للقيادة العليا، لا لذكرياتها التاريخية القديمة فقط، بل لأنها كذلك في موضع حصين من الأرض، وعند ملتقى الطرق العامة المسهلة للمواصلات بين الشمال الغربي والجنوب.

وقد أسَّسَ فيها مجلس الدفاع الوطني، الذي شرع يُصدِر جريدة الوقائع الرسمية، وأنشأ الملجأ الذي اشتهر بضيافته السابقة لأهل القتلى من الجند وللجرحى والمحاويج.

ثم عين برغوس يوم وصولنا إلى السراي القديم لاستقبال أعضاء مجلس الشورى الأعلى العام، الذي انعقد في اليوم التالي، لأول مرة بعد النصر برياسة الجنرال فرنكو؛ فحضره الزعماء والحكَّام، والمدنيون والعسكريون، من جميع ولايات إسبانيا، وبينهم آنستان تمثِّلان نساء الأمة، هما السنيوريتا بيلار بريمو ده ريفيرا، والسينيوريتا مرسيدِس بتشيلار.١

وقد تناوَلَ المجلسُ البحثَ في جميع المسائل والمشاكل التي أورثتها الثورةُ الأمةَ، وخصوصًا مسائل التنظيم السياسي والاقتصادي، والترميم للمدن والأماكن المدمرة، ولكن الترميم لا يتم بدون المال، وقد كان ذهب إسبانيا، الذي أَوْدَعه الجمهوريون في فرنسا، لا يزال محفوظًا هناك، والحكومة الفرنسية تسوف في إعادته إلى الحكومة الوطنية، فذكرها الجنرال فرنكو في خطبته تذكيرًا معززًا للحقوق الإسبانية، والعلاقات الولائية في الوقت ذاته بين البلدين والحكومتين؛ مما دلَّ على أنه في السياسة، كما أنه في الحرب، يقرن الحَزْم بالحكمة، والشجاعة بالحصافة، شأن السياسيين المحنكين.

إني مردِّد ما قالته الجرائد الإسبانية وبعض الفرنسية في تلك الخطبة، ولست باحثًا في الشئون الداخلية والخارجية التي تناولتها؛ إذ ليس ذلك من أغراض هذا الكتاب.

جئتُ برغوس لأقابل الجنرال فرنكو في مسألة واحدة من مسائل حكومته الخارجية، هي مسألة المغرب الأقصى وعلاقته بإسبانيا، فانتظرت إلى أن ختم المجلسُ اجتماعاته في اليوم الثاني، وكان لي في برغوس من ماضيها ما شغلني ثلاثة أيام بالطريق المفيد من آثارها وذكرياتها.

وجاءني في اليوم الرابع السنيور طوباو يقول: الجنراليسيمو يستقبلكم اليوم بعد الظهر.

الطريق إلى البيت، مقر رئيس الحكومة ومسكنه، يمتد بين صفين من أشجار الكستناء الزاهرة الوارفة الظلال، والبيت على هامش المدينة، هو بيت وديع غير ذي فخامة، قدَّمَه صاحبه للجنرال فرنكو أيام الثورة، فجعل الطابق الأول مكتبه، والطابق الثاني سكنًا له ولعائلته.

دخلنا حديقةً يتصدَّرها البيت، ومررنا بين حارسين من الجنود المغاربة عند الباب، فإذا نحن في غرفة كاتب السر حيث انتظرنا بضع دقائق. فاستدعى أولًا رفيقنا السنيور طوباو، ومعه نسخة من السؤالات التي كتبتُها وترجَمَها هو إلى الإسبانية، فاختلى الجنرال به بضع دقائق، ثم خرج طوباو يدعوني والبستاني للدخول.

