الفصل الخامس عشر

آل عثمان

عندما وصل الأتراك في فتوحاتهم إلى الآستانة في أواخر القرن الخامس عشر، كان قد انفتح في أوروبة ثلاثة أبواب للمدنية الحديثة؛ الأول فتحه لوثيروس في ثورته على الكنيسة والبابا، والثاني فتحه غوتمبرغ في اختراعه حروف الطباعة، والثالث فتحه كولمبوس في اكتشافه أميركة.

أجل، إن ذاك الإصلاح الديني وذَيْنك الاختراعَ والاكتشافَ لَمِن أنوار المدنية الأوروبية التي استمرت في التقدم والارتقاء، بينما كان الشرق الأدنى يتخبَّط في الظلمات، فيهبط من دركةٍ إلى أخرى، ولا يخلص من ظالمٍ سفيه إلا ليُبلى بمَن هو أظلم وأسفه.

خرجت الأمة السورية من حروب الصليبيين، وإغارات المغول، ومظالم الشركسة، ومن مخالب الأوبئة والمجاعات، وهي على آخر رمقٍ من الحياة، لا ثروة، ولا علم، ولا صناعة، ولا أمل يُعِيد إليها النشاطَ للعمل، فتطلَّع الناس إلى الدولة التي أسَّسها السلطان عثمان التركماني على أنقاض الدولة السلجوقية، وهي يومذاك في إبَّان شبابها ومجدها، وعقدوا عليها الآمال.

هو الخطأ الذي يُخطِئه السوريون، أو بالحري الأكثرية في السوريين وهم المسلمون؛ إذ يظنون أن العمران والرقي والسعادة القومية لا تكون إلا بدولةٍ إسلامية ذات صولة واقتدار. أما العدل والمساواة، والرفق بالرعية، وإحياء البلاد بالمشاريع الاقتصادية والصناعية، فهي على ما يظهر أمور ثانوية.

لولا ذلك لما كنا نتغنَّى بالدولة الأموية، ونحبِّذ تجديدها، وقد رأيناها، وهي في ذروة المجد والاقتدار، بعيدة عن ذلك العدل الذي زان سيرةَ الخلفاء الراشدين، فلا تحسن معاملة الأقليات في المملكة حتى ولا العصبيات العربية الإسلامية خارج عصبيتها. والمشكل الأكبر في كل زمانٍ من أزمنة هذا التاريخ، هو هذه الأقليات والعصبيات التي نسيء إليها، أو لا نعدل فيها، فندفعها إلى المقاومة الطائشة العمياء، التي تضيع عندها حتى مصالحها.

وإننا نلوم بني أمية لأنهم من قحِّ العرب، ومن أقرب الناس إلى ذاك الينبوع الإنساني الذي تفجَّر بمكة، ينبوع العدل والإخاء والمساواة. ولكن هناك، كما تبيَّنَ لنا، مَن هم أبعد من بني أمية بمراحلَ عديدة عن الضالة المنشودة.

فقد أخَّر الإسلامَ والمسلمين شعوبٌ آسيوية همجية، دخلوا في هذا الدين العربي، ولم يدخل في نفوسهم إلا القليل القليل من فضائله، فظلوا على فطرتهم الهمجية، وقَبِلَهم أهل الشام حكَّامًا لمجرد أنهم مسلمون ذوو صولة واقتدار، وقد كان حظهم وحظ إخوانهم أبناء الوطن الواحد من أولئك الفاطميين والأيوبيين والشراكسة والتراكمين، ما هو مدوَّن في التاريخ وملخَّص في هذه النبذة منه.

وما كان الشقاء ليعلِّم سورية شيئًا في اتقاء شرور مثل تلك النزعات والسياسات، ولا كانت العبر تؤثِّر في رؤساء الأمة، وهم كلهم ينشدون مصالحهم الخاصة؛ لذلك طفقوا يتلوَّنون ويتذبذبون في إخلاصهم لملوك المماليك، عندما خفقت أعلام الهلال الأحمر على ضفاف البسفور وفوق حصون الآستانة.

