الفصل الثالث

في لاهور إلى سنة ١٩٠٥

انتقل الشاب الذكي الطُّلَعة الشاعر الذي فاق أترابه في المدارس، انتقل إلى لاهور حاضرة ولاية بنجاب وإحدى مدن الهند الكبرى. وهي أول مدينة في الهند اتخذتها دولة إسلامية دار مُلك. صارت عاصمة الدولة الغزنوية حينما غُلِبت على أفغانستان فلم يبق لها إلا ما فتحَته من أرض الهند. وبقيت هذه المدينة الكبيرة في مقدمة مدن الهند حضارةً وعلمًا وفنًّا.

وكانت حين قصد إليها إقبال قبل نصف قرن، مباءة علمٍ وأدب، تعمل مجامعها في نشر الأدب الأردي وإحلاله محل الأدب الفارسي. وتألَّفت فيها مجامع أدبية تدعو بين الحين والحين إلى محافل ينشد فيها الشعراء عيون أشعارها، ويُسمَّى هذا مشاعرة، والمشاعرة سُنَّة شائعة في باكستان والهند حتى اليوم.

•••

دخل إقبال كلية الحكومة في هذه المدينة؛ ليُتِم تَعلُّمه وجدَّ في الدرس كدأْبه. وكان موضع الإعجاب في ذكائه وعلمه وأدبه.

ومما يُؤْثر عنه في ذلك الحين — وهي أثارة ذات دلالة بليغة — أنه أخذ على أحد علماء الدين كذِبًا فبلغ من نفسه هذا المنكر. فلبث أيامًا مُكتئبًا حتى سأله أستاذه توماس آرنلد فقَصَّ عليه القصة. فقال الأُستاذ: سترى كثيرًا من هذا في حياتِك.

استمر إقبال في دراسته حتى نال الدرجة التي تُسمى في نظام التعليم الإنكليزي B. A. وجلَّى في امتحان العربية والإنكليزية، ونال جوائز التفوق وذلكم سنة ١٨٩٧م.
ثم تابع الدراسة إلى درجة M. A. «أستاذ في الفنِّ» في الفلسفة حتى أتم دراسته مُجلِّيًا نائلًا جائزةً أُخرى من الكلية.

وتلمذ إقبال في هذه الكلية لأستاذ الفلسفة الإسلامية السير توماس آرنلد.

توماس آرنلد

ويحبَّب إليَّ أن أُسجِّل ذِكرًا عن هذا الأستاذ الجليل وفاء بحقه على إقبال وعلى المسلمين كافَّة:

كان أستاذ العربية في جامعة لندن، ثم أستاذ الفلسفة في جامعة عليكره فكلية الحكومة في لاهور.

وكان واسع العلم ثبْتًا متواضعًا منصفًا نصيرًا للمسلمين محبًّا للحضارة الإسلامية.

وقد ألَّف كتابه «دعوة الإسلام»١ ليُبيِّن أن الإسلام انتشر بالدعوة لا بالقوة، ففصَّل تاريخ انتشار الإسلام ولا سيَّما في الجهات التي لم يكن للمسلمين فيها سلطان. وقد أخبرني أنه تعلَّم اللغة الهولندية؛ ليقرأ السجلَّات التي تُبيِّن انتشار الإسلام في جزيرة جاوه وما يتصل بها. وكتابه هذا وحيدٌ في بابه لم يُؤَلِّف مثله مسلمٌ ولا غير مسلم.

ولما ألغى مصطفى كمال الخلافة كتب كتابه «الخلافة»، وهو شاهدٌ بسعة علمه ونفاذ فكره.

وقد عرفته في لندن في مدرسة اللغات الشرقية، فأنست به وأحببته وجرَّأني على صحبته لينُ جانبه ودماثة خُلُقه.

وكنت أسألُه عمَّا يُشكل عليَّ وأنا أكتب رسالتي في «التصوف وفريد الدين العطار».

