غمار الناس والصفوة

شيخنا قليل العمل كثير الفراغ، وهو معتصمٌ بجدران داره، في عمله وفي فراغه معًا، فكل ما يتحرك له بدنه، هو أن ينتقل من كرسيٍّ إلى أريكةٍ، ومن أريكةٍ إلى سرير، ثم يعود إلى كرسيه ليُعيد الدورة كرَّةً أخرى، وأينما كان مسقط البدن بين كرسي وأريكة وسرير، لم يعرف خياله إلا أن يجترَّ ماضيه، فللشيخوخة ماضيها الطويل، أما حاضرها فلحظة مخطوفة، وغدها معدوم أو في شحوبه كالمعدوم، ولقد كان له من الحظوظ في ماضيه ما حسن وما ساء، وأحسنها أن الله الحكيم العليم، قد شاء له أن يكون التعليم مهنته، ولا يعرف لذة الأستاذية العلمية إلا من خبرها، فذاق حلاوتها وطعْم شذاها، فتلك الأستاذية وحدتها أستاذ وطالب، ينساب الفكر بينهما في تيارٍ متصلٍ، يروح ويغدو، حتى لتوشك الفواصل أن ترتفع، فلا تدري أيهما طالبٌ وأيهما أستاذ؛ فالأستاذ يسأل حينًا ليجيب الطالب، وحينًا يجيء السؤال من الطالب ليُجيب الأستاذ، فحقيقة الأستاذ هي أنه طالب علم، وحقيقة الطالب أنه مشروع أستاذ، أو قُل إنه أستاذ في طريق التكوين.

ولقد أنعم الله الحكيم العليم على شيخنا فيما فيه بتلك النعمة الكبرى، التي هي أن يكون عمله الذي يأتيه منه الرزق، هو نفسه هوايته التي يمارسها، حتى ولو لم يكلف بأدائها لقاء رزقه، إن كثرة الناس الغالبة، تعمل ما ليس تهواه، وتهوى ما لا تعمله، وهو شقاءٌ، لو قيل لي: ماذا تكون جحيم الدنيا التي تسبق جحيم الآخرة، لقلت إنه هو ذلك الشقاء الذي تشقى به كثرةُ الناس الغالبة، وربما كانت تلك القسمة الظالمة، أسوأ ما يُنتجه نظامُ التعليم كما هو قائمٌ، ولو صلح أمره، لأخرج كل متعلم إلى دنيا العمل، على نحوٍ يجعل العمل والهواية شيئًا واحدًا، وكذلك قد يكون أنكد ما أتانا به هذا العصر بالنسبة إلى نظم التعليم، هو ما نسمعه اليوم وما نقرؤه في تقارير المسئولين، من أن التعليم إنما هو «للتنمية»! فكأنما الأناس قد انقلبوا على أيديهم قطع غيار تُخرجها المصانع، تُغني واحدتُها عن الأخرى، ولو أنهم عكسوا الرؤية فقالوا سنعمل على تنمية المواهب الفردية ليخرج المتعلم مصحوبًا بموهبة فطرية فيه، هذَّبها التعليم وصقلها وأثراها، لتصبح موهبته هي مجال عمله، لكانوا أقرب إلى الصواب.

وتطوف هذه الصورة البشعة بين خواطره التي تنساب بها ذاكرته؛ إذ هو في فراغه يستعيد ماضيه، فيزداد حمدًا لله، أن قسم له ذلك النصيب المسعد المريح، وهو أن تلتقيَ في حياته هواية وعمل، فيكون هذا هو تلك، وتلك هي هذا! لكن شيخنا وهو يستعيد ذلك الماضي، لم يستطع قط أن يُغمض عينَيه عن مشهدٍ رهيب، هو الانطباع العام الذي تركه في نفسه مجمل حياته، ولعله أن يكون هو الانطباع الذي ظل يُدحرجه شيئًا فشيئًا نحو جدران بيته، يلتمس في حصنها الأمان، وها أنا ذا الآن أذكر ما كتبته — نيابةً عن شيخنا — تصويرًا لما شهدته بين غمار الناس من عراكٍ مميت، كثيرًا جدًّا ما انتثرت شظاياه حتى بلغت فردوس النعيم الهادئ، الذي قسمه لي ربي حظًّا سعيدًا، وأستأذن القارئ في أن أُعيدَ هنا جزءًا من الصورة القلمية التي رسمتها لتلك المعارك، وكان ذلك على وجه الدقة سنة ١٩٥٠م — أو قبلها بعام — أو بعدها بعام، كتبت فيما كتبت بعنوان «خيوط العنكبوت» (وهي في كتاب الكوميديا الأرضية) فقلت:

(بعد أن وصفت كيف ضاقت نفسي ذات ليلةٍ مقمرة، فذهبت لأقضيَ ساعةً عند الهرم الأكبر، قلت):

… وعدتُ إلى جلستي فوق الصخرة الكبيرة، وشخصتُ ببصري إلى القمر، فامتلأتْ عيني بخيالٍ عجيب، حاولت عبثًا أن أصرفَه عني فلم ينصرف — وظل ماثلًا أمامي — يحجب الواقع عنِّي، حتى صار هو الواقع الذي عشت فيه، جلست على تلك الصخرة العاتية، في حضن الهرم، رأيت القمر عنكبًا ضخمًا قد تدلَّت منه، وأحاطت به، شبكة من خيوط رفيعة دقيقة، اتسعت وانتشرت حتى ملأت كلَّ أركان الفضاء، وعلى الخيوط الممتدة هنا وهناك، رأيت ذبابًا يُمسك بتلك الخيوط، صاعدًا عليها في طريقه إلى العنكبوت الضخمة الرابضة في قمة السماء، والذباب الصاعد، متفاوت السرعة: فهذه تصعد في سرعة كأنما هي تنزلق هابطة على سطحٍ أملس، وهذه مبطئةٌ، وتلك متعثرة تتقدم حينًا وتتأخر حينًا، وكثيرًا ما تلتقي ذبابتان في طريقٍ واحد، ولا يكفيهما الخيط الواحد أن تصعدَا معًا جنبًا إلى جنب فتتشابكان بالأطراف، وتظل كلٌّ منهما تدفع الأخرى إلى أسفل، هذه تنقلب على ظهرها مرة، ثم تستقيم على أرجلها لتُسرع الخطَى، حتى تلحق بزميلتها التي ظنت أن قد خلا لها طريقُ الصعود، وما تكاد تُمسك بأطرافها الخلفية، حتى تشهدها شدة عنيفة، توشك أن توقعها في الفضاء، لولا مهارة تسعفها، فتتعلق بذراعَيها وتتأرجح بجسمها في الهواء، محاولةً أن تُثنيَ بدنها إلى أعلى، رافعة أرجلها الخلفية، حتى تُمسك بالخيط من جديد، وتأخذ في الصعود مرةً أخرى.

هكذا كان شيخنا ينظر إلى تفاهات الذباب، في معاركِه أملًا في الصعود، ولم يكن الشيخ عندما صورت بقلمي هذه الصورة نيابةً عنه، قد بلغ من الشيخوخة ما بلغه اليوم، لكنه إذا كان اليوم يصوِّر صغار الصغار، لما حذف من الصورة شيئًا، وقد يضيف إليها أن يُلفت الأنظار إلى حقيقتَين تُفزعانه، أما أولاهما فهو أن المعركة كلها بين الذبان (الجاحظ يجمع الذبابة فيقول «ذبانًا» كما ننطقها نحن في حديثنا الدارج) أقول إن المعركة بين الذبان — غالبًا ومغلوبًا — إنما تقع في حبائل عنكبوت. وإذن فكل ذبابة منها مأكولة أول الأمر أو آخر الأمر، وأما الحقيقة الثانية فهي أكثر بشاعة وفظاعة، وهي أن الذبابة الصاعدة إذا ما بلغت شأْوَها، فهي عندئذٍ تصبُّ إمارتها وإدارتها على حشدٍ بين العلماء والخبراء؛ إذ تصبح هي الآمرة، وعلى هؤلاء العالمين والعاملين أن يطيعوا، وهكذا يقع الخلل وتنقلب الموازين.

