تاريخ أحمد عرابي – بقلمه

على الرغم من أن القارئ سيجد فيما يلي بعض التكرار فإني رأيت الإبقاء عليه، وهذه الترجمة التي كبتها عرابي عن حياته كان «ولفرد سكاوين بلنت» — مؤلف «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» — قد طلبها منه كي يذيل بها هذا الكتاب، وأنا المسئول عن نقلها إلى اللغة العربية مع الكتاب المشار إليه.

المؤلف

كان مولدي في سنة ١٨٤٠ في بلدة «هرية» قريبًا من الزقازيق في الشرقية، وكان أبي شيخ القرية، وكان يملك ثمانية فدادين ونصف فدان، وقد ورثتها عنه، وأضفت إليه ما اشتريته مما كنت أدخره من مرتبي الذي بلغ أحيانًا ٢٥٥ جنيهًا في الشهر، فبلغت أملاكي ٥٧٠ فدانًا، وهذا هو المقدار الذي استصفته الحكومة وقت محاكمتي، وكانت هذه الأرض وقت اشتريتها رخيصة لا يزيد ثمن الفدان على بضعة جنيهات، في حين أنه يساوي مبلغًا كبيرًا الآن؛ لأنها كانت في ذلك الوقت رديئة، أما الآن فهي جيدة، ولكن لم يكن فيها شيء منحني إياه سعيد باشا أو أي شخص آخر، وكان جميع ما ورثته ثمانية فدادين ونصفًا فقط، وكان كل ما أدخره أشتري به أرضًا، ولم يكن لي أملاك أخرى أو منقولات إلا أثاث البيت والخيول، وكلها لم يكن يتجاوز ثمنها ألف جنيه.

ولما كنت صبيًّا دخلت الأزهر ودرست فيه سنتين، ولكني جندت وعمري ١٤ سنة؛ لأني كنت مديد القامة، وكان سعيد يحب تجنيد أولاد المشايخ لكي يصيروا ضباطًا فامتحنت، فأفادني في الامتحان ما كنت قد تعلمته في الأزهر، فعينت كاتبًا بدرجة «بلوك أمين»، ولم أنتظم في صف الجنود، وأعطيت مرتبًا مقداره ستون قرشًا في الشهر، ولكني لم أحب هذا المركز؛ لأني خشيت ألا أرقى، وكنت أطمح إلى منصب عال يماثل منصب مدير مديريتنا، فقدمت عريضة إلى رئيسي إبراهيم بك لكي يردني إلى الصف، فأخبرني إبراهيم بك بأني أخسر في هذا العمل؛ لأن مرتبي ينزل عندئذ إلى خمسين قرشًا، ولكني ألححت عليه فقبل، ثم لم يمض قليل حتى امتحنت مرة أخرى ففزت، وكنت الأول فيه، فجعلوني «جاويشًا»، ثم امتحنت مرة ثالثة فعينت ملازمًا، وكان عمري وقتئذ ١٧ سنة، وكان سليمان باشا الفرنساوي يحبني، فألح على سعيد باشا لكي يرقيني فصرت قائمقامًا، وكانت سني عشرين سنة، ثم أخذني سعيد باشا معه كياوره عندما زار المدينة قبل وفاته بعام، وكان هذا في سنة ١٢٧٩ هجرية (١٨٦٢م).

وكانت وفاة سعيد باشا من الكوارث التي نزلت بي؛ لأنه كان يحب أبناء البلاد، أما إسماعيل فلم يكن كذلك، ففي زمنه أعيد كل شيء إلى أيدي الأتراك والشركس، وصار المصري في الجيش مجردًا من الحماية ومن الترقية، فبقيت قائمقامًا مدى ١٢ عامًا لم يحدث فيها شيء، حتى جاءت حرب الحبشة، ولم أكن قد أرسلت إلى الحرب الروسية؛ ولكن لما نشبت حرب الحبشة طلب جميع الجنود، وسحبت الحاميات من طريق الحج، وكلفت أنا بالذهاب للقيام بسحب هذه الحاميات، وذهبت وحدي فلم يكن معي جندي واحد، ولم أزود بقرش واحد، وكان عليَّ أن أصل إلى مكان هؤلاء الجنود على الجمال بقدر المستطاع، فذهبت إلى النخل والعقبة والوجه، وصرت أجمع الحاميات وأضع مكانها العرب خفراء للحصون، ثم عبرنا البحر إلى القصير، وذهبنا إلى قنا، ومن هناك إلى القاهرة، ولم يدفع لي قرش واحد على قيامي بهذه المهمة، بل قمت أنا بنفسي بنفقات سفري، وكانت البلاد في حالة مروعة من الظلم، ومن ذلك الوقت بدأت أهتم بالسياسة، رجاء أن أخلص البلاد من الخراب، ثم ذهبت إلى مصوع، واشتركت في الحملة التي كانت بقيادة «راتب باشا»، وكان لورنج باشا الأمريكي رئيس أركان الحرب، ولم أشهد معركة قرى؛ لأني كنت قائمًا في ذلك الوقت بمسألة النقل بين مصوع والجيش، وكانت المعركة من النكبات التي نزلت بالجيش إذ قتل فيها جنود سبع كتائب، وكان الخطأ يعزى إلى «لورنج باشا»، وكان ابن الخديو حسن هناك، وكان فتى صغيرًا يتعلم الجندية، ولم يكن يقود الجيش، ولم يؤخذ أسيرًا عند الأحباش.