وما كان آخر ملوك الشراكسة في الشام، قانصوه الغوري، ليُحدِث حادثًا في تطور الأمة، أو ليوقف عاملًا من عوامل الفساد والتفكك في الملك، بل كان هو من تلك العوامل نفسها، وكان فوق ذلك هرمًا خرفًا، يعتقد بعلم الجفر، ويتيقن أن الشر سيأتيه من رجلٍ يبدأ اسمه بالسين. أما الأعجب من ذلك فهو أن يصحَّ مثل هذا اليقين.

هاكم اسمًا يبدأ بسينين اثنتين: السلطان سليم.

باشر هذا السلطان العثماني فتوحاته بقتل أربعين ألفًا من الشيعة في الأناضول، ثم زحف إلى الشام، فجرد الغوري جيشًا للدفاع أكثره من المتذبذبين، فانكسر في وقعة مرج دابق (٩٢٢ﻫ/١٥١٧م) وتوفي هناك.

وكان بين قواده الأمير فخر الدين المعني الأول (جد المعنيين الذين تولوا الحكم بعدئذٍ في لبنان)، الذي تردَّد وقومه في القتال قائلًا: دعونا ننفرد لننظر لمن تكون النصرة فنقاتل معه. وكلمة المعني هذه تمثِّل حال أكثر من انضموا تحت لواء الغوري.

بعد وقعة مرج دابق استيقظت الفتنة في دمشق، ولكنها لم تدُم غير بضعة أيام، فأخلدت المدينة للسكينة بعد ذلك، وفتحت أبوابها للسلطان العثماني.

وما لبث الأهالي أن أنَّوا أنين الضعيف المظلوم من الضرائب الفادحة، التي ضربها الفاتح على طبقات الناس كلها، ولم يستثنِ حتى المومسات.

وكان هذا السلطان ممَّن يحترمون الأولياء وأرباب الكرامات، ويستمدون من أرواحهم القدسية، فأمر بتعمير القبر المتداعي للعارف بالله محيي الدين بن عربي، وأنشأ في جواره جامعًا وزاوية، ووقف عليهما وقفًا كبيرًا.

ثم زحف بجيشه إلى مصر ففتحها، وقتل مليكها طومنباي الذي بايعه المصريون بعد موت الغوري، ونكَّل بالشراكسة.

أما أهل الشام فقد قاسوا كثيرًا من جنود سليم المرابطين؛ إذ كانوا يقطعون الأشجار، ويرعون الأزراع، ويخرجون الناس من بيوتهم ليتمتعوا بها وبمن فيها من الحسان.

وعندما عاد السلطان سليم بعد الفتح المصري، بدل أن يؤدِّب جنود الحامية، أذن لجنوده أيضًا أن يدخلوا البيوت، فدخلوها فاتحين — والويل للحسان والولدان!

سرعان ما صار الناس يترحمون على الشراكسة، كما يترحمون على الأتراك اليوم. ليس في هذه البلاد السورية شيء جديد.

كان السلطان سليم سفَّاحًا سكِّيرًا لوَّاطًا، لا يهمه بعد فتوحاته وقتل الشراكسة، غير لذَّته وسُكره — الكلام لابن إياس — وإقامته في المقياس بين الصبيان المُرْد. وكان يقتل وزراءه وغيرهم في ساعة غضبٍ بدون سبب، فقد قتل سبعة من الوزراء، وخنق سبعة عشر من إخوانه، وغيرهم من أهل بيته حين تولَّى الملك. ومن أمثال الأتراك السائرة في تلك الأيام: من أراد الموت فليكن وزيرًا للسلطان سليم.

لذلك كان الوزراء يحملون صكوك وصاياهم في جيوبهم — أو هي من نكات ذاك الزمان — ويهنَّئُون كل مرة يخرجون من المجلس السلطاني سالمين. مجلس السلطان سليم، من دخل إليه من الوزراء مفقود، ومن خرج منه مولود.

