الفصل الثاني

صفة العالم

إذا كانت غاية السعي المعرفي للإنسان هي فهم وإدراك الشرط الإنساني، على ما يؤكده إخوان الصفاء، فإن دون هذه الغاية رحلة شاقة وطويلة نقطعها على درب المعرفة العلمية الاختبارية والبرهانية، تقودنا إلى فهم العالم وفهم أنفسنا التي هي جزء عضوي من هذا العالم. هذا الفهم هو الذي ينير لنا أخيرًا ذلك الشرط الإنساني، ويفتح لنا بوابة الخلاص من ظلمة المادة التي اقتنصت النفس الهابطة من السماء عالم الروح الفسيح، حيث كان مسكنها قبل السقوط، والحلول في الأجسام الكثيفة البعيدة عن مرتع الأنوار العلوية. إن العرفان الداخلي الذي يقود إلى معرفة النفس ومعرفة الله حق المعرفة، لن تنطلق شرارته قبل المعرفة العلمية التي تكشف للإنسان حقيقته وحقيقة كل ما حوله. لذلك قال الإخوان في الفلسفة: «الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم.» (الرسالة ١: الجزء الأول، ص٤٨). وقالوا في طريق العلم الصاعد من المحسوسات إلى المجردات: «واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الفلاسفة الحكماء من النظر في العلوم الرياضية، وتخريجهم تلامذتهم بها، إنما هو السلوك والتطرق منها إلى علوم الطبيعيات؛ وأما غرضهم من النظر في الطبيعيات فهو الصعود منها والترقي إلى العلوم الإلهية الذي هو أقصى غرض الحكماء، والنهاية التي إليها يُرتقى بالمعارف الحقيقية. ولما كان أول درجة من النظر في العلوم الإلهية هو معرفة جوهر النفس، والبحث عن مبدئها من أين كانت قبل تعلقها بالجسد، والفحص عن معادها إلى أين تكون بعد فراق الجسد، الذي يُسمى الموت …» (١: ١، ٧٥-٧٦).

تبتدئ رحلة الإخوان العلمية والفلسفية من محاولة فهم الكون الرحيب بنجومه وحركة أفلاكه، وصولًا إلى بيئة الأرض والتعليل العلمي لكل ما يحيط بنا من الظواهر الطبيعية. ولسوف نتابعهم في هذه الرحلة التي جندوا لها كل المعارف الإنسانية التي كانت متاحة لهم في ذلك الزمان، متوقفين عند أهم الظواهر التي درسوها دون أن نستنفدها جميعها.

في علم النجوم وتركيب الأفلاك

عرف الإخوان الكثير مما نعرفه اليوم في علم النجوم، ولكنهم كانوا على رأي اليوناني بطليموس، من أن الأرض الكروية هي جرم ثابت لا يدور، وأنها تقع في مركز الكون، وكل الأجرام السماوية تدور حولها. ونظرًا لبدائية أدوات الرصد في ذلك الزمان، فإنهم لم يميزوا إلا عددًا محدودًا من النجوم الثابتة التي اعتقدوا أنها تنتظم في فلك واحد. ولما كانت هذه النجوم على ثباتها بالنسبة إلى بعضها البعض تبدو وكأنها تدور مجتمعة حول الأرض في كل يوم وليلة دورة واحدة، فقد اعتقدوا بوجود فلك فوقها يدور بشكل دائم ومعه كل الكواكب:

«أصل علم النجوم هو معرفة ثلاثة أشياء، وهي الكواكب والأفلاك والبروج، فالكواكب أجسام كريات مستديرات مضيئات، وهي ألف وتسعة وعشرون كوكبًا كبارًا؛ التي أُدركت بالرصد؛ منها سبعة يُقال لها السيارة، وهي زُحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر؛ والباقية يقال لها ثابتة. ولكل كوكب من السبعة السيارة فلك يخصه. والأفلاك: هي أجسام كريات مُشفَّات مجوفات، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة؛ فأدناها إلينا فلك القمر وهو محيط بالهواء من جميع الجهات، كإحاطة قشرة البيضة ببياضها، والأرض في جوف الهواء كالمح في بياضها، ومن وراء فلك القمر فلك عطارد، ومن وراء فلك عطارد فلك المريخ، ومن وراء فلك المريخ فلك المشتري، ومن وراء فلك المشتري فلك زحل، ومن وراء فلك زحل فلك الكواكب الثابتة، ومن وراء فلك الكواكب الثابتة فلك المحيط، ومثال ذلك الرسم المبين أدناه» (٣: ١، ١١٥).