وقد عرفتُ فيه التواضع والتثبت، فكان يُحِبُّ أن يقول: لا أدري، إن لم يكن على بيِّنة مما يُسأل عنه. وكان كثيرًا ما يسألني حين أُحدِّثه في أمر: أأنت على يقين من هذا؟

وكان يُحبُّ العادات الإسلامية ويميلُ إلى أزيائنا وسُنَنِنا. أذكر أني تعشَّيتُ معه في داره، فبدأ الطعام قائلًا: بسم الله، وودَّعني حين الانصراف قائلًا: في أمان الله.

وجاء إلى مصر بدعوة من جامعة القاهرة، وآثر النزول في حلوان، وهي دار إقامتي، ثم انتقل إلى المعادي. وكنت أقابله بين الحين والحين، وكان يزورني في ليالي رمضان؛ التماسًا لسماع القرآن.

وذهبتُ إليه مرةً في الفندق الذي نزل به في حلوان، فأخرج من حقيبته عمامة وطربوشًا، وقال: أرني كيف تُكوَّر العمامة، ثم قال: أَرِني أُوثِر العمامة والجبة وأَشعرُ حين ألبسهما أني في زيِّ أستاذ كما أشعرُ أني صبيٌّ حين ألبس هذه الملابس. وأشار إلى الملابس الإفرنجية التي كان يلبسها.

وأذكر أنَّا اجتمعنا على مائدة في دارنا ومعنا الكبتن كننج الإنكليزيُّ، وكان هذا مَعنِيًّا بالبلاد العربية. وقد سعى في تأييد الأمير عبد الكريم حينما حارب الإسبان في الرِّيف، فقال لي كننج: قرأتَ التاريخ فأنبِئْني أيُّ الفريقين كان أكثر سماحة وسجاحة المسلمون أم النَّصارى؟ قلتُ: يُجيب هذا السؤال أستاذنا توماس آرنولد. فقال الأستاذ فورًا: لا ريب أن المسلمين كانوا أكثر تسامُحًا من النصارى.

وقال لي يومًا وقد ذكرنا إقبالًا: إنه تلميذي. قلتُ: هو إذًا شاب. قال: أتحسبه شابًّا بأنه كان تلميذي. أنت لا تدري كم سنِّي.

هذه ذِكَر لا تُعرِّف بالسير توماس آرنولد، ولكنِّي أذكرها اعتزازًا بها، وحُبًّا لِذكر هذا الأستاذ الكريم أستاذ إقبال، ولعلَّ أحد الكاتبين عنه يجد فيها فائدةً.

هذا الأستاذ عرف إقبالًا وقدَّر مواهبَه، فقرَّبه وحرَّضه على الاستزادة من العلم، وتوكَّدت بينهما صداقة، صداقةُ التلميذ المتطلِّع البارِّ والأستاذ العالم المخلص.

فلما فارق آرنولد لاهور راجعًا إلى وطنه نظم تلميذه الوفيُّ قصيدةً عنوانها: «نُواح الفراق»، أعرب فيها عن حبه أستاذه وإكباره إياه وتحسُّره لفراقه.

بعد إتمام الدراسة

فرغ إقبال من تحصيل العلم في الكلية، فاختير لتدريس التاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية في لاهور.٢ ثم نُصِّب لتدريس الفلسفة واللغة الإنكليزية بكلية الحكومة التي تخرَّج فيها.

وقد نال إعجاب تلاميذه وزملائه بسعة علمه وحسن خلقه، وسداد رأيه، واتجهت الأبصار إليه، وذاع ذكرُه حتى صار من أساتذة لاهور النابهين.

