الفصل السادس

الأكياس والذي يوسوس في صدور الناس

أقبح ما رأيت في المغرب أكياس تمشي في الأسواق. في الطرف الأسفل من الكيس رجلان، وفي الطرف الأعلى رأس وعينان، لبنت من بنات حواء.

وأفظع ما رأيت حجاب شبيه بالكمامة؛ حجاب هو فوطة بيضاء، تُطوَى عدة طيات، وتُشَدُّ على الوجه من قصبة الأنف إلى الذقن، ثم تُربَط كالعصابة من وراء.

ليس في أشكال الحجاب، في البلدان الإسلامية شرقًا وغربًا أفظع من هذا الشكل المغربي، وليس في كل ما يُطلَق عليه من اللباس اسمُ جلباب أو معطف أو إزار أو عباءة، ما هو أقبح وأبشع من هذا الذي يغلِّف النساء في المغرب الأقصى، ويُدعَى بلغة المغاربة: حَيْكَا.

وما الحيكا غير ذلك الكيس الأبيض المنفوخ، لا كالمنطاد، فهو منفوخ في أماكن منه، ومميَّد مجوَّف في الأخرى، بل هو مقبَّب ومضلَّع ومسنم ومبعَّج، عنوان الفوضى في التقسيم، لا أثر فيه للاتساق والانسجام، ولا يشفع به غير النظافة؛ هو كيس أبيض نظيف، سواء كانت فيه الفقيرة من النساء أم الغنية.

شهدت مرة خارج تطوان مشهدًا من تلك الأكياس عجيبًا. هناك في الطريق إلى الثكنة العسكرية، على رأس الرابية، جبانة يؤمها النساء يومًا في الأسبوع للنزهة والزيارة والاجتماع — الجبانة نادي النساء! وقد يكون هناك قبر ولي من الأولياء، يزرنه ويثرثرن حوله تيمُّنًا وتبرُّكًا. شهدت ذلك المشهد، فخلتُ النساء لأول وهلة شواهد بيضاء فوق القبور!

قال رفيقي يلطف من قباحة الأكياس: هي شراشف بيضاء تلتف المرأة بها فتخالها خارجة من الحمام، ولكن المرأة خارجة من الحمام أو داخلة إليه هي مخلوقة مستحبة في سترها المكشوف، بل هي مغرية، حتى وإن كانت عجوزًا متسترة. هي هي السر المكنون.

أما المرأة المغربية، المختبئة في كيسها، فليس فيها، ولا في هالتها، ولا في خيالها، ما يحث النظر على حُسْن الظن والتصوُّر.

دخلَتْ ذات يوم امرأة إفرنجية إلى النُّزُل، امرأة بيضاء من رأسها إلى قدميها، بيضاء بمنديلها، بفستانها، بجواربها، بحذائها ذي الكعب العالي، وبمعطفها ذي الشارة الحمراء، شارة جمعية الصليب الأحمر. تلك المرأة، ولا حُسْن في وجهها يستوقف النظر، كانت في أثوابها البيضاء الأنيقة جذَّابة للعيون والقلوب.

فهل يفضِّلها الرجل المغربي بزيِّها يا تُرَى على زيِّ المرأة المغربية في حيْكها، في كيسها المنتفخ؟!

ومن أقبح وأنكر ما شاهدت من صنف الأكياس سرب من البُنَيَّات بين الخامسة والعاشرة من العمر، تخرجن من المدرسة مكيَّسات كالنساء على رأسي وعيني الأكياس البيضاء! وفيهن البُنَيَّات الطاهرات النقيات، ولكن الفوطة البيضاء الصفيقة المشدودة على وجوههن — الحجاب! أستغفر الله. تلك الكمامات تحبس عنهن الهواء، وتحول دون التنفس الحر الطليق؛ فالحجاب في ألطف الأشكال مستنكَر على وجوه البُنَيَّات، فكيف في أقبح وأفظع أشكاله؟

•••

سمعني أحد الشبَّان المثقفين أنتقد تلك الأكياس، وأسخط عليها وعلى مَن فيها، فجاء بعد أيام يدعوني للعشاء في بيت له خارج المدينة، ثم جاء هو ورفيقاه مساءً فركبنا السيارة، وخرجنا إلى ضاحية لحفلة بالبساتين، فسِرْنا في طريق مظلم، بين سياجات من القصب الفارسي والصبير.

قلت لرفقائي: أنتم الآن تخطفون الريحاني، كما خطف الريسوني القائدَ الإنكليزي في قديم الزمان.

فقال التطواني الظريف: وستبقى عندنا رهينةَ الأكياسِ البيضاء.

وقال الآخَر: هي الجزية.

فقلت وبي شيء من الخوف: أهو قصاص أم جزاء؟

فقالوا جميعًا: سترى عمَّا قريب.

وقفت السيارة أمام بوابة معلَّق فوقها قنديل ضئيل، فدخلنا فإذا نحن في حديقة تمشي إلى البيت، وقد أُنِير بالكهرباء.