وبعد ذلك أخذت أفكر في الشئون السياسية، وأتذكر أني رأيت الشيخ «جمال الدين»، ولكني لم أكلمه، وقد أفادتني علاقتي القديمة بالأزهر بمعرفة عدد من الطلبة، وكان من أفضل من عرفتهم الشيخ محمد عبده والشيخ حسن الطويل، وكان أول كتاب أدركت منه بعض الآراء عن المسائل السياسية كتابًا مترجمًا إلى العربية عن «حياة بونابرت» تأليف الملازم لويس، وكان سعيد باشا قد أخذ هذا الكتاب معه في زيارته للمدينة، وكان ما ذكر فيه، من أن ثلاثين ألف جندي فرنسي قد فتحوا بلادنا، قد هاج غضب سعيد باشا، فرمى بالكتاب إلى الأرض وقال لي: «انظر كيف قهر مواطنوك؟» فأخذت الكتاب وقرأته طول الليل ولم أنم حتى الصباح، ثم ذهبت إلى سعيد باشا وأخبرته أني قد قرأت الكتاب، وأن السبب الذي جعل الفرنسيين ينتصرون هو أن جيشهم كان منظمًا، وأننا نستطيع أن نفعل ذلك بمصر لو أردنا …

والآن تسألني عن الشغب الذي حصل في وقت «إسماعيل» ضد نوبار وهل لي يد فيه؟ فأقول: إنه لم يكن لي يد فيه؛ لأني كنت في وقت ذلك الشغب في رشيد مع الآلاي، ولكن في اليوم الذي سبق يوم الشغب أرسلت إلى الحربية أنا والقائمقام الآخر «محمد بك نادي» تلغرافًا لكي ننظر في أمر الجنود الذين فصلوا من الجيش ولم يدفع لهم متأخر مرتباتهم، بل لم يكن لديهم ما يقتاتون به، وكانوا وقتئذ في العباسية، ولكني لم أعرف ماذا كان يدبر ضد نوبار، والحقيقة أن «إسماعيل باشا» هو الذي دبر هذا الشغب بواسطة أحد خدمه «شاهين باشا» وصهره «لطيف أفندي سليم» — ناظر المدرسة الحربية — وقد انضم إليهم بعض الجنود المعزولين، ولم يكونوا كثيرين، وقد وجدوا نوبار على أبواب الوزارة على وشك أن يركب مركبته، فهاجموه ولكموه وشدوا شاربيه، وذهب الخبر إلى «إسماعيل باشا» لكي يهدئ الشغب، فذهب ومعه عبد القادر باشا وعلي فهمي بك، الملازم في حرسه، فأمره بأن يطلق النار على الطلبة، ولكن علي فهمي بك أمر بإطلاق النار في الهواء فلم يجرح أحد، ولم يكن علي فهمي معنا في ذلك الوقت، فقد كان أمينًا لإسماعيل، وكان قد تزوج إحدى سيدات السراي، ولكنه لم يحب أن تهرق دماء هؤلاء الشباب!

