الطور الثاني: الماسونية المشتركة

من ١٠٠٠ب.م–١٧١٧ب.م

لا يخفى أن الجيل العاشر كان أشد وطأة من سائر الأجيال على العالم، ولا سيما على المسيحيين، فإن الناس في أوروبا كانوا في كل يوم ينتظرون انحلال عقدة هذا الكون وانقضاء العالم، ولذلك كانت هممهم تنحط وصنائعهم تبيد يومًا فيومًا، ولا سيما صناعة البناء؛ فتقهقرت البناية الحرة، ولم يَأْتِ عليها آخِر القرن العاشر حتى كادت تنحل عروتها، إلا أن المحافل التي كانت تلتئم في جهات لومبارديا وبافي وكوم، كان بين أعضائها بعض الذين اشتهروا بالصناعة والعلم كالفلك وغيره، كما كان شأن الكهنة المصريين، فلما أصاب الماسونية ما تقدَّمَ من الخمول لتوقُّف صناعة البناء، لم يؤثر ذلك فيهم؛ لأنهم استمروا على نشر المبادئ الماسونية وتعليم الصناعة والعلوم عمومًا على نسق الجمعيات السرية القديمة.

فمن سنة ١٠٠٣ ابتدأ العالم في دور جديد من التمدن، وبالحقيقة أن التمدن الحديث يبتدئ من هذه السنة، إذ نهض العالَم عمومًا إلى طلب العلم والصناعة، بعد أن رُفِع من أذهانهم أَمْر اقتراب الساعة، فأخذوا في ترميم الكنائس وابتنائها من سنة ١٠٠٥ فما بعدُ.

(١) الماسونية في لومبارديا

وفي سنة ١٠١٠ دخل جماعة من الكهنة المسيحيين في مدارس البنَّائين في إيطاليا لتعلُّم صناعة البناء المسيحية، وكانت لومبارديا إذ ذاك مركز التمدن، فأنشئت المدارس الماسونية على بقايا مدارس نوما بومبيليوس، ومُنِحَ الماسونيون امتيازاتهم وحقوقهم، ودعوا جمعياتهم من ذلك الحين المدارس الحرة أو جمعيات الأحرار، وأشهر تلك الجمعيات جمعية «كوم». واشتهرت هذه الجمعيات بالبناية، حتى إن أشرف ألقاب البنائين كان ما يُنسَب إليها، وكانت تعاليمهم جميعها سرية وقوانينهم وشرائعهم خصوصية لهم، وكان يأتي البناءون من سائر أنحاء إسبانيا واليونان والمشرق إلى هذه الجمعيات لاكتساب تعاليم جديدة في العلم والصناعة.

ولم تَأْتِ سنة ١٠٤٠ حتى امتلأت إيطاليا من المباني العظيمة من بناء البنائين الأحرار، وكثر عدد هؤلاء، حتى إنه لم يَعُدْ هناك من الأشغال ما يشغلهم، فاجتمعوا اجتماعًا عموميًّا قرَّروا فيه أن يؤلفوا منهم جمعية تجول في الأماكن المنتشرة فيها الديانة المسيحية، لكي يُقِيموا لها المعابد والكنائس والأديرة، فطلبوا إلى البابا أن يقر لهم على الامتيازات والحمايات الممنوحة لهم قديمًا، فاستجاب طلبهم وأمر أن تُحصَر صناعة البناء المقدسة فيهم، وحرَّرهم من جميع الشرائع المدنية والأوامر الملوكية والقوانين البلدية، ومن كل ما هو موضوع على أهالي المدن التي يقيمون فيها، وصادق على هذه الامتيازات جميع ملوك ذلك العصر.

وفي سنة ١٠٦٠ انتشرت جمعيات البنائين من لومبارديا إلى ألمانيا وفرنسا ونورمانديا وبريطانيا، وجعلوا يرمِّمون ويقيمون المعابد والأديرة والكنائس في سائر تلك البلاد.

