مَن ذا يُزيح هذا الضباب؟

إنك لتسعى وراء المحال، لو سعيت وراء معنًى واحدٍ محدد، لا لبس فيه ولا غموض لكلمة «ثقافة»، فهي أقرب إلى متاهةٍ تشابكت فيها المسالك وتشابهت، أو هي كالغابة تكاثرت أشجارها وضاقت طرقاتها؛ ففي كلتا الحالتين، وأعني المتاهة والغابة، يصعب على المرشد أن يصف الطريق لسالك — يُريد أن يستطلع أجزاءها وأطرافها وحدودها — ثم يضمن لنفسه الخروج دون أن يضلَّ الطريق. ولماذا كان اسم «الثقافة» بهذا التعقيد كلِّه وبهذا الغموض كله؟ يبدو أن السرَّ في ذلك هو أن هذا الاسم لم يُطلَق على مسمًّى محددٍ معلوم، وإنما هو كطائفة كبيرة جدًّا من الأسماء في أية لغة شئت، قد أُطلق على «محصلة» لعددٍ ضخم من العوامل المتجاورة أو المتفاعلة، بحيث يجوز لك أن تجتزئ ما شئت من تلك العوامل، لتُطلق عليه الاسم ذاته الذي تُطلقه على العوامل كلها مجتمعةً ومتفاعلة، وإلا فأين هو المسمى لكلمة «تعليم»؟ إن ثمة جهازًا طويلًا عريضًا متعدد الأقسام والأجزاء، من مدارس وإدارات تموج بالأفراد أشكالًا وألوانًا، وذلك الجهاز الضخم بكل ما فيه ومَن فيه، هو ما تُشير إليه كلمة «تعليم»، لكنك أيضًا تستطيع، بغير خللٍ في استخدام الكلمة، أن تُشير بها إلى مدرسةٍ واحدة، أو مجموعة من مدارس، وحتى الأسماء التي أدخلت في لغة الناس لتُشير إلى فردٍ واحد، إذا أنت أمعنت فيها النظر، وجدتها قد تُطلق على الكل أو على أي جزءٍ منه، وخذ اسم «القاهرة» — مثلًا — تجد مسمَّاه شاملًا للمدينة كلها، مقصورًا على بعض أجزائها أحيانًا؛ إذ في وسعك أن تُشيرَ إلى حيٍّ من أحيائها، لمن يسألك: أين القاهرة؟ فتُجيبه: هي هذا الذي أنت الآن فيه. وشيءٌ من هذا يُقال عن «الثقافة»، فهي كالمدينة الواسعة المتعددة الوجوه المتباينة النشاط، ولك أن تُطلق الاسم على أي جانبٍ منها أو مجموعة جوانب، دون أن يكون في مستطاعك أن تحصر جميع أجزائها حصرًا شاملًا، إنها كالحياة ذاتها، تعرفها من نبضة واحدة في كائن حيٍّ واحد، كما تعرفها من مجموعات الأحياء التي تراها في حشد من الناس، أو في جماعة من الطير وغير الطير من أحياء.

