الثورة التركية

كانت الثورة التركية التي أشعلها كمال أتاتورك في ١٩٢١ أكبر من الثورات المألوفة؛ لأنها لم تقتصر على التغيير في نظام الحكم، بل تجاوزته إلى التغيير في المجتمع.

كانت الدولة التركية إلى ما قبل ١٩١٤ إمبراطورية تضم أقطارًا عربية يتولى الحكم فيها العنصر التركي، وكان «السلطان» — أي الإمبراطور — «خليفة» على المسلمين، له سلطة دينية فوق سلطته المدنية السياسية.

وكانت تحيا الحياة «الشرقية» كما نفهمها، من ضرب الحجاب على المرأة، والتسري، والإنتاج الزراعي دون الإنتاج الصناعي، والحكم الاستبدادي الذي يستند إلى إرادة الخليفة دون البرلمان، ومكافحة الآراء الارتقائية، وتقييد الصحافة … إلخ.

وكانت أحوال هذه الإمبراطورية تنذر بالموت والفناء قبل الأوان بمائتي سنة، إذ لم يكن لها من عناصر البقاء شيء، ولكن تحاسد الدول على اقتسامها كان يمنعها كلها من الشروع في هذا الاقتسام، ثم خوف الدول من أن يكون في موت الدولة العثمانية منفذ لخروج الروس إلى البحر المتوسط، هذا الخوف الذي كانت تحسه بريطانيا وفرنسا، كان يبعث هاتين الدولتين على إبقائها حاجزًا يمنع هذا العملاق الضخم، روسيا، من تحقيق هذا المنفذ، بل إن الأمم الاستعمارية كانت تجد في بقاء الدولة العثمانية، وهي في انحلالها وفسادها، فرصة لاستغلال الأقطار العربية التي كانت تعد جزءًا منها.

كل هذه العوامل جعلت الإمبراطورية العثمانية تعيش أكثر من عمرها، حتى إذا جاءت الحرب الكبرى الأولى في ١٩١٤، وانضمت هذه الإمبراطورية إلى ألمانيا ضد الأمم الغربية، احتاجت هذه الأمم إلى أن تثير الأقطار العربية عليها، وإلى أن تعقد اتفاقات سياسية لتحطيمها، ولكن مع الإبقاء على حياتها لتظل حاجزًا ضد روسيا، ولذلك رأينا إيطاليا وبريطانيا وفرنسا يحتللن بجيوشهن الدولة العثمانية، كما رأينا اليونان تحتل أزمير في ١٩٢١، ولكن مع بقاء السلطنة، حرصًا على بقاء العناصر التي يمكن الدول الاستعمارية استغلالها.

كانت دولة من قش، يتولى عليها سلطان من قش، تحيا بثقافة من قش، وكانت قد سلمت بكل ما طلبه المنتصرون عليها.

ولكن بقي رجل كان يفهم الحضارة العصرية، كما يفهم أن بلاده ليست عصرية، وأن ضعفها القائم، بل فناءها القادم لا يعزى إلا لأنها غير عصرية، وكان هذا الرجل «أتاتورك»!

كان «أتاتورك» ينشد فوق استقلال تركيا مجتمعًا عصريًّا.

وكان يفهم الحضارة على أنها ليست شرقية أو غربية، وإنما هي وحدة تتألف من درجات، وأن أعلى درجاتها توجد في الأمم الغربية، وأسفل درجاتها في الأمم الشرقية، لا لأن الشرقيين ينفصلون عن الغربيين في الميزات العنصرية، ولكن لأنهم تركوا الحكم في أيدي الملوك المستبدين الذين حطموا قوى الشعوب بالفقر والجهل والمرض.

وكان «كمال أتاتورك» يتولى قيادة الفيلق الذي يرابط في الإقليم الشرقي من الأناضول، فلما سلم السلطان بطلبات الدول الغربية، أعلن هو أنه لن يسلم، ثم زحف بفيلقه على «إزمير» وطرد اليونانيين.

وأعلنت استامبول عن مكافآت لمن يغتال «كمال أتاتورك»! وأعلنت أنه كافر! وأنه عاصٍ! (كما حدث في ثورة عرابي.)