ريكاردس قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي

وفي سنة ١١٥٥ انتخب الإخوة البناءون ريكاردس قلب الأسد ليكون أستاذًا أعظم للمحافل الماسونية في إنكلترا، وكان أستاذًا أعظم لجماعات الهيكليين، فقبل الدعوة، وما زال رئيسًا للجمعيتين حتى توفي.

ويستلمح من الحادثة المشهورة التي حصلت بين هذا البطل والسلطان صلاح الدين الأيوبي أثناء الحروب الصليبية في سوريا؛ أن هذا الأخير كان على شيء من الماسونية، لأن المعاملة التي عاملها السلطان صلاح الدين لريكاردس حال كونه من أعداء وطنه ودينه، لا يمكن أن تحدث إلا عن ارتباط داخلي أشد متانةً من رابطة الوطنية، أَلَا وهي رابطة الأخوية الماسونية، والله أعلم.

وظهر نحو تلك السنة في أوروبا جمعية من جمعيات البنَّائين أصلها من سوريا، ولكنها فاقت بدِقَّة صُنْعها وشهرتها كثيرًا من الجمعيات الماسونية في تلك الأعصر.

ولم يَأْتِ ختام القرن الثاني عشر حتى أتت الأخوية الماسونية على إتمام عدة بنايات مشهورة في إنكلترا وفرنسا والبلجيك وألمانيا وإيطاليا، لا أرى فائدة في ذكرها.

ونحو سنة ١٢٢٥ كانت في لومبارديا (من أعمال إيطاليا) مدرسة البناء المركزية في أوروبا، فكان مَهَرَة البنَّائين يأتون إليها لاكتساب الاختراعات الحديثة في فنِّهم.

أما بناءُو اسكوتلاندا وصنَّاع القسطنطينية وتلامذة مدرسة قرطبة، فكانوا مع براعتهم وتمكُّنهم من صنعة البناء يقتدون بمدرسة لومبارديا بأمور كثيرة، على أن اللومبارديين أنفسهم كانوا يستحسنون صنعة أولئك ويستفيدون منهم، فمزجوا نمطهم من البناء بنمطهم، فتولَّدَ نمط جديد عُرِف بالنمط الغوتي، وجميع البنايات المقدسة التي بُنِيت بعد ذلك الحين إلى القرن الخامس عشر كانت على النمط المتقدم ذكره.

وفي منتصف القرن الثالث عشر اهتدى البنَّاءون إلى رسم جديد لبناء الكنائس؛ هو أبدع ما كان معروفًا إلى ذلك العهد، وقد أسَّسوا كنائس ستراسبورج وكولوني وباريس وغيرها على مثاله، ويمتاز هذا الرسم بسِعَة البناء وتناسُب أجزائه.

وفي سنة ١٢٥١ استدعى لويس التاسع ملك فرنسا البنَّاء الشهير «أودس دي مونترايل» لبناء الحصون والاستحكامات لمدنية يافا «سوريا»، على إثر الحروب الصليبية، فسار ورافقه عدد من البنَّائين.

(٢) الماسونية في بريطانيا

وفي سنة ١٢٧٢ تم بناء دير وستمنستر في إنكلترا، تحت إدارة الأستاذ الأعظم جيفار بطريرك مدينة يورك.

وفي سنة ١٢٧٥ التأَمَ مجمع كبير من الماسون في ستراسبورج، وذلك أن كنيسة هذه المدينة أريد تجديد بنائها على الرسم المتقدم ذكره، فانتدب البناءون من أنحاء بعيدة بإيعاز البنَّاء الشهير إروين دي ستاينباك؛ للمداولة في أمر هذه الكنيسة الشهيرة وكيفية رسمها، فابتنوا بقرب الكنيسة بيوتًا من الخشب لسكانهم على حسب المعتاد، وهناك كانوا يلتئمون ويفرقون الأجور ويبلغون الإعلامات تحت رئاسة إروين دي ستاينباك المذكور. فكانوا إذا التأمت جلستهم يرأسها إروين جالسًا تحت مظلة في يده سيف، وقد وضعوا كلمات ولمسات خصوصية ليتعارفوا بها فيما بينهم، وبعض هذه الكلمات واللمسات مأخوذ عن الإنكليز، وكانوا يستقبلون التلامذة والرفقاء والأساتذة باحتفالات تليق بدرجاتهم، وجميعها رمزي عائد إلى تعاليم البناية الحرة القديمة.