وكثيرًا ما سمع شيخنا مَن يعلقون على هذا الوضع المقلوب، بقولهم «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق»، وهي قولة حقٍّ في ظاهرها، إلا أنها في جوفها تحمل باطلًا؛ لأن الموقف المراد وصفه بها، هو من صنفٍ أشد سوءًا، من الموقف الذي قيلت فيه هذه العبارة أول ما قيلت، حتى ليصبح الاستشهاد بها غير مؤدٍّ للشهادة المطلوبة فقائل هذه العبارة هو «آدم سميث» وكان من أوائل — إن لم يكن أول — مَن كتبوا في علم الاقتصاد في العصر الحديث، وكان هذا الفرع من فروع العلم عندما أصدر «آدم سميث» كتابه «ثروات الأمم»، في القرن الثامن عشر، بل وفيما كتبه آخرون بعد ذلك بزمنٍ طويل، يسمى «الاقتصاد السياسي»، على أن المقصود بكلمة «سياسي» هنا، هو — فيما أظن — الإشارة إلى الجانب الاجتماعي في تعامل الناس بعضهم مع بعض عندما يتبادلون السلع والأموال في سوق التجارة. وفي ذلك المناخ قال «آدم سميث» عبارته سالفة الذكر: «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق»، وهي حقيقةٌ تصف ما يقع بالفعل، لا في زمانه فحسب، بل في كل زمان؛ لأنها حقيقةٌ مستندة إلى الطبيعة البشرية، فإذا كان عندك ورقتان من ذوات الجنيه — مثلًا — إحداهما قد ساء شكلُها مع الاستعمال، والأخرى جديدة، أسرعت في عملياتك الشرائية، بتقديم الورقة السيئة، لتحتفظ لنفسك بالورقة الجديدة، ومعنى ذلك هو أن ما يدور به التعامل في السوق هو العملة السيئة، وأما ما يُحفظ ويُصان، فهو العملة الجيدة، فتصبح العملة السيئة وكأنها تطرد العملة الجيدة من السوق.

وواضحٌ أن اختفاء ما هو جيد — في هذا القول — إنما هو اختفاء تقديرًا له وإعزازًا به وصونًا له من أن ينزل في دوامة الأسواق، فإذا نحن انتقلنا بالصورة إلى رجالنا من العلماء والعاملين، وقلنا عنهم إن مَن هم على جهالةٍ وبطالة يظهرون في الحياة العامة، طاردين أولئك العلماء والعاملين من السوق، فليس ذلك الطرد من أجل أن يعززوا ويكرموا ويصانوا، بل هم يزاحون من مسرح الحياة ليُدفنوا أحياء، حتى لا يبقى أمام الناس إلا العاجزون.

قال الشيخ لمن كان يتحدث إليهم من أبنائه: إنني يا أبنائي — كما لا بد أن تكونوا قد علمتم — من أشد الناس حرصًا على حقوق الإنسان، وعلى رأسها حقوق الحياة، والحرية، والمساواة بين الناس، لكن الأمر في حقوق الإنسان ليس هو أن نردد بالألسنة والأقلام أسماءَها، بل هو أن نكون على وعيٍ بأبعاد المعاني، التي جاءت تلك الأسماء لتشير إليها، حتى إذا ما تبيَّنت لنا حدودها، حوَّلناها إلى سلوكٍ نسلكُه، وإلى عادات نعتادها، بحيث تجيء الأفعال مجسدة لما هو مقصود بحق الحياة وحق الحرية وحق المساواة، وغيرها من حقوق الإنسان، حتى ولو لم ننطق بأسمائها مرة واحدة.

