الثورة المصرية الثانية

أقدس شخصية عرفناها في مصر هي شخصية «أحمد عرابي».

وليس ذلك لأنه كان ثائرًا فقط، ولكنه لأنه تألم كثيرًا، ولأن الاستعمار الأجنبي والاستبداد التركي قد لوثاه بالافتراءات، ولأنه عاش حتى رأى عدوه الاستبداد ينتصر على الحرية المهزومة التي احتضنها!

عاش «أحمد عرابي» ومات وهو لا يملك أكثر من ألفي جنيه، وفي ذلك جميع الأرض والعقارات التي كان يملكها؛ أي أقل من ثمن سيارة تملكها زوجة أحد الوزراء في عهد «فؤاد وفاروق»! وهذا مع أنه كان وزيرًا ومع أنه كان أيام الثورة بمثابة الأمير على البلاد!

كان مصريًّا يمثل المصريين، وكان يكافح الأتراك والشركس الذين كانوا يسودون ويدوسون مصر والمصريين.

دخل الجيش جنديًّا، ثم وجد أن المصريين يُمنَعون من الترقي، ففتح هذا التمييز بصيرته، وجعل يتأمل الدنيا التي يعيش فيها وحال الفلاحين المحرومين، والأجانب المترفين، وأبناء القوقاز والأناضول الذين يملكون الضياع في مصر والقصور في الإسكندرية والقاهرة، والخديو الذي أوقع البلاد في ديون المرابين …!

وانتهى من التأمل إلى التفكير، وكان تفكيره خصبًا؛ لأنه كان ثمرة الحب لبلاده والإحساس بآلام الشعب.

وكان أول ما ألهمه السخط أنه وجد أن المصريين لا يرقون في الجيش؛ إذ كانت الترقيات تقتصر على أبناء الترك والشركس، وكان «عثمان رفقي» الشركسي وزيرًا للجهادية «وزارة الحرب»، وكان يكره المصريين تلك الكراهية العنصرية الخسيسة، ويحابي إخوانه من الترك والشركس!

بل إن الضباط من الترك والشركس عقدوا اجتماعات تذاكروا فيها بحضور «عثمان رفقي» هذا دولة المماليك التي سبقت «محمد علي»، وكانوا يحاولون استرداد هذه الدولة بحيث يأخذون هم مكان المماليك في سيادة البلاد، وبحيث لا يتولى المصري الصميم عملًا رياسيًّا بتاتًا، وكانوا بهذا التفكير في سياق أسطورة تعفنت بها عقولهم!

وكان رئيس النظار «الوزراء» رياض باشا التركي …

وعرف المصريون في الجيش بما يفعله ويبيته الأتراك والشركس، فطلبوا من عرابي أن يصمد لهم ويخيب أملهم، وتكتلوا حزبًا مصريًّا برياسته، وهنا يقول عرابي:
وفي الحال كتبت عريضة إلى دولة رئيس النظار «رياض باشا» مقتضاها:
  • أولًا: الشكوى من تعصب «عثمان رفقي» لجنسه والإجحاف بحقوق الوطنيين، والتمست فيها تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة المصرية تنفيذًا للأمر الخديوي الصادر إبان توليته.
  • ثانيًا: إبلاغ الجيش إلى ثمانية عشر ألفًا تطبيقًا لمنطوق الفرمان السلطاني.
  • ثالثًا: تعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للمساواة بين جميع أصناف الموظفين بصرف النظر عن الأجناس والأديان والمذاهب.
  • رابعًا: تعيين ناظر الجهادية من أبناء البلاد — من المصريين — على حسب القوانين العسكرية التي بأيدينا.

ثم تلوت هذه العريضة على مسامع الجميع، فوافقوا كلهم عليها، فأمضيتها بإمضائي، وختمتها بختمي.

وقصد «عرابي» بالعريضة إلى التركي «رياض باشا» فكان جوابه: «إن هذا الطلب مهلك!»

