خلاصة أسرار خودي
أجملُ ما في هذا الفصلِ خلاصة آراء إقبال كما بيَّنها في هذه المنظومة وأكتفي بزهراتٍ من هذه الرياض، وقطراتٍ من هذه الحياض.
أعرضُ على القارئِ ما يُعرف بفلسفة إقبال وشعره معًا، شعره الذي يصوِّر به الفلسفة، ويعرض مباحثها في معرضٍ لم تألفْهُ، ولم يعهده الناس. ولا يُروِّضُ الفلسفة للشعرِ، ويُطوِّع الشعر للفلسفة إلا إقبالٌ وأمثاله، «وقليلٌ ما هم.»
(١) المقدمة
كان إقبال يشعر بأنه أتى العالم بمذهب جديد، ورأْيٍ بدعٍ، إن لم يكن اخترعه اختراعًا، فقد اخترع طرائقه وصُوره وجمع أجزاءَه وألَّفَ أشتاته، وأدرك صلة هذا المذهب بالإنسان، حياته ومماته، وآحاده وجماعاته، وبَيَّن صلتَه بالإسلام خاصة، فأتى بالعجب، واستولى على الأمد.
ومن أجل هذا يُعرب عن ثقته بنفسه، وتأثير كلامه، ويذكر طلوعه على العالم شمسًا جديدة، لا تعرف رسومه، ولا تألفها سماؤه وأرضه، ويتحدَّث عن نفاذ بصره إلى مكنون الحياة، وامتداد عينه إلى أسرار المستقبل، يقول في مطلع المنظومة:
•••
ليصدقني القارئ لقد أردتُ أن أُثبت هنا أبياتًا قليلةً تَنطق باعتداد إقبال بنفسه وشعوره برسالته، فلم أدر ماذا آخذ وماذا أدع، فكتبت هذه الأبيات كلها.
ولستُ في حاجة إلى أن أفسِّر للقارئ هذه الأبيات لأَدُلَّه على شعور إقبال بأنه أدرك أسرار الحياة، وبصُر بما في ضمير الغيب، وأنه رسالة الغد الآمل إلى اليوم اليائس، والمستقبل العزيز إلى الحاضر الذليل.
جلال الدين الرُّومي
يقول إقبال في مقدمة هذه المنظومة: إن جلال الدين الرُّومي هو الذي أيْقظَه ونبَّهَه، ودعاه إلى أن يسلك هذه السبيل ويقصد هذا القصد، ويُشيع في الناس بيانه ويُبلغهم رسالتَه. وهو يعترف لجلال الدين بالإمامة في مواضع كثيرة من كتبه. ولما نظم منظومته الخالدة جاويد نامه وقص فيها سفره في الأفلاك السبعة، جعل جلال الدين دليله في هذا السفر.
يقول في مقدمة أسرار خودي:
ويقول بعدُ إنه بات شاكيًا نائحًا، فأخذه النَّصَب والنوم، فلاح له جلال الدين:
إلى أن يقول:
وبهذا البيت ينتهي كلام جلال الدين كما حكاه إقبال. ويقول الشاعر بعده مُبينًا أثر هذا الكلام في نفسه:
رأى القارئ من مقدمة أسرار خودي المنثورة ومن جدال إقبال ومخالفيه، أنه خالف الصوفية في وحدة الوجود وإنكار الذَّات، وسمى التصوف المتضمن هاتين العقيدتين تصوفًا غير إسلامي. ويراه هنا يعترف بإمامة الرومي، ويُقرُّ له بالفضل بما أوحي إليه هذه الطريقة. وقد كرر هذا في مواضع من دواوينه الأخرى.
ولا يتسع المجال هنا لبيان ما بين جلال الدين وإقبال من التشابه، وأسباب إعجاب إقبال بجلال الدين وإكباره إياه. ولعلِّي أُبيِّنُ هذا بعد الفراغ من بيان فلسفة إقبال.
إقبال والإسلام
ويقول في المقدمة بعد حديث جلال الدين الرومي:
في هذه الأبيات يَذكر أنه بكى على الإنسان وأطال التفكير في أمره حتى اهتدى إلى سر الحياة. وفلسفة إقبالٍ في عمومها إنسانية، ومذهب الذاتية لا يخص واحدًا ولا جماعةً ولا أُمَّةً.