وفي نهاية القرن الثالث عشر، كان عدد المباني التي شرع البنَّاءون فيها والمباني التي أتموها أكبر من التي بُنِيت في القرن السابق.

وفي سنة ١٣١٤ سُمِّي محفل كيلونينغ الذي تأسَّس سنة ١١٥٠ «المحفل الأعظم الملوكي»، بأمر روبرت بروس ملك اسكوتلاندا، تحت شروط أقَرَّ عليها الإخوة، منها:
  • (١)

    أن الملك روبرت بروس يكون رئيسًا أعظم لهذا المحفل مدة حياته.

  • (٢)

    أن نائبه الذي يحضر الاجتماعات الماسونية العمومية يُنتَخَب من الكهنة أو من الأشراف، وأن ذلك الانتخاب لا يتم إلا بمصادقته.

تحوير لائحة يورك

وفي سنة ١٣٥٠ أمر إدوار الثالث ملك إنكلترا أن تُحوَّر لائحة يورك التي تقدَّمَ أنها كُتِبت سنة ٩٢٦، فحُوِّرت وصادق هو على تحويرها، وأضيفت إليها البنود الآتية:
  • (١)

    عند قَبول أخ حديث يجب أن تُتلَى القوانين واللوائح الماسونية.

  • (٢)

    إن الأساتذة الماسونيين أو أساتذة العمل لا بد من امتحانهم ليُعلَم إذا كانوا أهلًا لخدمة أسيادهم المعتبرين، رفيعهم ووضيعهم؛ كل ذلك محافظةً على شرف هذا الفن وعلى صوالح أسيادهم، أعني الذين يعهدون إليهم نجاز أشغالهم.

  • (٣)

    متى اجتمع الرئيس والمنبهان في محفل، فعلى والي المقاطعة أو حاكم المدينة أو شيخ البلد التي يجتمع فيها المحفل أن يكون عند الاقتضاء قريبًا من الرئيس، ليساعده في كبح جماح العصاة ونوال العشيرة الماسونية حقوقها.

  • (٤)

    إن طالبي مؤاخاة البنَّائين لا يُقبَلون إلا بعد أن يتحقق عنهم أنهم ليسوا لصوصًا أو حاميي لصوص، وإنهم يجب بعد قبولهم أن يشتغلوا بأمانةٍ يستوجبون من أجلها نوال أجورهم، وأن يحبوا رفقاءهم كأنفسهم، وأن يكونوا مخلصين لملك إنكلترا وللعشيرة الماسونية وللمحفل.

  • (٥)

    على المحافل أن تبحث في اجتماعاتها عن أعمال الأساتذة أو الرفقاء، فإذا رأَوا منهم إخلالًا بشيء من البنود المتفق عليها يحاكمونهم. فإذا طلب أحد المتهمين للمرافعة وأبى الحضور، فعلى المحفل إذ ذاك أن يقرِّر وجوب تجريده من الحقوق الماسونية، وأن يحظر عليه معاطاة صناعة البناء، فإذا أبَى إلا معاطاتها، فعلى الحاكم المدني أن يحجز عليه ويسلِّم كل ممتلكاته إلى الملك، وللملك الخيار في أن يعطيه من محصولاتها ما يحتاج إليه لسد عوزه، أو أن يمنعه من الانتفاع بها بالكلية. وعلى ما تقدَّمَ ينال كل ذي حقٍّ حقه، بحيث إن الأشغال تسير بكل أمانة وعلى السواء في صنعة البنائين في كل المملكة الإنكليزية، بين الشرفاء والصعاليك.