استقبلنا أحد الخدم، فمشى أمامنا إلى الصحن، فصعدنا منه إلى الطابق الثاني، وفيه بضع غرف بدواوين عريضة منخفضة، مفروشة بالزرابي.

جلسنا نتحدث في السياسة، وننتظر العشاء.

ثم سمعنا في الحديقة أصواتًا خافتة تتخللها ضربات خفيفة على العود، فقال صاحب البيت: هو عبد الوهاب، وستسمعه الليلة هاهنا — في هذا المغرب.

ودخل عبد الوهاب المغربي، الشبيه في وجهه وشبابه ونعس ناظريه بعبد وهَّابنا المصري.

أما صوته، فهو الصوت الذي ملأ الشرق العربي عذوبةً وحنينًا. أجل، إن عبد الوهاب الفاسي ليقلِّد في أغانيه عبد الوهاب المصري تقليدًا صادقًا دقيقًا في كل أساليبه الفنية والصوتية، حتى إنك لو سمعته، دون أن تراه، لقلت: هذه أسطوانة لعبد الوهاب المشهور، أو هو عبد الوهاب بعينه يسيح في المغرب الأقصى، أو إن ماردًا حمله إلينا في تلك الساعة من القاهرة إلى تطوان.

والغناء المغربي يا سي عبد الوهاب؟ أتسمعنا موَّالًا مغربيًّا؟

فرفع صوتًا غير الصوت الأول، صوتًا عريضًا منخفضًا مخشوشنًا، وكان الموَّال خاليًا من اﻟ «يا ليل» ومن التخنُّث، ومن الصبابة المفتعلة، يجري فيه الصوت على فطرته المذكرة بشيء من التفخيم المذكر بمداته المفتوحة بالتفخيم الفارسي.

فقلت لعبد الوهاب الفاسي: ما لك يا أخي وتقليد عبد الوهاب المصري! ما لك والتقليد فإن فيما أسمعتنا أساس الفن العربي المغربي! فما عليك إلا أن تبني عليه، وتحسن به. فإذا استعنت بما عندكم من التقاليد المغربية في الألحان الأندلسية القديمة، تهتدي إلى الصحيح الوافر منها، فتكون قد أضفت إلى الموسيقى العربية الشرقية فنًّا هو اليوم مفقود، هو الفن الأندلسي القديم. ليس من الواجب أن تكون أغانينا وفنوننا الغنائية كلها واحدة في المشرق والمغرب، فإنْ احتفَظَ كل قطر بفنه وأتقنه، يصبح عندنا باقة أزهار مختلفة من فنون الغناء تجمعها اللغة العربية، وتتضوع منها الغالية الشرقية.

أطَلْتُ الكلام فاعتذرت، فلم يقبل الفنان الكريم الاعتذار، بل شكرني ووعد بالبحث عمَّا تركه أهل الأندلس من ألحان، تناقلتها أصوات المغنين متقطعة وما حفظتها القراطيس.

ثم أسمعنا «طقطوقة» مغربية، وبينا هو يردِّد:

يا ولهان،
في البستان
خاتم غصن البان.

سمعنا أصواتًا في الحديقة كصوت ماء الغدير بين الحصى، فخرجنا إلى الطنف، فرأينا بين حمائم الورود أشباحًا بيضاء يصحبها إنْسِيَّان اثنان.

وها هي ذي تلك الأشباح في الباب، وها هي ذي في الدار، وها هي ذي أمامنا نحن الرجال. هي ستة من الأكياس — وقُلْ مدقِّقًا، من الحوائك (جمع حيْكا) — استقبلهن رب البيت، فأدخلهن الغرفة المجاورة للمجلس، إلا واحدة قدَّمَها إليَّ قائلًا: ها هو ذا كيس من الأكياس، يا أستاذ، نكلِّفك فحصه فحصًا جمركيًّا.

ما بدا من الكيس غير عينين نجلاوين.

فقلت: وهذا اللثام أَلَا يحسر؟ أحسري، رعاك الله.

ففكَّتْ عقدة الحجاب، وأسفرت عن وجه أبيض ورديِّ الخدين، قرمزي الشفتين، ولا خضاب إلا الكحل في العين، ومبسم ألطف من نور البنفسج والأقحوان.

– وهذه «الحيكا» أَلَا تخلعينها؟

فسبقت اليد منها اللسان مني، وبرزت في غلالة من الحرير السماوي اللون، تخفي ما تحتها من حسن التكوين والإهاب، تُخفِيه عن العين، فيبدو شيئًا مُبهِجًا ساحرًا.

– وهذه المنطقة المزركشة بالفضة، أَلَا تخلعينها؟

فكانت الطائعة، وكانت اليد منها أسرع مما هي في المؤمنات الطائعات، القانتات الفاتنات، سبحان مَن كوَّن، وتعالى مَن صوَّر.