ولكي يخفي إسماعيل اشتراكه في إيجاد هذا الشغب، اتهمني أنا ونادي بك وعلي بك الروبي بأننا نحن زعماء المشاغبين، وقدمنا للمجلس المؤلف من «ستون باشا وحسن باشا أفلاطون وعثمان رفقي» الذي صار بعد ذلك وكيل وزارة الحربية، وآخرين، فقرر في ذلك المجلس أن من المحال أن تكون لنا يد في هذا الشغب؛ إذ كنا في رشيد ولم نصل للقاهرة إلا في الليل! ومع ذلك قد وبخنا وفصل كل منا عن آلايه، فأرسل «نادي» إلى المنصورة، وأرسل «الروبي» إلى الفيوم، وأرسلت أنا إلى الإسكندرية كوكيل لمشايخ الصعيد الذين كانوا يرسلون المتأخر عليهم من الضرائب عينًا كالفول وغيره من الغلات إلى الإسكندرية، فكان يتسلمها بعض يهود في الإسكندرية ويرتهنونها جزاء ما يقترضه منهم «إسماعيل» من الأموال.

ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا، فاقترحت عليهم أن نكون عصبة لخلع إسماعيل، ولو فعلنا ذلك لحللنا المسألة من وقتها؛ لأن القناصل كانوا يرغبون في التخلص منه بأية طريقة، وكنا قد وفرنا على أنفسنا جميع المشاكل التالية، وكنا وفرنا أيضًا ١٥ مليون جنيه أخذها إسماعيل وقت خلعه، ولكن لم يكن قد ظهر بعد من يقود هذه الحركة، فوافق الموجودون على رأيي، ولكنا لم نقدر على تنفيذه، ثم خلع إسماعيل فزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن قد فعلنا ذلك بأنفسنا لكنا تخلصنا من عائلة محمد علي بأجمعها، ولم يكن فيها أحد جديرًا بالحكم سوى سعيد، وكنا عندئذ قد أعلنا جمهورية، وقد اقترح الشيخ جمال الدين على الشيخ محمد عبده أن يقتل إسماعيل على جسر قصر النيل، فوافق الشيخ محمد عبده على الاقتراح. وكان إسماعيل قد جمع أموال المديريات قبل خلعه بستة أشهر، وقد اعترف لطيف بعد ذلك باشتراكه في هذه الأعمال، وقد أودع لطيف هذا السجن، ولكن جماعة الماسون طلبوا من نوبار الأفراج فأخلى سبيله.

ولما خلف توفيق إسماعيل أعلن في أول أعماله أنه ينوي منح البلاد دستورًا، والآن تسألني: هل كان مخلصًا في هذه النية؟ فأقول: إنه لم يكن مخلصًا، ولكنه كان ضعيفًا إلى درجة لا تصدق، ولم يقدر على أن يقول: «لا.» وكان يتأثر بما يشير عليه به وزيره شريف باشا الذي كان يحب النظم الدستورية في الحكومات، وكان توفيق في عهد والده يجمع الأموال، وكان هذا أهم ما يهتم به، فكان يأخذ الهدايا من جميع المتقدمين بالعرائض لأبيه، وكانوا يعتقدون أنهم برشوة توفيق يستطيعون تحقيق أغراضهم عند والده إسماعيل، فلم يكن توفيق يرغب في وجود دستور، ولكنه شق عليه أن يقول: «لا.» عندما عرض عليه شريف هذا الرأي فوعده به، ولكن لم يمض شهران حتى وقع تحت نفوذ القناصل الذين منعوه من إصدار قرار الدستور، فجمع عندئذ شريف وزراءه وقرروا أنه إذا استقال فهم أيضًا يستقيلون، وأقسموا له بشرفهم، ولكن على الرغم من القسم انضم بعضهم إلى وزارة رياض باشا الذي صار رئيسًا للوزارة مكان شريف، ولكي يرغبهم رياض في وزارته تعهد لهم بأن كل وزير سيكون مستقلًّا في وزارته، وأن توفيقًا لن يتدخل في إدارة أعمالهم، فصار محمود سامي وزير الأوقاف، وعلي مبارك وزير المعارف، وعثمان باشا رفقي — وهو تركي، كان يكره الفلاحين — صار وزير حربية.

وكانت الحكومة الجديدة حكومة جائرة، فقد كتب حسن موسى العقاد عريضة بشأن نظام المقابلة (في الضرائب) فكان جزاؤه لتقديمه هذه العريضة النفي إلى البحر الأبيض، وعزل أحمد فهمي لعريضة أخرى، وعزل آخرون لأن الوزارة لم تنظر إليهم بعين الرضا، وكان أسوأ هؤلاء الوزراء جميعهم عثمان رفقي.