وهو في أسفاره مثله في مجلسه. لاحظ الصدر الأعظم يونس باشا، وهم في الطريق إلى مصر، أن في قَطْع الصحراء هلاك الجيش، فضرب السلطان عنقه. واجترأ أحد الوزراء أن يعترض على إبقاء أوقاف بعض الشراكسة بيدهم قائلًا: سيستعينون بها علينا. فقال السلطان وهو يركب جواده: أين الجلاد؟ فضُرِب عنق الوزير، بينما كان صاحب الجلالة العظمى يضع رجله في الركاب.

هذا هو مؤسس الدولة العثمانية في البلاد السورية، وقد عاد بعد فتحها إلى الآستانة ومعه أحمال لا تُعَدُّ من المال والتحف وأنواع الأسلحة والزينة مما كان في قلعة حلب وغيرها.

أما إدارة البلد فلم يغيِّر شيئًا في جزئياتها. ظل أرباب الإقطاعات مثلًا كما كانوا في دولة المماليك يضمنون الخراج، ويحملون الكرباج، فيدفعون للولاة مما يجمعون، وهم فيما يجمعون لا يرحمون.

ولا هم يُرحمون، فإذا غضب الوالي على أحدهم لتأخُّره عن الدفع مثلًا، يرسل عليه جيشًا من الإنكشارية فيخرِّب قراه، ويستصفي أمواله، ويأسر أهله، ويسبي نساءه. فهل يلام المسكين إذا حمل الكرباج؟

من أولئك الإقطاعيين في بداية العهد العثماني، الأمير فخر الدين المعني الأول حاكم الشوف، والأمير جمال الدين الأرسلاني حاكم الغرب، وبنو شهاب في وادي التيم، وبنو حرفوش في بعلبك.

وكان من قواعد الدولة أن تولي أمورها الكبرى لولاتها وقضاتها، والصغرى لأبناء البلاد، ولكن الولاة١ كانوا يبتاعون مناصبهم بالمزاد في دار السلطنة، فيُرهِقون بعد ذلك ويسخِّرون، ويغتصبون ويختلسون؛ ليعوضوا على أنفسهم فلا يكونون في الأقل من الخاسرين.

من أمثال هذه التجارة، بل هذا الاستعباد، أن أمر السلطان مراد مرة بأن يكتب إلى أحمد باشا كوجك والي الشام ليدفع إلى السلحدار باشا عشرين ألف ليرة (المتبقية على الوالي في الحساب) ويبقى في منصبه، فأدَّى كوجك المبلغ وهو يحمد الله.

ولا تظننَّ أن السلطان الصالح المقتدر كان يستطيع أن يصلح أمرًا في السلطنة القائمة على حدَّي السيف والدينار، أو يغيِّر شيئًا كبيرًا في أحوال أمة لم تتغذَّ في الألف سنة التي خلت بغير المظالم والحروب.

وهل يا ترى في سلاطين آل عثمان سلطان صالح؟ قد تعرَّفت أيها القارئ إلى السلطان سليم الأول، وسأعرفك إلى بضعةٍ من خلفائه، الذين يبزُّون فيما فُطِروا عليه حتى عبد الحميد الثاني.

خلف السلطان سليم ابنه سليمان السلطان القانوني — القانوني بالقتل، فقد كان كأبيه سفَّاحًا، قتل ابنه الأكبر وحفيده وابنه بايزيد وأولاده الخمسة، فلا عجب إذا كان يقتل كذلك وزيرًا فاضلًا حال دون تنفيذ ذلك الأمر «القانوني»، بقتل أهل حلب أجمعين؛ لأن جماعة منهم ثاروا على الحكم العثماني.

وهاكم سليم الثاني السلطان السكِّير الفاسق، «له من أعمال الخلاعة ما يُخجَل منها»، وقد خَنق أربابُ القصر عند وفاته، أولادَه الخمسة ليمحوا نسله، فكان عملهم ذاك من باب التشذيب الذي يزيد الشجرة قوةً ونموًّا.

