أربعة ملوك

رأيت في مصر أربعة ملوك، وإني لأقسم صادقًا إني أحمد الأقدار على أنها لم تنكبني، كما نكبتهم، بالعطل الدائم، والثراء الفاحش، والاستهلاك دون الإنتاج، والتعالي على البشر، والكبرياء على التعلم، وكذلك لم تحرمني كما حرمتهم، من حقي في العرق والدمع والدم.

واعتقادي أن هناك في عصرنا هذا ألوفًا بل ملايين قد نضجوا ورتبوا أذهانهم ونظموا ثقافتهم وعينوا قيمهم، وربوا عواطفهم، وعرفوا مراسيهم في هذه الدنيا، فلم تعد للبهارج الاجتماعية أية لألأة تغريهم وتذلهم. وأعظم هذه البهارج في عصرنا هي العروش.

رأيت الخديو «عباس» الثاني، ثم السلطان «حسين»، ثم الملك «فؤاد»، ثم «فاروق».

كان «عباس» على عداء للإنكليز، ولكنه كان يسعى للاستقلال كي يفوز هو به ويستغله ويستبد بالشعب للإثراء، وكان اهتمامه بالإثراء يشغل كل وقته أو يكاد، فقد أشرف بنفسه على بناء العمارات الأربع، المعروفة بعمارات الخديو، وهي التي بشارع عماد الدين، وكان يقصد إليها في الليل، ثم كان غرامه بشراء الأرض يقارب الهوس، وكان يبيع الرتب مع أن مخصصاته في الدولة كانت تكفي سنة واحدة منها لأن يعيش مدى عمره وهو في هناءة، ولكن هوس الجمع والاقتناء كان يطغى عليه.

وكان إلى هذا الهوس لا يترفع عن أن يكون جاسوسًا للسلطان «عبد الحميد»، ففي أوائل هذا القرن كان يقيم في القاهرة رجل تركي يدعى «ليون فهمي»، وكان يشرف على بعض المنظمات لجماعة تركيا الفتاة أو يشترك فيها، وكان السلطان يخشى هذه الجماعة الثورية، وكان له الحق؛ إذ هي انتهت بتحطيم عرشه.

وكان «ليون فهمي» يقتني أوراقًا تحمل أسماء مئات من الأتراك المشتركين في هذه الجماعة، فحصل عليها الخديو «عباس» وأخفاها، استعدادًا لتسليمها للسلطان «عبد الحميد».

فلم يكن من «ليون فهمي» إلا أن استغاث باللورد «كرومر» بعد أن أفهمه النتائج الوبيلة التي سوف تترتب على إفشاء هذه الأسماء لحكومة «استنبول».

وكان اللورد «كرومر» يتحين الفرص لإذلال «عباس»، فانتهز هذه الفرصة وأجبره على رد الأوراق، وكانت فضيحة تحدثت عنها الصحف شهورًا.

ولم يكن «عباس» ينطوي على أية فكرة ارتقائية لمصر، فإنه بدلًا من أن يصادق «الإمام محمد عبده» عاداه، ومن هنا الزعم بأن هذا الإمام المصري العظيم كان يمالئ الإنكليز، وهو زعم خطأ؛ لأن الحقيقة أنه كان يكره «عباسًا» وعائلة «محمد علي» كلها، وله في ذلك كتابات عجيبة حكيمة نشرتها له مطبعة المنار.

ومع عداوة «عباس» للإنكليز لم يترفع عما كان يسمى سياسة «الوفاق»، وأي وفاق كان هذا؟ كان أن يتفق عميد الإنكليز السر الدون «جورست» مع عميد المصريين الخديو «عباس» على حكم البلاد مشاركة، ثم لا يكون دستور أو برلمان أو ديمقراطية أو تعليم.

وطغى «عباس» في تلك الأيام حتى اضطرت الحكومة البريطانية إلى أن تستبدل «بجورست» «كتشنر» الذي أرصد حياته في مصر لمعاكسة الخديو «عباس» اعتمادًا على أن الشعب يكرهه.