ويقول إقبالٌ بعد هذه الأبيات:
وهنا يذكر الأمة الإسلامية ويقول إنه غبار أقدامها. وحب إقبال الإسلام، وإعجابه بتاريخ المسلمين، ورؤيته في العرب الأولين المثلَ الأعلى في نضج «الذاتية»؛ تلقى قارئ شعره حيثما قلَّب صفحات دواوينه، وهذه الأمة خصها إقبال بتطبيق فلسفته، فهي فلسفة إنسانية تجد موضوعها ومثلها وغايتها في أمة الإسلام.
وسأعود إلى هذا بعدُ إن شاء الله.
(٢) فصول أسرار خودي
- (١)
أصل نظام العالم من الذاتية، واستمرار أعيان الوجود موقوف على استحكام الذاتية.
- (٢)
حياة الذاتية بتخليق المقاصد وتوليدها.
- (٣)
تستحكم الذاتية بالمحبة والعشق.
- (٤)
ضَعْف الذاتية بالسؤال.
- (٥)
إذا استحكمت الذاتية بالمحبة والعشق سخَّرت قوى العالم الظاهرة والباطنة.
- (٦)
حكاية في معنى أن مسألة نفي الذاتية من مخترعات الأقوام المغلوبة لتضعف أخلاق الأمم الغالبة من طريقٍ خفيَّة.
- (٧)
في معنى أن أفلاطون اليوناني — الذي أثَّرَ كثيرًا في أفكار الأمم الإسلامية وآدابها — ذهب مذهب «الغَنَم»، والاحترازُ من خيالاتِه واجبٌ.
- (٨)
حقيقة إصلاح الشعر والآداب الإسلامية.
- (٩)
تربية الذات لها ثلاث مراحل: المرحلة الأولى الإطاعة، والثانية ضبطُ النَّفس، والثالثة النيابة الإلهية.
ويتفنَّنُ إقبالُ في البيان في هذا الفصل التاسع، فيَقُص قِصصًا حقيقيةً أو خياليَّةً لتصوير مذهبه منها:- (أ)
حكاية شاب ذهب إلى الشيخ علي الهجويري شاكيًا جَوْر أعدائه — وقد بَيَّن له الشيخ أن العدوَّ له عليه فضلٌ بما يُنَبِّه قواه ويقوِّي ذاته.
- (ب)
حكاية الطائر الذي أنهكَه العطش — وجد ماسة فلم يستطع التقاطها، ثم وجد قطرة ماءٍ فالتقطها؛ الماسة مثَل الذات القوية، وقطرة الماء مثَل الذات الضعيفة.
- (جـ)
حكاية الشيخ والبرهمن، ومحاورة نهر الجنجا وجبل هِمالا في معنى أنَّ تسلسل حياة الأمة من الاستمساك بسننها.
- (أ)
- (١٠)
في بيان أنَّ مقصد حياة المسلم إعلاء كلمة الله، وأنَّ الجهاد إن كان سببه «جوع الأرض» فهو حرامٌ في الإسلام.
- (١١)
نصيحة ميرنَجات النقشبندي المُسمَّى الأب الصحراوي التي كتبها لمسلمي الهند.
- (١٢)
الوقت سيف.
- (١٣)
دعاءٌ «يختم به المنظومة».
نظرةٌ عاجلةٌ في هذه الفصولِ:
الذاتية
يبدأ المنظومة بالكلام عن الذاتية، أنها أصل الكون. يقول: هيكل الكون من آثارها، وكل ما ترى من أسرارها، إنها حينما أيقظت نفسها أظهرت عالم الفكر. مائة عالمٍ خفية في ذاتها. وغيرها مثَبت بأثباتها. بذرتْ في العالم بذر الخصومة، إذ حسبت نفسها غيرها — يعني أنها حقيقة واحدة اتخذت ذواتٍ مُختلفة فتباينت وتنافست، إلى أن يقول: تدمي مائة روضة لأجل وردة، وتُثير ألف نوحة لأجل نغمة، وتمنح فلكًا واحدًا مائة هلالٍ، وتكتب من أجل كلمة واحدة مائة مقالٍ. وعلة هذا الإسراف وهذه القسوة، خَلقُ الجمال المعنوي وتكميله — يعني أنَّ التكمل يقتضي فناء أشكال، وعدم صُور، وامِّحاء أطوار. فمائة روضة تنشأ لتكمل فيها وردة وهلُمَّ جرًّا.
وتصوير صعوبة التطوير وعسر التكمل، سبق إليه بعض شعراء الصوفية مثل: سنائي الغزنوي.