ولكَم سأل سائلٌ: ما هي «الثقافة»، ومَن هم «المثقفون»؟ ولكَم أجاب المجيبون بإجابات مختلفة كلها صحيحة، وإنني لأروي عن نفسي في أربع لحظات متباعدة، كنت في كل لحظةٍ منها أطالع تعريفًا للثقافة جديدًا بالنسبة إلى علمي في تلك اللحظة، فأحس فرحةَ مَن وقع على نفيسة من النفائس، صائحًا لنفسي: نعم! هذا هو التعريف الذي يفضل ما عداه! وكانت أولى تلك اللحظات الأربع، عندما كنت أقرأ ذات يوم بعيد مجلةً إنكليزية في اللغة، ولكنها تصدر في الهند، وكان الموضوع الذي أطالعه تحت هذا العنوان «مَن هو المثقف؟» وإذا بالإجابة عند كاتب المقال، هي أن المثقف يميزه أن يكون «طُلَعة» (بضم الطاء وفتح اللام)، أي أن يكون ميالًا لاستطلاع المجهول، وأخذ الكاتب يُحلل ويُسهب في التحليل، مما خرجت به مقتنعًا بأن ذلك حقًّا هو التعريف الصحيح، وكان مما زادني اقتناعًا، هو ما كنت أعلمه قبل ذاك، من أن أحد التعريفات التي حدد بها اليونان القدماء «الفلسفة» هو أنها «حب استطلاع المجهول». وأما اللحظة الثانية فكانت أيضًا عندما كنت أقرأ مجلة أمريكية، لا أظنها معروفةً لكثيرين، لكنها على درجة من العمق قلَّ أن «تُنافسها» مجلةٌ أخرى، وترجمة عنوانها هي كلمة «العلَّامة» الأمريكي (بتشديد اللام)، أو ربما كانت الترجمة الأصح هي «البحَّاثة» الأمريكي (بتشديد الحاء)، ولاختيار هذا العنوان لتلك المجلة قصةٌ يحسن الإشارة إليها: وهي أن ذلك كان هو نفسه العنوان الذي اختاره «إمرسن» لمحاضرة ألقاها في إحدى الجامعات الكبرى بالولايات المتحدة (لعلها جامعة هارفورد) وكان ذلك في منتصف القرن الماضي، فاشتهرت تلك المحاضرة شهرة واسعة؛ لأنها كانت صيحةً، يمكن أن يقال عنها إنها الحد الفاصل في تاريخ الثقافة الأمريكية بين عهدَين: فما قبلها كانت الثقافة الأمريكية مجرد أصداء تُردِّد ما يدور في أوروبا، وأما ما جاء بعدها، استجابةً لصيحة «إمرسن» فمحاولات جادة نحو أن يُبدع المبدعون الأمريكيون «ثقافة أمريكية لحمًا ودمًا»، فكان ذلك هو ما أرادته المجلة المذكورة شعارًا لها. ونعود إلى ما كنا فيه من حديث، عما قرأته في تلك المجلة تحت عنوان «المتنورون» أو قُل «الصفوة»، وهنا كان تحديد «المثقف» مرهونًا بقدرته على تحليل الأفكار، تحليلًا يبيِّن الفواصل الحادة بين فكرة وفكرة، حتى لو كانتَا شبيهتَين، ثم تحديد الفواصل الفارقة بين المكونات الجزئية التي تدخل في تركيب الفكرة الواحدة؛ وذلك لأن الأفكار لو تركت في عموميتها لصارت في متناول العامة، ثم صارت في الوقت نفسه مصدرًا للخلط والتخليط، بحيث يسهل على كلِّ مَن شاء أن يسيطر على عامة الجمهور، أن يقودهم إلى حيث يريد لهم أن يُقادوا، مستخدمًا في ذلك فكرة أو أفكارًا من تلك الغوامض، التي سهل على عامة الناس أن يرددوها، بمقدار ما صعب عليهم أن يفهموها.

وكانت اللحظة الثالثة من تلك اللحظات الأربع هي تلك التي أدركتُ فيها لأول مرةٍ، إدراكًا قويًّا وواضحًا، أن الفكر الفلسفي قوامه «منهج» في تحليل المعاني، دون أن يكون له بالضرورة «موضوع» معين خاصٌّ به، يحتكره لنفسه، حتى ليمكن تعريف الفلسفة من هذه الزاوية، بأنها «علم المعاني»؛ لأن المادة التي تصبُّ عليها فاعليتها، هي تلك المعاني الأساسية المحورية، التي تدور حولها رحَى الحياة الفعلية كلها: ونحن إذا قلنا إن تلك هي العلامة المميزة للفكر الفلسفي، فكأننا قلنا في الوقت نفسه، إنها هي العلامة المميزة للمثقف، بحيث تُصبح الدرجات التي يتفاوت بها المثقفون، هي نفسها الدرجات التي تتفاوت بها قدراتُهم على تحليل المعاني، بمقدار ما يستطيع إنسانٌ معرفة العناصر المكونة لفكرةٍ ما، يكون نصيبه من فهم تلك الفكرة.