وكان «كتشنر» يرتكب الصغائر في هذه المعاكسة. مثال ذلك أن الخديو شاء أن يجوب البلاد بالقطار، فكان «كتشنر» يوصي نظار المحطات، التي يقف فيها القطار لكي يستقبل الشعب الخديو، بألا تقدم القهوة له، وكان السواق ينتظر اقتراب من يحمل القهوة إلى الخديو في عربته فيجعل القطار يصفر ويعدو به …

وهذه القصة رواها «لويد جورج» في كتابه عن «كتشنر» مع الإعجاب، وكان كلاهما صغيرًا.

ولما خُلع الخديو في ١٩١٥ لم يحزن عليه مصري.

•••

وجاء بعده السلطان «حسين» الذي عينه الإنكليز لنا دون أن نستشار أو حتى دون أن يؤخذ رأي مجلس الوزراء، وكان الإنكليز قد فاوضوا «عمر طوسن»، فرفض، وعلل رفضه بأنه لا يمكنه أن يكون سلطانًا أو أميرًا إلا إذا قبل «خليفة استنبول» ذلك، وقد قص عليَّ هذه القصة المرحوم «فارس نمر».

وكاد الإنكليز أن يأتوا بآغا خان ويولوه عرش مصر!

وانتهوا بتعيين السلطان «حسين»، وأذكر أن اللورد «كيرزون» وقف في مجلس اللوردات يقول: إنه رأى الصور التي نشرت عن موكب السلطان «حسين» قبل تنصيبه وهو سائر نحو عابدين، والشعب يهتف ويهلل له، وأنه تأثر كثيرًا لهذا المنظر، وكان كاذبًا في كل هذا.

وعقب اعتلاء السلطان «حسين» للعرش فكر في زيارة «مدرسة» الحقوق، وكانت وقتئذ البؤرة التي تتجمع فيها أشعة الحماسة الوطنية، وعرف الطلبة هذه النية فتغيبوا، ودخل السلطان «حسين» يجوب كل الفصول فلا يجد في كل فصل غير الأستاذ وطالب أو طالبين فقط، وكظم غيظه، فلما عاد إلى عابدين انفجر وسب وثار، وزعم أن هذا العرش هو تراثه من جده «محمد علي»، وأنه ليس للمصريين أي فضل عليه …

وقبيل وفاته بشهور تزعزعت قواه العقلية، ولم يعد يسير في تناسق مع الإنكليز، وعمد هؤلاء، كي يفضحوه إلى أن يرتبوا له جولة في النيل، فلما وصل إلى بني سويف استقبله المدير وجعل يقدم له أعيان البلدة، وكان فيمن قدمهم قسيس بروتستنتي، ولم يكن السلطان حسين يعرف أن قسيسي البروتستنت يلبسون الملابس المدنية، على خلاف ما يجري بين قسيسي الأورثوذكس والكاثوليك، فلما رآه وعرف أنه قسيس هاج عليه وسبه وطرده، وأمره باتخاذ القلنسوة وسائر متممات الملابس الكنسية السوداء …

وفيما بين ١٩١٤ و١٩٢٣ كانت لنا «جمعية تشريعية» تقوم مقام مجلس شورى القوانين السابق، ولم تعقد في هذه السنوات التسع جلسة واحدة، ومع ذلك كان أعضاؤها يتناولون مرتباتهم هانئين يستحلون هذه المبالغ دون أن يؤدوا أية خدمة لوطنهم، والحقيقة أن الإنكليز كانوا يرشونهم بهذه المرتبات كي يسكتوا، وقد سكتوا …

ولما مات السلطان «حسين» كان المنتظر أن يرتقي العرش ابنه، ولكنه رفض، وآثر الحياة الحرة على بهارج عابدين والقبة …

وعين الإنكليز «فؤادًا» ملكًا دون استشارة الشعب المصري، وبقي «فؤاد» مطاوعًا خاضعًا لهم طيلة الحرب، ثم لما انفجرت «الثورة»، دعا الشعب إلى الهدوء؛ أي إلى إخماد الثورة!

ثم عندما عقدت «لجنة الدستور» جعل يسعى كي يحصل على أقصى ما يستطيع من حقوق، ومنذ قيام البرلمان المصري إلى يوم وفاته وهو على كفاح مثابر لا ينقطع لتزييف «الحياة النيابية»، وكثيرًا ما نجح في هذا التزييف، وقد اختار «عدلي وزيور» لمكافحة «سعد»، ثم اختار «إسماعيل صدقي» لمكافحة الوفد، ثم عربد في الأحزاب، وصار يؤلفها ويختار أعوانه الذين يعطلون البرلمانات، أو يغشون في الانتخابات أو يسرقون الحريات! وقد دوخ «فؤاد» الأمة بهذه المعاكسات للحياة النيابية، ففيما بين ١٩٢٤ و١٩٣٣ حين مات كنا لا نخرج من أزمة وزارية أو برلمانية حتى نقع في أخرى، وكل ذلك لشهوته الجامحة في الاستبداد.