وظاهر أن الشاعر يريد قوة الحياة التي تتجلَّى في مظاهر مختلفة، وتتداولها أحوالٌ شتى، ولكنها الحياة المتعينة المُتشخصة في الذوات الكثيرة.
ثم يقول: حياة العالم من قوة الذات، فالحياة على قدر ما فيها من هذه القوة، فالقطرة حين تقوِّي ذاتها تصير دُرَّة، والجبل إذا غفل عن ذاته انقلب سهلًا وطغى عليه البحر. ويضرب الشاعر في هذا المعنى أمثالًا شعريَّة عدَّة.
ما هذا النَّفس الحيُّ؟ سيف. ما مسنُّ هذا السيف؟ الذاتية. ما الذاتية؟ سر الحياة الباطن. ما الذاتية؟ يقظة الكائنات. إنها ثَملة بالجلوة، ومُغرمة بالخلوة، إنها بحر في قطرة … إنها ظاهرة فيك وفيَّ، وهي بريئةٌ مني ومنك — يعني ليست مُقيَّدة بكون محدود. ماضيها الأزل، وآتيها الأبد. ليس لها ماض ولا آت يحدُّ …
تُغيِّر وسائل التحري، وتبدل منظرها بين حين وحين، والصخرة الثقيلة خفيفةٌ في يدها، والجبال رمال من ضربها، والسفر مبدؤها ومنتهاها، وهو السر من تقويمها. هي ضياء في القمر، وهي شرار في الحجر … وهي في هذا الكفاح منذ الأزل. وقد صُوِّرت كذلك في صورة الإنسان.
إن مستقر الذاتية قلبك، كما يحوي الفلك إنسان العين. وسم هذه الذاتية العيش الذليل، والعزة ماؤها السلسبيل.
أردت أن أعرض على القارئ صورًا للذاتية في شعر إقبال ليتأمَّل فيها. وما أردت أن أحجبه عن الشاعر بكلامي وبياني.
المقاصد والآمال
إن هذه الذاتية تحيا بخلق المقاصد والجدِّ في المسير إليها، وعلى قدر عظم مقاصدها تعظم، وعلى قدر المشقة التي تحتملها تقوى.
والأمل في شعر إقبال كله هو الحياة، والجهاد الدائب هو حافظ هذه الحياة. وإن قارئ إقبال لَيروعه إعظام إقبال الأمل، وتصويره إياه وإشادته بالعمل الدائب والجهد المستمر، بل يرى إقبال أن الجهاد في سبيل المقصد أعظم لذة في بلوغه:
ويقول في هذا الفصل من «أسرار خودي»:
بل يرى أن العقل نشأ من الأمل:
المحبة والعشقُ
العشق، عشق الأمل وعشق المثل الأعلى، يُشعل الذاتية ويظهر ما فيها من قوى. ومثل المسلم للعاشق هو الرسول صلوات الله عليه.
وإذا استحكم العشق لم يحُل بين الإنسان وأمله عقبة ولا مشقة، ولم تأخذه فيه رغبة ولا رهبة وسخر الإنسان قوى العالم.
ولا يتسع المجال هنا لتفصيل القول في العشق، عند الصوفية وعند إقبال. وفي الموازنة بين العشق والعقل وبين الفكر والذكر.
وقد صور إقبال هذا صورًا كثيرةً، ولم يملَّ من ذكره وتكراره. ويجده القارئ في هذه المنظومة «أسرار خودي» وغيرها، فليرجع إلى ترجمة هذه المنظومة، وليرجع إلى ديوانيه رسالة المشرق وضرب الكليم ومقدمتَيهما.
ولا تخلو فصول الكتاب الآتية من حديثٍ في هذا الشأن.
الذات تَضعف بالسؤال
الثقة بالنفس، والاعتداد بها، والاعتماد عليها، والاستغناء بها، يُقوي الذات. والشك فيها، والالتجاء بها إلى الناس، وحملها عليهم، يُضعفها.
يبدأ إقبال هذا الفصل بقوله يُخاطب المسلم:
ويضربُ مثلًا عمر — رضي الله عنه — إذ سقطت دِرَّته من يده وهو راكبٌ فنزل ليأخُذها، وأَنِف أن يسأل أحد الرجال أن يُناولَه درَّته.
ثم يقول: «لا تبغ رزقك من نعمة غيرك، ولا تستجد ماءً ولو من عين الشمس. واستعن بالله وجاهد الأيام، ولا تُرق ماء وجه الملَّة البيضاء.