وكنا — نحن الضباط — كل منا مع آلايه! وكنا نقاسي صنوف الظلم لأننا مصريون، وكان الضابط المصري يقبض عليه لأي علة ويوضع مكانه رجل شركسي، وكانت النية أن يعزل جميع الضباط المصريين، وكنت أنا من المغضوب عليهم؛ لأني رفضت أن تؤخذ جنودي لحفر قناة التوفيقية، وكانت العادة أن يسخروا في مثل هذه الأعمال دون أجر، ودبرت التدابير لكي أشتبك في مشاجرة في بعض الشوارع فأقتل، ولكن حب جنودي لي كان ينجيني على الدوام من هذه المشاكل، وبات جميع الضباط الذين لم يكونوا شراكسة في خطر وفزع لا يبرحانهم، وكان هذا هو السبب في أن علي فهمي الذي كان متصلًا بالبلاط الخديوي، لزواجه إحدى جواريه انضم إلينا؛ لأنه هو الآخر كان يخشى أن يعزل ويوضع مكانه الشركس أو الأتراك، وكان ضابطًا في الآلاي الأول من الحرس، وكان مركزه عابدين، وكنت أنا في العباسية مع الآلاي الثالث، وكان عبد العال حلمي في طرة، وكان علي روبي يقود الخيالة.

ثم حدثت أزمة في يناير سنة ١٨٨١، فقد كنت ذهبت إلى دار نجم الدين باشا، وذلك في المساء، وكان هناك بعض الباشوات، فأخذوا يتسامرون عن التغييرات التي ينوي عثمان رفقي أن يقوم بها، فعلمت من كلامهم أنه قد تقرر أن أعزل أنا وعبد العال من قيادتنا ويعين في مراكزنا ضباط شركس، وفي الوقت نفسه جاءني رسول برقعة تقول: إن علي فهمي وعبد العال في بيتي ينتظرانني، فذهبت إلى البيت ووجدتهما وسمعت منهما هذا الخبر السيئ نفسه، وجلسنا نتشاور فيما يجب أن نفعله، فاقترح علينا عبد العال أن نصطحب قوة ونذهب إلى منزل عثمان رفقي ونقبض عليه أو نقتله، ولكني قلت له: «كلا. يجب أن نقدم عريضة أولًا لرئيس الوزراء، فإذا لم يقبل نقدم عريضة أخرى للخديو.»

فكلفاني بأن أكتب العريضة، فكتبت العريضة وأوضحت الحالة وطلبت عزل عثمان رفقي وزيادة الجيش إلى ١٨٠٠٠ جندي وإعلان الدستور الموعود.

«ملحوظة من بلنت: أظن أن عرابيًّا قد أخطأ هنا إذ خلط بين هذين الطلبين الأخيرين وبين الطلب الأول الذي قدم في ٩ سبتمبر، ولكنه ألح بأنه قد أثبت هذه الثلاثة طلبات في فبراير».

ثم وقعنا نحن الثلاثة هذه العريضة مع علمنا بأن حياتنا قد صارت في خطر!

وفي اليوم التالي ذهبنا بعريضتنا إلى وزير الداخلية، وطلبنا مقابلة رياض، فأجلسونا في غرفة خارجية، بينما أخذت العريضة لرياض ليقرأها في غرفة داخلية، ثم خرج إلينا رياض وقال لنا:

هذه عريضة مهلكة. ماذا تطلبون؟ تغيير الوزارة؟ ومن يأخذ مكانها؟ ومن تقترحونه لكي يقوم بأعمال الحكومة؟

فأجبته وقلت: «يا سعادة الباشا، هل ولدت مصر ثمانية رجال ثم صارت عاقرًا لا تلد؟»

كنت أقصده ووزراءه السبعة بذلك، فغضب مني، ولكنه قال أخيرًا: إنه سينظر في طلبنا وتركناه، وفي الحال التأم مجلس حضره الخديو وجميع رجال بلاطه وأيضًا ستون وبلتز، واقترح الخديو أن يقبض علينا وأن نحاكم.

ولكن الآخرين قالوا: إذا حاكمنا هؤلاء فيجب أن يحاكم عثمان باشا أيضًا، وعلى هذا تركت المسألة لعثمان ليعالجها كما يرى وأنت تعرف الباقي.

أما عن سؤالك: هل كان يعرف الخديو في ذلك الوقت عزمنا على كتابة العريضة، فأقول: إنه لم يكن يعرف ذلك ولم يعرف أيضًا أن علي فهمي قد انضم إلينا.