ولكن «كمال أتاتورك»، بقوة الحق وبحق القوة، استطاع أن يتغلب على استامبول وباريس ولندن ورومة وأثينا، وأجبر الساسة في جميع هذه العواصم على أن يستبدلوا بمعاهدة فرساي المهينة معاهدة لوزان الشريفة.

وشرع كمال يغير الحكومة والمجتمع التركيين.

فخلع السلطان الذي خرج من قصره بمئات النساء معه، وتفرقت أسرته في أنحاء العالم، من باريس إلى القاهرة إلى حيدر أباد، وشرع العقلاء منهم يتعلمون الحرف، ويكسبون العيش الحلال، بدلًا من التزيي بالأحمر والأخضر، والتبختر في الشوارع، وقضاء النهار والليل في ملذات القصور! وأصبحوا ناسًا صالحين ينتجون للمجتمع، ويكسبون الحكمة من الكد والعرق.

وبعد أن أعلن الجمهورية، فصل الدين من الدولة، وذلك لأن الدين يفصل بين الحلال والحرام، وليس هذا موضوع السياسة للدولة العصرية؛ لأن موضوعها هو الصواب والخطأ، وهما يقرران الحق في المناقشة والرأي الحر، أما الحلال والحرام فيعلوان على المناقشة والرأي الحر.

ثم ترجم القرآن إلى اللغة التركية، كما سبق «للوثر» أن فعل حين نقل الكتاب المقدس من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية.

وألغى المحاكم الشرعية التي لم يعد لها بقاء مع الزواج المدني، كما ألغى المجالس الملية لغير المسلمين، ولم يعد في تركيا أمام الدولة مسلم أو مسيحي أو يهودي أو ملحد؛ لأن الجميع أتراك فقط.

وكان نظام السلطنة أو الخلافة السابق يلتزم تقاليد الحجاب للمرأة في صرامة عجيبة، حتى لم يكن يجوز للزوجين أن يقعدا جنبًا إلى جنب في عربة واحدة تسير في الشارع، كما لم يكن يجوز هذا للأخ مع أخته، أو الأب مع ابنته!

فألغى «كمال» الحجاب كله، واستخدم المرأة في وظائف الدولة الصغرى ومناصبها الكبرى، وكانت «خالدة أديب» إحدى وزيراته!

وترجم قوانين سويسرا المدنية والجنائية إلى اللغة التركية، وجعلها الأساس للقضاء في المحاكم.

وألغى التكايا والأربطة والطرق الدينية.

ثم استبدل بالحروف العربية الحروف اللاتينية، كما كان يقول بذلك عبد العزيز فهمي «باشا» عندنا، وحرم المسجونين الخروج من السجن إلا إذا تعلموا هذه الحروف، كما أجبر الموظفين على استعمالها، واضطرت الصحف إلى استعمالها أيضًا.

وفي ١٩٢٥ استبدل القبعة بالطربوش، وعمد بعض المشايخ إلى تكفيره فشنقهم!

وأبطل جميع الامتيازات الأجنبية بلا مفاوضة!

وأحال قصور السلاطين إلى مدارس ومتاحف!

وألغى مجلس الشيوخ، واكتفى بمجلس النواب الذي أصبح «الجمعية الوطنية الكبرى» … وعمم المساواة بين الجنسين في الانتخابات لهذه الجمعية، حتى كان بها من الأعضاء النساء سبع عشرة امرأة …

وعمم المساواة في المواريث بين الرجل والمرأة.

وأمم الكثير من الشركات.

وأبطل الرتب والألقاب.

وقال في ١٩٣٢: إن سيد البلاد ليس هو رئيس الجمهورية وإنما هو الفلاح!

وليس في تاريخ العالم كله ثورة استوعبت كل هذا التغيير في نظامي الحكومة والمجتمع!

ومع أن الحكومة التركية قد رجعت بضع خطوات إلى الوراء بعد «كمال أتاتورك»، فإن الأتراك أصبحوا في بيوتهم، ومدنهم، وزراعتهم، وصناعتهم، وأخلاقهم، وحكومتهم، أمة عصرية حرة، لا تسكر بعاداتها، وعقائدها وتقاليدها القديمة، ولكنها تعيش بالعقل والرأي والمنطق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