داء الكلام
هنالك أمرٌ آخر يدعو إلى قلقي على مستقبل نهضتنا … إن أول شيءٍ يحزنني حقيقة — وأرجو أن يكون قد استرعى نظرك على الأقل — هو أن «الكلام» له عندنا دائمًا كل القيمة، أما «العمل» فلا يسأل أحدٌ عنه! … إن «الشكل» هو الذي يعنينا ويخلب منا اللُّب … أما «الجوهر» فلا نكاد نلتفت إليه! … إن «الوسيلة» تنقلب عندنا دائمًا إلى «غاية» … لعلك قرأت في كتابي «يوميات نائبٍ في الأرياف» كيف يهتم رجال الضبط أحيانًا بتنميق تحرير المحاضر، وملء القسائم أكثر من اهتمامهم بالقبض الفعلي على الجُناة … ولعلك رأيت في محيط حياتنا العام كيف أن عشرين عامًا قد مضت على مصر، ونحن لا عمل لنا إلا الصياح بملء أفواهنا هاتفين بكلمات الحرية والاستقلال! … ولقد نبذنا كل شيء، وتركنا كل عملٍ من أعمال النهضة الحقيقية، جلسنا نتقاذف أقوالًا ونُردد كلمات … إلى أن شاء القدر آخر الأمر أن ينقذنا من هذا التكاسل والقعود، فقال:
«هاكُم الاستقلال!»
فقلنا:
«هات!» ثم أخذنا هذه الكلمة، وجلسنا كما كنا، لا ندري ماذا نصنع بها … نحن نقع دائمًا في الحيرة كلما تركتنا الظروف وجهًا لوجهٍ أمام العمل المنتج، وكأننا لا نجد فرجًا ولا مخرجًا إلا في الصياح والجدل! إني لأخشى أن تظهر في الأفق كلماتٌ أخرى، أو أن نخترع موضوعًا جديدًا للتصايح، يشغلنا من جديد عن المُضي الجدي في حركة النهوض المنشود!
آه … العلة كلُّها ها هنا … إن روح العمل وعبقرية الخلق ثمار لم تلقِ بعد بذورها في أرض مصر! … حاجتنا شديدةٌ إلى هذا الصنف من رجال العمل، الذين لا يصرفون عن الخلق والبناء شيئًا في الوجود! … إنك ولا ريب تذكر «نابليون» في غزوته لروسيا، وكيف خذله البرد والجليد، غير أني أريد منك أن تذكر ماذا فعل هذا الرجل عندما وجد نفسه محصورًا في تلك الأصقاع، لا يدري ماذا يفعل؟ … أستغفر الله! … إن الرجل العظيم يعرف دائمًا ماذا يصنع، ولا يطيق مطلقًا أن يقعد دون أن يخلق شيئًا؛ فهو لم يُنفق وقته في صياح، ولم ينتظر الغد مستلقيًا على ظهره، ولكنه شمَّر في الحال عن ساعديه للعمل، وجعل وهو في كربه وضيقه يفكِّر في إصلاح بلاده، ويضع بالفعل وهو بعيدٌ عنها، الأسس اللازمة لتنظيم الحركة الفكرية والاجتماعية فيها، وكان من بين تلك المنشآت مشروع «الكوميدي فرانسيز»، إحدى منائر الثقافة الفرنسية في العالم، وكذلك فعل هذا الرجل في «مصر»، يوم حطم خصومُه أسطولَه وانقطعت صلته بوطنه، فلم يضعف عزمه، ولم يفتر روح العمل فيه وقال: لِمَ لا أصنع في «مصر» حضارة أخرى؟
وشرع من فوره يبني دعائم المعاهد العلمية، ويضع أحجار النظام والاستقرار لطرائق الحكم وأسباب العمران! … ولكن، مَن المسئول عن موت روح العمل المنتج في هذه الأمة … أهم رءوسها الذين عودوها سياسة الكلام … أم هي الأمة نفسُها التي لا تحبُّ ولا تحتمل بعدُ غير هذا الصنف من الطعام؟!