أما عن سؤالك: هل كنت أعرف البارون دورنج؟ فأقول: إني لم أكن أعرفه، ولم أكن أعرف أحدًا من القناصل، ولكني سمعت أن أكبر القناصل نفوذًا هو القنصل الفرنسي، فكتبت إليه أخبره عن موقفنا، ورجوته أن يخبر سائر القناصل بأنه ليس هناك أقل خطر على رعاياهم.

أما محمود سامي، فلم أكن قد عرفته بعد، ولكنه كان صديقًا لصديقي علي روبي، وسمعت أنه من المتعلقين بالحرية، وكان من أصل شركسي، ولكن عائلته عاشت في مصر نحو ستماية سنة.

أما في المظاهرة الثانية التي حدثت في ٩ سبتمبر، فقد كنا نعرف أن الخديو كان في صفنا، فإنه أراد أن يتخلص من رياض الذي كان لا يكترث لأوامره، وقد رأيته وتكلمت معه مرتين في ذلك الصيف، ولكنا لم نتكلم عن السياسة، وكانت رسالته لنا على لسان علي فهمي، وكانت كما يلي:

أنتم ثلاثة جنود وأنا رابعكم!

والآن تسألني عن إخلاصه فأقول: إنه لم يكن قط مخلصًا، وإنما أراد أن يتخلص من رياض، ففي هذه المظاهرة طلبنا عزل رياض مع سائر الوزراء، ونحن نعلم أنه سيفرح لهذا الطلب، ففي صباح ٩ سبتمبر أرسلنا كلمة إلى الخديو نقول: إننا سنذهب إلى قصر عابدين لكي نطالبه بأداء وعوده السابقة، فجاء وكان معه كوكسون وكان حديثي أنا مع كوكسون هذا … فسألني كوكسون هل ترضى بحيدر باشا، فأجبته بأننا لا نرضى برجل يمت إلى الخديو بقرابة، ولم يكن لنا في هذه المرة الثانية طلبات مكتوبة، وإنما جددنا طلباتنا التي قدمناها في أول فبراير وهي: مجلس الأعيان وزيادة الجيش إلى ١٨٠٠٠ كما تنص على ذلك الفرمانات، وعزل رياض، فوافقونا على كل ذلك، وفرح الخديو بذلك، ولست أعرف هل كان كولفن هناك؟ وهل نصح للخديو بشيء ما؟ وإنما رأيت هناك كوكسن وجولدشمث، وكنت أنا أخاطب كوكسون، ولو حاول الخديو قتلي لأطلقت النار عليه، والحقيقة أنه كان في أشد الجذل والحبور لهذه المظاهرة!

تسألني الآن عن أبي سلطان «سلطان باشا» فأقول: إنه كان مغتاظًا لأنه عندما ألفت وزارة شريف لم يعين في إحدى الوزارات، وكان الظن أن منصب رئيس مجلس النواب أشرف وأهم، ولكنه هو لم ير هذا الرأي، فساءه أنه ليس عضوًا في الوزارة، وهذا أول ما جعله ينقلب علينا.

أما عن سؤالك هل أسيئت معاملة الشركسة الذين قبض عليهم وأودعوا السجن للمؤامرة، وعذبوا عندما كنت وزيرًا للحربية، فأقول: إني لم أدخل السجن الذي كانوا فيه ولم أرهم يعذبون، بل لم أقترب من السجن مطلقًا.

أما عن مسألة هياج الإسكندرية فليس هناك شك في أن الذي دبر هذا الهياج هو الخديو وعمر باشا لطفي المحافظ ومستر كوكسون، وقد دبر هذا الهياج قبل وقوعه بعدة أيام، وكان الغرض منه إزالة الثقة فيَّ لأني كنت قد تعهدت بحفظ النظام، فإن الخديو أرسل تلغرافًا بالأرقام إلى عمر لطفي كما تعرف، واتفق عمر لطفي مع السيد قنديل رئيس المستحفظين على إيجاد الهياج، وأخفى السيد قنديل هذه المسألة عنا ونحن في القاهرة، أما اشتراك مستر كوكسون فينحصر في أن عددًا من الصناديق التي تحتوي على الأسلحة النارية أنزلت إلى الإسكندرية وأرسلت إلى دار القنصلية حيث مستر كوكسون، وبديهي أنه كان يقصد بإنزال هذه الأسلحة للمدينة تسليح بعض الناس، وعندما سمعت بالحادث أرسلت في الحال يعقوب سامي إلى الإسكندرية، وأمرته بأن يبحث بحثًا وافيًا، فانتهى من البحث بإثبات جميع هذه الحقائق التي ذكرتها، وقد قيلت أشياء كثيرة غير صحيحة، فليس صحيحًا أنه وجدت أجسام من القتلى النصارى في لباس إسلامي، وابتدأ الهياج بمشاجرة بين مالطي وحمار، ولكن هذه المشاجرة كانت عذرًا ليس غير، وكان عمر لطفي كما تقول من شيعة إسماعيل، وتسألني: لماذا ترك مثل هذا الرجل الخطر في هذا المنصب الذي كان يساعده على إحداث أكبر الأضرار؟ وكل ما أقوله أنه لم يكن تابعًا لوزارة الحربية، بل كان يتسلم أوامره من وزارة الداخلية، وكان من سوء حظنا أن تركناه في مركزه، ولم يذهب نديم ولا حسن موسى العقاد إلى الإسكندرية في هذا الشأن، وإنما ذهب حسن موسى العقاد في مسألة مالية.