وهاكم السلطان مراد الثالث الذي قتل إخوته الأربعة عندما تولى الملك، وهو الذي حارب الموارنة في لبنان ليُرضِي طائفة الروم التي شكت إليه ظلاماتهم، فوسَّع ثلمة الشقاق السياسي الديني في الجبل.

وهذا محمد الثالث الذي قتل يوم جلوسه على العرش تسعة عشر أخًا له، وعشر جوارٍ حاملات من أبيه، «وكان مع ذلك صالحًا عابدًا، ساعيًا في إقامة الشعائر الدينية»!

وهاكم مصطفى الأول السلطان الأبله، يخلعه مراد الرابع السلطان السفاح الذي كان كأسلافه منهمكًا في شهواته ولذاته، ولكنه بزَّهم جميعًا بالقتل. قيل إنه قتل مائة ألف إنسان؛ منهم خمسة وعشرون ألفًا قتلهم بنفسه، أو شاهد قتلهم بأم عينه.

وهذا السلطان إبراهيم الفاجر المعتوه، الذي هلك في الثامنة والعشرين من عمره، شهيد الغواني والكئوس. إن عهده لعهد الجواري والأغوات. قيل إنه كان ينكح كل يوم بكرًا، ويقتل كل من يخالف له رأيًا، أو يأبى أن يرسل إليه ابنة حسناء يسمع بها.

وقد أمر السلطان إبراهيم مرةً بقتل جميع المسيحيين في السلطنة، فقال شيخ الإسلام معارضًا: «إن في قتلهم تنقص واردات الملك!» فاقتنع وامتنع.

•••

إننا نقف رفقًا بالقارئ عند إبراهيم، فنفسح مجالًا لبعض الحوادث المتعلقة بهذه الديار البائسة المشئومة.

ما اهتم سلاطين آل عثمان في بلاد الشام لغير ما اهتم له الخلفاء العباسيون؛ أي لضرب السكة والخطبة والخراج. السكة باسمنا، والخطبة والخراج لنا، ولكم بعد ذلك ما تشاءون. فهل يُستغرب الخروج على مثل هذا الحكم؟ إنما يستغرب أن يقبله الناس سنة واحدة، ناهيك بمائة سنة.

فما كاد ينتهي القرن السادس عشر حتى سُمعت في ذاك الليل الدامس أصوات المظلومين، ولمعت سيوف الزعامات الوطنية. نعم، خرج الناس على الحكم العثماني، ولكنهم كانوا مدحورين؛ لأنهم لم يكونوا متحدين متضامنين.

فقد حارب أمراء الإقطاعات في لبنان بعضهم بعضًا، وكانت في السنة الأخيرة من القرن السادس عشر وقعة نهر الكلب، بين ابن معن العربي وابن سيفا الكردي، فانكسر ابن سيفا وتشتتت جنوده، واستولى فخر الدين المعني، الذي كان في طليعة الخوارج، على بلاد كسروان وبيروت.

وكان قد ثار في حلب علي باشا جان بولاذ التركماني، فاستولى على قسمٍ كبير من البلاد التي تليها، وظل مستقلًّا في حكمه سنتين، فجرَّدت الدولة عليه جيشًا كبيرًا زحف إلى حلب، ففتحها وباع الأتراك عيال جان بولاذ بيد الدلَّال، فبيعت أمه بثلاثين قرشًا، ثم مثَّلوا بألوف من المشاغبين وأتوا برءوسهم إلى الوزير.

وزحف هذا الجيش إلى دمشق، فقال الشاعر مؤرِّخًا:
دخل الشام جيوش
كجمال قد رغوا
نهبوها في جمادى
أفحَشوا أرِّخ طغوا
١٠١٦

وكان الأمير فخر الدين المعني قد ازداد شوكةً في استيلائه على كثيرٍ من القلاع وتحصينها، فتعاون عليه ولاة دمشق وطرابلس وديار بكر وحلب، فجنَّدوا جيشًا كبيرًا وحاصروه تسعة أشهر (١٠٢٠ﻫ/١٠٦٢م)، فضاق ذرعًا وهو لا يستطيع الدفاع ولا يريد التسليم، فاختفى، ثم هرب في السنة التالية إلى إيطاليا، تاركًا الحكم في لبنان وما إليه لابنه علي.