مررنا خلال ستائر من المخمل تحت صورة ألفونس العاشر المعلَّقة فوق الباب، فمشى الجنرال من وراء مكتبه لاستقبالنا، وهو مرتدٍ ثوبًا عسكريًّا بسيطًا أصفر اللون، من نسيج اﻟ «كالي»، وطوق قميصه مبسوط فوق طوق جاكتَّته على الطريقة الإسبانية. صافحته محني الرأس ساكتًا، وهو يقول بالإسبانية ما معناه: أهلًا وسهلًا. وبعد أن جلست إلى جنبه على الديوان، وجلس البستاني وطوباو على كرسيين أمامنا، شكرته باللغة العربية على تفضُّله في الإذن بمقابلتي، وهنَّأته بالنصر في ساحة الحرب، ورجوت أن تكون انتصاراته في ساحة السلم أعظم. فترجَمَ طوباو كلامي وكلمة الشكر التي فاه بها.

ثم أشرت إلى السؤالات التي كان قد اطَّلَعَ عليها، وبما أنه في جوابه تناوَلَها كلها إجمالًا، دون أن يتقيَّد بكل سؤال إفرادًا، أرى أن أُثبِتها ها هنا مترجمةً عن الأصل الإنكليزي، ثم أُلحِقها بالجواب الذي هو شبه بيان.

السؤالات

  • (١)

    يكثر التودُّد من ساسة أوروبا في هذا الزمان للعرب والإسلام، وأكثره لا يتعدَّى الكلام، ولكن إسبانيا في المغرب اليوم تقرن القول بالعمل، وقد أطلقت حريات الفكر والنشر والاجتماع من قيودها. فهل لسعادة الجنراليسيمو أن يؤكِّد للعالم العربي والإسلامي أن السياسة والأعمال التي باشَرَتْها حكومة إسبانيا لخير العرب والإسلام ستزداد وتدوم، وأنها لا تتقيد بالسياسات الدولية، ولا تتأثر بتطوراتها؟

  • (٢)

    بنيتم المساجد، وساعدتم في تأسيس المعاهد الدينية الإسلامية في منطقة حمايتكم، وباشَرْتُم تأسيس المعاهد التعليمية والثقافية. فهل لكم أن تطمئنوا أهالي المنطقة الشمالية بأنكم مستمرون في نشر التعليم والثقافة، على الطراز الحديث، وستزيدون اهتمامكم ببناء معاهد لها، ليس في المدن فقط، بل في القبائل أيضًا؟

  • (٣)

    الزراعة، كما لا يخفى على سعادتكم، هي قوام الحياة المغربية، وفيها مجال واسع للتحسين والإنشاء. فهل تفكِّر سعادتكم في اتخاذ الأساليب العملية لتحسين الزراعة، وتشجير الجبال والأراضي الواسعة الخالية اليوم من الأشجار؟

  • (٤)

    الاقتصاديات في المنطقة ضعيفة، وأكثر الشركات التجارية والمالية والاقتصادية هي اليوم على قلتها أجنبية. فهل تسعون لتمهيد السبل لمشاركة الوطنيين فيها، وتشجيعهم على ذلك؟

  • (٥)

    باشَرَتْ حكومتكم في منطقة الحماية الإسبانية تأسيس معاهد صحية عصرية مجهَّزَة بكل الأدوات والأسباب العلمية الحديثة، ولقد شاهدتُ أنا منها ما يدعو للإعجاب والثناء، ولكن كثيرين من القبائل لا يزالون محرومين هذا الإحسان. فهل يؤمل أن يكون لها ما لأهالي المدن من الملاجئ الصحية؟

الجواب

«ترغب إسبانيا في أن تتعاون والعرب لخير الأمتين معاونةً شريفةً مبنيةً على أُسُس متينة. فقد حدث في تاريخ الأمتين حروب في الماضي، تبعها التآخي والسلم، ونحن الآن نجدِّد هذا الإخاء بجهود متواصلة.

الثقافة العربية الإسبانية منبعثة من مصدر واحد، كان يحتل المركز الأول في عالم الثقافة، فطرأ عليه إهمال حقبة من الدهر، ونحن اليوم نجتهد أن نجدِّد تلك النهضة القديمة، ونزيد من أسبابها.

كانت قرطبة قاعدة العلم العالمي، وهي التي أنارت بنور العلم أوروبا بأسرها، فنحن نستمد من ذلك الماضي المجيد لتجديد العمل، وذلك على الأخص في إنشاء مكتبة عربية في إحدى عواصم الأندلس، تجتمع فيها تلك المخطوطات النفسية؛ لتكون محجة أعلام الثقافة ورجال العلم في المشرق والمغرب.

