هكذا أفهم الأدب في مصر

عندما ننقد الأدب في مصر، وأيضًا في سائر الأقطار العربية، يجب ألا ننسى هذا العائق السيكلوجي الذي يحول دون الإجادة، وهذا العائق هو تلك العادات الذهنية والعاطفية التي ورثناها عن مجتمع شرقي استبدادي يرأسه ملك أو أمير، وتندغم فيه الدولة في الدين، ويجري نظامه على الأسلوب الإقطاعي الزراعي.

أسلوب السيد الثري حوله الخدم الفقراء أو المحرومون.

وأسلوب رب العائلة الذي يسيطر على الزوجة والأبناء.

وأسلوب الزراعة التي تحيل صاحب الأرض إلى ملك صغير.

هذا النظام ورثناه بما فيه من أخلاق تساوقه وتؤيده، وهي أخلاق أنأى ما تكون عن الديمقراطية.

وفاجأنا العصر الجديد باحتلال الأوروبيين لبلادنا، وبانتشار المدارس التي وصلت بيننا وبين الثقافة الأوروبية العصرية، فأخذنا بقيم جديدة في الحياة والأخلاق، ولكن لأننا لم نأخذ بأساس هذه القيم وهو الصناعة، فإنها — أي هذه القيم الجديدة — لم تثبت في مجتمعنا ولم تعمه كله.

ولذلك أصبحنا جميعًا في حرب باردة، المجتمع في حرب بين موروث عاداته وعواطفه الشرقية، وبين مستجد عاداته وعواطفه الأوروبية، يتردد بين الحجاب والسفور للمرأة، وبين الحقائق العلمية والعقائد التاريخية، وبين الأخلاق الزراعية الاستبدادية والأخلاق الصناعية الديمقراطية.

وهذه الحرب الباردة تجري بتفاصيلها المتعددة في كل فرد حيث يجدها في نفسه وذهنه.

وهي أيضًا تجري في صدر كل أديب أو كاتب؛ إذ يجد قيمتين وميزانين؛ فهو يتردد، ولا يعرف تلك الغلواء التي ينزع إليها المؤمن بعقيدة مفردة؛ لأن له عقيدتين تجعلانه فاترًا متشككًا.

ولذلك فهو لا يحسن التأليف؛ إذ لا يمكن الإحسان مع الفتور والتشكك.

ويجب ألا ننسى موقفنا هذا، وهو موقف الاعتذار عن الإحسان — أي الإجادة والإتقان — حين ننتقد الأدب، وسوف يتغير هذا الموقف حين تتفشى الصناعة بيننا وتأخذ مكان الزراعة، أو على الأقل تتكافأ معها في الانتهاج والارتزاق، وعندئذ تتفشى في مجتمعنا الأخلاق الديمقراطية التي تنشأ من الوسط الصناعي وما يلابسه من عاداتٍ وعواطفَ جديدةٍ.

ولكن ليس معنى هذا أن ننتظر تفشي الأخلاق الجديدة في مجتمعنا حتى نجعل أدبنا عصريًّا له قيم وأوزان عصرية؛ إذ يجب أن ندخل — نحن الكتاب والأدباء — في هذا العصر الجديد، ونغير العادات الذهنية والعواطف الأدبية الشرقية الموروثة في مجتمعنا إلى عاداتٍ وعواطفَ عصريةٍ؛ حتى يساير تطورنا الاجتماعي الأدبي تطورنا الاقتصادي الصناعي، بل لا بأس من أن يسبق إذا كان هذا ممكنًا.

•••

كيف أفهم الأدب؟

أفهمه على أنه معالجة الإنسان في جملته؛ أي في كُليته.

فإن الهندسة فن يعالج المباني، والكيمياء فن يعالج المواد، والطب فن يعالج الأمراض.

ولكن الأدب فن يعالج الإنسان جملة لا تفصيلًا؛ فهو يزن الموقف الفلسفي والموقف الجنسي والموقف الاجتماعي وسائر المواقف البشرية للفرد، بحيث أنتهي من هذه المعالجة إلى أن أعرف قيمة هذا الفرد في المجتمع وفي الدنيا وفي الكون، وأنتهي إلى أن أقارن موقفي — أنا القارئ — بموقف هذا الفرد سواء أكان هو موضوع قصة أو مقال أو ترجمة لحياة إنسان.

وأفهم الفرق بين الأدب القديم والأدب العصري على أن الأول استمتاعي، أقرؤه كي ألتذ وأنا ملك أو أمير أو إقطاعي؛ أي أقرأ أبا نواس للذة ولا أجد في ذلك ما يصدم ضميري الأدبي، ولكن الأدب العصري لم يعد أدب الملوك أو الأمراء أو الإقطاعيين، وإنما هو أدب الملايين من الشعوب، وهو إذن أدب الشعب، أدب الكفاح لتعميم الخير والمساواة بين الجنسين، وتحقيق العاطفة الإنسانية بنظام اشتراكي ومقاومة الظلم والاستبداد والحرمان.