fig1
شكل ٢-١

«واعلم يا أخي أن السماوات هي الأفلاك، وإنما سميت السماء سماءً لسموِّها، والفلك لاستدارته. واعلم بأن الأفلاك تسعة: سبعة منها هي السماوات السبع، وأدناها وأقربها إلينا فلك القمر، وهي السماء الأولى؛ ثم من ورائه فلك عطارد وهي السماء الثانية، ومن ورائه فلك الزهرة وهي السماء الثالثة، ثم من ورائه فلك الشمس وهي السماء الرابعة، ومن ورائه فلك المريخ وهي السماء الخامسة، ومن ورائه فلك المشتري وهي السماء السادسة، ثم من ورائه فلك زحل وهي السماء السابعة، وزحل هو النجم الثاقب، وإنما سمي الثاقب؛ لأن نوره يثقب سَمْك سبع سماوات حتى يبلغ أبصارنا. وأما الفلك الثامن، وهو فلك الكواكب الثابتة الواسع المحيط بهذه الأفلاك السبعة، فهو الكرسي الذي وسع السماوات والأرض. وأما الفلك التاسع، المحيط بهذه الأفلاك الثمانية، فهو العرش العظيم الذي يحمله فوقهم يومئذٍ ثمانية، كما قال الله عز وجل.

واعلم يا أخي أن كل واحد من هذه السبعة المقدم ذكرها سماء لما تحته وأرض لما فوقه، ففلك القمر سماء الأرض التي نحن عليها وأرض لفلك عطارد، وكذلك فلك عطارد سماء لفلك القمر وأرض لفلك الزهرة، وعلى هذا القياس حكم سائر الأفلاك» (١٦: ٢، ٢٦).

«فقد بان بهذا المثال أن جملة العالم إحدى عشرة كرة، اثنتان في جوف فلك القمر، وهما الأرض والهواء؛ لأن الأرض والماء كرة واحدة والهواء والأثير كرة واحدة؛ وتسع من ورائه محيطات بعضها ببعض» (١٦: ٢، ٢٨).

«اعلم أن الشمس لما كانت في الفلك كالملك في الأرض، صار مركزها بواجب الحكمة الإلهية وسط العالم، كما أن دار الملك وسط المدينة، ومدينته وسط البلدان من مملكته، وذلك أن مركز الشمس وسط فلكها، وفلكها في وسط الأفلاك؛ لأنه لما كان جملة العالم إحدى عشرة كرة، وكان خمس منها من وراء فلكها محيطات بعضها ببعض، وهي كرة المريخ، وكرة المشتري وكرة زحل، وكرة الكواكب الثابتة، وكرة المحيط؛ وخمس دونها، وهي في جوف كرتها محيطات بعضها ببعض، أولها فلك الزهرة، ودونها كرة عطارد، ودونها كرة القمر، ودونها كرة الهواء، ودونها كرة الأرض، فصار موضعها في وسط العالم بهذا الاعتبار، كما أن موضع الأرض في مركز العالم» (١٦: ٢، ٣٠).

«واعلم يا أخي أن هذه الأُكر محيطات بعضها ببعض كإحاطة طبقات البصل، مماس سطح الحاوي بسطح المحوى وليس بينها فراغ ولا خلاء إلا فصل مشترك وهمي. وقد ظن قوم من أهل العلم أن بين فضاء الأفلاك وأطباق السماوات وأجزاء الأمهات مواضع فارغة، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن معنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه، والمكان صفة من صفات الأجسام لا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه» (١٦: ٢، ٢٨).

«اعلم يا أخي أن هذه الإحدى عشرة كرة هي جملة العالم ومساكن الخلائق أجمعين. وقد ظن كثير بالأوهام أن وراء الفلك المحيط جسم آخر وخلاء، بلا نهاية، وكلا الحكمين خطأ لا حقيقة له؛ لأنه قد قام بالبرهان العقلي أن الخلاء غير موجود أصلًا، لا خارج العالم ولا داخله؛ لأن معنى الخلاء: هو المكان الفارغ الذي لا متمكن فيه كما وصفنا، والمكان: صفة من صفات الأجسام، وهو عَرَضٌ ولا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه. فمن ادَّعى أن خارج العالم جسم آخر من أجل الوهم الذي يتخيله فهو المطالب بالدليل على دعواه.