فقال «عرابي»: «إننا لم نطلب إلا حقًّا وعدلًا، وليس في طلب الحق من خطر، على أننا نعتبرك أبًا للمصريين، فما هذا التعريض؟ وما هذا التهديد؟»

فقال «رياض التركي»: «ليس في البلاد من هو أهل لمجلس النواب.»

فقال «عرابي»: «عجبًا … أتظن أن مصر ولدتكم ثم أعقمت؟ لا، بل فيها العلماء والنبهاء والفضلاء والبلغاء، وعلى فرض أنه ليس فيها من يليق كما ظننت، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد معارفكم، ويكون كمدرسة ابتدائية، وبعد خمسة أعوام يتخرج منها رجال يخدمون الوطن؟»

ولكن «رياضًا» لم يكن يطيق أن تخرج السلطة من يده وأيدي أبناء عنصره من الترك والشركس إلى المصريين؛ ولذلك لم تمض أيام حتى كان قد جمع مجلسًا برياسة «توفيق» في قصر عابدين، وكان أعضاء هذا المجلس من الباشوات المستخدمين والمتقاعدين، وكلهم من الترك والشركس إلا قليلًا من الأوروبيين، وقرروا فيه توقيف الضباط الذين وقَّعوا العريضة ثم محاكمتهم في مجلس عسكري.

ولكن وزارة الشركس والترك التي كان يرأسها «رياض باشا» خشيت عاقبة القبض على الضباط، فعمدت إلى الغش والتزوير، فزعمت أن هناك عرسًا ستزف فيه شقيقة الخديو، ودعت جميع الضباط المصريين إليه بنية الفتك بهم إذا اجتمعوا في العرس! قال «عرابي»: «وحين حلول الوقت المعين، ذهبنا إلى ديوان الجهادية، فوجدناه غاصًّا بجمع الشركسة من رتبة الفريق إلى رتبة الملازم الثاني، وجميع شبابهم بأيديهم الطبنجات ذوات ٦ طلقات مملوءة بالخراطيش، وكلهم في فرح ومرح ولا فرح هناك ولا زفاف، فلما حضرنا دعينا للحضور أمام مجلس الهلاك، فأجبنا طائعين، وتلي الأمر الخديوي الآنف ذكره، ثم أُمرنا بتسليم سيوفنا فأطعنا على هذا التسليم وما يعقبه من السجن!»

وسجن الضباط المصريون وعلى رأسهم «عرابي»! ورضي الخديو «توفيق» ورضي وزيره «رياض» التركي أن يقبض على المصريين بهذه الخدعة الدنيئة، وكان هذا الحادث الثقاب الذي أشعل الثورة، ولكل ثورة ثقاب يشعلها.

ولكن بعد إلقاء القبض عليهم عاد «الخديو توفيق ورياض» إلى التفكير، وسلم كلاهما بشيء من طلبات «عرابي»، ففصل «عثمان رفقي» وعين بدلًا منه «محمود سامي البارودي»، ومع أنه كان من الشركس فإنه كان في صف الوطنيين!

وسلم الخديو «توفيق» بإنشاء مجلس نيابي، وعقد المجلس، وكان من قراراته العادلة أن يكون له الحق في نظر الميزانية، ولكن «شريفًا» التركي — رئيس الوزارة — أبى على النواب المصريين أن يكون لهم حق الرقابة والتوجيه وفرض الضرائب وطرق إنفاقها بالنظر في الميزانية، وكأن شريف باشا كان يعتقد أن مجلس النواب هو نادٍ للخطابة، أما هو وإخوانه من الأتراك والشركس فلهم الميزانية يتصرفون بها كما يشاءون، وينفقون منها على هواهم، وكان شريف باشا يسير مع الإنكليز والفرنسيين في هذه الخطة، وهي ألا يكون للمصريين أي حق في التصرف بالأموال المصرية …

واستقالت وزارة «شريف باشا»، وعينت وزارة جديدة برياسة «محمود سامي البارودي»، وكان الثائرون يرضون عنه؛ لأنه كان معهم مع أنه كان تركيًّا! وسلمت هذه الوزارة الجديدة بطلب مجلس النواب وهو النظر في الميزانية.