وأما اللحظة الرابعة، التي زودتني بإضافة بعيدة المدى لمعنى «الثقافة»، مَن هم «المثقفون»، فهي تلك اللحظة التي بدأت عندها أتبيَّن كم من الأسماء، في أية لغة من لغات البشر، لا يتحدد معناها بأن نجدَ شيئًا محددًا نُشير إليه بحيث نقول: هذا هو المسمى المقصود بذلك الاسم، بل إن معناه هو عددٌ لا يُحصى من جزئياتٍ مؤتلفة أو متفاعلة، ويصح إطلاق الاسم على المجموع كله، كما يصح إطلاقه على أي جزءٍ منه؛ ومن هذا القبيل كلمة «ثقافة»، ولنضرب مثلًا واحدًا نوضح به ما نريد، ثم ننتقل بعده إلى ما نعتزم الانتقال إليه؛ فافرض أننا في فصل الربيع، وسألك سائل: أين هو الربيع؟ فإلى أي شيء تُشير؟ إن الربيع «محصلة» عناصر كثيرة، فالأشجار تورق، والعصافير تزقزق، والهواء يطيب، والأزهار تتألق، إلخ إلخ، فإذا استطعت فاجعل الإشارة إلى كل هذه العناصر، لتُبيِّن لصاحبك حقيقة الربيع، وإذا شئت فاجعل إشارتك إلى ظاهرةٍ واحدة كتغريد العصافير؛ لأنها تكفي.

عُدْ إلى تلك اللحظات الأربع التي أضفت لنفسي عند كل لحظة منها بُعْدًا جديدًا في معنى «الثقافة»، كانت الأولى حب الإنسان لاستطلاع المجهول، وكانت الثانية إقامة الفواصل الحادة والفارقة بين فكرة وفكرة، لا سيما إذا كانتَا متشابهتَين، وكانت الثالثة أن ينظر الباحث إلى الأفكار السائدة بمنهجٍ يردُّها إلى أصولها لتزداد وضوحًا، وكانت الرابعة أن نُنبه إلى أن كثيرًا جدًّا من الأسماء، لا يُشير الاسم الواحد منها إلى شيءٍ واحدٍ، بل يشير إلى محصلة مجموعة هائلة من العناصر المتجاورة، والمتزامنة، والمتفاعلة، بعضها مع بعض؛ فإذا ألقيت نظرةً مقارنة بين تلك النقاط الأربع، لحظتَ أمرين: أولهما، أنها جميعًا تتعلق بالمعرفة التي هي أقرب إلى المعرفة «العلمية» عن الأشياء، وثانيهما هو أنها جميعًا تتصل بالرغبة في «وضوح» الأفكار، وتخليصها من اللبس والتداخل، والغموض، وليست الحياة الثقافية لفردٍ، أو لشعب، مقصورةً على تلك الوقفة العلمية وحدها، وهي الوقفة التي ترتكز على «أفكار»، ثم على أن تكون تلك الأفكار «واضحة»، بل إن هنالك في الحياة الثقافية جوانب أخرى أوضح من أن يغضَّ عنها بصر، وأعني مجموعة القيم الإنسانية المبثوثة في الدين، وفي الفن، وفي الأدب، وفي كثيرٍ من التقاليد والأعراف، لكننا نريد أن نحصر حديثنا هنا على الوقفة العقلية وحدها، وهي الوقفة التي تنتمي إليها النقاط الأربع التي ذكرناها، على أن يكون مفهومًا في وضوح أن الحياة الثقافية وهي معاشة وممارسة في الوجود الفعلي، لا تتجزأ بين فروعها، بل إنها لتتوحد مع حاملها وعائشها وممارسها، في «رؤية» واحدة، أو «وجهة نظر» واحدة، أو «حساسية» واحدة.

