الفصل الثالث

مذهب إقبال في الشعر خاصة

ذكرتُ آنفًا مذهب إقبال في الفنون عامة؛ أن لها مقصدًا في حياة الناس، وأن هذا المقصد ينبغي أن يكون تقوية النفس، وأن الفن تعبير عن نفس قوية لا تُحاكي الطبيعة، ولا تقلد غيرها، ولكنها تصوغ الفن من دمها ونبضها، وتؤثر به في الحياة.

وفي هذا الفصل أخصُّ بالبيان مذهب إقبال في الشعر، وهو فرع من رأيه في الفنون عامة. وإقبال كان شاعرًا نابغة. فكان، لا جرم، أكثر عناية بالشعر، ووجب على من يُبيِّن مذهب إقبال في الفنون الجميلة أن يخص الشعر بالبيان بعد الكلام في الفنون عامة.

الشعر والحقيقة

الحقيقة إن لم تُخالطها العاطفة فهي حكمة. وإن قبست من نار القلوب فهي شعر.

يقول إقبال في رسالة المشرق:

كل حق دون وجد حكمة
وهو شعر إن يُصب نار القلوب

وهذا حق. كل حقائق العالم موضوع للشعر إن خالطتها العاطفة، ولوَّنها الخيال.

ولا يتَّسع المجال لتفصيل القول في هذا. وحسبي أن أقول إن إقبالًا يرى أن حقائق العالم كلها تدخل في الشعر إن قبست من نيران القلوب. وقد عالج الفلسفة العالية، وحقائق الحياة في دواوينه التسعة التي عددتها في الفصل الأول من هذا الباب.

الشعر جمالٌ وجلالٌ

ولا غنى للشعر عن أن يكون جمالًا وجلالًا، وأن يكون بانيًا أو هادمًا، وأن يكون هَديًا إلى كمالٍ أو ثورةً على نقص.

لم أدر سرَّ الشعر إلا نكتة
سِيرَ الشعوب تُبينها تفصيلا
الشعر فيه من الحياة رسالة
أبدية لا تقبل التبديلا
«إن كان من جبريل فيه نغمة
أو كان فيه صور إسرافيلا»

الشعر حياة وأمل

والصمت خير من شعر لا يبعث في النفس قوة الحياة، ونضرة الأمل، ولا يحدو الناس إلى المعالي، ويحبب إليهم الحياة العزيزة الكريمة.

كم بشعر العُجم من سحر ولكن
منه سيفُ الذات ذو حدٍّ كليل
صمتُ طير الصبح أولى من غناء
إن سرى باللحن في الروض ذبول
ليس ضربًا ما يشق الطود إن لم
ترَ منه عرش برويز يميل١

لا يُعجب الشاعر بشعر العجم على ما فيه من سحرٍ وفنٍّ لما يرى فيه من التَّرف، والهمود، والإشفاق من مشقات الحياة، والتشاؤم.

يقول في ضرب كليم:٢
في غابة الشرق نايٌ يبتغي نفسًا
يا شاعر الشرق هل في صدرك النفس؟
من كان في نفسه من رِقِّه خور
فقل له من لحون العجم يحترس
إناؤها من زجاج كان أو خزف
اطبع بخمرك سيفًا لمعُه قبس
لم تُبصر الشمس من دنيا يُخال بها
مجد بغير الجلاد المرِّ يُلتمس
طُور جديد وبرق كلَّ آونة
لا قرَّب الله للعشاق ما التمسوا

هذه الأبيات عنوانها الشاعر. فهو يُريد شاعر الشرق مُجاهدًا لا يركن إلى الترف، ويريد أن تكون معانيه لامعة قاطعة كالسيف مهما تكن ألفاظها وصورها.

ويريد أن يكون الشاعر داعيًا إلى المجد، والمجد لا ينال بغير الجلاد المرِّ، والشعر عدة هذا الجلاد.

وكذلك يريد الشاعرَ سائرًا بآماله إلى غير نهاية، ففي هذا السير توحي إليه المعاني السَّرِيَّة، ويرى كل حين للوحي طورًا وبرقًا. وخيرٌ للشاعر ألا يظفر بمطلوبه حتى لا يقف به المسير:

طور جديد وبرق كل آونة
لا قرَّب الله للعُشاق ما التمسوا

ولهذا أيضًا يدعو إقبال شعراء المسلمين إلى أن يُولُّوا وجوههم شطر البيداء حيث السعة والحرارة والريح العاصف، وإلى أن يَنسِبوا بسلمى العرب في باديتها.

وسيأتي ذكر هذا.

فإذا نفخ الشعر في النفوس الحياة، وبعث الإنسان فهو وراثة النبوة.

إن يكن في الشعر بعث الآدمي
كان في الشاعر ميراث النبي

أثر الشاعر في أُمته

يبين إقبال عن آرائه في الشعر والشاعر في مواضع كثيرة من شعره، أوفاها وأبينها ما كتبه في فصل من أسرار خودي عنوانه «إصلاح الآداب الإسلامية». يُبين في هذا الفصل مكانة الشاعر القوي وأثره في الأمة حياة وأملًا وهدايةً وعملًا. كما يُبين أثر الشاعر الضعيف في الأمة، ترفًا وخمودًا ويأسًا وهلاكًا.

