الفصل الرابع

الحذاء والبلغة١

في كل مدينة زرناها، وكل قرية مررنا بها، وكل نُزُل أقمنا فيه، من تطوان إلى مليلية، ومن مليلية إلى الأندلس، إلى مدريد، إلى برغوس، كنا نرى الجنود، عشرات عشرات، ومئات مئات، باللباس العسكري، المضيِّق للعقلية البشرية، الميبِّس للشعور الإنساني، المقيِّد للأجسام والأحلام.

وكنَّا نرى الضباط كلهم بالأحذية والمهاميز، كأنهم صور للقوى المنظمة، ورموز للحق المادي المؤلَّه كالبعل. والحق حقان؛ حق فقير وديع يُصلَب كل يوم، وليس مَن يدافع عنه غير أولئك الذين خفتَتْ أو خُنِقت في هذه الأيام أصواتهم، وحق غني متكبِّر، ومسلَّح بكل ما اختُرِع من سلاح البر والبحر والجو — الحق الغني بالسلاح والجيوش، حق رمزه الحذاء والمهماز، وحق رمزه الصليب.

والحذاء العسكري الأنيق الضيِّق يحبس الدم في الأطراف السفلى من الأبدان، فيتدفَّق إلى أعاليها كل فترة من الزمن، بحكم الناموس الطبيعي الذي يأبى التقييد، يتدفَّق إلى الرءوس فيحدث فيها الهياج العصبي والغضب والتحكم، وأول مَن يشعر بنتيجته، ويتألَّم به صامتًا خانعًا هو الخادم العسكري الذي يُلبِس الضابط ذلك الحذاء، ويساعده في خلعه.

هو الحذاء الآمِر المتحكم، وقد يُلطَّف تأثيره بالاستعراضات العسكرية، ويسكن بالخطب الحربية، ينطق بها الدكتاتوريون، وتنشر بواسطة الآلات المكبرة للأصوات المذيعة لها.

الحذاء الآمِر المتحكم الذي يريد أن يكون على رأس هذا الكون، قد يسأم المناورات والمخاتلات والدعايات والإذاعات، فيبادِر إلى الحديد الكاوي؛ يداوي أمراضه بالكي، وبالاعتداءات على الأمم الضعيفة بالاغتصابات، بالثورات، بالحروب — الحروب العظمى، الحروب الفظيعة!

ولماذا يلبس الدكتاتوريون الأحذية والمهاميز، خمس عشرة ساعة — وقُلْ عشرين — في اليوم الواحد فيقلِّدهم الضباط، فترتجُّ الأرض تحت نعالهم المسمرة — ترتج أرض القرى، وأرض المدن، وأرض البيوت والأنزال في ساعات العمل وساعات الفراغ، وفي ساعات الأكل، وساعات اللهو والطرب.

أصحاب الأحذية والمهاميز، وخدمهم، وصفوف رجالهم، إنهم لَيعملون جميعًا بنظام ويرتاحون بنظام، ويلهون ويطربون بنظام، ويسلِّمون مئات مئات وألوفًا ألوفًا بنظام، كالآلات يحرِّكها محرك واحد.

ثم يطفرون فيجنُّون، فيهبون للقتال.

هل هذا هو المثل الأعلى في الحياة البشرية الحديثة، ذات الصوت الواحد، واليد الواحدة، والحذاء والمهماز؟!

•••

وفي كل مدينة من مدن هذا المغرب زرناها، وكل جبل وسهل و«مشدر» مررنا به، وكل نُزُل ونادٍ يممناه، وكل زنقة سلكناها؛ كنَّا نرى المغاربة، رجالًا ونساء وأولادًا بالبلغات المغربية، البيضاء والحمراء والصفراء والخضراء، يمشون الهوينا يجْرُون كالمياه في البسائط الفيح، ساكنين هادئين جميعًا، يمشون حيث يشاءون من الشارع أو الساحة أو الطريق، في وسطه وإلى جانبيه، وكيفما يشاءون، بلا أمر يُطاع، ولا نظام يُرعَى، ولا هَمٍّ — ظاهر أو باطن — في الأرجل، ولا هَمٍّ ظاهر في الصدور أو الرءوس.