واعلم أن حكم العقل هو الذي يتساوى فيه العقلاء، وكلهم لم يتفقوا على أن خارج العالم جسم آخر؛ لأن الحس لم يدركه والعقل لم يقضِ به والبرهان لم يقم عليه» (١٦: ٢، ٢٩).

«إن الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب، يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، في كل يوم وليلة دورة واحدة، ويدير سائر الأفلاك والكواكب معه، كما قال الله عز وجل: … وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.١ وهذا الفلك المحيط مقسوم باثني عشر قسمًا كجزر البطيخة، كل قسم منها يسمى برجًا، وهذه أسماؤها: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. فكل برج ثلاثون درجة (من أقسام الدائرة)، جملتها ثلاثمائة وستون درجة، وكل درجة ستون جزءًا، كل جزء يسمى دقيقة، جملتها واحد وعشرون ألفًا وستمائة دقيقة، وكل دقيقة ستون جزءًا يسمى ثانية … مثال ذلك الرسم المبين أدناه.
fig2
شكل ٢-٢

وهذه البروج توصف بصفات شتى من جهات عدة … نقول: منها ستة شمالية وستة جنوبية … أما الستة الشمالية فهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة [= العذراء]. وإذا كانت الشمس في واحد منها يكون الليل أقصر والنهار أطول. وأما الستة الجنوبية فهي: الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. وإذا كانت الشمس في واحد منها، يكون الليل أطول والنهار أقصر. وأما المستقيمة الطلوع فهي السرطان والأسد السنبلة والميزان والعقرب والقوس، وكل واحد منها يطلع في أكثر من ساعتين. وإذا كانت الشمس في واحد منها، تكون هابطة من الشمال إلى الجنوب، ومن الأوج إلى الحضيض، والليل آخذ من النهار. وأما المعوجَّة الطلوع فهي الجدي والدلو والحوت والحمل والثور والجوزاء، وكل واحد منها يطلع في أقل من ساعتين. وإذا كانت الشمس في واحد منها، تكون صاعدة من الجنوب إلى الشمال، ومن الحضيض إلى الأوج، والنهار آخذ من الليل … ومن وجه آخر هذه البروج تنقسم أربعة أقسام منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال، زائدة النهار على الليل، وهي: الحمل والثور والجوزاء، وثلاثة صيفية هابطة في الشمال، آخذة الليل من النهار، وهي: السرطان والأسد والسنبلة. منها ثلاثة خريفية هابطة في الجنوب، زائدة الليل على النهار، وهي: الميزان والعقرب والقوس، ومنها ثلاثة شتوية صاعدة من الجنوب، آخذة النهار من الليل، وهي: الجدي والدلو والحوت …

فقد بان بهذا الوصف في هذا الشكل أن لو كانت البروج أكثر من اثني عشر، أو أقل من ذلك، لما استمرت فيه هذه الأقسام على هذا الوجه الذي ذكرنا. فإذًا بواجب الحكمة كانت اثني عشر؛ لأن الباري، جل ثناؤه، لا يفعل إلا الأحكم والأتقن. ومن أجل هذا جعل الأفلاك كريات الشكل؛ لأن هذا الشكل أفضل الأشكال، وذلك أنه أوسعها وأبعدها من الآفات، وأسرعها حركة، ومركزه في وسطه، وأقطاره متساوية، ويحيط به سطح واحد، ولا يماسُّ غيره إلا على نقطة، ولا يوجد في شكل غيره هذه الأوصاف، وجعل أيضًا حركته مستديرة؛ لأنها أفضل الحركات» (٣: ١، ١١٥–١١٩).