وفي سنة ١٣٦٠ انتشرت الماسونية على الخصوص في ألمانيا، فلم تكد تخلو منها مدينة؛ لأن البنائين كانوا حيثما أقاموا كنيسة يقيمون فيها محفلًا ماسونيًّا، وقد أقامت هذه المحافل من بينها محافل عظمى تترأس على أعمالها، وأعظمها محفل كولون، ثم أنشئ محفل ستراسبورج، فكان أحدهما على ألمانيا العليا والآخَر على ألمانيا السفلى.

بناء قصر الحمراء في الأندلس

وفي سنة ١٣٨٠ تم بناء حصن الحمراء وقصرها في غرناطة من بلاد الأندلس، ويعدُّ هذا البناء من أجمل مباني الأندلس «إسبانيا» إلى ذلك العهد، فإن ذلك القصر فريد في بدائعه، وقد بُنِي على نمط روماني كان متَّبَعًا في القرن الثالث بعد الميلاد، أما بعد ذلك فلم يكن معروفًا عنه شيء، والظاهر أن هذا البناء وغيره من مثله في غرناطة قد بنتها جمعية ماسونية حافظت على ذلك النمط، وكانت في إسبانيا، ثم فقدت أوراقها فلم يصل إلينا منها ما يُنبِئنا عن خبرها.

تقرير البرلمان

وفي سنة ١٤٢٥ رفع البرلمان الإنجليزي تقريرًا يقضي بإبطال الاجتماعات الماسونية، بدعوى أن الاحتفالات التي كان يقيمها الماسون في اجتماعاتهم السنوية كانت تشوِّش النظام وتعرقل أعمال العَمَلَة عمومًا … إلخ. فالتأَمَ الماسون اجتماعًا عموميًّا في يورك سنة ١٤٢٧، وأقاموا الحجة على ذلك التقرير، ولم تحصل نتيجة.١

قرار جديد

وفي سنة ١٤٣٧ في حكم جاك الثاني ملك اسكوتلاندا، اجتمعت الأخوية الماسونية اجتماعًا عامًّا في كيلوينينغ، وقرَّرت «أن الأستاذ الأعظم الذي يقع عليه الانتخاب يدفع للحكومة رسمًا مقداره أربعة جنيهات من النقود الاسكوتلاندية، عن كل أستاذ ماسوني، ورسمًا آخَر يدفعه عن كل أخٍ ماسوني حديث؛ وأن سلطة الأستاذ الأعظم تكون نافذة على كل الماسون». وأقام لهم جاك محاكم خصوصية في سائر مدن اسكوتلاندا الرئيسية.

ومنح هذا الملك لغيليوم سانكلار «بارون روسلن» وورثته لقب وحقوق أستاذ أعظم، وما زالت هذه الحقوق لهذه العائلة إلى سنة ١٧٣٦ عندما أُسِّس المحفل الأعظم في أيدنبرج.٢

(٣) انتصار هنري الرابع ملك إنكلترا للماسونية

وفي سنة ١٤٤٢ انضم هنري الرابع ملك إنكلترا إلى الجمعية الماسونية، ودرس علم البناء واقتدى به جميعُ كبراء مجلسه، وكان الماسون إذ ذاك يصرحون عند قبولهم الطلبة أن موضوع هذه الجمعية الأساسي إنما هو «معرفة الطبيعة وحوادثها ونواميسها، ولا سيما علم الأعداد والأوزان والمقاييس واكتشاف الكيفية الحقيقية، لتكييف جميع الأشياء لما يناسب الإنسان، وإقامة المساكن والمعابد من كل الأنواع، وأمور أخرى مفيدة».

(٤) تغيير في موضوع الماسونية

وفي سنة ١٤٥٩ التأَمَ الماسون في راتسبون «ألمانيا» التئامًا بأمر جوبس دوتزنجر رئيس بنَّائي كنيسة ستراسبورج، بصفة كونه أستاذًا للماسون في ألمانيا؛ فتداول الأعضاء بأمور كثيرة تتعلق بالبناء، أهمها المصاعب التي تحول دون إتمام كثير من الأبنية بعد الشروع فيها، فنظروا في لائحة ستراسبورج التي وُضِعت قبل ذلك الحين بسبع سنوات وأقروا عليها، وهي مؤسسة على شرائع الإنكليز والإيطاليين، وتُعرَف بعنوان «قوانين ونظامات أخوية ناحتي الحجارة في ستراسبورج».