وهذه ترجمة أبيات من هذا الفصل فيها وفاء ببيان مذهب الشاعر الفيلسوف محمد إقبال في الشعر والشعراء:

جلوة الحسن ضميرُ الشاعر
طُوره مَجلى الجمال الباهر
مَدَّت الحُسن بحُسنٍ نظرتُه
زادت الفطرة سحرًا رُقيته
علَّم البلبلَ من تلحينه
ضاء خدُّ الورد من تلوينه
مضمر في خلقه بحر وبر
ألف كون محدث فيه استتر
كم شقيق عنده لم يطلع
كم لحون، وبُكى لم يُسمع
فكره للبدر والنجم نجي
يخلق الحسن وفي القبح عيِي
خَضرٌ، في ليله ماء الحياة
تَنضر الأكوان من ماء بكاه
لطفت في سيرنا حيلته
وعلت في ركبنا نغمته
فمضى الركبان أثْر الجرس
وحدا النايُ بنا في الغلس٣
وسرت في روضنا نسمته
فسرت في زهرها نفحته

هذا الشاعر الحيُّ الذي يبعث في الأمة الحياة. وشاعرٌ آخر هو حادي الهلاك، ونذير الموت:

ويلُ قوم لهلاك طائره
صدَّ عن نهج المعالي شاعره
تقبح الأشكال في مرآته
تقرَح الأكباد من نفثاته
تذبل الأزهار منه قُبل
ويعاف الشدوَ منه البلبل
يسلب السروَ جميل الميل
ويرُدُّ الصقر مثل الحجل٤
هو حوتٌ نصفه كالآدمي
كبنات البحر يقتاد الغوي
يسحر الركبان باللحن المبين
ولقاع البحر يهوي بالسفين٥
يسلب القلب ثباتًا نغمه
ويرى الموتَ حياة كلمه
يلبس النفع ثياب الضرر
ويُري الخير قبيح المنظر
سيل برق ما حوى نيسانه
آل لون وشذى بستانه٦
سادرٌ بالحق لا يعترف
بحره ما فيه إلا الصدف
نومت ألحانه يقظنا
أطفأت أنفاسه وقدتنا

إلى أن يقول:

لاح كالناي هزيلًا صائحًا
شاكيَ الأقدار جهلًا نائحًا

إلخ.

ثم يقول بعد وصف الشاعر الفَسْل الخائر اليائس، مُبينًا الطريقة المُثلى في الشعر:

صيرفي القول! إن تبغ النجاة
فاجعلن معياره نار الحياة
نير الفكر يقود العملا
مثل برق قبل رعدٍ جلجلا
من بفكر صالح في الأدب!
ارجعن يا صاح شطر العرب
وسليمى العُرب يا صاح اعشقِ
أطلعَنْ صبح الحجاز المشرقِ
من رياض العجم جمعت الزهر
وبروض الهند سرحت البصر
فاشربن حر الصحاري يا صديق
اشربَنْ من تمرها الراح العتيق
أسلمن رأسك يومًا صدرها
وائْلفَنْ في حرها صرصرها
كم وطئت الورد في طول المدى
غاسلًا كالوردِ خدًا بالندى
فعلى رمل الصحارى المضرم
أقدمن يومًا وغص في زمزم
صاح فيم النوح مثل البلبل؟
وإلام العيش بين الظلل؟
ابنِ عشًّا حيث لا تبني الأنوق
تلتقى فيه رعودٌ وبروق
لترى أهلا لأعصار الحياة
وتذيب النفس في نار الحياة

وفي فاتحة أسرار خودي يصف نفسه ويقول إنه جديد غريب في هذا العالم، إلى أن يقول واصفًا مذهبه في الإعراب عما في النفس في صراحة وجرأة وقدرة. وهو في الحق يصف المثل الأعلى للشاعر كما يتصوره:

أنا في يأس من الصحب القديم
مشعل طوري ليغشاه كليم
بحر صحبي قطرة لا تزخر
قطرتي كاليم فيه صرصر
من وجود غير هذا لي غناء
ولركب غير هذا لي حداء
كم تجلى شاعر بعد الحمام
يوقظ الأعين فينا وينام
وجهه من ظلمة الموت سفر
ونما من قبره مثل الزهر٧
كم بهذا السهب مرت قافله
مثل سير النوق رهوًا سابله
غير أني عاشق ديني النواح
ثورة المحشر منِّي في الصياح
أنا لحن كل عنه الوتر
لا أبالي أن عودي يكسر

ويقول في رسالة المشرق، وهو إعراب عن مذهبه في الشعر والشاعر:

تغنَّى طائر سحرًا طويلًا
فأبدع شدوَه لحنًا وقيلا
أَبِنْ عمَّا بصدرِك لا تَدَعْه
غناءً أو أنينًا أو عويلًا

ويقول:

أنا في الروض منفرد غريب
على غصني أنوح مع الرياح
فدعْني يا رقيق القلب وابعد
فإن دمي ليقطرُ في نواحي

هذا مذهب إقبال في الشعر، ألفته من أبيات في دواوينه وكلماتٍ مأثورة عنه. وهي جُملة وراءها تفصيل، وعنوان يتلوه إن شاء الله بيانٌ وفيرٌ.

١  إشارة إلى قصة فرهاد الذي شق طريقًا في الجبل كما اقترح كسرى برويز، ثم لم يظفر من برويز بمراده — ضرب الكليم ص٩٢.
٢  ص٩١.
٣  جرس القافلة وناي الحادي.
٤  يضعف الصقر الجارح فإذا هو كالحجلة.
٥  في الأساطير أن بنات البحر تفعل هذا بالسفن.
٦  الآل: السراب؛ أي بستانه سراب من اللون والرائحة.
٧  يعني أن كثيرًا من الشعراء لم يقدرهم الناس قدرهم، ويهتدوا بهديهم إلا بعد الموت، وكذلك هو. وقد صدقت قوله مكانته اليوم بين مسلمي باكستان والهند.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