فماذا نعني بأن يكون للإنسان حق «الحياة»؟ هل يقف المعنى عند حدود التنفس ودوران الدم في العروق؟ أنكتفي من معنى «الحياة» بألَّا يقتلَ أحدٌ أحدًا بغير حقٍّ؟ أم تجاوز هذا الحد، الذي هو مسلَّمٌ به سلفًا ولا يحتاج إلى خلافٍ وجدل؟ وأولى الخطوات التي نخطوها في سبيلنا إلى المعنى الموسع، هي أن نجعل فردية الفرد من الناس، أساسًا أوليًّا للتعامل معه في حياة المجتمع، التي يتفاعل فيها «أفراد» من الناس، وإنها لضربٌ من اللجاجة الفارغة، أن نحتجَّ على «فردية» الفرد، باستحالة وجود ذلك الفرد أساسًا، ما لم يكن فردان من الناس قد تلاقيَا في أسرةٍ لينسلاه، هي لجاجةٌ فارغة لا نجني منها إلا دورانًا في دائرةٍ مفرغة، أولها هو آخرها، وآخرها هو أولها، دون الوصول إلى شيءٍ نطمئن إليه، فالفرد من الناس، ليس كالنملة المفردة في جماعة النمل، بل يُضاف في حالة الإنسان جانب، هو بمنزلة الحد الفاصل الذي يقطع لنا باليقين، ألا وهو أن الإنسان كائنٌ «خلقي» وهو «مسئول» عما يفعل، ومسئول كذلك عما ليس يفعله مما كان مكلفًا من ربِّه بفعله، و«المسئولية» الخلقية تستحيل على الفهم إذا لم يكن الفرد فردًا كائنًا بذاته، له حقٌّ في أن يقول «نعم» وفي أن يقول «لا»، وبهذه الحقوق المتفرعة عن كونه «فردًا» مسئولًا يفهم معنى حقِّ «الحياة».

فإذا انتقلنا بهذه التوسعة لمعنى حقِّ «الحياة» إلى مجال التربية والتعليم، وضح لنا وضوحًا لا تشوبه شائبةٌ من غموض، أنه إلى جانب ما يشترك فيه الناشئة جميعًا، خلال عمليات التربية والتعليم حيثما وقعت: في البيت أو في المدرسة أو في غيرهما مما عسى أن يندمج فيه الناشئ متأثرًا بما ينصبُّ عليه انصبابًا من عوامل مؤثرة، أقول: إنه إلى جانب ما يشترك فيه الناشئة جميعًا، مما هو مؤسسٌ على الجوانب التي يشارك فيها كلُّ إنسان، بحكم كونه إنسانًا، فهناك الجوانب «الفردية» المتفردة التي يتميز بها كلُّ فردٍ دون سائر الأفراد أجمعين، وإنه لضربٌ من القتل أن يجيء نظامٌ تعليميٌّ فيغتال في الفرد فرديته التي تميز بها، أي إنه حرمانٌ للفرد من حق «الحياة»، أن تطمس فيه ما قد ألهمه الله إيَّاه ليكون إنسانًا مع سائر الناس، ومتفردًا دون سائر الناس، في وقتٍ واحد.

ومضى الشيخ في حديثه مع أبنائه، يذكر لهم لقطاتٍ من ذكرياته في مجال التعليم، قائلًا: إنني قد دربت نفسي تدريبًا متعمدًا، على أن أبحث في طلابي عن مواضع الاختلاف التي يتميز بها كلٌّ منهم دون سائرهم، فبهذا الاختلاف كانت تتكامل عندي صورة أقرب إلى الدقة عن ملامحه وقسماته، وإن موضع الاختلاف في الفرد هو نفسه موضع «الموهبة» إذا كانت موهبة، بل هو كذلك موضع العجز والقصور إذا كان هناك عجزٌ وقصور به، وكيف أنسى «فلانًا» حين جاءني فيما بين المحاضرتين من فراغ، جاءني وقسمات وجهه ترتعش؛ فالشفتان قد اضطربتَا فاضطربت كلماتُه، والعينان كأنهما تنطقان بأن وراءهما نفسًا تلتهب بالثورة، كلُّ شيء فيه كان مزلزلًا يُنبئ عن براكين تفجرت أو هي وشيكة التفجر، فلما أن نطق لي بما قد نطق، كان موضوع التعليق وموضوع السؤال مما يقتضي من العقل هدوءًا بلغ غايتَه لكي يُتاح للعقل أن يتأمل الموضوع الذي أثاره، فهل يمكن أن تمرَّ هذه الظاهرة على إنسانٍ خبرَ الناسَ ومسالكَهم، دون أن يلحظ التناقض الشديد بين الجسد المزلزل من الداخل، وبين موضوعٍ عقلي صرف طُرح للمناقشة والسؤال؟ إذن فهذا شابٌّ يكتم ما ليس يُبديه ويُبدي ما ليس يكتم، وربما دهش ذلك الشاب حينما وجدني أقفز من موضوعه المطروح لأسأله: هل أنت مقيم في أسرتك مع والدَيك؟ فما هو إلا أن يكشف عن خبيء، استحق مني أن أربتَ بكفِّي على كتفه قائلًا: كان الله في عونك لتجتاز العاصفة وتخرج سالمًا، إنه شابٌّ يُبدي من علامات الذكاء الحاد ما يُبديه، ولولا عواصف حياته الشخصية لكان له شأن في حياة أمته، ولقد كان له بالفعل شأنٌ، لكنه كان شأن مَن ضربتْه عجلاتُ المجتمع بأنيابها، فلو أنه أخذ على فرديته، ولم يصبَّ في قوالبَ أُعدَّت لسواه ولم تكن صالحةً له، لأمكن أن يكون ثروةً عقلية لبلده.