وفي سنة ١٤٦٤ التأم الماسون أيضًا في راتسبون، وتباحثوا في شئون كثيرة أخصها البنايات الدينية التي انتهت، والتي لا تزال تحت العمل في سائر أنحاء أوروبا، وأقروا على أن يكون لسائر المحافل العظمى٣ حقوق متبادلة في ذلك.

وفي سنة ١٤٦٩ التأم الماسون في سبير للبحث في أحوال الأخويات الماسونية في الأنحاء المختلفة، وعن الأبنية الدينية التي توقَّف بناؤها، وعن حقوق المحافل وواجباتها بالنسبة بعضها إلى بعض.

وفي أواخر القرن الخامس عشر بلغت التضحيات في سبيل البنايات المقدسة مبلغًا فائق الحد، وأضيف إليها سوء تصرُّف قادة الديانة المسيحية في ذلك العهد، فنتج فتور تام في الناس، حتى إنهم — فضلًا عن عدم شروعهم ببنايات جديدة — توقفوا عن إتمام البنايات التي كانوا شارعين فيها، فقلَّت بسبب ذلك الأعمال وضاقت الأحوال، وذهب جميع الامتيازات التي جدَّدها الإمبراطور مكسيميليان سنة ١٤٩٨ للماسونية أدراج الرياح، ففترت همتها على نوع ما. ونظرًا لما لها من الفوائد العظيمة خلا الأعمال الصناعية، أخذ بناصرها كثيرون من كبار القوم.

وفي أوائل القرن السادس عشر انتظم في سلكها عدد كبير من العلماء والفلاسفة بصفة أعضاء شرف، وجعلوا يعملون فيها الأعمال الأدبية مغضين عن موضوعها العملي، مع المحافظة على أسرارها ورموزها، وقد كان من اضطهادها في أوائل هذا القرن ما حملها على زيادة التستر.

اضطهادات

وفي سنة ١٥٣٥ ظهرت في أوروبا جمعيات سرية كثيرة غير الجمعيات الماسونية، فزادت الكهنة كرهًا للماسونية واضطهادًا، فكانوا يشكون منها سرًّا وجهرًا لما رأوا من انتشار تعاليم لوثير، بدعوى أن هذا الرجل كان من جماعة البنَّائين؛ لأنهم رأوا عددًا من الماسون بين دعاته، فشدَّد الكهنة النكير على الماسونية، وأشاعوا أنها ساعية في الكنيسة فسادًا وفي الدولة تقويضًا، وأنها إذا لم توقف عند حدها لا تنفك عن الدين حتى تلحقه بالأرض، ولا عن الملوك حتى تسلب ما في أيديهم. وما زال أولئك الكهنة في مثل ذلك، حتى قرروا وجوب اجتماع زعماء الماسونية اجتماعًا عموميًّا تحت رئاسة هرمن الخامس أسقف كولونيا، يبينون فيه كنه غاياتهم ويطلعوه على تعاليمهم، حتى إذا رأى فيها ما يمنع بثَّها بين ظهرانيهم، يحملهم على نقلها وتعليمها في أماكن أخرى من العالم. فاجتمع ذلك المجمع في ٢٤ يونيو (حزيران) سنة ١٥٣٥، وأقر على لائحة عمومية تُدعَى لائحة كولونيا.

وفي سنة ١٥٣٩ انحلت جمعيات الماسون الأحرار في فرنسا لداعي قلة الأعمال، فحاولوا إعادة تنظيمها على أسلوب علمي لبث العلم والفضيلة. ولما كانت اجتماعاتهم في سبيل ذلك سرية، أوجس الكهنة خيفةً منها، فأغروا فرنسيس الأول ملك فرنسا على إيقافها، فأصدر أمره بإبطال كل جمعيات الصناعة.

