الفصل الخامس

في القصر الخليفي

خليليَّ! ولا تخيُّل ولا تقليد. فهذا الأستاذ طوباو إلى يميني، وهذا السنيور أرغون — الحاج الرغوني — إلى يساري، على الديوان في المشْوَر، يشجِّعاني ويسهِّلان عليَّ الموقف.

ثم جاء رجل شَمَرْدَلٌ بلحية سوداء قوراء، يرفل في وفر من الملابس المغربية: جلباب من حرير فوق غلالة من كتان مزرَّرة بأزرار كحب الحمص، فوق قفطان من الجوخ، وقد تمنطق بخنجر فضي النصاب طويل رفيع. جاء هذا الشمردل يبسم لي، ويحدِّثني بلهجة ريفية، ساعدني طوباو في فهمها، فعلمت أنه من الذين اشتركوا في حرب عبد الكريم، فسألت: أمعه أم عليه؟ فأجاب وهو يبتسم كالطفل: يومًا معه، ويومًا عليه.

وقد شاء على ما أظن أن يُؤازِر خليليَّ في تشجيعي وتطميني، فذكَّرني بالله، وأنه — سبحانه وتعالى — «الشفيق الرقيق، المالك العتيق الوثيق، لا علو ولا سمو إلا به».

ثم جاء شمردل آخَر هو قائد الحرس الخليفي، يدعونا لمرافقته، فمشينا وراءه في رواق طويل مفروش بالسجاد، وبعد الانعطاف الثالث فيه، وصلنا إلى المدخل الرهيب، حيث وقفتْ تستقبلنا مجموعةٌ من البنادق في شكل هرمي، فصعدنا بضع درجات، ومررنا بمجموعة بنادق أخرى مَرَّ الكرام، فوقف الحارس في الباب وقال كلمات لم أفهمها.

ثم دخل فدخلنا، ومشى فمشينا وراءه إلى السدة الخليفية، حيث كان سمو الخليفة واقفًا، وصدره الأعظم دولة غنمية، وضابط الارتباط الإسباني، وطبيب القصر. فنزل سموه الدرجتين، من السدة إلى أرض الردهة، ثم خطا بضع خطوات إلينا، فرحَّبَ بعريس الساعة ترحيبًا طيبًا، وعاد يتقدَّمنا إلى السدة، فسلَّمنا ثانية، وتلا السلام تهنئات بالعودة، مني له إذ كان هو عائدًا من غرناطة، ومنه لي.

ثم ذكر المحاضرة التي ألقيتها في حفلة جمعية الطالب المغربية، وخَصَّ بالذكر دعوتي فيها للاتحاد، اتحاد القبائل وجميع عناصر الأمة، تحت لواء العروبة، ولا شك في أن الصدر الأعظم نقل إليه بعض ما جاء في تلك المحاضرة، فسررت أنه مكَّن الاستحسان للعاطفة العربية الموحدة المفعمة بها.

– وبناء على ذلك، وجزاء على خدماتكم للعرب والعروبة، ولبلاد المغرب، نهديكم وسام المهدي من درجة سمو.

ما اضطربت، ولا ابتهجت، بل كنتُ من ذلك الجو الرسمي وفيه، واقفًا كسواي بما يستوجبه المقام من جمود.

إنما رمقت طوباو بلحظة عَلَّنِي أستمد منه شيئًا منعشًا يحرِّك جمودي، فما ظفرت بشيء، بل كان كالتمثال لو وكزته برمح لما تحرك.

وكذلك الطبيب الإسباني، وضابط الارتباط. أما الصدر الأعظم فإن ابتسامته — أدامها الله وحياه وحياها — لمطبوعة على وجهه، بين اللحية البيضاء والوجنتين الورديتين، طبعة أبدية.

بعد أن قال الخليفة: نهديكم وسام المهدي. تحرَّك طوباو، وما تحرَّك سواه، فتقدَّم إلى مائدة عليها صندوق صغير، ففتحه، وأخرج منه الوسام بوشاحه، فألبسني الخليفة الوشاح، وعلَّقَ طوباو الوسام على صدري، وبينا هو في عمله هذا، رمقته بنظرة استعطاف، فومضت عيناه بوميض من الحيلة والفهم، فشكرت الله.

وهل يشرف امرؤ بوسام من أعلى رتبة في الدولة، ولا يفوه بخطبة؟

قلت على ما أذكر إنه يستحيل عليَّ الإفصاح عمَّا يطمو في صدري من الشكر والفخر والسرور؛ لذلك أحنو رأسي صامتًا أمام ولي النعمة. وقد دعوت له فوق ذلك بالتوفيق في خدمة البلاد فيسعد هو بها، وتسعد هي به.

فأجاب بكلمة حسنة مسكُ ختامها: لا نريد أن تكون هذه الزيارة منكم الأولى والأخيرة.

فقلتُ مدَّعِيًا ملكية البلاد: هي بلادي كما هي بلادكم، وسأعود إليها إن شاء الله. فأمَّنَ — بارك الله فيه — على الثنتين؛ الملكية والعودة.

وبعد ذلك شيَّعَنا فخامةُ الصدر الأعظم إلى الباب، وأنا قلق حائر: أيجب أن أعود إلى النزل لابسًا وشاح المهدي أم ماذا؟

ولكن طوباو أزال قلقي عندما بلغنا الغرفة التي بدأنا هذا الحديث فيها، فمَدَّ يده إلى الوشاح قائلًا: لا أظنكم تريدون أن تعرضوه في السوق.

فقبَّلته بين عينيه، وقبَّلني على الكتف قبلة إسبانية مهنِّئًا مبارِكًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