وبعد هذا التحوط الذي كان لا بد من التحوط به حرصًا على الدقة، نسأل أنفسنا: كم يا ترى من تلك الجوانب المكونة للجانب العقلي من الحياة الثقافية، قد تحقق لشعبنا المصري، أو لأمتنا العربية بوجهٍ عامٍّ؟ كم عند المواطن العادي من حبِّ استطلاع المجهول، والمجهول المقصود هنا، ليس بالطبع أسرارَ الناس في حياتهم الخاصة، بل هو ما يتصل بحقائق العالم وطبائع الأشياء، كم يعرف المواطن العادي، وكم يريد أن يعرف عن تفصيلات بيئته وكائناتها، من نبات وحيوان وبحرٍ ويابس؟ كم يعرف وكم يحسُّ الرغبة في أن يعرف عن حقائق الشعوب الأخرى، وعقائدها، وفنونها وآدابها وعلومها؟ إنه قد لا يكون العيب الذي يُعاب على الجاهل هو أنه يجهل، بقدر ما يكون العيب الذي يُعاب به هو أن يجهل ثم لا يريد أن يعرف.

ذلك عن النقطة الأولى، وأما الثانية التي هي إيجاد الفواصل بين الأفكار، رغبةً في الوضوح، فحسبك جملةٌ واحدة تلقفها من أي مواطن عربيٍّ تتحدث إليه — وأعني متوسط المواطن ممن نُدخلهم في زمرة «المثقفين» — لنقف معه عند تلك الجملة الواحدة، سواء أكانت في السياسة، أو في النقد، أو حتى في الحياة العامة، لترى كم تتضح له الأفكار التي يتحمس لها، أو التي يتحمس عليها، فافرض — مثلًا — أن محدثك قد أورد في سياق حديثه جملة كهذه: إن حضارة هذا العصر حضارة مادية، أو أننا نسعى إلى إقامة عدالة اجتماعية، أو أن الوزن في الشعر الحديث موسيقاه داخلية، أو أن اللغة العربية لغة صحراوية (وكل هذه الجمل سمعتها من المتحدثين إليَّ منذ قريب)، وافرض كذلك أنك لم تُرِد لهذه الألفاظ أن تُفلت من محاكمات العقل، فسألت محدثك: ماذا تعني بصفة «المادية» عندما تصف بها حضارة بأَسْرها، وماذا تعني ﺑ «العدالة» أولًا، وبها وهي «اجتماعية» ثانيًا؟ وماذا تعني بالموسيقى «الداخلية» التي زعمتها للشعر الحديث؟ وأخيرًا ماذا تعني ﺑ «صحراوية» اللغة العربية؟ ولاحظ «أرجوك» أنني لا أريد مقدمًا أن أرفض هذه الدعاوى؛ فقد يكون بعضها أو جميعها صحيحًا، لكن الذي أريد هو أن أتحقق من أن المثقف صاحب هذه العبارات قد أخذ نفسه أخذًا بألَّا يُلقيَ بكلماته جزافًا، وبأن يكون قد حاسب نفسه ليستوثق بأنه يعرف على وجه الوضوح الناصع، معانيَ كلماته، فكم منَّا هو على هذه الدقة في ألفاظه ومعانيها؟