كان قصدنا أن نهيِّئ في المغرب وسائل ذلك العمران وتلك الثقافة، فكان الجو مضطربًا؛ كانت الحروب. ولكننا اليوم عاملون ما كانت تَحُول دونه الحروب والتنازع بين القبائل. هذه الأسباب في تأخير النهضة، أما اليوم وقد زالت الأسباب فقد باشرنا العمل بجدٍّ متواصل، وهو يزداد يومًا فيومًا.

دخلنا المغرب مضطرين، دخلناه بالقوة، وقد دافعنا في البدء عن حقوق السلطان والمغاربة نيفًا وخمسين عامًا؛ فعندما شاهدنا الدول الأوروبية تتآمَر عليه، ابتغاء استعماره، اضطررنا أن نحفظ منزلتنا فيه، ولكننا لم ندخل المغرب كالمستعمر المستثمر، وما قصدنا المنفعة المادية، بل إن جلَّ قصدنا هو خير المغاربة، والتعاون وإياهم على تعزيز شئونهم.

جئنا المغرب بأموال إسبانية فقط، ومن خطتنا أن نساعد المغاربة، ونشجِّعهم على المشاركة والمساهمة في الأعمال الاقتصادية، ولا نسمح لرءوس أموال أجنبية أن تدخل المغرب.

نحن نعمل اليوم في جلب المياه وحصرها للري لإحياء الأراضي الميتة، ونعمل كذلك ليتمَّ التشجير والتحريج في كل الأمكنة الصالحة لذلك. وبكلمة عامة إننا نعمل لرفع المستوى الزراعي في المغرب، فيتمكَّن الفلاح المغربي أن يعيش وعائلته عيشًا هنيئًا.

يوم كنت في المغرب في المرة الأخيرة نبَّهت السلطة إلى إنشاء المواصلات الحديثة بين القبائل، فلا يحرم أحد منها خير الملاجئ الصحية والمدارس، يجب أن يصل الدولاب — السيارة — إلى أصغر مدشر من مداشر المنطقة.»

كان السيد طوباو يترجم كلامه فقرةً فقرةً فيكتبها البستاني، وكنتُ أنا أثناء ذلك أتأمَّل مُحَيَّا محدِّثي، وأسلوبه في الحديث.

سألته بعد أن انتهى من كلامه إذا كانت تلك المخطوطات العربية لا تزال في مكتبة «الأسكوريال».

فقال: «قد تشتَّتَ بعضُها، وأخذ الحمر بعضها الآخَر، ولكننا ساعون لإعادتها، وقد توفَّقْنا في جمع كثير منها، وهي محفوظة. أتأسف أنك لا تستطيع أن تشاهدها الآن، فعسى ألَّا تكون زيارتك هذه هي الزيارة الأخيرة لإسبانيا، بل أتمنى أن تعيد الزيارة فتشاهد تلك الكنوز الثمينة.»

ثم قال، وقد أبت العاطفة منه أن تبقى كامنة: «وأتمنى أن ترى تلك المخطوطات، وتلمسها بيدك لمس المحب المعجب.»

تلا ذلك حديث ارتجالي خرج الجنرال فيه من المغرب إلى أميركا الجنوبية، ومن المخطوطات إلى الاقتصاديات وتحسين أحوال العمَّال.

ثم سألته: وهل تفضِّلون إرسال كلمة بخطكم إلى العالم العربي والإسلامي بواسطتي، تفصحون فيها إجمالًا عن سياستكم الإسلامية العربية الدائمة في منطقة حمايتكم وخارجها؟

فأجاب أنه سيفعل ذلك مسرورًا.

فقلت: ورسمكم؟ فأجاب كذلك بالإيجاب.

وفي مساء ذلك اليوم جاء الرسول من قِبَل الجنراليسيمو يحمل الرسم والبيان المنشور [أنظر شكل: رسالة الجنرال فرنكو إلى الشعب العربي].

•••

figure
رسالة الجنرال فرنكو إلى الشعب العربي.