أدب أبي نواس، الذي أُلِف عنه وله نحو ثمانية أو عشرة مجلدات في السنوات العشر الأخيرة، هو أدب فاروق وحاشيته، أدب اللذة والنكتة والكلمة الرائعة، مع المعنى الدنس أو المعنى الزري، فنضحك أو نتغامز، في إحساس الفسق.

ولكن الأدب العصري هو أدب الكفاح الذي يثير غضبنا على الظلم، ظلم الحاكمين وظلم التقاليد؛ أي أنه يدعونا إلى التحرير، وإلى الاعتماد على الحقائق الجديدة دون العقائد القديمة.

الأدب العصري يطالبنا بألا نجعل مراسينا الاجتماعية وفق التقاليد في الألف السنة الماضية، وإنما وفق ما نستعد له من نظم في الألف السنة القادمة.

الأدب القديم ورد نتشممه، ولذة عابرة، ومزاح وترف ذهني، ولكن الأدب الجديد هم وقلق، ودراسة، وبرنامج الحياة، وتوسع في الوجدان، وارتقاء لشخصي ومجتمعي، وزيادة في الفهم والإنسانية.

وإذن، من هو الأديب العظيم الذي يجب أن نقرأ مؤلفاته؟

هو الأديب الذي يدل؛ أي أن له دلالة.

وأعظم ما يجعله يدل أن تكون له رسالة اجتماعية أو إنسانية.

ذلك أنه لن تكون له رسالة إلا إذا كان قد درس الإنسان في جملته.

بل إن رسالة الأديب هي الفرق الأساسي الذي يفصل بين الأدباء القدامى والأدباء العصريين، وليس هذا في أدباء العرب وحدهم، بل أيضًا في أدباء أوروبا.

كان الأديب القديم يكتب ويؤلف كي يزيد استمتاع القارئ ولذته، ولكن الأديب العصري يكتب ويؤلف كي يزيد الفهم للحياة، ويزيد التوسع الذهني، ويزيد الوجدان، كأننا نزداد وجودًا بقراءته.

كان الأديب مهرجًا، أو يقارب المهرج، يضحك ويسلي.

ولكن الأديب العصري كاهن، يكتب بإلهام ليعين القيم ويهدف إلى المستقبل ويحس أن له رسالة.

وبالطبع هناك استثناءات، فإن المعري والجاحظ وابن حزم وأمثالهم لم يهرجوا، وأنا أسميهم لذلك قدماء معاصرين.

وإذا شئت أيها القارئ أن تنقد، وتعرف القيمة والوزن لأحد الأدباء في مصر أو أقطار الشرق العربي، فاسأل هذا السؤال:

ما هي الرسالة الاجتماعية أو الإنسانية التي يدعونا إليها هذا المؤلف؟ وهل هو يزيد استمتاعنا ولذتنا (فهو إذن قديم) أم هل يزيد فهمنا للحياة، ويطالبنا بكفاح من أجل الخير والشرف والمساواة والعدالة الاجتماعية؟ وبكلمة أخرى: ما هي دلالته؟ هذا محك … هذا امتحان!

•••

ومحك آخر، أو امتحان آخر، أن تسأل: ما هي القيمة التمدينية في هذا الكاتب؟

هل هو يزيد إحساسنا الإنساني، بحيث نتعلم منه ونتربى من مؤلفاته، فنكبر من شأن الإنسان، وننكر التعصب اللوني والتعصب المذهبي والتعصب الديني، ونحترم الإنسان لأنه إنسان قبل كل شيء.

أيها القارئ، من هو المؤلف المصري أو العربي الذي زاد إحساس الإنسانية عندك وحملك بمؤلفاته على أن تأخذ بالأسلوب المتمدن في سلوكك وأخلاقك؟

إن الكاتب العظيم هو الذي يغيرنا، بحيث نحس عقب قراءة كتابه أننا لم نعد كما كنا قبل قراءته، وأننا تغيرنا إلى أعلى.

والكاتب العظيم هو الذي يعتنق مذهب الحرية، ولكنه لا يقتصر على الدعوة إلى التحرر من الحاكمين المستبدين فقط، وإنما يدعو أيضًا إلى التحرر من التقاليد المستبدة.

وإذن من هو هذا الكاتب؟

أعظم ما يغير الدنيا في عصرنا، ويغير الفرد والمجتمع، هو العلم، العلم هو النعمة والنقمة في عصرنا.