ذوو البلغات يطئون الثرى بالنعال الناعمة، وليس فيها المسمار الواحد، النعال الساكنة اللطيفة، أحرار الأرجل والأجسام، في الأقل، فيتمشى الدم ناعمًا ساكنًا مرتاحًا في عروقهم، فتستقيم وتصح الأجسام، فيُحسِن أصحابها الأدب في المعاملة، وفي السلوك. لا اضطراب، ولا هياج، ولا طفرة ولا انفجار، وهم يُحسِنون فوق كل شيء وفي كل شيء، الصبر والتؤدة، ويستشعرون على الدوام السكينة والاطمئنان.

على أن ذلك لا ينفي ما قد يكون كامنًا تحت الرماد — وإن لزمنا الاستعارة نقول: تحت «قفحة» البلغة أو بين النعل والفرعة. ولا ينفي ما قد يكون مخزونًا في النفوس الناعمة الملمس، الساكنة النظرة، الهادئة الصوت، اللطيفة الإشارة والإيجاب.

فإن دعاها داعٍ باسم الوطنية الجديدة، أو باسم الدين — والاثنان لا يزالان في هذا المغرب من مترادفات الوطنية — تخرج في الحال من لطفها وصبرها، وتهبُّ من هدأتها، فتفعل وهي بالبلغة والجلباب — لا صوت لها — ما لا تفعله غضبة أولئك الفرنجة الصاخبة، وهي في اللباس المزنَّق والحذاء والمهماز. هذا إذا كانت الحرب بين الحذاء والبلغة، وكان سلاحها السيف، والبندقية لا غير، وستعود الأمم إليهما، وتُحرَم ما سواهما من السلاح، قبل أن تنتهي الحروب.

•••

وليس من شك في أن الحذاء والبلغة تؤثِّران في النسل؛ فالمقيدة رجلاه وإرادته ورؤياه ليس كالمُطلق الرجلين والإرادة والروح. لا، الدم المحبوس لا يقوم بواجبه ساعة الواجب، كالدم الحر الطليق، وهذا في نظري أصل الخلاف في مظهَرَي النسل في البلدان الأوروبية والشرقية.

فالنسل في أوروبا ينقص، ليس من الحروب فقط، بل مما تفسده أيضًا في الرجال الحياة العسكرية؛ فإن في أسبابها، من الحذاء إلى الخوذة، وفي قيودها المعنوية والمادية، ما يضعف جرثومة النسل في الدم، فيثقل الإرث العسكري نفسية الأولاد، وقد يشوِّهها تشويهًا منكرًا.

أما في المغرب، فالنسل يزداد ازديادًا مستمرًّا؛ فلقد رأيت مما مَرَّ بك من الإحصاءات أن البنين والبنات الذين هم دون الرابعة عشرة من العمر يضاهون عدد الذكور والإناث فوق تلك السن، أي إنهم نصف السكان، والأولاد في أوروبا اليوم هم الربع من السكان أو الثلث في الأكثر.

وهناك ظاهرة أخرى جديرة بالاعتبار، وهي أن الحياة في المغرب تجري على السُّنَّة القديمة، فيتناسل المغاربة بالطرق الطبيعية التقليدية، على ما فيها من نقص في العلوم الصحية.

وهي في أوروبا، بالرغم من تلك العلوم المنظمة أسبابها، تجري على سُنَن مستجدة، هي علمية تقييدية، وقد يصحُّ أن تُدعَى بدعًا علمية، يوجنيَّة  eugenistic، اختيارية، انتخابية، وقُلْ بيولوجية حيوانية، كلها أو جلها، فيما يتعلق بالنسل البشري، اصطناعية، تتعزز فيها مشيئة الشخص الفرد في البلدان الديمقراطية، ومشيئة الحكومة الفردية في البلدان الدكتاتورية، وفي المشيئتين خروج على السُّنَن الطبيعية، أو بالحري المعنوية منها، وإن كانت قديمة.

قديمة؟ وما يدريك فقد يكون هذا القديم في التناسل هو وحده القديم الدائم، القديم الذي لا يزول، القديم المجدَّد كل يوم، وسيقف جديده في المستقبل على رِجلَيْه بالبلغة — بالنعل — لا بالحذاء والمهماز.

١  البلغة، وقد تكون من لغة البربر، هي الحذاء المغربي الشبيه بالمشاية عندنا، يلبسه الرجال، أما النساء فحذاؤهن يُسمَّى شربيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