الأوهام الشائعة عن الشيخوخة

كان القاضي هولمز رئيس المحكمة العليا في واشنطن، وهي المحكمة التي تفصل بين حقوق الولاية وحقوق الحكومة المركزية، بل بين حقوق البرلمان وحقوق الرئيس في الولايات المتحدة. ولما تجاوزت سنه التسعين أذاع حديثًا افتتحه بكلمة الشاعر اللاتيني القديم:

«إن الموت يجذب أذني ويقول: عش فإني قادم.»

ولما زاره المستر روزفلت سنة ١٩٣٢ عقب انتخابه للرياسة وجده يقرأ كتاب «الجمهورية» لأفلاطون، فسأله: ماذا تبغي من قراءة هذا الكتاب.

فأجاب القاضي هولمز: أبغي ترقية ذهني يا مستر روزفلت. فليتأمل القارئ هذا الشاب التسعيني الذي دخل في العقد العاشر من عمره، كيف يقرأ ويدرس كي يرقي ذهنه في هذه السن. وكيف أنه يذكر قول الشاعر اللاتيني وهو «عش». فهو يذكر الموت هنا لا لكي يكف عن العيش ويتقاعد ويقضي وقته في الفراش، بل لكي يهب ويعيش ويدرس ويرقى ذهنه.

وعلينا أن نذكر أن هذا الأسلوب المعيشي الذي انتهي به إلى اعتياد الدرس وتوخي الارتقاء الذهني بعد التسعين، هو نفسه الذي ساعده على أن يحتفظ بصحته واتزانه إلى هذه السن. فإن هذا الأسلوب رتب له نظامًا. كما عين له توجيها وسدد حياته نحو غاية الرقي الشخصي. وعلى ألا يقنع من الحياة بأنه كائن في هذه الدنيا بل بأنه حي يعيش ويستمتع ويرتقي.

ومثال القاضي هولمز واحد من الأمثلة التي تقشع كثيرًا من الأوهام الشائعة عن الشيخوخة، ولكنا مع ذلك لا نقصد إلى القول إن كل ما يقال عن الشيخوخة أوهام. بل كل ما نتوخاه أن نبين للقارئ أن نعين لأنفسنا أسلوبًا في العيش يتفق وصحة الجسم والذهن والنفس نستطيع به أن نستغل حياتنا ونستمتع بها. ومن الحسن أن نميز هنا بين الحقائق والأوهام عن الشيخوخة.

فحقيقة الشيخوخة أنها تبدأ في الخامسة والعشرين حين يأخذ الضعف في الذاكرة، ويستمر هذا الضعف في تزايد سنة بعد أخرى إلى الموت سواء أكان في الخمسين أم الستين. ولكن ضعف الذاكرة هذا لا يحمل الشاب في الخامسة والعشرين على أن يكف على الدراسة. ثم إن المرانة في دراسة ما تجعل الذاكرة — بالارتباطات العديدة — قوية لدرجة يعود فيها الضعف تافهًا لا يحس فيه بتوالي السنين. وهناك بالطبع ذلك الضعف الواضح إذا ازداد التصلب في الشرايين وتجاوز المسن الشيخوخة إلى الهرم، حين يعود النسيان ملحوظًا، وحين ينسى المسن ما فعله اليوم أو أمس، ولكنه يذكر ما فعله قبل عشرين سنة.

ثم يتقدم الهرم فينسى ما جرى قبل عشرين سنة، ولكنه يذكر حوادث الطفولة، والسبب هنا واضح، فإن ما غرس من الذكريات أيام الطفولة وجد لوحًا طريًّا نقش فيه ورسخ، فهو لا ينمحي، وهذا اللوح قد قسي أيام الشباب ولكنه لم يجمد. فالذكريات أقل وضوحًا فيه، حتى إذا تقدم تصلب الشرايين وتجمدت الأعضاء صارت الذكريات لا تحدث أثرًا في الأعضاء، ولذلك سرعان ما تنمحي. وهذا ما يحدث في الهرم.

وعلينا أن نتوقى الهرم كما نتوقى الموت، أي يجب أن نموت في الشيخوخة التي لا تزال تحتفظ بالكثير من خصائص الشباب، وذلك بالمحافظة على مرونة الأعضاء ولدونة الشرايين. ويسهل هذا علينا حتى مع الإهمال العظيم قبل الخمسين، وذلك بتجنب الأطعمة التي تحدث رواسب الأحماض. وبالمحافظة على النحافة، وبالرياضة الخفيفة. وشر ما يعجل الهرم هو النهم، وربما يحتاج معظم الناس بعد الخمسين إلى تجنب الشحوم جميعها مع الاعتدال في كل شيء آخر، ولكن هذا الاعتدال يجب ألا يصل إلى الزهد والكف، فإن الجسم والذهن كليهما يحتاج إلى الانتعاش، والكف التام يميت ولا يحيى. فالمسن في الستين أو السبعين ينتفع بالانتعاش الجنسي كما ينتفع بكأس من الخمر. وقراءة الجريدة، بل الكتاب، وارتياد الأندية وزيارة الأصدقاء، كل هذا يدخل في باب الانتعاش.

هذه هي حقيقة الشيخوخة. إما الوهم فهو الاعتقاد بأننا بعد الستين ندخل في طور الانهيار، وأننا بعد السبعين نشرع في الخوف، وأن الرغبة الجنسية تموت عند المسنين، وأن الخطة المثلى لهم أن يقضوا ما بقي من السنين في الفراش، أو على الكرسي الموسد، وألا يبالوا ما يأكلون ويشربون. لأن القضاء المحتوم قد أوشك، وأن الجهد للارتقاء الشخصي بعد الستين عبث يدعو إلى الاستهزاء، وأنه يجب على كل مسن أن يمشي في تثاقل روماتزمي، يتأوه ويتكوع ولو لم يكن به روماتزم.

أجل، إن كل هذا وهم. فإن كلًّا منا قد عاين أشخاصًا في السبعين والثمانين قد احتفظوا بشبابهم، وهم يمارسون أعمالهم بيقظة ونشاط، ويستمتعون بجميع غرائز الشباب، وكل ميزاتهم أنهم تعودوا عادات حسنة قبل ٢٠ أو ٣٠ سنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