طوبى لمن يحتمل الضرَّ من الحرور والظَّمأ، ولا يسأل الخضر كأسًا من ماء الحياة.»
نفيُ الذاتِ من اختراع الأُمم المَغْلوبة
يتحدث إقبال في هذا الفصل عن الأقوام المغلوبة كيف خدعت الأقوام الغالبة عن نفسها وزيَّنت لها نفْي الذات.
ويضرب مثلًا قطيعًا من الغنم تسلَّطت عليه الأسود، تصول عليها وتنال منها ما شاءت كلما شاءت.
ففكر كبش في أمر جماعة، فبدا له أن يُضعف في الأسود نزعة التغلُّب، والصولة، ويصرفها عن الاعتداد بالقوة؛ فادَّعى أنه نبيٌّ مرسلٌ إلى الأسود. ودعاها إلى الزهد والاستكانة وإنكار الذات. ونهاها عن أكل اللحم، وعلَّمها أنَّ الجنة للضُّعفاء، وأنَّ القوة خُسران مبين، وقال: «يا ذابح الشاة، اذبح نفسك، واغفل عنها إن تكن عاقلًا.
ويُصور الشاعر أثر هذه الدعوة في الأسود بهذه الأبيات:
مذهب أفلاطون وأثره في الآداب الإسلامية
يُنكر إقبالٌ — في كثيرٍ من أقواله — على أفلاطون مذهبه في عالم المادَّة وعالم المثال، ويُبيِّن سوء أثره في الحياة، ويقول إنه يدعو الناس أن يهجروا عالم الحس إلى عالم الخيال، وأن يفروا من هذه الحياة.
ويرى إقبال أن عالم المادة كائنٌ لا ريب فيه، وأن على الإنسان أن يقهره ويُسخِّره، ويجوزه إلى مقاصده، وأن في العمل لتسخير هذا العالم قوة النَّفس الإنسانية وارتقاءها.
يبدأ إقبالٌ هذا الفصل من أسرار خودي بقوله:
ويقول في هذا الفصل أيضًا:
ولا يتسع المجال هنا للقول في مذهب أفلاطون وتطوره إلى مذهب أفلوطين من بعدُ، وأثر هذا في المسيحيَّة وفي بعض مذاهب الصوفية.
وحسبُنا أن نقول: إنَّ إقبالًا يدعو إلى إدراك الذاتِ وتقويتها، وإلى العمل الدائب، والجهاد الذي لا يفتر. ويرى أنَّ الحياة في العمل والجهاد، والموت في الاستكانة والسكون. ويرى أنَّ عالم المادة كائنٌ لا خيال، وأنَّ عمل الإنسان تسخير هذا العالم، وفي الجهاد لتسخيره قوته وكماله.
وهذا مذهب يُخالف مذهب أفلاطون والمذاهب التي تفرَّعت منه في جُملتها وتفصيلها، ومذاهب فلاسفة الهند، ويخالف التصوف غير الإسلامي أو التصوف العجمي كما يقول إقبال.
حقيقة الشعر وإصلاح الآداب الإسلامية
بَيَّنت آنفًا أنَّ إقبالًا كتب أبياتًا عن حافظ الشيرازي يذم مذهبه ويحذر الناس منه، وأنَّه حذف هذه الأبيات بعد الطبعة الأولى، وأثبت مكانها أبياتًا في إصلاح الآداب الإسلامية.
استهلَّ الشاعر هذا الفصل ببيان الأمل وأثره في الحياة، صَوَّرَ هذا تصويرًا بليغًا جميلًا، كدأبه حين يتحدث عن الأمل في شعره.
ثم قال إننا نأمل ما هو حسن وجميل بل الحسن يخلق الأمل:
ثم يقول إن الشاعر يُدرك الجمال ويجلوه للناس، ويزيد الجميل جمالًا، ويزيد الفطرة بهجةً، ويدعو الأمة إلى الجميل ويحدوها إليه.
فإن لم يكن في الشاعر هذا الإدراك، ولم تُشع في شعره الدعوة إلى الخير والجمال والتغنِّي به وحفز الهمم إليه، ساء أثره في أمته، وحداها إلى الهلاك.
ويمضي في بيان أثر هذا الشاعر في أمته، إلى أن يقول:
ولا شك أنه يعني بهذا شعراء اللهو والمجون، وشعراء اليأس والتشاؤم، وشعراء العزلة والخلوة، وشعراء الفناء والسكر من الصوفية، وهي الأبيات التي كتبها مكان أبياتٍ ذكر فيها حافظًا الشيرازي كما قدمت.