«الفلك المحيط دائم الدوران كالدولاب يدور من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، فيكون في دائم الأوقات نصف الفلك ستة أبراج مائة وثمانين درجة فوق الأرض، ويسمى يُمنةً، والنصف الآخر ستة أبراج مائة وثمانين درجة تحت الأرض، يسمى يُسرةً. وكلما طلعت درجة من أفق المشرق غابت نظيرتها في أفق المغرب من البرج السابع منه، فيكون في دائم الأوقات ستة أبراج طلوعها بالنهار، وستة طلوعها بالليل، ويكون في دائم الأوقات درجة في أفق المشرق، وأخرى نظيرتها في أفق المغرب، ودرجة أخرى في كبد السماء، وتسمى وتد العاشر، وأخرى نظيرتها منحطة تحت الأرض تسمى: وتد الرابع؛ فيكون الفلك في دائم الأوقات منقسمًا بأربعة أرباع، كل ربع منها تسعون درجة، فمن أفق المشرق إلى وتد السماء تسعون درجة يقال لها الربع الشرقي الصاعد في الهواء، ومن وتد السماء إلى وتد المغرب تسعون درجة يقال لها الربع الجنوبي الهابط، ومن وتد المغرب إلى وتد الأرض تسعون درجة يقال لها الربع الغربي الهابط في الظلمة، ومن وتد الأرض إلى وتد المشرق تسعون درجة يقال لها الربع الشمالي الصاعد» (٣: ١، ١٢٦-١٢٧).

fig3
شكل ٢-٣

«والكواكب السيَّارة تدور حول الأرض مثلما تدور أيضًا في البروج الاثني عشر؛ ودورة كل كوكب في هذه البروج تعبِّر عن سنة هذا الكواكب، مثلما يعبر دوران الشمس في البروج عن السنة الأرضية. ولكن من أجل اختلاف حركات الكواكب في السرعة والإبطاء، اختلفت أزمان أدوارها حول الأرض، ومن أجل اختلافها حول الأرض اختلفت أدوارها في فلك البروج. ومثل دوران الأفلاك بكواكبها حول الأرض كمثل دوران الطائفين حول البيت [الحرام]، ومثل اختلاف أدوارها حول الأرض كمثل اختلاف أشواط الطائفين حول البيت، وذلك أننا نرى الطائفين حول البيت منهم مَن يمشي الهوينى، ومنهم مَنْ يستعجل، ومنهم مَنْ يهرول، ومنهم مَنْ يسعى، فتختلف بحسب ذلك أشواطهم، وكلهم متوجهون في طوافهم نحوًا واحدًا وقصدًا واحدًا. ولكن إذا بلغ الماشي الركن العراقي، قد بلغ المستعجل الركن الشامي، والمهرول الركن اليماني، والساعي الحجر الأسود. بهذا السبب إذا طاف الماشي شوطًا واحدًا، فقد طاف الساعي أشواطًا، فهؤلاء الطائفون، وإن اختلفت أشواطهم من أجل سرعة حركاتهم وإبطائها، فليس قصدهم إلا قصد واحد إلى جهة واحدة؛ فهكذا حكم الأفلاك وكواكبها في دورانها حول الأرض» (١٦: ٢، ٣٩-٤٠).

وقد حسب إخوان الصفاء بدقة سنة كل كوكب من الكواكب السيارة، فكوكب زحل وهو الأبعد: «يدور في البروج الاثني عشر في كل ثلاثين سنة بالتقريب دورة واحدة، يقيم في كل برج سنتين ونصف السنة، وفي كل درجة شهرًا، وفي كل دقيقة اثنتي عشرة ساعة … والمشتري يدور في البروج الاثني عشر في اثنتي عشرة سنة بالتقريب مرة واحدة يقيم في كل برج سنة، وفي كل درجتين ونصف شهرًا، وفي كل خمس دقائق يومًا وليلة … المريخ يدور في الفلك مدة سنتين إلا شهرًا واحدًا بالتقريب، يقيم في كل برج خمسة وأربعين يومًا، يزيد وينقص، ويقيم في كل درجة مقدار يوم وبعض يوم … الزهرة تدور في البروج مثل دوران الشمس، غير أنها تسرع السير تارة فتسبق الشمس وتصير قدامها، وتارة تبطئ في السير فترجع وتصير خلفها … حالات عطارد من الشمس مثل حالات الزهرة منها … القمر يدور في البروج في كل سنة عربية اثنتي عشرة مرة، في كل شهر مرة، ويقيم في كل برج يومين وثلثًا، وفي كل منزل يومًا وليلة، وفي كل درجة ساعتين بالتقريب» (٣: ١، ١٣٠–١٣٣).