ومضى الشيخ في حديثه قائلًا: وكذلك لستُ أنسى «فلانًا» حين تلمست فيه مواضع الاختلاف، فكان أن وجدتني مع شابٍّ بدَتْ فيه البوادر قوية، تُشير إلى ميله نحو أن يخرج على مألوف الناس، لا بالغباء الذي يشدُّ صاحبه إلى قاع البئر، بل بالذكاء الذي يجذب صاحبه إلى أعلى، وأذكر أنه اجترأ ذات يوم بما لا يُجيزه العرف بين طالبٍ وأستاذه، لكنني قابلته بابتسامة المتسامح، مسرًّا في نفسي أن مجتمعنا قد بلغ من ركود الفكر، ما أصبح به في حاجةٍ ماسةٍ إلى مثل هذه الجرأة التي تخترق أقراص الشمع التي تجمَّدت على فوهة الزجاجة فكتمت أنفاسها، ولن أذكر مزيدًا من قولٍ عن ذلك الشاب الذكي الجريء؛ لأني لو فعلت لعرفه الناس؛ إذ هو الآن في حياتنا الفكرية سراج.

وسراجٌ آخر شهدتُه حين بدأ وهو طالب فلسفة ينحو بموهبته نحوَ شيءٍ يوازيها وإن لم يكن منها، نعم شهدته وهو لم يزل ذبالة ضئيلة، تُضيء شعلة خافتة، في مصباحٍ صغير مِدادُه زيت، ومنذ تلك الولادة الأولى لم يكن لتُخفَى فيه رغبته في ألا يكون محسوبًا على أحد، حتى خُيِّل إليَّ آنئذٍ أنه يكره أن يقال عنه إنه طالب تلقَّى علمه على يد فلان وفلان من أساتذته، ولكنني أذكر جيدًا ما كنت أُسرُّه في نفسي كلما لمحت منه لمحات أراد أن يرسخ بها فرديته المستقلة، فقد كنت أحسُّ فرحةَ مَن يرى إنسانًا فردًا يولد، راجيًا، وداعيًا له بأن يصمد بهذا التفرد أمام مجتمعنا بموجِه العاتي، وهي فرحة لا تقلُّ عنها فرحتي الآن كلما وجدت له مقالًا يُقرأ أو سمعت له حديثًا يُذاع.

