الفصل الثاني

الاستيلاء المصري والآشوري

قبل أن تأسست مملكة يهوذا بنحو ستمائة سنة؛ أي في القرن السابع عشر قبل المسيح، كانت البلاد السورية كلها تابعة لمصر،١ أو بالحري كانت الدويلات الحِثية والفينيقية والكنعانية، حفظًا لاستقلالها النوعي، تدفع الجزية وتقدِّم الجنود لحكومة فرعون.

يُثبِت ذلك ما اكتُشِف في تل العَمَرْنة على شاطئ النيل سنة ١٨٨٧ للمسيح، من الرسائل المكتوبة على قطعٍ من الآجُر، المرسلة من ملوك سورية وفلسطين إلى ملوك مصر: «إننا نقدِّم الخراج طائعين، وندعو لفرعون بالنصر المبين.»

وقد طالما تطوَّرت السيادة المصرية في هذه البلاد، فكانت تضعف وتقوى، وتتضاءل وتتجسَّم، تبعًا لما يكون من حال الدولة السائدة، أو من أحوال الدول المُسَوَّدة؛ ففي عهد رعمسيس الثاني مثلًا، كان الملوك الحِثيون والفينيقيون والكنعانيون والعبرانيون يدفعون الجزية ويقدِّمون الجنود صاغرين. وفي عهد سليمان الحكيم اضطرَّ فرعون أن يصاهر سيد أورشليم وملك يهوذا، ليظلَّ هذا مواليًا له.

بعد ذلك تضاءلت السيادة المصرية في هذه البلاد، واستمرَّت كذلك إلى أن جاء من وراء الفرات الفاتحون الآشوريون في القرن التاسع قبل المسيح،٢ فتنازعوها والفراعنة، وتطاحنوا في سبيلها التي لم تكن لأهل البلاد غير سبيل العبودية.

وكان الفينيقيون أول مَن سلَّموا للآشوريين، ثم استعان الإسرائيليون بالفاتحين على أهل دمشق، الذين كانوا يشنُّون عليهم الغارات، فصاروا لقاء تلك المساعدة يدفعون الجزية لملك آشور.

ثم اتَّحد ملك إسرائيل وملك دمشق (٧٣٣ق.م) على آخر ملوك يهوذا، فاستعان هذا بالآشوريين عليهما فأعانوه، ووضعوا بعد ذلك على رقبته النير، فأمسى الملك أميرًا يدفع الجزية إلى سيد البلاد الأكبر ثغلات فلازر.

كذلك كان الفاتحون في ذلك الزمان ينصرون ملكًا على ملك، وأميرًا على أمير، ليتمَّ لهم النصر على الجميع. ليس في سياسة الفاتحين والمستعمرين شيء جديد.

وفي العَقد الأخير من القرن السابع (٦٠٧ق.م)، زحف الفرعون نخو غازيًا سورية، ليعيدها إلى حوزة مصر، فاستولى على القسم الجنوبي منها، ولكن نبوخذ نصر ملك بابل جاء بعد عشر سنوات يُخرِج المصريين من البلاد، فالتقى عندما وصل إلى قرقميش، عاصمة الحِثيين الأولى، بملك مصر، فالتحم الجيشان هناك (٥٩٧)، وكانت الغلبة للبابليين.

استمر بعد ذلك نبوخذ نصر في حملاته، فاستولى على سورية وعلى مملكة يهوذا، وظلَّت السيادة البابلية عزيزة في البلاد ستين سنة؛ أيْ منذ وقعة قرقميش إلى حين سقوط بابل (٥٣٨) بيد الفرس؛ فيكون الاستيلاء الآشوري البابلي قد دام في سورية نحوًا من ثلاثمائة سنة.

أما العرب فلا ذِكْر لهم في تاريخ سورية قبل عهد الآشوريين،٣ أقول هذا على احترامي للأستاذ كرد علي، الذي يريد أن يُنزِلهم في بلاد الشام قبل كل نازل حتى قبل الكنعانيين. بيد أن المؤرخ رولنسون يقول إنه كان للعرب في بلاد الكلدانيين، ما بين النهرين، مُلك دام مائتين وخمسًا وأربعين سنة (١٥٤٣–١٢٩٨ق.م)، ولا يقول أكثر من ذلك.

وقيل إن دولة الرعاة في مصر (١٩٠٠–١٥٢٥ق.م) كانت دولة عربية، ولكنها لم تكن على شيءٍ من الحضارة، وقد كان عهدها الطويل فظيعًا في شطره الأول، وعقيمًا في أطواره كلها. فلا عجب إذا كره المصريون الملوك الرعاة، وقام عليهم الفرعون آموسيس، مجدِّد النهضة الوطنية، فأخرجهم من البلاد (١٥٢٥)، وزحف بعد ذلك إلى سورية يؤدِّب السوريين لظنه أن الرعاة منهم، فكان فاتحًا مظفَّرًا.

ومن المؤرخين من يقول إن الملوك الرعاة سوريون، ولا فخر، فقد أقاموا في مصر نحوًا من أربعمائة سنة، وهم يأكلون من طيباتها، ويفسدون ويخرِّبون، وما أكلت سورية بسببهم غير النبوت وخبز العبودية.

