رجل الأدب في الثورة

قال جان بول سارتر:

أينما حل الظلم، فنحن الكتَّاب مسئولون عنه، وعلى الكاتب أن يسمي الشيء أولًا؛ لأن اللغة توحي لنا الفكرة، وتسمية الشيء توجد هذا الشيء وتجعله حقيقة، فمثلًا اضطهاد السود في أمريكا، ليس شيئًا ما دام ليس هناك كتَّاب يقولون إنهم مضطهدون، وقبل أن يكتب أحد عن اضطهاد العبيد، ما كان أحد ليفكر في أنهم مضطهدون، بل العبيد أنفسهم لم يكونوا يفكرون في ذلك!

ولما كانت اللغة تستخدم في إيجاد الأشياء، فعلى الكاتب أن يستخدم بلاغته في المطالبة بحرية الإنسان، وليس هناك سوى بلاغة حسنة واحدة؛ هي البلاغة التي تدافع عن الحرية!

وقد صدق سارتر، وهو، على الرغم من فلسفته المخطئة، الوجودية، يسير على النهج الذي سار عليه كتَّاب فرنسا قديمهم وحديثهم، فإن أصوات فولتير، وديدرو، وروسو، وأناطول فرانس، وزولا، ومئات غيرهم تتردد أصداؤها عبر القرون، وهي جميعها تنادي: لتحيَ الحرية.

وكانت جورج صاند الأديبة الفرنسية تقول: «صناعتي هي الحرية …»

وهذه التقاليد التي تسود الأدب الفرنسي هي التي عممت مزاج الحرية بين الشعب الفرنسي، وهي التي جعلت الساسة الرجعيين يفكرون ألف مرة قبل أن يجرءوا على سن قانون جديد يناقض الحرية أو يقيدها.

وجميع الشعوب المتمدينة تحتاج إلى كتَّاب أمناء يمتازون بالقلب الحميِّ، والضمير اليقظ، ولو أن مصر كانت قد امتازت بأمثال هؤلاء الكتَّاب في هذه السنين الأخيرة، لما تجرأ فاروق على ممارسة الظلم والفسق إلى الحد البشع الذي بلغه.

فقد رأينا كتَّابًا ساوموا على ضمائرهم وفسقوا بعقولهم، ومدحوا فاروقًا وأباه بالنثر والشعر، ودافعوا عن حل البرلمان في ١٩٢٥ في اليوم الذي عقد فيه، ورأينا كتَّابًا آخرين نالوا رتبة الباشوية لأنهم أيدوا الملك فؤادًا في وقف الدستور سنة ١٩٢٨ ثلاث سنوات تقبل التجديد، ورأينا كتَّابًا آخرين دافعوا عن إسماعيل صدقي والملك فؤاد؛ لأنهما ألغيا الدستور في سنة ١٩٣٠، ورأينا شعراء ألقوا القصائد في مدح فؤاد وفاروق في مواقف كان كلاهما يستحق فيها الذم والطعن، وكانوا كاذبين في أشعارهم كذب شوقي في قصائده التي لا تحصى عن عباس وفؤاد وفاروق، وهي قصائد سوف تبقى عارًا على الأدب المصري، ولم يكن شوقي وحيدًا في هذا الكذب فإن عشرات غيره من الشعراء قد مدحوا وكذبوا.

•••

وميزة الكاتب أن يحسَّ أكثر ويكون على وجدان أكبر من قرائه، وهو لذلك يسير مع النهضات البشرية والقومية والذهنية، ويخترع لها الكلمات التي تعين الأفكار وتساعد الشعب على الفهم، حتى يستمسك بالمبادئ، ويأخذ بالمناهج الجديدة.

ولو أن كتَّابنا كانوا يقولون: «صاحب الجلالة الشعب.» كما كانوا يقولون: «صاحب الجلالة فاروق.» لما عشنا سبع عشرة سنة متلبسين بعار الظلم والفسق، بل مقارفين له!

ومن هنا فضل الجيش المصري الذي غسلنا من العار وطهرنا من النجاسة، وليس هناك فضل لرجال الأدب المصري إلا القليلين، بل القليلين جدًّا، الذين لم يستضعفوا ولم يحنوا الرءوس ولم يجثوا على الركب … وقد مرت عليهم أوقات عرفوا فيها الحرمان والاضطهاد، بل عرفوا النفي، وكانوا يتحدثون في همس ويفكرون في صمت، ويؤلفون ويطبعون في الخفاء … ولكن الأمل لم يفارقهم، بل كان طعامهم وشرابهم اللذين كانت تغتذي بهما أرواحهم.

وجاءت الثورة في ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ فلم يستقبلها هؤلاء الأدباء بالترحيب، حتى أنه مع وفرة القصائد التي قيلت في مدح فاروق، لم ينطق الشعراء بكلمة تستحق البقاء في مدح الجيش أو قادته الذين أنقذونا من شروره، وفي هذا ما يدل على أن الفساد الذي نخر في الكيان السياسي كان قد نخر أيضًا في الكيان الأدبي في بلادنا؛ أي إن أدباءنا لم يرتفعوا عن مستوى مجتمعهم الفاسد، أو بالأحرى طبقتهم الفاسدة، فلم يكونوا كتاب شعب مسحوق، بل كتاب طبقة مستغلة! ولم يفهموا قط أن الديمقراطية في السياسة تقابلها الشعبية في الأدب.