وقد خان الدستور جملة مرات، وكانت كل خيانة تكفي لمحاكمته والحكم عليه هو وأعوانه بالإعدام، لولا أنه كان يثق بأن المستعمرين سيمنعون هذه المحاكمة، ففي ١٩٢٥ كان رئيس الوزارة «زيور»، واجتمع البرلمان بعد انتخابات ظنها فؤاد وزيور أنها ستكون في صفهما، فلما اتضح غير ذلك حل في المساء البرلمان الذي التأم في الصباح!

وقد عوقب ملوك أوروبا لأقل من هذا بالإعدام!

وفي ١٩٢٨ عطل «فؤاد» «الدستور» ثلاث سنوات على يد وزارة «محمد محمود»، ثم بعد ذلك ألغى الدستور واستبدل به آخر على يد «إسماعيل صدقي».

جرائم خطيرة متوالية يستحق على أقلها عقوبة الإعدام! بل يستحق الكتَّاب الذين أيدوه ودافعوا عن تعطيل الدستور وإلغائه العقوبات الصارمة أيضًا!

ومع الأسف، بدلًا من أن يجد هؤلاء المجرمون الإعدام، وجدوا الحظوة والثراء، فصاروا يقاطعون التفكير العصري، ويؤلفون في الدعوة إلى التقاليد …

ولم يستطع نواب الشعب أو وزراؤه المخلصون في هذه السنين أن يقوموا بأي إصلاح أساسي؛ لأن «فؤادًا» كان يشغلهم على الدوام بمعاكساته حتى لا يجدوا الوقت لدراسة أي موضوع اجتماعي أو اقتصادي تنتفع به الأمة، ومن هنا تخلفنا عن جميع الأمم في الإصلاح، إذ فقد الدستور أهليته، وأصبحت سلطته لا أثر لها!

وتولى فؤاد العرش وهو لا يكاد يملك ألف جنيه خالصة، ومات عن الملايين التي تزيد على عشرة أضعاف مخصصاته ولم يقل له أحد: من أين لك هذا؟

•••

ثم جاءنا «فاروق» … «الملك الصالح» الذي أرخى لحيته وواظب على صلاة الجمعة استغفالًا للشعب … فقد كان؛ مع هذه المظاهرات الدينية، يسهر الليل كله في الفسق والدعارة … وتتلخص حياته في هذه العبارة التي تجري على كل لسان: لم يقل له أحد كلمة «لا»!

وهذه العبارة كما تدمغ «فاروقًا» تدمغ بالطبع أيضًا جميع الساسة الذين عملوا معه.

ويجب أن نعترف هنا بأن الوزراء الوفديين كانوا في بعض الأحيان يقولون لفاروق كلمة «لا» ولكنهم بعد أن عرفوا فؤاد سراج الدين، صاروا يقولون: «نعم.» بل يؤكدونها مع حني الرءوس!

ومن هنا هذه المشروعات العديدة لسن قانون يراد بها تقييد الحريات في سنة ١٩٥١ إرضاءً «لفاروق» الذي كان يخشى الحرية والدستور، وقد طاوعه الوفد على الاستبداد حتى تقيح هذا الاستبداد فصار إجرامًا.

وهنا مجال لبحث شخصية فاروق، من الناحية السيكلوجية، إذ ليس بعيدًا أن يكون المرجع لبعض شذوذاته إلى اختلال غددي! فإن تضخم جسمه يتجاوز المألوف بين الناس!

ولكن هذا «الاختلال» المفروض لم يكن ليكفي وحده لتعليل هذه التصرفات العجيبة التي انساق فيها «فاروق»؛ لأن التعليل المرجح هو هذا الوسط الذي عاش فيه «فاروق»، وهو لا يجد من ينصح له، بل يجد الخضوع والخنوع والإذعان لجميع أهوائه وشهواته، ولو أن هذا الوسط كان حسنًا لكان فيه ما يقوِّم المعوج منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