وفي ذلك الحين دخل في خدمته خادمه الوفيُّ علي بخش، وأَستأذنُ القارئَ في التعريج على علي بخش، خادم إقبال الأمين الذي صحبه طول حياته، وصحب أولاده بعد مماته. وملازمة هذا الرجل إقبالًا منذ دخل في خدمته حتى فرَّق بينهما الموت، يدل على لين إقبال ويُسر معاملته. رُوي عن أنس بن مالك — رضي الله عنه — قال: «خدمتُ النبيَّ عشر سنين، فما قال لي في شيء فعلتُه: لِمَ فعلتَه؟ ولا في شيء تركتُه: لم تركتَه؟»٣

وقد حدَّثني بعض من صحبوا إقبالًا أو زاروه أنه كان يجلس في داره فيدخلُ عليه من يشاء فيسأله عما يشاء، وعلي بخش قريب منه يُلبِّي دعوتَه ويقضي ما يأمرُه به ويحرص على أن يمُدَّ أرجيلته بالنار كلما خَبَت. وكان الشاعر مولعًا بها لا يكاد يفتر عنها في مجلسه.

واقترن ذكر علي بخش بكثيرٍ من سيرة إقبال. وقد حرصتُ على أن أراه في دار إقبالٍ حينما ذهبتُ إلى لاهور فلقيته، وأخذتُ صورتي معه في ربيع السنةِ الماضية. وراسلتُه بعدُ من كراجي.

في محافل الأدب في لاهور

لبث الشاعرُ النابغ في لاهور عشر سنين، منذ قدِم إليها من سيالكوت، إلى أن سافر إلى أوروبا.

أتم دراسته في كلية الحكومة، ثم درَّس في الكلية الإسلامية فالكلية التي تخرَّج فيها. فعرَفَت مدارس لاهور ومجامع الأدب فيها شابًّا وسيمًا قويًّا يتَّقِد ذكاءً وشوقًا إلى المعرفة، ويتطلع إلى التزود من العلم إلى غير نهاية.

وقد دوَّى صوت إقبال في محافل الأدب ينشد قصائده. وحرصتِ الصحف على نشر شعرِه. وأيْقن الشعراء والعلماء أن لهذا الشاب شأنًا، ولكن لم يحزروا الشأو البعيد الذي يبلغه الشاعر؛ إذ كان شأوًا لا يدركه إلا إقبالًا وقليلٌ من أمثاله في تاريخ البشر.

وأول قصائده الرنَّانة التي أُلقيت في جمعٍ حاشد قصيدته التي أنشدها في الحفل السنوي لجماعة حماية الإسلام في لاهور «أنجمن حماية إسلام» سنة ١٨٩٩ وعنوانها أنين يتيم «ناﻟﮥ يتيمي»، وفي السنة التالية أنشد في حفل هذه الجماعة قصيدة يخاطب فيها يتيم هلال العيد.

ومن القصائد التي نبَّهت الناس إليه قصيدة همالا، التي أنشدها في أحد المحافل الأدبية. وقد سأله كثيرٌ من أصحاب الصحف أن ينشروها فأبى، ثم أذِن بنشرها في صحيفة المخزن سنة ١٩٠١ ثم نُشرت قصائده في صحف أُخرى من بَعدُ.

وكذلك أنشأ إقبالٌ في ذلك الحين قصائد تَعرَّض فيها للسياسة.

وترجم إقبالٌ في هذه المرحلة من عمره قصائد من اللغة الإنكليزية. ونشر أول كتابٍ له، وهو كتابٌ في الاقتصاد باللغة الأردية.

وفي هذه السنين كان يفكر في نظم ملحمة على غرار مِلتُن الشاعر الإنكليزي.

كتب إلى أحد أصدقائه سنة ١٩٠٣:

أنا منذ زمن طويل أنزع إلى أن أكتب على طريقة ملتن «الفردوس المفقود وغيره»، وأحسب أن الوقت قد حان. فما تمضي ساعةٌ هذه الأيام دون تفكيرٍ في هذا الأمر. لبِثْتُ أُفكر في هذا طول خمس سنين أو ستٍّ، ولكن لم أشعر بالنزوع إليه كما أشعر اليوم.

١  Preaching of Islam.
٢  Oriental College.
٣  هذا لفظ الحديث أو قريبٌ منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