أما دوران الشمس في البروج فهو السبب في تتابع الفصول على الأرض وتغييرات أرباع السنة: «الشمس تدور في البروج الاثني عشر في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا، وربع دورة واحدة، تقيم في كل برج ثلاثين يومًا وكسرًا، وفي كل درجة يومًا وليلة وكسرًا. تكون بالنهار فوق الأرض وبالليل تحت الأرض، وتكون في الصيف في البروج الشمالية في الهواء، وتقرُب من سمت رءوسنا، وتكون في الشتاء في البروج الجنوبية، وتنحط في الهواء، وتبعد من سمت رءوسنا؛ وفي الأوج ترتفع في الفلك، وتبعد من الأرض، وفي الحضيض تنحط في الفلك، وتقرب من الأرض …

إذا نزلت الشمس أول دقيقة من برج الحمل استوى الليل والنهار واعتدل الزمان، وانصرف الشتاء ودخل الربيع، وطاب الهواء وَهَبَّ النسيم، فذابت الثلوج وسالت الأودية … وطال الزرع ونما الحشيش … ودرت الضروع، وتكونت الحيوانات وانتشرت على وجه الأرض … إذا بلغت الشمس آخر الجوزاء وأول السرطان تناهى طول النهار، وقصر الليل، وأخذ النهار في النقصان وانصرف الربيع، ودخل الصيف، واشتد الحر وحمي الهواء … ويبس العشب … وأدرك الحصاد ونضجت الثمار وسمنت البهائم … وإذا بلغت الشمس آخر السنبلة وأول الميزان استوى الليل والنهار مرة أخرى، وأخذ الليل في الزيادة على النهار، وانصرف الصيف ودخل الخريف، وبرد الهواء وهبت ريح الشمال، وتغيَّر الزمان. وإذا بلغت الشمس آخر القوس وأول الجدي تناهى طول النهار، وأخذ الليل في الزيادة، وانصرف الخريف، ودخل الشتاء، واشتد البرد، وخشن الهواء، وتساقط ورق الأشجار، ومات أكثر النبات … وإذا بلغت الشمس آخر الحوت وأول الحمل عاد الزمان كما كان في العام الأول، وهذا دأبه، ذلك تقدير العزيز العليم» (٣: ١، ١٢٧–١٣٠).

«فجسم العالم بأسره كريُّ الشكل، وحركات أفلاكه كلها دورية، ونور الكواكب السماوية كلها ذاتي إلا القمر، وأجرام الكرة كلها شفافة إلا الأرض» (١٦: ٢، ٢٥-٢٦).

«اعلم أيها الأخ أن معنى قول الحكماء: العالم، إنما يعنون به السماوات السبع والأرضين، وما بينهما من الخلائق أجمعين، وسموه أيضًا إنسانًا كبيرًا؛ لأنهم يرون أنه جسم واحد بجميع أفلاكه وأطباق سماواته وأركان أمهاته ومولَّداتها، ويرون أيضًا أن له نفسًا واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمها كسريان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده» (١٦: ٢، ٢٤-٢٥).

هذا العالم الواحد المؤلف من تسعة أفلاك وإحدى عشرة كرة، ينقسم إلى قسمين: علوي وسفلي. الأول يمتد من أعلى الفلك المحيط هبوطًا إلى أدنى فلك القمر، وهو يشتمل على الأجسام الكليات البسيطات التي هي الأفلاك والكواكب، والثاني يمتد من أدنى فلك القمر هبوطًا إلى مركز الأرض، وهو يشتمل على الأمهات الكليات التي هي النار والهواء والماء والأرض، وتُدعى أيضًا الأركان الأربعة، كما يشتمل أيضًا على الجزئيات المولَّدات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وهذه الجزئيات تنتج عن الأركان الأربعة وتتولد منها. والأمهات الكليات أو الأركان الأربعة تتوضع داخل الهواء وكرة الأرض والماء؛ وكرة الهواء هي التي تحتوي على ركن النار؛ لأن سمك الهواء ينفصل بثلاثة طبائع متباينة، فالهواء الذي يلي فلك القمر هو نار سموم في غاية الحرارة ويُدعى الأثير، والذي يليه في غاية البرودة ويُدعى الزمهرير، والذي دونه معتدل المزاج يسمى النسيم (٣: ١، ١٤٦) (١٧: ٢، ٦٥).٢