وقيمة الأدب في الثورة تعلو على كل قيمة أخرى، ومكانه في التاريخ يخلد؛ لأن الأديب يسبق الثورة ويهيئ لها بأفكاره وكلماته معاني الحرية وسيادة الشعب، أو يأتي بعدها ويستنبط منها ويرتفع بها إلى الإنسانية العامة التي تسمو على القومية الخاصة، ولذلك نحن نذكر أدباء الثورات الفرنسية والإنكليزية والأمريكية مثل فولتير، وروسو، وملتون، وتوماس بين، أكثر مما نذكر الرجال الذين قاموا بهذه الثورات نفسها وقادوها …

هؤلاء الرجال أعطوا الثورات لغتها، أو ألفوا القصائد الخالدة بإلهامها، وما نعرف من قيم الحرية والنظام والتمدن والحق والشرف، يعزى إليهم أكثر مما يعزى إلى الثائرين الذين تناولوا التغيير بأنفسهم، والذين وُلد المجتمع الجديد على أيديهم …

كانوا كتَّابًا يرون الظلم فتتوتر ضمائرهم، فيغضبون ويثورون ويؤلفون، وكانت الثورة في أذهانهم، وعلى أقلامهم جنون الذهن النبيل الذي يحطم سلاسل العقل، وينفخ روح الإقدام والوثوب نحو المستقبل.

•••

ربما كان الأدباء أقرب الناس إلى الأنبياء من حيث إن لهم رسالة يؤدونها للخير العام … ونعني الأدباء الذين يقفون إلى صفوف الشعب يكافحون كفاحه ويطابقون بين روحهم وروحه، ولم يكن غريبًا لذلك أن يقول الجاحظ في وصف أحد الكتَّاب أنه «كاتب ملهم» …

بل ماذا أقول …؟

لقد كان في عصر المسيح ملك يدعى «هيرودس»، وكان يتهم بالفسق ثم يمكر بالشعب إرضاءً للرومانيين المستعمرين، وكانت مظالمه عديدة يخفيها بالنفاق، ولذلك وصفه المسيح بكلمة «الثعلب»!

ولقد كان في مصر ثعلب مثل هيرودس، ولكن الأدباء — أقرب الناس إلى الأنبياء — لم يصفوه بهذا الوصف، ولقد رأوه ينافق بإرسال اللحية وبدعوى الصلاح فلم يفضحوه.

وما من نبي برز إلى التاريخ إلا كان ثائرًا على مظالم الحكومة والمجتمع، وما من نبي فكر قط في أن يتحدث إلى الشعب باللغة «الصعبة» … بل لم يكن ليستطيع ذلك، إذ كان مضطرًّا إلى أن ينقذ الشعب، وإلى أن يدعوه إلى الثورة على الظلم والفساد باللغة التي يفهمها.

•••

ونحن الآن في ثورة تهدف إلى الديمقراطية السياسية، ومعنى هذه الديمقراطية أن يكون الحكم للشعب، بل ليس هذا فقط، وإنما يطالبنا المعنى الديموقراطي للحكم أن تكون مصالح الشعب هي المقدمة على أية مصلحة، بل هي المصلحة الوحيدة، وكما لا يجوز لأحد أن يقول: إن الشعب مؤلف من العوام الذين لا يفقهون المصالح والأهداف، ولا يليقون للحكم، كذلك يجب أن نجعل أدبنا شعبيًّا، ليس لطبقة تزعم أنها قد خصت بميزات في فهم الأدب، لا يستطيع الشعب بلوغها.

فيجب أن نكتب للعامة بلغة أدبية فنية، ويجب أن نعترف بحق هذه العامة في الثقافة والأدب، وأشرفنا وخيرنا وأمهرنا — نحن الكتَّاب — هو الذي يستطيع ذلك دون أن ينخفض مستواه الفني أو الأدبي.

لا … ليس الأدب حلويات يتمزز بمضغها العاطلون الناعسون، وإنما هو كفاح … ولكن أي كفاح؟

كفاح الشعوب للعروش وللقرون المظلمة، وللاستبداد وللاستعمار وللاستحجار، وليس هذا الكفاح مقصورًا على طبقة، وإنما هو خاصة الشعب وحقه. الشعب المصري كله، بل الشعوب العربية كلها، ونساؤها قبل رجالها.

•••

إن أعظم ما يخدم به الأديب نهضة الشعب أو ثورته أن يخلق له الكلمات التي تلهمه الكفاح والحركة والتفاؤل والإنسانية، فقد ألهم فولتير شعب فرنسا الحرية؛ لأنه جعلها موضوع أدبه، بل موضوع حياته، وفتئ يكررها، ويفرِّع معانيها، ويشتبك في مشكلاتها، وألهم روسو مثقفي أوروبا بكلمة الطبيعة، حتى صار الأوروبيون يجدون في الحقل والشجر ومجرى الماء والجبل جمالًا جديدًا لم يكونوا يحسونه من قبل، بل صاروا، لهذا السبب، يحبون الريف ويكبرون من مقام الفلاح، وكان من هذا الحب دعوة جديدة إلى السذاجة وكراهة الحضارة المبهرجة.

وروسو هو صاحب الفضل في كلمات الثورة الملهمة: الحرية والإخاء والمساواة، وألهم ديدور، بموسوعته الكبرى، المفكرين بأن العلم شيء جديد، وشأن مقدس، وبذلك أكبر من قيمة الذهن البشري، وكشف عن ركاكة الخرافات وفسادها.

وكانت كلمات هؤلاء الأدباء مصابيح تنير الظلام في الثورة الفرنسية الكبرى.

ولولا أن قاسم أمين ألف كتابيه عن المرأة، وأوجد الكلمات التي ندلل ونناقش بها، ونتحمس ونحتد بشأن حريتها وسفورها وعملها وإنسانيتها وكفاحها، لولا ذلك لما أحسَّت أن الحجاب ذل وهوان.

إن أفكارنا كلمات، والكاتب العظيم هو الذي يعطينا الكلمات العظيمة، التي ترسخ في أذهاننا، وتتوالد وتبعثنا على الأعمال العظيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