١  أول مَن غزا سورية في النصف الأول من القرن السابع عشر، هو الفرعون طوطمس الأول، الذي استولى على قسمٍ من البلاد، ثم هاجمها المصريون بقيادة رعمسيس الأول فوسَّعوا سيطرتهم عليها. وبعد ذلك؛ أيْ في عهد رعمسيس الثاني المزبور اسمه على صخرةٍ عند مصب نهر الكلب، شمل الاستيلاء المصري البلادَ كلها (إن الآثار المصرية التي اكتُشِفت حديثًا في تل بيسان هي من هذا العهد)، ثم أخذت تضعف سلطة الفراعنة لِمَا اعترى ملكهم من الفساد، ولِمَا حلَّ به من دولة الرُّعاة وغيرها من شرور التقسيم، فقام عليهم الحِثيون وأخرجوهم من فينيقية وفلسطين. إلا أنهم عادوا فاستولوا على القسم الأكبر من البلاد في عهد آموسيس مجدِّد النهضة الوطنية.
٢  أوَّل مَن غزا سورية من ملوك آشور هو شلمناصر الثاني، وذلك في بداية النصف الثاني من القرن التاسع. وأوَّل مَن بسط سيادة آشور على قسمٍ منها هو شلمناصر الثالث، ثم ثغلات فلازر الرابع الذي استولى على البلاد كلها (٧٣٣ق.م)، ثم سرجون الذي تغلغل في البلاد العربية، فوصل إلى الجوف، وأدَّب قبائل العرب التي كانت تقطع الطرق على القوافل. ثم سنحاريب المزبور اسمه ورسمه على صخرة عند مصب نهر الكلب. وظلَّ ملوك آشور مسيطرين على سورية جمعاء، إلى أن سقطت دولتهم نينوى بيد البابليين، فجاء إذ ذاك نبوخذ نصر ملك بابل يفتح البلاد، فقضى على ما تبقى فيها من السيادة المصرية (٥٩٧)، وحمل على مملكة يهوذا فحطَّمها، كما هو مدوَّن في التوراة، وجلا إلى بابل عشرة آلاف من أهل أورشليم.
٣  جاء في كتاب «البادية العربية» للمستشرق النمساوي المدقِّق الأستاذ ألويز موزيل Arabia Deserta, by Aloes Musil، المطبوع بنيويورك في سنة ١٩٢٧ على نفقة الجمعية الجغرافية الأمريكية، أن أول مرة ذُكِر اسم العرب في تاريخ سورية هو في أنباء شلمناصر الثالث، الذي غزا سورية سنة ٨٥٤ قبل المسيح، وقد كان يومئذٍ للعرب مملكتان أو إمارات على ما يظهر، الواحدة لعرب القِدار شرقي دمشق في نواحي تدمر (منازل عنزى اليوم)، والأخرى لعرب النبط في الجوف بوادي سرحان؛ أيْ في دومة الجندل.
وقد حارب شلمناصر هندبة ملكة الأنباط، عندما جاءت بألف هجَّان تنجد ملك دمشق عليه (٧٣٨)، وجاء في أنباء ثغلات فلازر ذِكْر زبيبة ملكة العرب التي خَلَفَتِ الملكة هندبة، والتي قدَّمت لثغلات بعدئذٍ الجزية.
وفي أنباء سرجون عن حملته سنة ٧١٥، ذُكِرت أسماء أربع قبائل عربية تغلَّب عليها، وجاء بالأسرى فأنزلهم في السامرة. ثم حمل سنحاريب (٦٨٨) على تلحونة، الملكة العربية، ملكة الأنباط، فلم تستطِع محاربته، فتركت خيامها ولاذت بقصرٍ في دومة الجندل.
وكان القُوَيطع ملك القِدار قد عصى ملك آشور، فحمل عليه إسرحدون فكسره وغنم أمواله، وسبى ربَّ أو صنم القبيلة المسمَّى «الطلسمين»، فعادت قِدار إلى الطاعة تقدِّم الجزية من ذهبٍ وفضة ولبان وحجارة كريمة لملوك آشور.
وجاء في أنباء آشور بنوبال في حملته التاسعة على سورية، ما يدل على أن القِدار والأنباط اتحدوا على الآشوريين ولم يقوَوْا عليهم، فقد شتَّت جيش آشور أولئك العرب، وساق أموالهم — أيْ أغنامهم وجمالهم — إلى دمشق، وسبى أمَّ القُويطع وأخته وامرأته، وسبى كذلك أصنام القبيلتَيْن؛ فأذلَّ العرب، فأمسَوْا بلا معين.
كل هذه الأخبار منقولة عن الأنصاب التي عثر الأثريون عليها في بابل، والتي قرأها وحلَّ رموزها الأثريون رولنسون وونكلار ودلتش وغيرهم Rawlinson, Winckler, Delitzsch من كتاب «البادية العربية»، صفحات ٤٧٧–٤٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