ليس في مُحَيَّا الجنرال فرنكو ما يَحُول دون الثقة والاطمئنان، وليس فيه من مكنونات الخطوط، تحت العين، أو حول الفم، أو فوق الجبين، ما يستوجب إقران الاطمئنان بالحذر، والثقة بالتحفُّظ.

هو وجه مستدير وسيم نضير، أصغر مما يظهر في صوره المنتشرة، ذو جفن ساجٍ، وعين لا يبهرك ولا ينفرك نورها، وله فم كفم الأطفال إنما قليل الحركة والابتسام. ليس في مثل هذا الوجه سيماء العبقرية والزعامة.

ولكن هناك عبقرية، وهناك زعامة، برهَنَتِ الحرب، وبرهَنَتِ الأيام قبل الحرب عليها. فأين هي في وجه الرجل؟ هل هو مقنع؟ أو هل هي سجية أهل الشمال؟ قال أحد الكتَّاب إن وجهه لاتيني أو روماني الطابع والمعنى، وعندي أنه روماني الشكل، سامي المعنى، يوحي إليك قبل كل شيء بالاطمئنان والمحبة.

قيل لي إنه خطيب فصيح، ولا عجب؛ فالإسبان مثل العرب فصحاء على الإجمال، إنما الفصاحة ليست بالبرهان على العبقرية. فأين البرهان؟

يتكلم الجنرال فرنكو بصوت ناعم هادئ منخفض سويٍّ، لا طلوع فيه ولا نزول — لا نبرة ولا شاذة. ولقد تكلَّم أكثر من نصف ساعة وما تغيَّرَتْ لهجته، فكان السنيور طوباو يترجم، وأنا أثناء كلام الجنرال أتأمل ذلك الوجه الساجي في كل قسماته، المشرق إشراقًا هادئًا، لا يتحوَّل ولا يزول.

وعندما وصل في حديثه إلى قوله: دخلنا المغرب بالقوة. قالها كما قال غيرها، بذلك الصوت الذي يمثِّل وجهه أصدق تمثيل، وكان الترجمان يتحمس في بعض المواقف، فيُلبِس الكلام ما يستحقه من التوكيد إشارةً أو لفظًا، ولا يبدو شيء من ذلك في صاحبه. فهو يضع الحقيقة أمامك بارزة واضحة بدون تنميق، وهو يكره على ما يلوح لي، التفاصح والتنطُّع، فلا يحاول أن يسبي القلوب بزخرف القول.

ولقد ذكَّرني صوته بعكسه من أصوات الدكتاتوريين، وبوقفاتهم السينمائية المشهورة وبشقشقة هواهم، ولقد ذكَّرني وجهه بعكسه من الخدود المصعَّرة، والعيون الجاحظة، وبأصحابها الذين يحاولون أن يقنعوا بها العالم، بل يسحروه ويسودوه.

قال فرنكو في إحدى خطبه: أريد أن أقنع كما أريد أن أنتصر.

وليس لديه من أسباب الإقناع شيء مما ذكرت؛ لا سينمائيات، ولا دعايات، في الصورة وفي الخبر، ومع ذلك قد أقنعني، أفحمني، فقطع عليَّ خط النقد والريب والتردُّد. ولا أغالي إن قلت إني كنت أشعر في بعض الأحايين بما يعبِّر عنه بالسحر، وذلك عندما أصل في تأمُّلي إلى ما وراء تلك العين الساجية، وذلك الفم الطفلي.

إن في فرنكو مصدر قوة بعيد القرار، يوحي إليه بالثقة بالنفس، ويمده بقوة الإرادة؛ فلا يرى من حاجة إلى العوامل المألوفة في الفصاحة والبيان.

إنما فصاحة الرجل في إخلاصه، وإن بلاغته لفي ثقته بنفسه، وثقته بالله. وإن صوت فرنكو ليخرج من فمه كما يخرج الماء من سفح الجبل ويجري بين نفنفين منه؛ فتراه هادئًا في أعماق الوادي، وهو في الحقيقة نافذًا غلابًا، بالغًا محجته إلى البحر.