وفي سنة ١٥٤٠ قُتِل توماس كرومويل «كونت ديسكس»، وكان أستاذًا أعظم للماسون فانتُخِب اللورد أندلي مكانه.

وفي أثناء ذلك انتشرت تعاليم لوثير حتى اهتزت لها دعائم الكثلكة، فنتج توقيف البنايات الدينية، فانحطت الماسونية في ذلك القرن كثيرًا في سائر الممالك، إلا في إنكلترا.

وفي سنة ١٥٦١ ارتابت اليصابات ملكة إنكلترا في مجتمعات البنائين، فأنفذت في ٢٧ ديسمبر (كانون الأول) فرقة من الجنود لحل عقد الاجتماعات الماسونية في مدينة يورك، فلما بلغوا المدينة واستطلعوا حقيقة الأمر رفعوا إلى الملكة تقريرًا يبرِّئ الماسون مما نُسِب إليهم، وأطنبوا بحسن مقاصد تلكم الاجتماعات، الأمر الذي حمل الملكة على إلغاء تلك الأوامر، وأصبحت بعد ذلك أكبر نصيرة لهم.

وفي سنة ١٥٦٣ اتخذ الماسون محفل ستراسبورج مركزًا لأحكامهم الماسونية بدلًا من كولونيا، فكانت تقدم فيه التقارير العمومية وهو ينظر فيها ويحكم بما يتراءى له، ولا استئناف لحكمه.

وفي غرة القرن السابع عشر أزهرت الماسونية في إنكلترا تحت حماية الملك جاك الأول، فانتظم في سلكها عدد غفير من سراة البلاد ورجال الدولة. ومما زادها رونقًا انتخاب المهندس الشهير إينيغوجونس أستاذًا أعظم لمحافلها، ونشطت فيها على الخصوص التعاليم العلمية والأدبية والروحية، حتى أصبحت كإحدى المجامع العلمية الإيطالية، فزاد عدد الأعضاء غير البنَّائين العمليين إلى حدٍّ لم يَعُدْ ممكنًا معه البقاء على ذلك الاختلاط.

وفي سنة ١٦٣٠ أقر ماسونيو اسكوتلاندا لأعقاب بارون دي روسلين حقَّ الإرث في الرئاسة العظمى الماسونية للمحافل الاسكوتلاندية، بمقتضى لائحة ممضيَّة من نوَّابهم،٤ وهو الحق الذي خوِّل لهذا الرجل العظيم من الملك جاك الأول مكافأةً لخداماته العظيمة.

إلياس أشمول

وفي سنة ١٦٤٦ أصبحت الماسونية في إنكلترا على نوعٍ ما رمزيةً؛ لكثرة مَن انتظم في سلكها من العلماء وذوي المناصب الذين ليسوا من البناية العملية على شيء، فأُهمِلت الاجتماعات العملية، وظهر في تلك الأثناء إلياس أشمول عالِم الآثار القديمة المشهور، وهو الذي أسَّس متحف أوكسفورد. وبعد أن انتظم في سلك الجمعية الماسونية اعتنى بتصحيح قوانين جمعية الصليب الوردي، التي أُسِّست في لندرا، وكانت تجتمع في قاعة البنَّائين الأحرار، وتفصيل ذلك أن هذه الجمعية كانت عاملة في قبول الطالبين على طرق مبنيَّة على أساس تاريخي، وكانت إشارات التعارف فيها تشبه الإشارات الماسونية، فأدخل فيها إلياس أشمول شيئًا من التغيير.

ولما تأتَّى له ذلك لاحَ له أن يُدخِل مثل هذا التحوير في الماسونية، فغيَّر في طقوسها، وجعلها من الجهة الواحدة على مثال ما كان متَّبَعًا في جمعيات الأنجلوسكسونيين والسوريين، ومن الجهة الأخرى على مثال الجمعيات السرية المصرية، وهي الطقوس التي لا تزال متَّبَعة في سائر محافل إنكلترا إلى هذا العهد.