وإلى هنا كان يمكن أن نختتم الثورة بالوفاق بين الثائرين وبين المتسلطين، ولكن الاستعمار البريطاني الفرنسي كان يرقب هذه الحوادث، ولم يكن يرضى عن هذا الوفاق!

فقد كانت فرنسا وبريطانيا تخشيان نهضة الشعب المصري الذي ربما يرفض تأدية الدَّين الذي أوقعه فيه المرابون من أسرة روتشيلد وغيرها، وخاصة لأن الربا الفاحش كان واضحًا بل صارخًا!

ومن ناحية أخرى كانت بريطانيا تنوي احتلال مصر كي تحيلها إلى ضيعة لزراعة القطن الذي تستعيض به عن قطن الولايات المتحدة.

وجاء الأسطولان الإنكليزي والفرنسي إلى الإسكندرية في مايو سنة ١٨٨٢، وتقدم قائداهما بطلبات إجرامية إلى الحكومة المصرية تحطم استقلال مصر ويعدُّ التسليم بها اعترافًا بسيادة هاتين الدولتين لمصر، فرفضها مجلس الوزراء …

وفي ١١ من يونية من هذه السنة، والأسطولان في مياه الإسكندرية، حدث شجار بين رجل مالطي من رعايا الإنكليز ورجل مصري مكاري، وأدى هذا الشجار المدبر من الإنكليز والفرنسيين إلى فتنة قتل فيها بعض الأجانب والمصريين، وكان الإنكليز في حاجة إلى هذه الفتنة لتبرير الاحتلال!

وقام عرابي ورجاله بمجهود الجبابرة لقمع هذه الفتنة، ولكن محافظ الإسكندرية التركي «ذو الفقار» كان يفسد التحقيق، ولا يريد الوصول إلى الأشخاص الذين أشعلوها، وهذا يدل على أنه هو كان مشتركًا فيها بإيعاز من «الخديو توفيق».

وبعد شهر تمامًا من فتنة المكاري والمالطي؛ أي في ١١ يولية، تقدم قائد الأسطول الإنكليزي، بلا حق وبلا عدل وبلا شرف، إلى محافظ الإسكندرية بمذكرة يقول فيها: إن الجيش المصري يرمم القلاع والاستحكامات، وإنه يطلب هدم هذه القلاع والاستحكامات، وتدميرها وإلا ضرب الإسكندرية.

وبالطبع رفضت الوزارة المصرية الخضوع لهذا الطلب الإجرامي!

ثم ضربت الإسكندرية، وقتل آلاف المصريين من الرجال والنساء والأطفال …

وحاول الإنكليز إنزال جنودهم في مديرية البحيرة، ولكن عرابيًّا هزمهم، فارتدوا … وعمدوا إلى قناة السويس، وكان عرابي، في سذاجته، يصدق بحياد هذه القناة، فلم يتحصن؛ لأنه لم يخش هجوم الإنكليز على مصر منها، ولكن الإنكليز لا يبالون المعاهدات!

ودخل «الإنكليز» إلى مديرية الشرقية بعد أن دلهم على الطريق «رجال» أو خونة من قبيلة عربية تدعى قبيلة الطحاوية في الشرقية، فساروا على هدى المصابيح التي نصبها لهم هؤلاء الخونة حتى وصلوا إلى التل الكبير، فكبسوا القوة المصرية الآمنة، وهزموا «عرابيًّا».

ثم عشنا بعد ذلك أربعين سنة في الظلام، ومسح اسم مصر من التاريخ طوال هذه السنوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