وينتهي في هذا الفصل إلى دعوته دعوة الحياة والقوة والأمل والعمل والهمة والإقدام، يقول:
مراحل تربية الذَّات
لتربية الذات مراحل ثلاث: الطاعة، وضبط النفس، والنيابة الإلهية.
فأما الطاعة: فيضرب الشاعر فيها الجَمَلَ مثلًا، يسيرُ بأثقاله صابرًا في غير ضوضاء. ويقول إن الطاعة تجعل في الجبر اختيارًا. وإن الإنسان الحر يسخِّر هذا العالم ولكن يقيد نفسه بالشريعة.
وأما ضبط النفس: فيقول فيه إقبالٌ مُشبِّهًا النفس بالجمل أيضًا:
ويقول: إن الذي لا يحكم في نفسه حريٌّ أن يحكم عليه غيره.
ويرى أن ضبط النفس لا يكون إلى بنفي الخوف والشهوات.
وأن التوحيد المطلق ينفي عن النفس الاستكانة للمخاوف والمطامع.
وأما المرحلة الثالثة من مراحل تربية الذات، وهي النيابة الإلهية، فهي مرحلة يكون الإنسان فيها مسيطرًا على العالم، مُسخِّرًا قُوى الكون، نافخًا الحياة في كل شيءٍ، مجددًا شباب كل هرم، يهب الحياة بإعجاز العمل، ويجدد مقاييس الأعمال، ويرد العالم إلى الإخاء والسلام.
هذا الإنسان الذي يذكر القارئ بالإنسان الأعلى في تعليم نطشه الفيلسوف الألماني، وبالإنسان الكامل الذي تحدث عنه بعض الصوفية كعبد الكريم الجيلي، ذكره إقبال في مواضع كثيرة من شعره بوصف الرجل المؤمن «مرد مؤمن» وهو في العالم أملٌ وعملٌ، وإصلاح وعمران وسلام ووئام، لا تعجزه عقبة ولا تبعد عليه شقة.
وإنَّ الفطرة لتكدُّ فكرها، حتى تُنظم مثل هذا الإنسان في الحين بعد الحين.
يقول إقبالٌ في هذا الفصل:
إلى أن يقول مُخاطبًا هذا الإنسان المرجوَّ:
وكذلك يقص إقبال قصة الطائر الظمآن الذي حاول التقاط ماسة فلم يستطع، ووجد قطرة ماء فالتقطها، يضرب الماسة مثلًا للذات الناضجة المحكمة، والقطرة مثلًا للذات النيئة الضعيفة.
ثم يقص قصة الماس والفحم مثلًا للذات القوية والذات الضعيفة كذلك.
وينتقل إلى قصة أخرى فيها شكوى ناسك هندي إلى شيخ مسلم، أنه فكر في أقطار الأرض والسماء ولم يهتد إلى ما يطْمئن إليه، ونُصحُ الشيخ إياه بأن ينزل إلى الأرض مُفكرًا في نفسه وعيشه ويدع آفاق السماء. ويُبين له الشيخ أن في التمسك بالسنن، ولو كانت سنن الكفار، قوة للأمة واجتماعًا.
ثم يضرب مثلًا محاورة بين جبل همالة ونهر جنجا، ويقول على لسان النهر للجبل: ما جدوى الوقار والرفعة وأنت محروم من السير. إنما الحياة سيرٌ متصل ووجود الموج في تحرُّكه:
فأجابه الجبل:
مقصد حياة المسلم إعلاء كلمة الله والجهاد للاستيلاء على الأرض حرام
لا تظهر الصلة بين هذا الفصل والفصول السابقة لطول الاستطراد وكثرة الأمثال. فلْيذَّكر القارئ أن هذا الاستطراد وذاك التمثيل عقب الكلام في النيابة الإلهية، وقد وصف الشاعر نائب الحق بأنه خليفة الله في الأرض، إلى أوصافٍ أخرى كثيرة. فلما بلغ الغاية من البيان والتصوير، رجع يُبين أن هذا السلطان الذي يناله المسلم الحق ينبغي أن يكون لإعلاء الحق لا لفتح البلاد وقهر العباد.
يقول إقبال أول هذا الفصل:
إلى أن يقول: إنَّ الحرْب إن أردت بها صلاح الناس فهي خير، وإن رمت بها مالًا أو جاهًا فهي شرٌّ.