هو ذا السر في قوة فرنكو. فإن كان ذلك لا يقنعك فلا حرج عليه أو عليك، لقد فاتتك تلك الروح الجاثمة وراء ذلك السكون. وقد تسرع لذلك فتحكم لدى وقوفك عند حجابها، حكمًا ناقصًا أو بعيدًا عن الصواب، فما هو بالملوم، ولا أنت؛ إن القوى الروحية لا تُدرَك إلا بالقوى الروحية.

لست من أنصار الدكتاتورية في العالم، ولا أنا ممَّن يعجبون كل الإعجاب بالدكتاتوريين. فضلًا عن ذلك، فإن للجنرال فرنكو مبادئ دينية بل كنسية، طالما حملت عليها وعلى الخطل والشر فيها وفي رجالها، ولكني مع ذلك مقتنع بإخلاص الرجل الإسباني الأول، معجب بعبقريته، ومحترم كل الاحترام لذلك المصدر الروحي البعيد القرار والمدى، الذي يمده بما ظهر وبما سيظهر من القوة والحكمة، والأعمال الوطنية في شكلها، الإنسانية human في معناها.
وإني مقرر حقيقة أخرى من حقائق الزعامة والنصر؛ لقد اقتنَعَتِ الأمة الإسبانية بما قال لها فرنكو، ووثقت وآمنت به، فكان في اقتناعها وثقتها وإيمانها سر نجاحه وفوزه. قال الجنرال غرنت  Grant للرئيس لنكولن  Lincoln: «لقد فزت لأنك آمنت بي.» فما أصدقها كلمة يقولها فرنكو اليوم للأمة الإسبانية التي آمنت به!

•••

فرنسيسكو فرنكو هو ابن ضابط في البحرية، من المقاطعة الشمالية الغربية، الكائنة على طرف شبه الجزيرة الإسبانية، بين جون بِسْكاي والبحر الأطلنتيقي، المشهورة بمعادن الحديد وتجارته. تلك المقاطعة هي غاليسيا — جليقيا العرب — وعلى رأسها عند ملتقى شاطئ البحر والجون، بلدة الفرُّول El Ferrol التي وُلِد فيها فرنسيسكو في ٤ ديسمبر ١٨٩٢.

ومنها في الخامسة عشرة، جاء طليطلة، فدخل المدرسة العسكرية فيها، وكان في نشأته وتحصيله من الممتازين بذكائهم واجتهادهم.

ثم جاء المغرب، وهو في سن العشرين، وشارَكَ في جميع الحروب المغربية الإسبانية؛ فكان منقطع النظير في عدد المعارك التي خاض عبابها خلال سبع سنوات، وهي سبع وأربعون معركة!

وقد كان ارتقاء فرنكو في الجندية فريدًا من وجهتَيِ السرعة والسن. فرنكو الشاب؛ قومندان في الثالثة والعشرين من سنه، وليوتنانت في الثلاثين، وكلونيل في السنة التي تلتها، وجنرال — أصغر جنرال — في الجيش الإسباني؛ لأنه لم يكن قد تجاوَزَ الثالثة والثلاثين من عمره.

وقد ساعَدَ فرنكو في تأسيس الكتائب الأجنبية التي تُدعَى بالإسبانية Tereio، وتعيَّن مديرًا للمدرسة الحربية بسرقسطة، فشغل المنصب بما اتصف به من علم وغيرة على الجيش، إلى أن أُعلِنت الجمهورية، فحُمِل على الاستعفاء.
كان فرنكو من المعجبين بالدكتاتور بريمو ده ريفيرا Primo De Rivera.
ولم يكن يخشى في الجمهوريين غير شراذم الأحزاب التي انتمت إليهم، وتسلَّطَتْ بعد حين عليهم، فبلغت الخشية بينه وبينهم حد العداء، وما شاءوا يومذاك معاداته. فعيَّنته الحكومة الجمهورية استرضاءً له حاكمًا عسكريًّا لجزائر البليار، ثم عيَّنته — لتُبعِده — حاكمًا عسكريًّا لجزائر الكناري؛ فكانت هذه منها الضربة الهادمة للحاجز الأخير بينها وبين الثورة، فأضرمت نارها في المغرب، في شهر يوليو من سنة ١٩٣٦، كما تقدَّمَ.٢

•••

أخبرني أحد رفقاء فرنكو في الجيش، يوم كان في مستهل ارتقائه، أنه لم يكن يشارك إخوانه في ألعابهم وسمرهم، بل كان يفضِّل المطالعة في ساعات الفراغ، ولم يكن يشرب الخمر ولا يدخِّن إلا قليلًا.

