مقدمة الكتاب

بسم الله فاتحة كل عمل. أما بعدُ، فقد أصبحت الماسونية لحداثة عهدها في هذه الديار موضوعًا لأبحاث القوم على اختلاف المذاهب والنزعات؛ فمِن نَصِير مدافِع عن صحة مبادئها مبالِغ في وجوب كتمان أحوالها، وعدوٍّ مشدد النكير ومختلق الأراجيف عليها، يقول في ذلك أقوالًا ما أنزل الله بها من سلطان. وعندي أن السبب في ذلك إنما هو شدة محافظة أعضائها على التستر في أعمالهم، إلى حدٍّ أوجب إساءة الظنون واختلاف الأقاويل، على أننا لو نظرنا إلى الحقيقة لما رأينا في المكاشفة ما يشينها؛ إذ ليس بين أعمالها ما يكسبها إلَّا فخرًا، ولا بين مبادئها إلَّا ما يرفع منزلتها ويفحم مَن أراد بها شرًّا؛ لأن مبادئها أشرف المبادئ، وغايتها من أشرف الغايات.

على أننا لم نسْعَ إلى إخفاء تلك المبادئ أو التظاهر بغير تلك الغاية، ولكنَّا لم نَنْجُ من سهام الملام وضروب التعنيف، وقد أصبح الناس لا يعتقدون صِدْق ما يظهر من أعمالنا، ولو كانت كالشمس وضوحًا، بناءً على أن وراء تلك الأعمال غاية لا تزال متسترة في خدر الاجتماعات السرية. فعندهم أننا لو أخلصنا النية وأردنا بالناس خيرًا، لما كان ثَمَّ ما يمنع اجتماعنا جهارًا، فيظهر الحق لذي عينين لأن الحق أبلج. والظاهر لديَّ أن هذه الجمعية لم تؤسَّس على شعائر يجب أن تبقى محجوبة إلى الأبد، على أن ما لم يزل محجوبًا منها ليس بالأمر المهم لدى الجمهور، وإنما هي إشارات ورموز جُعِلت واسطة يتعارف بها أبناءُ تلك العشيرة، فيتميَّزون بها من سواهم، ولعل المانع من التصريح بها أن الناس لم يبلغوا في هيئتهم الاجتماعية مبلغًا يؤهِّلهم من الاطلاع عليها جهارًا، ولكن سيأتي زمن لا يبقى فيه بين أبناء تلك الجمعية وسائر الناس حجاب أو شبه حجاب، ومَنْ يَعِشْ يَرَ.

ولما كان التاريخ مرآة الأحوال، كانت الطريقة المثلى لتبيان حقيقة غاية هذه الجمعية — بعد ما تقدَّمَت الإشارة إليه — أن نوضِّح لدى قرَّاء العربية مختصر تاريخها منذ نشأتها إلى هذه الأيام، مع الإشارة إلى ما رافق سيرها من الحوادث في سائر أنحاء العالم على اختلاف الزمان والمكان، واستيفاء الكلام عن كيفية نشأتها. وبناءً على ذلك قد أخذت على نفسي القيام بذلك العمل مع علمي بعجزي، وبما يحول دون ذلك من العقبات وتجشم المشاق في جمع أخبار هذه الجمعية، ولا سيما أخبار فروعها الشرقية، لأني قد عنيت إتمامًا لذلك بمكاتبة سائر جهات المشرق التي اتَّصَلَ بي شيءٌ عن أحوال الماسونية فيها، فكتبت إلى كثير من الإخوان الغيورين في تلك الجهات من ذوي الاطلاع على ما نحن في صدده، فوردت إليَّ إفاداتهم وعليها كان اعتمادي في الحوادث الماسونية الشرقية الحديثة. وإني أغتنم هذه الفرصة للثناء على بعضهم جهارًا، وهم الذين أذنوا لي بذكر أسمائهم، فمنهم الأخ المحترم نقولا حجي رئيس محفل لبنان سابقًا (بيروت)، والأخ المحترم وليم أسعد خياط رئيس محفل فلسطين. أما في تاريخ الماسونية في مصر، فمعظم الفضل عائد لحضرة الأخ الكلي الاحترام سوليتوري افنتوري زولا رئيس أعظم المحافل المصرية سابقًا؛ لأني قد استعنت به في استخراج معظم ما ذكرته عن الماسونية في مصر، من الكتب والمنشورات الرسمية المطبوعة في المحفل الوطني المصري.

أما ما بقي من سير الماسونية في أوروبا وغيرها، فقد اعتمدت فيه على أشهر ما كُتِب في كُتُبِ الإفرنج من إنكليز وفرنساويين. ولزيادة التأكيد أذكر للقارئ أشهر الكتب التي استعنت بها في كتابة هذا التاريخ، وهي:

تاريخ الماسونية تأليف ريبولد فرنساوي
تاريخ الماسونية تأليف فندل إنكليزي
تاريخ الماسونية تأليف أرنولد إنكليزي
الشرائع الماسونية تأليف باتون إنكليزي
التعاليم الماسونية تأليف باتون إنكليزي
الرموز الماسونية تأليف باتون إنكليزي
منشأ الماسونية تأليف باتون إنكليزي
درجة الهيكليين تأليف سير بطريق كلكهون إنكليزي
الماسونية تأليف هوغ إنكليزي
أسرار الماسونية تأليف يوحنا فيلوس إنكليزي

وقد استعنت فضلًا عن هذه التآليف الماسونية بالإنسكلوبيديا الماسونية، وتآليف تاريخية غير ماسونية تعزيزًا للموضوع.

فأمَلِي أن تروق خدمتي هذه لدى أبناء اللغة العربية، وليعذروني على ما يلاقونه فيه من النقص، فإنه أول تاريخ للماسونية كُتِب في اللغة العربية، وأَمَلِي بحضرات الكَتَبَة الأفاضل — الذين هم أطول باعًا مني — أن يساعدوني لسد ما يلاقونه من الخلل؛ فإن العصمة لله وحده عز وجل.

هذا وإني التزمت في كل ما ذكرت جانب الاعتدال والحيادة ما استطعت، تاركًا الحكم في مجمل ما ذكرت إلى نباهة القارئ، ولو ساعدني المقام لأتيت على تفاصيل أعلمها عن الماسونية في المشرق، وعلى الخصوص في مصر وسوريا، فقد رافق سيرها هناك في أول عهد دخولها حوادث قد أشرنا إلى بعضها اكتفاءً بالنزر اليسير، وأغضينا عن البعض الآخَر لما يحول دون التصريح بها من المحظورات التي نرجو قُرْب زوالها، يوم لا يحظر على أحد التصريح بما في ضميره، إذ يعرف كلٌّ منَّا حقوقه وواجباته، فلا يتقاعد عن طلب الأولى ولا يأنف من القيام بالثانية.

والله نسأل أن يلهمنا إلى ما فيه خيرنا وإصلاح حالنا، إنه على كل شيء قدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