ثم يقص قصة الشيخ ميانمير أحد كبار الصوفية، إذ زاره أحد سلاطين الهند. وكان السلطان مولعًا بالحرب والفتح، وبينما السلطان يلتمس من الشيخ أن يدعو له بالنصر، تقدَّم أحد المريدين إلى الشيخ بدرهم قائلًا: كسبتُ هذا بكدِّي، وألتمس من الشيخ أن يقبله مني. فقال الشيخ للمريد: أعط هذا الدرهم سلطاننا، فهو أفقر الفقراء، وأحرص الناس على الاستجداء. كم أخرب بلادًا وقتل عبادًا ليشبع. قد بطش جوعه بالخلق، وأهلك الحرث والنسل.
نصيحة ميرنجات النَّقْشبندي لمسلمي الهند
لا يميز القارئ في هذا الفصل كلام ميرنجات من كلام إقبال. ولعلها كلمة موجزة أُثِرت عن الشيخ فبنى عليها إقبال هذا الفصل الرائع فكرًا وشعرًا.
إنَّ سر الحياة أن يغوص الإنسان في نفسه ثم يبرز منها كما تغوص القطرة في البحر فتصير لؤلؤة، وأن يجمع الشرار تحت الرماد فيصير شعلة تبهر الأبصار، وإن الحياة أن تجعل نفسك حرمًا لنفسك، وتبرأ من الطواف حول غيرك.
هذه المعاني كررها إقبال كثيرًا في شعره. هو يرى أن تقوى الذات، ويرى أن قوتها بأن تعرف نفسها، وتجمع قواها. وقد ضرب مثلًا باختفاء القطرة في البحر، والشرار تحت الرماد، قبل أن تصير القطرة لؤلوة، والشرارة شعلة.
طِرْ وحرِّر نفسك من جذب التراب، واحفظها من الهُوِيِّ إلى الأرض.
إن العلم إذا اتصل بالجسم فهو عدو، وإذا اتصل بالروح فهو صديق.
ويستطرد إلى القصة المعروفة في سيرة جلال الدين، قصته هو وشمس الدين التبريزي؛ إذ جادله شمس الدين في جدوى الفلسفة والعلوم التي كان يعلمها جلال الدين. واشتد الجدال بينهما كلٌّ يُفنِّد صاحبه. فهاج شمس الدين وألقى نظرات على كتب جلال فإذا هي تحترق.
وتبع جلال الدين شمس الدين فانقلب صوفيًّا إمامًا، وكتب كتابه الخالد «المثنوي»، وديوانه الرائع الذي نسبه إلى صاحبه فسمَّاه ديوان شمس تبريز.
اطلب ماء الحياة من بريق الخنجر، ومن فم التنين ماء الكوثر، ولا تبغ حرقة العشق في علم العصر، لا تطلب لذة الحق من كأس هذا الكافر.
إن محفل المسلم احترق بسراج غيره، ومسجده اشتعل من شرار الدير.
قد أجفل من سواد الكعبة كالظبي، فمزقت جنبه أسهم الصياد. إنَّ كعبتنا عامرةٌ بأصنامنا، وإن الكفر ليضحك من إسلامنا، وإن شيخنا قامرٌ بالإسلام في عشق الأصنام، واتخذ خيط مسبحته من الزنار، هو في سفر دائم مع مريديه، وفي غفلة عن حاجات أمته. الوعَّاظ والصوفية عبدوا المناصب، وأضاعوا حُرمة الملة البيضاء. واعظنا إلى بيت الصنم ناظرٌ، ومفتينا بالفتوى يُتاجر.
الوقت سيف
ثم يمضي الشاعر في بيانه فيقول: إن الفرق بين الحر والعبد أن الحر يحتوي على الزمن، والعبد يحتوي عليه الزمن. فالحر يتصرف لا يحدُّ عملَه يومٌ ولا غدٌ، ولا نهار وليل، ولا يعتلُّ بحكم الزمان. وللعبد تعلَّات من حدود الزمان وأحكام الوقت. وحسبي من أبيات كثيرة هذه الأبيات:
دعاء
ويختم إقبالٌ هذه المنظومة بدعاء يسأل الله فيه أن يهب المسلمين العشق وحرقة السعي. ويشكو من نار تشتعل بين جنبيه، ويضرع إلى الله أن يهبه نجيًّا يتلقى عنه دعوته، ويُدرك أسراره، أو يسلبه هذه النار التي تضطرم في صدره.