انتصار شارلس الثاني للماسونية

وفي سنة ١٦٥٠ اتخذت الماسونية في إنكلترا منزعًا سياسيًّا، وذلك أن ماسونيي إنكلترا — ولا سيما الاسكوتلانديين متشيعي ستبورت — أخذوا بعد قتل شارلس الأول يسعون سرًّا إلى إعادة السلطة التي كان نزعها كرومويل، وكانوا يجعلون حول مجتمعاتهم ما يجعلهم في مأمن من استطلاع أخبارهم، إلا أنهم نظرًا لعلمهم بضعف الطبيعة البشرية، لم يكونوا يُطلِعون كل ماسوني على مقاصدهم هذه، فجعلوا فوق الدرجات الماسونية التي كانت عندهم درجات أخرى، لم يكونوا يضمُّون إليها إلا الذين يتأكدون إخلاصهم وميلهم لما هم ساعون إليه.

فتمكَّنوا بذلك مع تعداد ذوي السيادة والنفوذ بين أعضائهم من تنصيب الملك شارلس الثاني سنة ١٦٦٠، بعد أن انضم إلى جمعيتهم، وهو الذي دعا الماسونية «الصناعة الملوكية».

وفي سنة ١٦٦٣ التأم ماسونيُّو إنكلترا التئامًا عامًّا في مدينة يورك تحت رئاسة شارلس الثاني، وفي تلك الجلسة أقرَّ الملك شارلس الأخ هنري جرمن «كونت سانت البان» على الرئاسة العظمى، وخلع عليه نيشانًا من الباث،٥ وأقرَّ أيضًا بالمشاركة مع سائر الإخوة على أمور كثيرة تختص بالعشيرة، فوضعوا تنظيمات اقتضتها الحال من الزمان والمكان.

حريق لندرا

وفي سنة ١٦٦٦ حصل في لندرا حريقٌ هائل دمَّرَ نحوًا من أربعين ألف بيت، و٨٦ كنيسة، ففُتِحَ للبنَّائين العمليين بابٌ كبير للاشتغال، إلا أن بنَّائي إنكلترا لم يكونوا بأنفسهم كُفْئًا للعمل، فاضطروا إلى استجلاب البنَّائين من البلاد الأخرى، فجاء عدة من أولئك وافتتحوا محافلهم في إنكلترا، وكانوا جميعًا تحت رعاية المحفل الرئيسي الذي كان تحت رئاسة كريستوف رين مهندس كنيسة القديس بولس الشهيرة، وهو الذي هَنْدَسَ بناء لندرا هذه المرة.

على أن الماسونية العملية كانت في إنكلترا عمومًا في منحدر من السقوط على إثر الحروب الأهلية التي كادت تذهب بتلك البلاد، إلا أن ذلك الحريق الهائل كان داعيًا لتنشيطها ونهوضها.

بَذَا قَضَتِ الْأَيَّامُ بَيْنَ أَهْلِهَا
مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ

وقد ساعدتها أيضًا حماية الملك شارلس الثاني كما تقدَّمَ.

جاك الثاني والماسون

وفي سنة ١٦٨٥ أدخل الملك جاك الثاني إلى الماسونيَّة درجة «شفاليه القديس أندريا»، وكان إذ ذاك أستاذًا أعظم لطريقة هيرودوم كِلوينينغ التي جعلها روبرت بروس — ملك اسكوتلاندا — سنة ١٣١٤ مكافأةً للماسونيين الذين جاهدوا من أجله.

وكان الملك جاك الثاني على دعوة المذهب الكاثوليكي، لكنه أعطى الحرية التامة لسائر الأديان والمذاهب، وصرَّح لكلٍّ من دُعَاتها أن يتبع ما يدعوه إليه ضميره ولا يبالي، فنتج من ذلك التظاهر انشقاق بين الطوائف المسيحية ومن ضمنها الماسونية، فكانت إنكلترا إذ ذاك على حزبين عظيمين، وكل منهما كان يحاول التداخل في الأعمال السياسية؛ فالحزب الواحد وهم الماسون الاسكوتلانديون تشيَّعوا للملك جاك الثاني، وبعبارة أخرى للجزويت، والحزب الآخَر كان من الماسون الإنكليز ومن غرضهم خلع ذلك الملك، وكان كلٌّ من الطرفين يحاول الفوز لنفسه، وأخيرًا فاز الماسون الإنكليزيون وفرَّ جاك الثاني وكثير من الجزويت والأعيان.

