جوتيه

في هذا الفصل، والفصول القليلة التالية، نتناول بعض الشخصيات الفذة التي يمكن أن يسترشد بها القارئ في توجيه حياته، أو على الأقل يجد فيها الإيحاء والتنبيه إن لم يجد القدوة. وجميع من اخترناهم من المسنين الذين استمتعوا بالدنيا. ولا نعني هنا استمتاع الملذات المألوفة من ثراء أو سلطان أو شهوات، وإنما نعني ذلك الاستمتاع الراقي الذي لا ترتفع إليه النفوس الناضجة التي عني أشخاصها بتربيتها. وكل مسن يحتاج إلى تربية جسمه وذهنه ونفسه.

وجوتيه، أديب ألمانيا قبل قرن، من أحسن الأمثلة على العناية بالحياة قبل العناية بأي شيء آخر. فقد كان أدبيًا وعالمًا، ولكنه كان على الدوام يلح ويكرر بأنه المعيشة فوق المعرفة، والحياة أولى بالعناية من الفن. ولم تكن ثقافته وفنه وعلمه إلا توسعًا وتعمقًا في الحياة.

وقد عاش بعد الخمسين ثلاثًا وثلاثين سنة كان فيها شابًّا متعدد الاهتمامات والغايات، كثير الاختبارات، يشره إليها ويغامر فيها لكي يصل منها إلى عمق الإحساس والفهم، فقد شرع يتعلم اللغتين العربية والفارسية بعد الستين، وليس أشق من هاتين اللغتين على رجل ألماني، وخاصة اللغة العربية، التي تنأى في منطقها وكلماتها عن اللغة الألمانية. ولكن شروعه في تعلم هاتين اللغتين، وتحمله مصاعبهما بعد أن بلغ الستين، يدل القارئ على مقدار النشاط النفسي الذي بعثه على التعرف عليهما وبحث آدابها. فقد عاد شابًّا، بل طفلًا، في هذه السن، يتذوق الاستعارة والإيقاع في الشعر الفارسي وينقل المعاني العربية إلى مقطوعاته. ولما بلغ الثانية والسبعين وضع مقالًا في إطراء لوثر زعيم المذهب البروتستنتي، فاستشهد بآيات من القرآن تدل على أنه لم تفته كلمة منه.

ولم يكن جوتيه أدبيًا يؤلف القصص، أو فنانًا يقرض الشعر فقط، إذ كان أيضًا عالمًا لا يقنع بالقراءة والاطلاع، بل يجمع المواد ويجرب بنفسه التجارب العلمية. حتى إنه آمن بنظرية التطور قبل داروين، وقطع مرحلة التدليل عليها بأبحاثه الخاصة. وهذا النشاط العلمي هو بعض نشاطه النفسي الذي اندفع إليه لكي يستمتع بالحياة استمتاع الاختبار والمعرفة. وكان يقول إن الشيخوخة تكافح بالعمل، ولذلك ضحي بكرامته لكي يستبقي عمله. فقد حدث أنه كان مديرًا للمسرح الحكومي في فيمار (وكانت سنة ٦٨سنة) فاختلف مع الدوق (أمير فيمار) على إخراج كلب على المسرح وقت التمثيل، وكان يستطيع أن يستقبل لهذه الإهانة، وكانت ألمانيا عندئذ تعرف أن أعظم أدبائها قد طرده الدوق من أجل كلب، فيكون العار للدوق والمجد لجوتيه. ولكنه آثر البقاء في وظيفته لأنه رأى أن الشيخوخة تحتاج إلى العمل، وأن البطالة قاتلة، وعالج الموقف بالبناء بدلًا من الهدم، فبقي وزيرا للتعليم، ومديرًا للمسرح، ينشد السعادة بتحمل المسئوليات. والسعادة عند جوتيه هي الفهم. والحياة عنده هي زيادة الاختبارات.

ولم يسلم بأنه شائخ هرم، فقد كان في الرابعة والسبعين حين أحب فتاة في التاسعة عشرة. ومات ابنه، وكان وحيده، ومع ذلك تغلب على هذه المحنة العظيمة، حتى إننا نجده وهو في الثانية والثمانين يرقص كأنه شاب في العشرين. وفي هذه السن أيضًا أكمل قصته الشهيرة «فاوست» التي نقلها إلى العربية الدكتور محمد عوض محمد.

وعبرتنا في حياة جوتيه أنه رفض التقاعد، وأنه بقي شابًّا يعمل ويحب ويختبر إلى يوم وفاته، فقضي ثلاثًا وثمانين سنة وهو يسعد بعمله واختباراته، ويدرس كأنه تلميذ، ويبحث العلم ويؤلف في الأدب، ويتحمل المسئوليات الضخمة السياسية والأدبية. كما يرى القارئ مما ذكرنا من أنه كان وزيرًا لدى دولة فيمار كما كان مديرًا لمسرحها. وقد لا يواتينا الحظ بأن نلقى مثل ما لقي جوتيه من اختبارات ومسئوليات سامية، كما أننا قد لا نسعد بمثل عبقريته التي كانت تفتح له ميادين ثقافية جديدة كل عام تقريبًا. ولكن العبرة الواضحة لنا جميعًا، مهما كانت درجتنا الاجتماعية أو قدرتنا الذهنية، أننا يجب ألا نكف عن العمل وتحمل المسئوليات والهموم والاهتمامات بعد الستين. بل يجب أيضًا ألا نبالي التمثل بالشباب في اقتحاماته العاطفية، مع مراعاة القاعدة الأصلية وهي الاعتدال، بل إن كلمة «التمثل» هنا ليست في مقامها. لأن المسن الذي عني بحياته، قبل أن يعنى بتجاربه أو وظيفته أو مقامه الاجتماعي، يحس بالشباب. وقد يحمله مرح الحياة على أن يرقص ذات مساء وهو في الثانية والثمانين، كما فعل جوتيه الذي كان يرفع القيم البشرية فوق القيم الاجتماعية.

ولولا العمل، ولولا المسئوليات والاهتمامات، لمات جوتيه قبل هذه السن. ونعني هنا موت النفس بالركود والترهل والتقاعد والتثاؤب، قبل أن نعني موت الجسم.