والنقطة الثالثة إنما هي النقطة الثانية بعد أن تتبلور في صورٍ منهجيةٍ لتصبح «وقفةً» عامة في حياة الإنسان، وليس مجرد حالات فرادى لا رابط لها يربطها معًا في أسرةٍ واحدة، فلا يكفي أن أطالب نفسي بدقة المعنى في هذه الحالة، وفي هذه، وفي تلك، بل يجب أن يتحوَّل الأمر معي إلى طريقة حياة — وأعني بالطبع الحياة الفكرية — والذي أودُّ أن أؤكده للقارئ في هذا الصدد، هو أن الأغلب المرجح في حياتنا الفكرية، أن يتعامل «المفكرون» و«النقاد» بل و«العلماء» أحيانًا، برواسمَ لفظيةٍ (أعني «كليشيهات») يقولها القائل مفترضًا فيها الوضوح، ويسمعها السامع مفترضًا فيها الوضوح، ثم ينتهي بها الأمر عند هذا الافتراض الزائف، لماذا تتعجب أن ما يُنشر وما يُذاع من «أفكار» لا يُغير الناس إلا بالقدر الذي لا تلحظه عين؟ كم ألف ألف مرة قيلت فيها كلمات «الحرية» و«الديمقراطية» و«المساواة» و«الانتماء الوطني» و«التعاون» و«التعاطف» ومراعاة المال العام وكأنه مالٌ خاص، إلخ إلخ، ومع ذلك إلى أي حدٍّ تشرَّبت النفوسُ هذه المعاني، تشرُّبًا يتحول معها إلى سلوك؟ أقول: لماذا نتعجب من أن تعليمنا وإعلامنا، لا يؤديان إلى سلوكٍ جديد، أليس السبب في ذلك واضحًا، وهو أنها «كليشيهات» تجري على الألسنة والأقلام، وأما معانيها الحقيقية فالله وحده أعلمُ كم منها وضح أمام العقول.

وبقيت النقطة الرابعة، وهي بدورها دعوة إلى الوضوح الفكري؛ إذ هي تنبيه إلى حالاتٍ لا حصر لها في دنيا التفاهم، تُوهمنا واحدية «الاسم» فيها، بواحدية الواقع المشار إليه بذلك الاسم الواحد، فنقول — مثلًا — «لغة» ونظن أننا نُشير إلى كائنٍ موحدٍ بسيط، ونكاد ننسى أن اللفظة الواحدة من ملايين المفردات التي تدخل في اللغة الواحدة، هي في حدِّ ذاتها «قبيلة» من حالات يُعَدُّ أفرادها بالملايين: فهي آنًا منطوقة، وعندئذٍ تكون كائنًا صوتيًّا، ويكون العضو الذي يتلقَّاها هو «الأُذُن»، ولك أن تتخيل كم يختلف بها النطق عند الناطقين، ثم هي آنًا آخر مكتوبةٌ، وعندئذٍ تكون كائنًا ضوئيًّا تتلقاه العين، ولك أن تتخيل هنا كذلك، على كم وجه يفهم قارئوها ما تحمله إليهم من معنًى، هذا إذا كان لها قارئون؛ لأنها قد تبقى على صفحتها جثةً مدفونة في كتاب، إلى أن تتبدل الأرض غير الأرض والسماء.