ولقد أيَّدَ هذا القول غيره في الجيش قائلًا: كان فرنكو محبًّا للمطالعة، راغبًا في العلم، ولا يزال.

أما مطالعته لتاريخ إسبانيا فلم تكن على ما يظهر مطالعَةَ راغبٍ في العلم، طالب للحقيقة، فهو لا غرو مشغوف بوطنه، وبأمجاد وطنه في الماضي، ولا يتجرَّد في مطالعته من هذا الشغف؛ ليستطيع أن يحكم حكمًا صائبًا قاسيًا، شأنه في ذلك شأن إخواننا العرب المسلمين الذين يزورون الأندلس مثلًا ولا يرون من تاريخه العربي غير آيات العظمة والمجد. أما الحقيقة المجرَّدة من ذلك الشغف والإكبار — حقيقة العرب في حروبهم الأهلية وتخاذُلهم وشقاقهم وأنانيتهم الأثيمة — فهم لا يرون ولا يريدون أن يروا شيئًا منها.

قال لي الجنرال فرنكو في أثناء الحديث عن المغرب، إن إسبانيا كانت دائمًا تُؤثِر على خيرها خيرَ أهل البلاد التي تدخلها، وقدَّمَ على ذلك برهانًا تاريخيًّا، بحسب نظره أو قلبه، فقال: تلك أميركا الجنوبية وقد تركناها لأهلها، وهم أهلنا، وفيها اليوم سبع عشرة جمهورية.

فهل ننسى حروب الاستقلال التي أقامها الأهالي هناك؛ لينقذوا أنفسهم من الحكم الإسباني وفساد الحكام؟ وإنَّ أحدث الأمثال لذلك هو في جزيرة كوبا، فإن صَحَّ القول إن الجمهوريين في إسبانيا فضَّلوا أن يسلموا البلاد إلى الوطنيين، من أن يفادوا بها في سبيل الشيوعية، فكلمة الجنرال فرنكو في أمريكا الجنوبية هي الحق، ولكني لا أظنه أنه يحارب الظلم في زمانه، وبغض النظر عنه فيما مضى من تاريخ بلاده.

وإني لأذكر تلك الحملات التي كانت تحملها الجرائد الأمريكية، الشمالية والجنوبية، الإنكليزية والإسبانية، على الجنرال ويلر  Weyler وحكمه — ويلر الجزَّار كما كانت تلقِّبه. على أن للصحافة في كل زمان ومكان أغراضًا في حملاتها السياسية تتنوع وتتلون، فتبعد في الغالب عن الحقيقة والإنصاف، حتى في أخبارها.

قبيح بنا التعميم، وهناك جريدة «التيمس» الإنكليزية، وأختيها الأمريكية والفرنسية المشهورة برصانتها، وبما يوجب على الناس تصديق روايتها، واحترام اسمها، وأنا من الناس الذين يريدون أن يصدِّقوا ويحترموا، ولكني — وأنا أعرض أمري — أترك الحكم للقارئ.

كتب مراسل جريدة «التيمس» الإنكليزية، بعد انتصار الجنرال فرنكو، وإعلان الحكم الوطني في البلاد، يصف خرائب الحرب، فقال: إن ثلث مدينة مدريد خراب يباب، وثلثًا منهدمًا معطلًا. وقد مررنا بمدريد، وزرنا أماكن الخراب في جهاتها الأربع، وهي كما هي، وقدر ما هي، مفجعة مفجعة، ولكن تقدير مراسل جريدة «التيمس» بعيد جدًّا عن الحقيقة. فإذا جمعنا الأسواق المتهدمة كلها في الجهات الأربع، وأضفنا إليها مدينة الكليات، فهي تبلغ جزءًا من العشرة من الأجزاء السالمة.