تتشارك أجسام العالم العلوي والعالم السفلي في كثير من الصفات. فالقمر، الذي هو أحد الأجسام الفلكية، يُرى فيه اختلاف قبول النور والظلمة كما يُرى في الأجسام الأرضية، وله ظل كظلالها، وهو غير مشف مثل الأرض؛ والأفلاك كلها تشارك الهواء والماء والبلور في الإشفاف، والشمس والكواكب تشارك النار في النور، وكلها يشارك الأرض في اليبس. ولكن أجسام العالم العلوي تختلف عن أجسام العالم السفلي في أنها لا تقبل الكون والفساد، والتغير والاستحالة، والزيادة والنقصان، كما تقبلها الأجسام التي تحت فلك القمر، وفي أن حركاتها كلها دورية. وهذه الأجسام الفلكية محفوظ نظامها وباقية أشخاصها ما دامت ثابتة على دورانها، فإذا وقفت عن الدوران وسكنت حركاتها تولد فيها السكون والبرودة وفسد نظامها، ومن فساد النظام يأتي البوار والبطلان. وهذا لا يحدث إلا إذا فارقت نفس العالم جسدها وعادت إلى باريها عندما تقوم القيامة الكبرى (١٦: ٢، ٤٦-٤٧ و٤٩). من هنا يدعو إخوان الصفاء العالم العلوي بعالم النظام والثبات، ويدعون العالم السفلي الذي هو دون الفلك القمر بعالم الكون والفساد؛ لأنه دائم التغير بالنشوء والبلى.

ويقول الإخوان في شرح تعبير «الكون والفساد» الذي يتكرر عبر الرسائل، إن «الكون» عبارة عن خروج الشيء من العدم إلى الوجود، أو من القوة إلى الفعل، والفساد عكس ذلك، أي عودة الشيء إلى العدم (١٥: ٢، ١٣). وقالوا أيضًا: «واعلم يا أخي بأن الكون والفساد هما ضدان لا يجتمعان في شيء واحد في زمان واحد؛ لأن الكون هو حصول الصورة في الهيولى، والفساد انخلاعها منها، فإذا فسد شيء منها لا بد أن يتكوَّن شيء آخر؛ لأن الهيولى إذا انتُزعت منها صورة أُلبست أخرى. فإن كانت التي أُلبست أشرف سُمِّي كونًا، وإن كانت أدون سُمي فسادًا. مثال ذلك أن يصير التراب والماء نباتًا، ويصير النبات حَبًّا وثمارًا، والثمار والحب يصيران غذاء، والغذاء يصير دمًا ولحمًا وعظمًا، فيكون من ذلك حيوان. والفساد أن يحترق النبات فيصير رمادًا، ويموت الحيوان فيصير ترابًا. واعلم يا أخي أن جسدك، الذي تختص به نفسك، أحد الكائنات الفاسدات، وما هو بالنسبة إلى نفس إلا كدار سُكنت أو كلباس أُلبس، فلا تكونن كلُّ همتك وأكثر عنايتك بتزويق هذه الدار وتطرية هذا اللباس، فإنك تعلم بأن كل مسكن يخرب وكل لباس لا بد أن يبلى. ولكن اجعل بعض أوقاتك للنظر في أمر نفسك [= روحك]، وطلب معرفة جوهرها، ومبدئها ومعادها، فإنها جوهرة خالدة أبدية الوجود، ولكن تنتقل لها حال بعد حال» (١٧: ٢، ٥٨-٥٩).

لقد راقب الإخوان السماء ودرسوا حركة الكواكب السيارة وعلائقها مع بعضها بعضًا، وحاولوا بما تيسر لهم من وسائل معرفة الحجم التقريبي من الأكر التي تشكل العالم. ومن بين الظواهر السماوية التي درسوها وأعطونا عنها تفسيرًا علميًّا دقيقًا لا يختلف عما نعرفه اليوم، ظاهرتي الكسوف والخسوف التي يدعونها بظاهرة الكسوفين. قد قالوا فيها:

«وهذه الكواكب لبعضها في بيوت بعضٍ مواضع مخصوصة فمنها الشرف والهبوط، ومنها الأوج والحضيض، ومنها الجوزهر … ومعنى الجوزهر تقاطع طريق الكواكب لطريق الشمس بممرها في البروج في موضعين، أحدهما يسمى رأس الجوزهر … والآخر ذنب الجوزهر، ويقال لهما أيضًا العقدتان … وإذا اجتمع الشمس والقمر في وقت من الأوقات عند أحدهما في برج واحد ودرجة واحدة، انكسفت الشمس، ولا يكون ذلك إلا في آخر الشهر؛ لأن القمر يصير محاذيًا لموضع الشمس من البرج والدرجة، فيمنع نور الشمس عن أبصارنا فنراها منكسفة مثلما تمنع قطعة غيم عن أبصارنا نور الشمس إذا مرت محاذية لأبصارنا ولعين الشمس. وإذا كانت الشمس عند أحدهما وبلغ القمر إلى الآخر انكسف القمر، ولا يكون كسوف القمر إلا في نصف الشهر؛ لأن القمر في نصف الشهر يكون في البرج المقابل للبرج الذي فيه الشمس، وتكون الأرض في الوسط فتمنع نور الشمس عن إشراقه على القمر، فيُرى القمر منكسفًا؛ لأنه ليس له نور من نفسه وإنما يكتسي النور من الشمس» (٣: ١، ١٢٠–١٢٢).