غيليوم الثالث والماسونية

وفي سنة ١٦٩٥ ذبلت الماسونية نوعًا لما طرأ عليها من الحوادث السياسية الداخلية، لكنها في أيام غيليوم الثالث كانت تحت رعايته، فعادت إلى رونقها؛ لأنه انتظم في سلكها وترأَّس عليها مرات كثيرة في محفل همتون كورت.

والماسونية في الجيل السابع عشر لم تَبْنِ بناية تستحق الذكر، وقد رأيت كيف أن موضوعها كاد ينقلب من العملي إلى الرمزي لكثرة مَن انتظم في سلكها من ذوي المناصب العالية، ورجال العلم. على أنها كانت تعمل أفضل الأعمال وأسمى الغايات، أَلَا وهو تهذيب العقول وبث روح الفضيلة.

وإذا تأمَّلْنا قليلًا يتبيَّن لنا أن الفضل في كل ذلك للإخوة الذين اشتهروا بالمزايا الشخصية من العلم والفضيلة والهمة، وبعضهم ترأَّس على أعمال هذه الأخوية في إنكلترا على الخصوص، وسنأتي في آخِر هذا الكتاب على ذِكْر أسماء بعض أولئك الأفاضل، بحسب زمن ظهورهم في العالم الماسوني.

خطوة نحو الماسونية الرمزية

وفي أوائل الجيل الثامن عشر نحو سنة ١٧٠٣، أخذ عدد الماسون بالتناقص رغمًا عن اجتهاد الأستاذ الأعظم كريستوف رين؛ فأهملوا الاحتفالات السنوية، وكان في لندرا أربعة محافل قد قاربت السقوط، فارتأى محفل القديس بوليس — ويُدعَى الآن محفل الآثار القديمة — أن يتخذ أسلوبًا جديدًا يسترجع به ما خسرته الماسونية بسيرها على الأساليب الأخرى، فأصدر منشورًا مآله: «إن الامتيازات الماسونية لن تكون من الآن وصاعدًا محصورة في البنَّائين العمليين، لكنها ستكون مشتركة بينهم وبين مَن ينتظم في سلك هذه الجمعية من أي مهنة كانت، بشرط أن يكون مصادَقًا على قبوله بطريقة رسمية قانونية.»

وبالحقيقة إن هذا الأسلوب الجديد أكثر أهمية مما كان يظن واضعه؛ لأن الماسونية انتقلت على أجنحته من نحت الحجارة إلى نحت العقول، ومن بناء البيوت إلى بناء الهيئة الاجتماعية.

إلا أنه لم يمكن تنفيذه حالًا؛ لأن الماسونية لم تكن مستعدة لقبوله قبولًا تامًّا، لما كان يحول دون ذلك من الانشقاق بين جماعاتهم وشيخوخة الأستاذ الأعظم، ثم الثورة التي حصلت بسبب جاك ستيورت. وما زال الحال كذلك حتى سنة ١٧١٧، عندما كُتِبت لائحة لندرا كما سيجيء.

١  يوجد في مكتبة أكسفورد في إنكلترا النسخة اللاتينية الأصلية لتلك الحجة.
٢  وصورة الأمر بمنح هذه العائلة هذه الحقوق، هي الآن في مكتبة المحامين في أيدنبرج.
٣  المحافل العظمى إذ ذاك خمسة، وهي محافل كولون وستراسبورج وبرن وفينا وماجدبورج.
٤  يُوجَد نسخة من هذه اللائحة الآن في مكتبة المحامين في أيدنيرج.
٥  رتبة إنكليزية رفيعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