والمؤلف الذي يحمل هموم الإنسانية في صدره لا يمكنه أن يهمل العلم، أو بالأحرى العلوم التي توجه إلى السداد في الحياة بتنظيم الاقتصاد والكيمياء والطبيعيات والميكانيكيات والبيولوجية والسيكلوجية لخدمة الإنسان.

فمن هو الكاتب أو الأديب الذي خدمك في هذه الناحية؟

إني لا أقرأ كتابًا في نقد الأدب في أوروبا إلا وهو يخص داروين وفرويد بفصول، ويوضح أثرهما في التوجيه الذهني والنفسي، وكلاهما عالم.

هل أوضحَ لك أحدٌ هذا التوجيه في مصر؟

•••

لقد أوجدت أنا عبارة «الفقر والجهل والمرض» وأسميتها الثالوث المدنس.

وهل يمكن أن يجيز أديب مصري أو عربي لنفسه أن يكتب وهو يجهل هذا الثالوث؟

وإذن فيم يكتب، وأي موضوع آخر أحرى أن يشغله إذا كان إنسانًا؟

إن الداء القديم المقيم الذي يتوطن أقطار الشرق العربي هو الفقر، وهو الذي بعثني إلى الدعوة إلى الصناعة كي تثري الشعوب العربية، وليس الجهل والمرض، ثم الذل والهوان، سوى منتجات الفقر.

وإذن أقول: إن ذلك الأديب الذي لا يعرف علل الفقر والمرض والجهل لا يجهل الاقتصاد فقط وإنما يجهل الأدب.

وهذا الجهل هو الذي يحمله على أن يكتب عن أبي نواس وابن الرومي بدلًا من أن يكتب عن الصناعة، والنقابات، وجمعيات التعاون، وعن الحب، والارتقاء، والشخصية، والحرية.

الأدب عنده لذة واستمتاع، وليس كفاحًا وقلقًا.

إن الأدب هو دراسة الإنسان في جملته.

وهذه العبارة تعني أن ندرس الإنسان في اقتصاده وأمراضه وثقافته واتجاهاته الذهنية والعاطفية وأهدافه المستقبلية.

والأدب العظيم ليس الذي يمتعك بنكتة من أبي نواس، وإنما هو الذي يبسط أمامك الثقافة؛ كي تدرس المواقف البشرية وتستخلص منها رسالة إنسانية تمحو الفقر والجهل والمرض، وتزيد الإنسان إنسانية، وتحيلنا إلى متمدنين لا نتسابُّ ولا نهاتر ولا نمكر، ولا نؤلب العامة والغوغاء على المفكرين الأحرار.

•••

ما هو أعظم ما يؤلفه المؤلف في الأدب؟

هو حياته، كيف عاش؟ كيف ارتزق؟ ما هي الأحزاب السياسية التي انضم إليها؟ ما هي الثقافة التي أثث بها ذهنه؟ ما هي علاقته بمجتمعه؟ هل سعى لخيره أم لضرره؟

بل ما هو كفاحه في هذه الحياة؟

أيها القارئ، ادرس الكتاب الأول الذي ألفه المؤلف، وهو حياته، بل طالبه بذلك، حتى يخرج كتابًا يبين فيه المبررات التي حملته على أن يسلك سلوكًا معينًا في السياسة أو الاجتماع أو الاستعمار أو غير ذلك.

إن الكاتب الذي يقف موقف الإرشاد والتوجيه يجب عليه أن يبسط لنا حياته ويوضح لنا أخطاءه ويبين أعذاره، كما عليه أن يدلنا على الأثر الذي تركته ثقافته في شخصه وكانت عاملًا في تكوين شخصيته؛ وذلك كي نقرأ حياته فنتربى بقدوته.

إن حياة الأديب جزء من مؤلفاته، بل هي أعظمها.

هكذا أفهم الأدب كما يجب أن يكون في مصر.

•••

وأخيرًا قد يسألني القارئ: إذا كان هذا هو الأدب، فما الفرق بين المقال الأدبي والمقال الاجتماعي؟

الفرق أن الأدب فن، وأساس الفنون جميعها هو الطرب، فأبيات الشعر إذا لم تطربنا فليست شعرًا، وإذا لم نطرب من القصة فليست أدبًا، واللحن الموسيقي مثل المبنى العظيم، أو التمثال الرائع، كل هذه يجب أن تطربنا.

ولكن اللحن وحده، في الغناء مثلًا، لا يكفي لأن يجعل من الغناء فنًّا؛ إذ يجب أن نتذوق المعاني الرائعة في الغناء مع اللحن، وكذلك الطرب وحده في أشعار أبي نواس لا يجعل منها فنًّا؛ لأن معانيها زرية.

يجب في الأدب أن نصل إلى الطرب، عن طريق الجهاد الروحي والجد الرفيع للسمو بالإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