سكنت مراجل الفتن بعد كسرة جان بولاذ وسفر فخر الدين إلى إيطالية، ولكنها عادت تغلي عندما رجع الأمير بعد خمس سنوات، وقد حالفه كوسموس الثاني كبير دوجات طسقانية، فاستولى المعني بمساعدة الأسطول الطسقاني على ساحل سورية، واستأنف الحرب في سبيل الاستقلال، فاستظهر والي دمشق ببني سيفا وبني حرفوش، فحملوا على المعني (١٠٣٣ﻫ/١٦٢٣م)، فواقعوه في عين الجر (عنجر) وكانوا مغلوبين.

قويت كلمة فخر الدين وعظم شأنه في البلاد، فأرسلت عليه الدولة جيشًا من الأناضول، تشفعه بأسطولٍ للاستيلاء على السواحل، فكسر الثائر المعني الجيش العثماني في وقعتين قرب صفد، ثم انكسر في وادي التيم، وكان الأسطول بمساعدة بنو سيفا وغيرهم من أعداء فخر الدين، قد استولى على الساحل فتشتت المعنيون.

ومن عادات الأمير المعني أن يختفي، فاختفى بعد وقعة وادي التيم، ثم سلَّم نفسه إلى الوزير العثماني، فأرسله إلى الآستانة، فسمع السلطان مراد الرابع عذره في محاربة أعدائه وعفا عنه، إلا أنه أبقاه هناك أسيرًا، ثم أمر بقطع رأسه، وبخنق ابنه الأكبر، ووهب أملاكه إلى والي دمشق.

أما السبب في قتله بعد العفو عنه فهو غامض بعض الغموض، بيد أن الحوادث التي تلت التسليم لا تدل على شيءٍ من الحكمة أو من حسن النية في الدولة.

بعد أسر فخر الدين أمَّرت على لبنان عدوَّه علي بن علم الدين اليمني، فبادر هذا إلى التنكيل بآل معن وبني تنوخ أنصارهم، وضبط أرزاقهم (إنما تاريخنا سلسلة من النكبات والانتقامات)، فقام من المعنيين الأمير ملحم يثأر لأهله، فوقعت الحرب بين القيسية واليمنية، حرب العصبيات التي أرادت الدولة أن تثيرها، ثم سمعت شكاوى الناس دامعة العين، وبما أنها لم تتمكن من القبض على الأمير ملحم، قتلت نسيبه الكبير الأمير فخر الدين.

هو فخر الدين الكبير، علم الوطنية الحقة ومشعالها الأوحد في تاريخنا الحديث.

•••

وكان في ذلك الزمان متوليًا بدمشق درويش الشركسي الذي بكت من مظالمه الناس.

ومن الشركسي هذا إلى أسعد باشا العظم ثالث ولاة الشام من هذا البيت، مائة سنة ونيف (١٦٣٨–١٧٤٤م) من الويلات والنكبات، أَعُدُّ منها ولا أعدِّدها.

وفي سنة ١٦٧٥ أُحرقت قرى البترون، ثم في السنة التالية أُحرقت بلاد جبيل وخلت من سكانها.

وأَمر والي طرابلس ابن حمادة بإحراق وادي علمات وقرى جبة المنيطرة.

وفي سنة ١٦٧٩ (١٠٩٠ﻫ) تولى خليل بن كيوان على صيدا، فظلم الرعية.

وبلغ ظلم والي دمشق حدًّا لا يطاق، فأقفلت المدينة مرتين احتجاجًا عليه.

واشتد ظلم بني حمادة في جهة طرابلس، فخُربت القرى ونُكبت الناس.

وكانت العصبيتان القيسية واليمنية لا تزالان في قيد الوجود، بل في قيد الفتن والقرود، فتُحارب اليمنية مع المتاولة والدروز، وتُظاهر القيسية آل شهاب.

