الفصل السادس

بنو غسان والرومان

كانت العصبيات متأصِّلة في هذه البلاد السورية عندما استولى عليها ملوك آشور، وقد استخدموها غير مرة لأغراضهم، كما فعلوا عندما استنجدهم الإسرائيليون على ملوك دمشق، وعندما استعان بهم ملك يهوذا على خصمَيْه ملكَي دمشق وإسرائيل.

وكانت تلك العصبيات جنسية ودينية معًا، فتعصَّب الفينيقي لآدونيس، والإسرائيلي ليهوه، والدمشقي لرمَّان، والكنعاني للبعليم، ثم جاءهم الفرس بآهورا وزرادشت، والسلوقيون اليونان ببرلمانٍ من الأصنام، والأنباط بأربابٍ من الخشب والصوان، ولسان حال الحكيم في ذلك الزمان يقول:

كلٌّ يعظِّم دينه
يا ليت شعري ما الصحيح؟

ثم جاء من يجاوب ذاك الحكيم جوابًا فلسفيًّا لاهوتيًّا. جاء بولس العبراني، أحد تلاميذ يسوع الناصري، الذي ظهر في الجليل، يقول: إنما الدين الصحيح هو هذا الذي على لساني وفي قلبي، ولا دينَ صحيحَ سواه … كان في البدء الكلمة، وكانت الكلمة … إلخ.

أغاظ الرسول بولس الأنباط والآراميين بدمشق، فحاول عامل الحارث ملك البتراء أن يقبض عليه (كورنتيوس ١١:  ٣٢)، فتدلَّى من الشباك وفرَّ هاربًا، لم يتنصَّر الأنباط في بادئ الأمر؛ لأنهم كما ظهر كانوا موالين يومئذٍ للرومانيين.

ثم جاء من البلاد العربية، من أقاصي الجنوب في شبه الجزيرة، قوم من عرب الأزد، حَكم عليهم بالهجرة سيلُ العرِم، فنزلوا في بلاد الشام، «وانضافوا إلى ملوك الروم»١ كما يقول المسعودي: «فملكوهم، بعد أن دخلوا في دين النصرانية، على مَن حوى الشام من العرب». وأوَّل هؤلاء المتملكين عرب تنوخ، وأول ملوك تنوخ النعمان بن عمرو بن مالك.
«ثم وردت سليح الشام فتغلَّبت على تنوخ وتنصَّرت، فملكها الروم على العرب الذين بالشام.» وبعد ذلك جاءت غسان٢ فكانت المتفوقة المتغلبة على سليح وتنوخ، والغساسنةُ موصوفون بالمروءة والذكاء، والدهاء والإقدام. ولا غرو، فالنكبات تفل من الشكائم، وتعلِّم الهوادة في سبيل السيادة، والتساهل في سبيل العيش.

تنصَّر بنو غسان فملَّكهم الروم على العرب، وكان أول ملوكهم جفنة بن عمرو، وأشهرهم الحارث، وكانت منازلهم بالشام. أما جميع ملوك جفنة من آل غسان فاثنان وثلاثون ملكًا لبثوا في ملكهم نحو ثلاثمائة وخمسين سنة.

بعد أن أباد الرومانيون دولة الأنباط، شدوا النير على أهالي هذه البلاد، فاضطروا أن يقيموا الحاميات الكبيرة في المدن، ليعزِّزوا سيادتهم فيظل الاستعمار وطيد الأركان، ولكنهم كانوا يحتاجون إلى الجنود للحروب والفتوحات في أوروبة وأفريقية، وقد رأوا ما يراه ساسة اليوم الاستعماريون، وهو أن شراء السيادة بالمال أو بالألقاب أبخس جدًّا من نيلها وتعزيزها بالسلاح؛ لذلك بدَّلوا الاستعمار بنوعٍ من الانتداب، أو أنهم عادوا إلى خطتهم السابقة لعهد الإمبراطور تراجان.

وكان أمراء العرب من تنوخ وسليح وغسان — خصوصًا غسان — قد تنصَّروا، ولنا أن نقول: «تَرَوْمَنُوا»؛ أي اقتبسوا بعض عادات الرومان، وتخلَّقوا ببعض أخلاقهم، كما يتفرنج بعض الناس في هذا الزمان. وقد سَرَّ ذلك الرومانيين، فقرَّبوا منهم كبار الغساسنة وأمَّروهم على بلاد الشام.

وكذلك فعل ملوك فارس بالعرب الذين نزحوا من اليمن إلى العراق، فنزلوا مكانًا هناك سموه الحيرة، التي صارت بعدئذٍ مقام الملوك اللخميين؛ أي المناذرة من آل النعمان بن المنذر. وكان المناذرة العرب بيد الأعاجم الفرس مثل الغساسنة العرب بيد الأعاجم الرومان، وكان الفرس أعداء الرومان، فصار اللخميون أعداء الغساسنة!

أجل، قد أقام الرومان ملوكًا من غسان ليمكِّنوا السيادة الرومانية في البلاد، وليقاوموا بهم أعداء رومة وبيزنطية، بل أقاموهم ملوكًا ليردُّوا عن سورية إغارات اللخميين وغزوات الفرس، فاحترب الأخوان الغساني واللخمي من أجل الأجنبي ابن رومة.

وكان الواحد تحت الانتداب الفارسي، والآخر تحت الانتداب الروماني.

أجل، قد كان الرومان والفرس يصطنعون ملوكًا من أولئك العرب أجدادنا، كما تصطنع دول الفرنج ملوكَ هذا الزمان.

أنتِ سورية بلادي.

أنتِ عنوان الفخامة!

١  قد أطلق العرب اسم الروم على الرومان وعلى مَن حكموا في القسطنطينية.
٢  قال أبو الفداء إن قومًا من اليمن من بني أزد (الذين يمُتُّون إلى كهلان بن سبأ) تفرَّقوا من اليمن بسيل العرِم، ونزلوا على ماء في الشام يُقال له غسان فنُسِبوا إليه. وغسان هذه قرية من قرى حوران إلى الجنوب الشرقي من دمشق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