وما تسألني عنه بصدد إسماعيل باشا صحيح، فقد عرض علينا إسماعيل أموالًا … وظروف المسألة هي هذه.

كنا طلبنا بعض المدافع من ألمانيا، ولكنهم رفضوا أن يسلموها لنا ما لم ندفع الثمن، ولم يكن عندنا مال، فعرض علينا إسماعيل ٣٠٠٠٠ جنيه على شرط أن نقول: إننا نشتغل في مصلحته، وكان الذي عرض هذا المبلغ هو مسيو منجس (ماكس لافيسون) وكيل إسماعيل الروسي، وكان لحسن موسى العقاد يد في هذه المسألة، ولكن الأموال لم تظهر، وإذا كان إسماعيل قد أرسل المبلغ حقًّا إلى الإسكندرية فقد بقي في أيديهم فإننا لم نلمسه.

لا أتذكر أني سمعت شيئًا عما تذكره من أن روتشيلد قد عرض عليَّ معاشًا سنويًّا قدره أربعة آلاف جنيه بشرط أن أعيش خارج مصر، وإنما أتذكر أن قنصل فرنسا زارني بعد أن أرسل القناصل مذكرتهم في طلب عزل الوزارة المصرية، وقال لي: إنه يدفع لي ضعفي مرتبي وقتئذ أي ٥٠٠ جنيه في الشهر إذا كنت أذهب إلى باريس وأعيش هناك كما كان يعيش الأمير عبد القادر، فرفضت وقلت له: إن واجبي يقضي عليَّ بأن أدافع عن بلادي وأموت في الدفاع عنها لا أن أهجرها، ولم أسمع عن روتشيلد بخصوص هذه المسألة.

والآن سأخبرك كيف خسرنا معركة التل الكبير، فإنه لما كان الإنكليز يتقدمون دبرنا هجومًا نقوم به في القصاصين، وكان هذا التدبير يقتضي أن يتقدم محمود سامي إلى ميمنتهم من الصالحية، ونتقدم نحن إلى الأمام، وفي الوقت نفسه تكون قد دارت قوة من جنوبي الوادي لكي تضربهم من المؤخرة، وجربنا الحملة وبدأنا بتنفيذها، ولكننا فشلنا لأن علي بك خنفس خاننا وأفشى هذا التدبير، وأرسل إلى لورد ولسلي الرسم «الكروكي» الذي كنت رسمته أنا وأرسلته إليه، وكان أبو سلطان «سلطان باشا» بالنيابة عن الخديو قد أفسد علي يوسف وضباطًا آخرين في الجيش بالرشوة، ولما كنت في السجن في القاهرة جاءني سير تشارلس ولسون، ومعه رسمي الكروكي، وسألني: هل هذا من رسم يدك؟ فقلت: «نعم.» فأخبرني كيف وقع في يده وقال: «إنه تدبير محكم، وربما كنتم هزمتمونا لو لم نقع عليه.»

فكانت هذه أولى نكباتنا، وفي التل الكبير فوجئنا، وكانت الخيانة هي السبب أيضًا، في هذه المفاجأة، فإن قواد الخيالة كان قد أغراهم أبو سلطان «سلطان باشا» وأملهم آمالًا كبيرة، فكان مكان الخيالة في مقدمة الجيش، وكان عليهم أن ينذرونا عن تقدم الإنكليز، ولكنهم تنحوا إلى الجانب ولم ينذرونا، وكان الخائن علي بك يوسف خنفس في الخنادق فوضع مصابيح لكي يهتدي بها الإنكليز ثم انسحب برجاله فترك ممرًّا عريضًا لمرور الإنكليز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