ونعود معًا يا أبنائي — هكذا قال شيخنا — إلى حديث التربية والتعليم في وقتٍ يُراد فيه أن ننهض بهما نهضةً تتناولهما من الجذور، فإنني لو استطردت في ذكر أمثلةٍ مما وقع لي في خبرة حياتي من أفرادٍ دفعتْهم مواهبهم أن يتفردوا فكرًا وسلوكًا، لا بعونٍ يتلقونه من نظام التعليم والتربية كما هو قائمٌ، بل بالرغم منه، أقول: إني لو استطردت في ذكر أمثلة من هؤلاء، لاستغرقت الأمثلةُ وقتنا الذي اجتمعنا فيه لطرق باب الإصلاح الجذري للتربية والتعليم، فلعله قد بات واضحًا مما قلته، ماذا أريد قوله بعد ذلك، فقد أردت أن أبسط بين أيديكم عقيدتي الراسخة، بأن مفتاح التقدم مرهونٌ بأصحاب المواهب، والموهبة لا تكون إلا في «فرد» يختلف بموهبته تلك عن سائر الأفراد، والموهبة لا تكون من المواهب في شيءٍ، إذا جاء صاحبها وهدفه أن يحاكي ما هو قائمٌ بالفعل، إن مجرد المحاكاة العمياء قدرة يشترك فيها القردة، فليست هي إذن بموهبة يعتز بها صاحبها وتعتز بها أمته كلها عن طريقه، وإنما خلقت المواهب في الموهوبين لتكون أدواتٍ حيةً يُغيِّرون بها الحياة، فإذا كان غمار الناس يريدون ليومهم أن يجيء صورة مكرورة من أمسهم، فأصحاب المواهب — كلٌّ في ميدان موهبته — لا تستريح جنوبهم على مضاجعها ما لم تتغير على أيديهم أوضاعُ الحياة، إذا كانت تلك الأوضاع قد استنفدت زمانها.

وفي هذا القول ما يهدينا إلى موضع الجذر العميق الذي إذا تغيَّر تغيَّرت معه الشجرة كلها جذعًا وفرعًا وزهرة فثمرة، وذلك الجذر العميق، هو البحث خلال عمليات التربية والتعليم عن المواهب وأصحابها، إننا إذ نضع جميع المواطنين في غربال العمليات التعليمية بكل درجةٍ من درجاتها، يجب أن نفتح أعيننا لنرى الموهوب لنضعَه بين قوسين، فيبرز وجوده وسط الخضمِّ المستور، وعندئذٍ ندبِّر للمواهب طرقَها التي تشحذ مواهبهم فترهفها، وإذا نحن أمام مجموعةٍ ضخمة من علماء، ورجال فنٍّ وأدب وفكر وحكم وتنفيذ، إن تقدم الأمة مرهونٌ بالموهوبين من أبنائها، وربما كانت الوظيفة الضرورية الموكولة لغمار الناس، هي أن يقاوموا خوارق المواهب ومغامراتها، فيعتدل من الجذب والشد ميزان الحياة.

كل هذا الذي وضعتُه بين أيديكم يا أبنائي — هكذا مضى الشيخ في حديثه — إنما هو بعض التوضيح لما يتضمنه حقُّ «الحياة» الذي هو على رأس قائمة الحقوق المعترف بها للإنسان، وقد أردت أن أبيِّن لكم كيف يتضمن هذا الحق — أن يُتاح للفرد كل فرد — أن يُظهر مكنون طبيعته، حتى لا يحيَا بجانبٍ من حياته دون جانب، فإذا انتقلنا بالحديث إلى حقٍّ آخر من حقوق الإنسان المقررة على كل لسان، وأعني حق «الحرية»، وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف، قد وصلنا إلى النقطة عينها التي انتهى إليها حقُّ «الحياة» كما أوضحناه، بل إن مجموعة الحقوق الإنسانية كلها، إذا تعقبناها إلى ما يتفرع عنها، وجدناها كالبنيان الواحد يشدُّ بعضُه بعضًا.