وإذا كانت كل نقطة من النقاط الأربع، وهي التي عددناها أركانًا من أركان الحياة العقلية في المثقف الواحد، وفي جملة الحياة الثقافية، هي غائبةٌ أو كالغائبة من حياتنا، فالذي هو أشدُّ فيها غيبةً ذلك المناخ الثقافي العام، الذي ينسج من خيوطٍ وخيوط سواها من العوامل الثقافية الأخرى، فذلك المناخ العام — إذا وجد — تحققتْ لنا به رؤيةٌ مشتركة، أو قُلْ حساسية مشتركة، نحسُّ بها إحساسًا مباشرًا صحة الصحيح وخطأ المخطئ، فيجتمع معظمنا على أحكام واحدة، فيما نقبله وما نرفضه، لكن انظر باحثًا عن مثل هذه الحساسية المشتركة في حياتنا، تجدها معدومة أو كالمعدومة، فزيدٌ يرى يمينًا، وخالد يرى يسارًا، وعمرو ينظر وراءه، وأسامة ينظر أمامه، ولو كنا أمة وُلدت بالأمس لقلنا: لا علينا، فغدًا سنتعلم كيف يسودنا رأيٌ عام ووجدان عام وهدفٌ عام، لكننا أمةٌ عاشت من الدهر ما عاشت، ولقد عاشتْه موحدة القلوب في معظم عصورها، بدليل أنها أقامت حضارات وثقافات، وما كانت الحضارة مما قد أقامته لتكون حضارة ولا الثقافة ثقافة إذا لم تكن موحدة النظر بوجهٍ من الوجوه، إذن لا بد أن يكون قد طرأ عليها في هذا العصر طارئٌ جديد، فكَّك عُراها، وفتَّت أجزاءَها ففقدت وحدتها الفعلية والوجدانية، وفقدت — بالتالي — قدرتَها على الإبداع، أتدري ما هو ذلك الطارئ الذي طرأ، إنه هو اصطدامها بحضارةٍ جعلت محورها «العلم» و«الصناعة» أو التصنيع، فجاءت حياتها الثقافية — أعني الثقافية المصاحبة لهذه الحضارة الجديدة — متناغمة معها روحًا واتجاهًا، ولم نكن نحن نألف قبل الآن أن يكون العلم وأجهزته، هو المدار، وهو الهدف، وهو قوائم البناء، والذي ألفناه هو أن تكون «الكلمة» وليس «الآلة» هي ميدان القول والعمل معًا، ولم يكن في طبيعة البشر ما يحول بيننا وبين أن نلبس لهذه الحضارة الجديدة لبوسها، من اهتمام بالعلم تحصيلًا وإبداعًا وتطبيقًا، ومن تقبُّلٍ لما يترتب عليه من منهجٍ تجريبيٍّ علمي ننتهجه كلما نظرنا في أمرٍ من أمورنا، خصوصًا وتاريخنا يشهد باستعدادنا للتفكير على منطق العقل، الذي هو عماد الحياة العلمية، لكن شيئًا في تاريخنا الحديث حال دون ذلك، ولعل أهم عناصره هو أن تلك الحضارة العلمية جاءتنا في صحبةِ مستعمرٍ، فقاومناه ورفضنا ما اصطحب من ثقافةٍ، ولو شاء الله لنا الهدى، لفاوضناه في شخصه وسلبناه ما جاء في صحبته، فربما كان مكتوبًا لنا في تلك الحالة أن نسبقه في مضماره، وهكذا فعلت اليابان، لكننا لم نفعله، ولا أدري إذا كان عاملٌ آخر له ثقلُه وخطره قد أُضيف إلى العامل الأول، فزهدنا في الحضارة العلمية، إلا أن نتعلم علومها حفظًا باللسان، في معاهدنا وجامعاتنا، وذلك العامل الثاني هو أن معارفنا التقليدية كانت هي البضاعة الرابحة عند كثيرين منا، فأصبح من أهم المهام عند هؤلاء، أن يدافعوا عن بضاعتهم ببيان موضع القوة فيها من جهة، وموضع الضعف والفساد فيما استحدث من جهةٍ أخرى.

ولقد تحدَّاني مَن تحدَّى، قائلًا: هات برهانك على «اللاعلمية» المزعومة في وقفتنا الثقافية، ما هي المزالق التي ترى أننا ننزلق بها في متاهات الخطأ والغموض في حياتنا الفكرية؟ قلت له مجيبًا: سأسوق إليك أمثلة عفو الخاطر، لأبيِّن لك بها كم نقع في غموض الفكر ونحن لا نشعر، ولا تؤاخذْني إذا رأيتني أسوق أمثلةً قد تبدو في ظاهرها تافهةً، ولكنها دالةٌ على ما نريد التدليل عليه.