ونشرت جريدة «التيمس» بنيويورك خارطة تمثِّل وقائع الحرب الأهلية تحت عنوان: سقوط الأمة الإسبانية. هذا بعد النصر النهائي أو قُبَيْله، وفي التعليقات على تلك الخارطة ما يلي: فقدَتْ إسبانيا مليون رجل في حربها – صرفت بليونَيْن (مليارَيْن) من الريالات – مدنها المجيدة خراب – حقولها مزروعة بالقنابل – مناجمها مقفلة – مصانعها معطلة … وهلم جرًّا.

قطعنا الطريق من إشبيلية إلى مدريد، ومن مدريد إلى برغوس، فإلى طليطلة، فإلى قرطبة، وما رأينا من نطاق النظر أثرًا يُذكَر للخراب، بل كان جل الطريق معبَّدًا أحسن تعبيد، ومفروشًا بالزفت، ومزدانة جوانبه بالأشجار الوارفة الظلال.

وقد قال لي مَن أدار فرعًا من فروع العمل في الثورة: إن المدينة الوحيدة التي خربت كلها، إلا عشرة بيوت منها — عشرة بيوت من ألفَيْ بيتٍ — هي أوفيدو عاصمة غليسيا. وما رأينا في نواحي الأندلس التي مررنا بها، ولا في المدن الأندلسية التي زرناها، أثرًا للخراب.

هذا لا ينفي أن في البلاد مدنًا، كمدريد وأوفيدو وبرسالونا، تستوجب الترميم، وأن في البلاد مجالًا واسعًا للإصلاحات الاقتصادية، وقد باشَرَتْ حكومة الجنرال فرنكو العملين، بعد أن مهَّدَتْ لهما، حتى في أيام الثورة، فيما بنته من البيوت الرخيصة للعمال وللفقراء.٣

قال فرنكو: «يجب أن تنفذ مبادئ ثورتنا الوطنية بتحسين أحوال العيش لطبقتي المتوسطين والعمال.»

البيوت الرخيصة، لقد ذكرتها مرارًا في كلامي على المغرب، وقد كان رجال الحكومة الجديدة، حتى في أيام الثورة يتعاونون على هذه الأعمال، ويتنافسون بها.

أذكر منهم قائد جيش الجنوب الجنرال كيب ده لانو Queipe de Llaan صاحب الأيادي البيضاء خصوصًا في إشبيلية، وقد أراد أهلها أن يُظهِروا بعض ما له في قلوبهم من الحب والاحترام، فقدَّموا له هدية مالية، بلغت مليونَيْ بسيطة، فقبل الجنرال ده لانو الهدية، واشترى بالمال أرضًا في جوار المدينة، وباشَرَ العمل في بناء بيوت جديدة رخيصة هناك تأوي من الثلاثمائة إلى الأربعمائة عائلة.

مهما يكن شكل الحكومة في هذا الزمان — ملكيًّا دستوريًّا، أو ديمقراطيًّا اشتراكيًّا، أو فاشستيًّا نازيًّا — فالإصلاح الذي تقوم به هو على الإجمال إصلاح اشتراكي، مبني على تعاليم اشتراكية، إن كانت لكارل ماركس أو لغيره من الاشتراكيين.

لا إصلاح يدوم بدون إصلاح العيش للعمال، وحكمة فرنكو هي من هذا القبيل في مقدمة الحكومات الديمقراطية الاشتراكية. اسمها الرسمي هو الحكومة السنديكالية  Syndicalist الاشتراكية الوطنية، والجنرال فرنكو هو رئيس هذه الحكومة.

فإن استنكرنا من الاشتراكية بعض ألوانها وأشكالها، كالشيوعية والنازية — هما واحدة أساسًا، وإن كانَتَا ظاهرًا على طرفَيْ نقيضٍ — فلا يجوز أن ننكر الحقيقة فيها، وهي التي توحي إلى رؤساء الحكومات والزعماء المصلحين، ما يقومون به من الأعمال الاقتصادية، التي من شأنها أن تضمن الخير للعدد الأكبر من الناس، وهذي هي الاشتراكية الحقة.