وبعد قليل برز من الغرفة الحور أخواتها، حور الجنان ولا مبالغة، وفيهن الشقراء والبيضاء والسمراء، وواحدة سوداء سبطة الشعر، فتَّانة اللحظ، جميلة المبسم.

أما البيضاء فكأنها إنكليزية، وكأن الشقراء أمريكية، والسمراء إسبانية أندلسية، كلهن من أرض المغرب وسمائه، فيختلفن عن فاتنات الفرنجة باتضاعهن وحشمتهن، وخجل فيهن ما لبثت أن عرفت أنه فطري غير مجلوب.

وهن، يا مولانا، من البنات المتعيشات بما وُهِبنه من الحُسْن، ومن فضيلتي الطاعة الإيمان. فالإيمان من الطاعة، والطاعة من الإيمان، وهن يؤمِنَّ بالله، نعم يؤمِنَّ بالله — أقسمت السوداء، وهتفت الشقراء: الله أكبر! — ويطعن عبده ابن آدم!

تباركت الطائعات القانتات، الفاتنات الوديعات الرفيقات، الناعسات الطرف، القابلات الكلام، القائلات بلسان أختهن السوداء: إن شفاه الحسان خُلِقت للقُبَل لا للنطق.

جلسنا بينهن، بل جلسن بيننا على الدواوين الواسعة المنخفضة، فنسينا عبد الوهاب المغربي وعبد الوهاب المصري، ونسينا العشاء.

ولكنه كان — وكان كما ينبغي أن يكون في تلك الساعة — مختصرًا، إلا بالوسكي الإنكليزيِّ، والنبيذ الشريشي الإسباني.

وقد حاولت أن أُفهِم الحوراوين اللتين عن يميني وشمالي شيئًا من اللغة العربية، فكانت السمراء تُلبِس الضحكَ عجزَها، والبيضاء تموِّه جهلها باللهجة المغربية، ثم شرعَتَا تعلِّماني لغة الذهب.

وما لغة الذهب؟ الذهب سرُّها؟ ولكنه غير الذهب الذي يتكالب الناس في سبيله. حاشا وكلا. على أني لا أدري كيف استخرَجَ علماء المغاربة الذهب من الغزل، أو الغزل من الذهب؛ فهم يقولون: ذهب اللحظ بالقلب. أو هذه الحربة بالعين كلها، أو الغمزة منها تعني كذا وكذا، فذهبت مثلًا — هي لغة في ذَهَبَ إذن، والله أعلم.

وهذه اللغة — لغة العيون — تُستعمَل عند الشراب بين الرجل والمرأة، فتقدِّم المرأة الكأس للرجل، وتميل بعينها، بحدقة عينها، إلى اليمين أو اليسار، أو ترفعها، أو تخفضها، أو تسدل عليها الستار، ولكل حركة معناها، والرجل يأتي بحركة تُشابِهها إن كان إيجابًا، أو تختلف عنها إن كان سلبًا!

لغة العيون، لغة الذهب، إنما هي كلغة الأزهار، أو المنديل، أو غيرهما من لغات الغزل الرمزية، وهي على الإجمال صبيانية، وفي الأغلب مُضحِكة، أما فنيًّا فهي تنسجم وساعة الشراب، ولكن ساعة الرقص تتعطل لغات الكلام والرمز كلها، إلا لغة الحب النورانية.

وكان من الرقص أولًا الفرنجي على رنات العود؛ فرقص الحور والشباب المغاربة رقصة اﻟ «تنغو» وغيرها، ثم الرقص المنفرد من كل حوراء — وليس فيه شيء من الخلاعة، الرقص باليدين والصدر والكتف ليس إلا، الرقص الشرقي الأدبي. ومن أين جاء رقص البطن؟ يقول الفرنجة: من المغرب. وهذا الطرف من المغرب يكذِّب قولهم، فقد يكون في الطرف الآخَر الجنوبي أو من الوسط. من بطن المغرب رقص البطن؟ لست أدري، ولا يضر الجهل.

بعد الرقص المفرد الأهلي الأدبي، رقصنا جميعًا الرقصة التي يُحسِنها كل مغربي ومغربية، بل يُحسِنها الصبيان والبنات؛ فهي في المغرب مثل رقص الشقيفات في الأندلس، بنت الأندلس تُخلَق والشقيفات بيديها، وبنت المغرب وصبيه يُخلَقان في حلقة الدراويش — حلقة الذكر.

كل المغرب يُحسِن الرقصة الدرويشية الدينية الذكرية، وهي في نظري أحسن التمرينات الجسدية المعروفة في المشرق والمغرب.

رقصنا في حلقة رقصة الدراويش، فسكرنا بها، وما سكرنا بالخمرة الإنكليزية أو الإسبانية … وبعد ذلك؟

لقد كانت ضيافة إخواني التطوانيين حقًّا كاملة، فخرجنا من تلك الجنة ساعة الضحى، بعد أن شيَّعنا حورها، وهن في الأكياس والكمامات، إلى السيارات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