فأول تلك المزالق، أننا قد ننظر إلى عدة أفكار أُدمجت كلها في جملة واحدة، فنظن أننا ما دُمْنا أمام جملةٍ واحدة، فنحن بالتالي أمام فكرةٍ واحدة، وعندئذٍ نستبيح أن نصفَها كلها بالصواب، أو أن نصفَها كلها بالخطأ، فافرض أن قائلًا قال عن شباب أمتنا هذه العبارة: «إن الشباب لضعفه ويأسه، قد فقد كثيرًا من روحه المعنوية، فاحتمى بالتطرف الفكري.» أليس مألوفًا بيننا أن نصف مثل هذا القول إمَّا بصحةٍ وإما ببطلان، وكأنه يحكي عن حقيقة واحدة تُقبَل كلها أو تُرفَض كلها؟ لكن انظر عن قرب إلى هذا القول كم حقيقة جاءته في عبارته، بحيث لا تكون الصحة والخطأ في إحداها، متوقفةً على الصحة والخطأ في الأخرى، فكلٌّ منها من حيث الصحة والخطأ مستقلٌّ وحده؛ ففي هذا القول الواحد المزاعم الآتية من قائله:
  • (١)

    الشباب ضعيف.

  • (٢)

    الشباب يائس.

  • (٣)

    فقدَ الشبابُ روحَه المعنوية.

  • (٤)

    لجأ الشباب إلى التطرف الفكري.

وأرجوك أيها القارئ أن تلاحظ مرةً أخرى أن هذه الوحدات المزعومة كلٌّ منها مستقل بصوابه أو خطئه؛ إذ قد يكون الشباب ضعيفًا لكنه غير يائس، وقد يكون ضعيفًا في روحه المعنوية، لكنه لم يتطرف في فكره، وهكذا، إذن فلو أراد قارئ هذه العبارة أن يحكم عليها بما يضمن له الوضوح والدقة، وجب أن يحكم على أجزائها جزءًا جزءًا، قبل أن يُصدر حكمًا واحدًا يشملها جميعًا في نفسٍ واحد.

هذا مثلٌ تبدو عليه بساطة قد تصل إلى حدِّ التفاهة، أليس كذلك؟ ولكن ماذا تقول إذا أنبأتُك بأن تيارات التطرف الديني وغير الديني، التي تغمرنا اليوم بموجها وتصمُّ آذاننا بهديرها، وهي أمثلة مكبرةٌ لهذا المثل البسيط التافه، فسرُّ المتطرف هو أنه يحكم على الآخرين جملة واحدة بالبطلان، وكأن هؤلاء الآخرين قوامهم كله جملةٌ واحدة بسيطة مكونة من مبتدأ وخبر! ومن هذا القبيل نفسه أن يحكم ناقد على كاتبٍ أو على شاعر، بحكمٍ مبتسرٍ متسرع، وكأن ذلك الكاتب قد كتب سطرًا واحدًا قليل الكلمات، وكأن هذا الشاعر قد نظم بيتًا واحدًا من الشعر، وهل أنسى أستاذًا فاضلًا أصدر حكمه على جماعةٍ من كُتَّابنا، بأن «كل» ما كتبوه ضلالٌ وإضلال! ولو وقف عند صفة «الضلال» لأمكن الافتراض بأن الرجل قد خصص خمسين عامًا من عمره، لقراءة ما كتبه هؤلاء، صفحةً صفحة، وجملةً جملة، فوجد ما يُبرر له هذا الحكم الجارف، إلا أنه أضاف صفة «الإضلال»، أي أن هؤلاء الكتَّاب قد تعمدوا أن يضللوا قُرَّاءَهم بما يكتبون، وذلك أمرٌ يتصل بالنوايا، فكيف كشف فضيلته عن نواياه ليحكم، إنني لا أشك لحظةً واحدة في «فضل» فضيلته، ولكنني أقول إنه المناخ الثقافي العام الذي نتنفس هواءَه الفاسد، قد زكم أنوفنا، فأصبحنا نحكم على الأفكار، والمذاهب، والشعوب، والحضارات، والثقافات، «بالجملة» فنتورط في خطأ محتوم.