وإنا لنلحظ قصورًا شديدًا في فهْم الناس لحق «الحرية»؛ فلأننا كنا مقيدين بقيودٍ سياسية نابعة من داخلنا، وآتية من خارجنا، ثم أشعلناها ثورات، تعاقبت ثورة بعد ثورة، خلاصًا من تلك القيود، فقد رسخ في أذهاننا أن الحرية بذاتها هي عملية «التحرر» من أغلال كانت تقيدنا فحطمناها، وفاتنا المعنى الكبير للحرية في جانبها الإيجابي للبناء؛ لأنه إذا كان «التحرر» قد أزال قيودًا كانت موجودة، فإنه بذلك يكون قد استوفى الجانب السلبي من الطريق، وبقي أمامه جانبُ الفعل الإيجابي الذي يبني، والأمر هنا شديد الشبه بخطوة إزالة الأنقاض التي هُدم بها مبنى قديم، لكي تخلوَ رقعة الأرض لتشييد بناء جديد، فمرحلة «الحرية» تأتي بعد مرحلة «التحرير»، ويترتب على ذلك ألا تكون حرية إلا وهي مستندة إلى معرفة الإنسان الحر بما يلزم لما يريد أن يُنشئَه أو يقيمَه أو يبنيَه، ومن هنا كانت «الحرية» بهذا المعنى الإيجابي مستحيلة بغير «علم» و«خبرة» سابقَين، وكثيرًا ما حدث أن المستبد الطاغية الذي أمسك برقابنا في مرحلة القيود، قد سدَّ في وجوهنا أبوابَ العلم الذي من شأنه أن ينتهيَ بصاحبه إلى «فعل»، فنحن نعلم — مثلًا — كيف حرص المحتل البريطاني طوال فترة احتلاله لمصر، على أن يتجه معظم التعليم العالي إلى ما نُطلق عليه اسم الدراسة «الأدبية»، وأما «العلوم» الطبيعية والمهنية فقد كان المسموح به منها لا يعدو قلةً قليلة الدارسين، مع أن «الحرية» الحقيقية مستحيلة بغيرها؟ فالحر حرٌّ بما قد «علمه» من علم «ومن خبرة»، يؤديان به «فعلًا» إلى تغيير وجه الأرض قليلًا أو كثيرًا، وأما الدراسة الأدبية، فأقصى مداها في هذا السبيل، هو أن تُحدث في النفوس أثرًا قد يكون فيما بعد مخاضًا لولادةٍ جديدة، إن دراسة «الآداب» كما يسمُّونها «وكان الأصح أن توصف بإنسانيتها»، فيقال: «علوم إنسانية» تؤدي إلى شعور الإنسان بحقوقه، فيعمل على استكمالها إذا كانت منقوصة، وذلك هو «التحرير» وأما دراسة العلوم الطبيعية فهي تؤدي إلى إقامة البناء الحضاري وما فيه «من عمران»، وتلك هي الحرية، والنظام التعليمي مطالبٌ بأن يحفظ النسبة الصحيحة بين الدراستين، حتى يكون فيهما ما يُرهف حسَّ الإنسان بحياته وبحريته، كما يكون فيهما ما يُعين على التشييد والتعمير، فينقل تلك الحقوق الإنسانية من مجرد أن تكون أدوات موقظة ومحركة، إلى مرحلةٍ تالية تخرج فيها من «الأذهان» إلى «الأعيان»، أي أن تتحول من كونها فكرًا، إلى حالةٍ تتجسد فيها تلك الأفكارُ في حضارة.

كل ذلك التحول إنما هو دائمًا من صنْع «المواهب»، حتى مَن تلقَّوا أعلى الدرجات العلمية في تخصصٍ معين؛ كالهندسة أو الطب، فذلك وحده لا يكفل أن يكونوا من أصحاب المواهب بالمعنى المقصود هنا؛ لأنهم ربما ساروا بما درسوه على الطرق المدقوقة الممهدة بأقدام مَن سبقوهم سيرًا على تلك الطرق، وبهذا وحده تبقى الحياة على نمطها، فلا تتغير نحو الأعلى، وإنما المواهب هي التي تستبدل بالنمط القائم نمطًا جديدًا، ورعاية تلك المواهب ينبغي أن تكون في استراتيجية التعلم هدفها الأخير، مرورًا بإعداد المتعلمين المتخصصين الذين يُديرون عجلة الحياة كما أَلِفها الناس.

وهل تسألونني: أين إذن حق «المساواة» إذا اتجهنا بكل هذا الاهتمام إلى نفرٍ قليلٍ من جمهورٍ عريض؟ والجواب يُملي نفسه إملاء؛ فالمساواة بين المتسابقَين متمثلةٌ في الخط الأبيض الذي عنده يقفون جميعًا على حدٍّ سواء: فإذا صفَّر الحكم وانطلق المتسابقون، فكلٌّ له بقدر ما تُسعفه قواه.

لكن السؤال الأهم — يا أبنائي — هو هذا: إذا كان ذلك هو ما كان ينبغي علينا فعله لرعاية «المواهب»، فماذا تقولون في مجتمعٍ جرى منذ سنوات على عرفٍ شيطانيٍّ مخيف، وهو أن يجعل مهمته طمْس المواهب وأصحابها؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