ومن أقوال الجنرال فرانكو: لا وجود في إسبانيا الجديدة لبيت بلا نار، ولا لإسباني بلا خبز. هي الكلمة التي يردِّدها في أشكال وأحوال شتى. أجل، «ستضمن الثورة العدل والخبز لكل إسباني.»

على أن ذلك موكول بتحقيق الأهداف الوطنية الأخرى — كلها جمعاء — وهي أن تكون إسبانيا الجديدة عظيمة حرة.

ولا عظمة بدون اتحاد، ولا اتحاد بدون حرية.

فهل يستطيع الجنرال فرنكو أن يثبِّت التوحيد الذي قدَّسته الثورة، وباشَرَتِ الحكومة العمل به، في تعطيل كل الأحزاب السياسية، إلا حزب الكتائب الإسبانية؟

قلت إن البحث في سياسته الداخلية لا يدخل ضمن نطاق الكتاب، ولكني — في ذكري لبعض كلماته السديدة — أقف عندها لأقول كلمة لا تعدو الهامش.

إن في إسبانيا اليوم حزبين كبيرين: حزب الإكليروس، وحزب الكتائب، والحزبان — ظاهرًا في بعض الأحوال الداخلية — متحدان اليوم. فللكتائب برنامج إصلاح طويل عريض، اختلطت فيه النظريات والمبادئ العملية، ومنها ما يتعلَّق بالتعليم المدني والوطني.

وللإكليروس خطة في التعليم قديمة لا تصلح في أمة تنزع إلى التجدد، وللإكليروس مطامع في السيادة قديمة لا تتفق ومطامع أمة تريد التصعيد إلى ذروات الحرية والعظمة. فهل تصطدم السلطتان، سلطة الحكومة وسلطة الكنيسة، في المستقبل؟ يقول العارفون إنه لا بد من ذلك الاصطدام، ولكن اللاإكليريكية في إسبانيا لا تعني اللادينية.

إسبانيا أمة متدينة، لا غبار على دينها، ولا على صليبها الروماني؛ فهي من هذا القبيل غير ألمانيا، وغير إيطاليا، فالصليب في ألمانيا من خشب، وفي إيطاليا من نحاس، وهو في إسبانيا من الحديد المموَّه بالذهب.

فلا خوف على الحكومة إذا هي قاومت الإكليروس، وبيدها ذلك الصليب، إذا حاول الإكليروس أن يسيطر على التعليم.

وإن في الكتائب نفسها ما يضمن للبلاد حريتها في تعليم أبنائها، فلا يكونون أبناء الماضي، كما أنه يضمن للحكومة نظامها في تعميم التعليم وتجديده، فلا يكون إكليريكيًّا رجعيًّا.

لقد اغتالَ الجمهوريون مؤسِّس الكتائب خوسه أنطونيو — وخوسه اليوم، سيد الأمة، صورته منشورة على أبواب كنائس إسبانيا، بأمر الحكومة.

ومع ذلك فإن في الكتائب عنصرًا لاإكليريكيًّا قويًّا، لا يزدريه الجنرال فرنكو، فإذا اصطدمت الحكومة السنديكالية الوطنية بالسلطة الإكليريكية، فمما لا ريب فيه أن الكتائب تهبُّ لنصرة فرنكو ومبادئ ثورته، ومنها تعميم التعليم المدني الحر الحديث.

١  السنيوريتا بيلار Pilar Primo de Rivera هي ابنة الجنرال الدكتاتور بريمو ده ريفيرا، وشقيقة خوسة أنطونيو مؤسِّس الكتائب الإسبانية، ورئيسة الفرع النسائي للكتائب، والسينيوريتا مرسيدس  Mercedes Sanz Bachiller هي مؤسسة الفرع الاجتماعي في الكتائب النسائية ورئيسته.
٢  راجع [الجزء الأول – الفصل الثالث عشر: الأحزاب السياسية].
٣  في قرطبة ٣٠٠ بيت، وفي مدريد ٧٠٠، وفي غرناطة ٢٠٠، وفي إشبيلية ١٢٠٠ بيت، وفي مدن المغرب أسواق من هذه البيوت ذُكِرت في الفصول السابقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