كان ذلك — إذن — أول المزالق في حياتنا الفكرية، وثانيها هو الخلط بين فكرة الأساس، والفكرة المستدلة منها، فنحسبهما شيئًا واحدًا، ونحكم عليهما بحكمٍ واحد. ولأضرب لذلك مثلًا له أهميته في تاريخ الفكر، فليس هو بالأمر النادر، حتى بين العلماء أن يصفوا حواسَّ الإنسان بأنها قد «تخدع» صاحبها، فترى الشمس وتحسُّها في حجم الدينار، فتظن أنها بحجم الجسم الصغير به، وهذا المثل ساقه أبو حامد الغزالي مع غيره في كتابه «المنقذ من الضلال»، ليستشهد به على «خداع الحواس»، وحقيقة الأمر هي أن العين ترى ما تراه ولا خداع، وإنما وقع خطأٌ عقليٌّ في عملية «الاستدلال»؛ إذ لو استقامت العملية الاستدلالية، لحسبت المسافة بين الشمس والأرض، وبناء على قوانين «المنظور» نتعرف من القرص الشمسي الصغير الذي تراه العين، كم يكون حجمه الطبيعي في الواقع، فها هنا حقيقتان: حقيقة أبصرناها بالعين، وحقيقة أخرى استنبطناها بالعقل من الحقيقة الأولى، فإذا ظنَّ ظانٌّ أن الشمس في حجمها الطبيعي هي كما رأتها العين، لم يكن الخطأ في ذلك خطأ العين، ولكنه خطأ في العملية الاستدلالية. وقد نُفيد كثيرًا من هذا المثل على الخلط بين فكرة الأصل وفكرة مستدلة منها، وهو ما قد يُخطئ فيه الإنسان عند استدلاله؛ فالإسلام كتابه واحدٌ، لكن كان لكل مذهب من مذاهب المسلمين طريقة في استدلال مبادئه المذهبية من الكتاب، ومرة أخرى نذكِّر القارئ بأن خطأ كهذا، لا يقتصر على نفسه، بل كثيرًا ما يجوز حدود نفسه، ليصبح تزمتًا وتعصبًا من اتباع مذهب معين ضد أصحاب المذاهب الأخرى.

وأُضيف إلى المنزلقين المذكورَين منزلقًا ثالثًا، ثم أكتفي؛ فالعقل المدرَّب على دقة الفكر ووضوحه، يحرص أشد الحرص على أنه إذا ما استخرج نتيجةً مضمونة من فكرةٍ مطروحة، وجب أن تكون النتيجة المتولدة كلها مضمرةً في جوف الفكرة التي استولدناها، لكننا نلاحظ في حالات كثيرة من حياتنا الثقافية، كيف نستنتج شيئًا لم يكن مضمرًا في الأساس الذي نستنتج منه، ولو كانت تلك الحالات هامشية كلها، لأهملناها، لكنها قد لا تكون كذلك، فمثلًا تُعرض على الناس حقيقة علمية عن النبات أو الحيوان أو غيرها من خلْق الله سبحانه، وبعد أن تبيَّن كم تنطوي تلك الحقيقة العلمية على مذهلات، تستدل من ذلك ما ليس لك حقٌّ في استدلاله، كأن تستدل شيئًا يتصل بالإيمان الديني؛ لأن في ذلك خلطًا أعتقد أنه يضرُّ أكثر مما ينفع؛ لأن الجانب الإيماني تظل قوته — حتى لو بطلت الحقيقة العلمية التي تُقدم لتكون سندًا له وخطورة مثل هذا الخلط — هي في أنها قد تجاوز حدودَ الموضوع المعروض، لتكون «عادةً» عقلية، وعندئذٍ يسهل في دنيا السياسة مثلًا، أن تستدلَّ للجمهور من أي شيء فيصدقوك.

فيا صاحبي، إنه لضبابٌ أكثف مما تظن، يكتنف حياتنا الفكرية، فهلَّا دللتني على ما يُزيح عنَّا هذا الضباب لعلنا نرى؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