وكان الشيخ محمود أبو هرموش القيسي، الخارج على القيسية، متوليًا على اليمنية، حاملًا على خصومها، فقام الأمير حيدر الشهابي بجيشٍ من القيسية، فباغتوا بني علم الدين وأبا هرموش وجنودهم ليلًا في عين داره، وأعملوا فيهم السيف، فما سلم منها غير القليل. «وفي تلك الليلة قُتل خمسة أمراء من بني علم الدين، وأُمسك الشيخ محمود أبو هرموش، وقطع الأمير لسانه وأَبَاهِمَ يديه، فقويت شوكة القيسيين وعظم أمرهم، ونزح من كان يمنيًّا من البلاد.»

وعيَّنت الدولة متسلِّمًا على حماة (١١٠٦ﻫ/١٦٨٥م) اسمه أسعد بن مزيد، فكانت مظالمه بمزيد كل يوم، فقام الحمويون وأخرجوه من البلد قهرًا، فأرسلت الدولة تؤدِّب الثائرين، وتمثِّل بهم، ولسان حالها يقول: اخضعوا لعمالي مهما كانت سيرتهم، واتقوا بطشي!

وفي هذه السنة (١١١٩ﻫ/١٦٩٨م) نهب الأمير يوسف علم الدين مع عساكر الدولة بلدة غزير وأحرقها، وفي السنة التالية غزا الأمير حيدر الشهابي بلاد المتاولة، فتجمعوا بالنبطية للدفاع، فظفر بهم هناك، وقتل منهم جمعًا غفيرًا.

«وسار والي دمشق إلى عجلون، وباغت بلاد نابلس، وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وسبى عسكره نحوًا من سبعمائة امرأة.»

وكان الفقراء يهجرون البلاد هربًا من الظلم والتسخير، فأمست القرى المعمورة والقصبات المشهورة، ركامًا من الطلول الدوارس. أما إذا حاول الأغنياء الجلاء فالوالي يسوق عليهم جنوده، فينهبونهم ويسبونهم، ولا غرو. فمن أين يجيء الخراج إذا هجر الأغنياء البلاد؟

وكان الوالي — والي حماة مثلًا — إذا غضب على رجلٍ يضعه على الخازوق، وإذا غضب على امرأة وضعها في خيشٍ مع شيء من الكلس وألقاها في نهر العاصي.

وكان الأمير المتسلِّم في جهات لبنان إذا غضب على رجلٍ، عاقبه بقطع أشجاره أو بحرق قريته.

«وأصبح الناس يتظاهرون بالفقر، فيكتمون أموالهم ويدفنونها في الأرض، لتنجو من المصادرات والسرقات.»

وفي هذه السنة (١١٦٠ﻫ/١٧٤٦م) أحرق أسعد باشا العظم قرى البقاع؛ لأن أهلها تأخروا عن دفع الأموال الأميرية.

وقد حدث في عهده فتنة بين الدالاتية والإنكشارية، فأعمل الباشا السيف في العُصاة، وسلب جنوده الدور وأحرقوها.

قال المؤرخ: «وبقيت المشنقة أيامًا لا تخلو من مصلوب، وتُركت جثث القتلى أيامًا أمام السراي تأكلها الكلاب، وسلخوا رءوس القتلى وجعلوها أكوامًا، وصارت المدافع تطلق بكرة وعشية مدة شهرين، وكثر العزف بالأبواق وإطلاق الأسهم النارية في الفضاء.»

•••

يسلخون رءوس القتلى ويعيِّدون إكرامًا للباشا أسعد الذي انتصر على أعداء الدولة …

أنتِ سورية بلادي!

وأنتم أيها الطغاة العتاة أجدادي!

١  وغير الولاة. جاء في تقرير لأحد قناصل البندقية (الخطط: الجزء الثاني، صفحة ٢٨٣) أن منصب الوالي كان في الآستانة يكلِّف من ٨٠ إلى ١٠٠ ألف دوكا، ومنصب الدفتردار يباع من ٤٠ إلى ٥٠ ألف دوكا … إلخ (الدوكا نصف ليرة ذهبًا).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