ولحركة الأفلاك في العالم العلوي موسيقى عذبة ناجمة عن دورانها المتسق المتناغم، يسمعها سكان ذلك العالم فتستلذ بها نفوسهم وتذكرهم بسرور عالم الأرواح التي فوق الفلك. نقرأ في رسالتهم عن الموسيقى:

«فإذا استوت الأوتار على هذه النسب الفاضلة وحُركت حركات متواترة متناسبة حدث عند ذلك منها نغمات متواترة متناسبة … فإذا وصلت المعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان إلى المسامع، استلذت بها الطباع، وفرحت فيها الأرواح، وسُرَّت بها النفوس؛ لأن تلك الحركات والسكونات التي تكون بينها، تصير عند ذلك مكيالًا للأزمان وأذرعًا لها، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية … إذا كيل بها الزمان كيلًا متساويًا متناسبًا معتدلًا، كانت نغماتها مماثلة لنغمات حركات الأفلاك والكواكب، ومناسبة لها … اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات، لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجود فيهم. فإن لم يكن لهم سمع فهم صمٌّ بكمٌ عميٌ. وهذه حال الجمادات الجامدات الناقصات الوجود. وقد قام الدليل وصح البرهان بطريق المنطق الفلسفي، أن أهل السماوات وسكان الأفلاك هم ملائكة الله وخالص عباده، يسمعون ويبصرون ويعقلون ويعلمون ويقرءون ويسبحون الليل والنهار … ويقال إن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فطرته أصول الموسيقى ونغمات الألحان، وهو أول من تكلم في هذا العلم، ثم بعده نيقوماخُس وبطليموس وإقليدُس وغيرهم من الحكماء. وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادة؛ وخاصة الألحان المحزنة المرققة للقلوب القاسية المذكِّرة للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحاني ومحلها النوراني … ولإخراجها من عالم الكون والفساد، ولتخليصها من غرق بحر الهيولى، ونجاتها من أسر الطبيعة» (٥: ١، ٢٠٥–٢١٠).

على أن انقسام الموجودات إلى عالم علوي وعالم سفلي، لا يعني استقلال كل عالم بنفسه عن الآخر؛ لأن العالم بأسره يشبه مدينة واحدة أو حيوانًا واحدًا ذا نفس واحدة تسري قواها في العالمين جميعًا من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض. في هذه المنظومة المتكاملة تلعب الكواكب السيارة دورًا فاعلًا في نقل النور والفيض والقوى من الأعلى إلى الأسفل:

«واعلم يا أخي أن أول قوة تسري من النفس الكلية نحو العالم، فهي في الأشخاص الفاضلة النيرة التي هي الكواكب الثابتة، ثم بعد ذلك في الكواكب السيارة، ثم بعد ذلك فيما دونها من الأركان الأربعة، وفي الأشخاص الكائنة منها من المعادن والنبات والحيوان.

واعلم بأن مثال سريان قوى النفس الكلية في الأجسام الكلية والجزئية جميعًا كمثال سريان نور الشمس والكواكب في الهواء ومطارح شعاعاتها نحو مركز الأرض.

واعلم يا أخي بأن الكواكب السيارة ترتقي تارة بحركاتها إلى أعلى ذرا أفلاكها وأوجاتها، وتقرب من تلك الأشخاص الفاضلة التي تسمى الكواكب الثابتة، وتستمد منها النور والفيض والقوى؛ وتارة تنحط إلى الحضيض، وتقرب من عالم الكون والفساد، وتوصل تلك الفيضات والقوى إلى هذه الأشخاص السفلية، فتسري فيها كما تسري قوة النفس الحيوانية في الدماغ، ثم بتوسط الأعصاب تصل إلى سائر أطراف البدن، كما بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس. فإذا وصلت تلك القوى والفيضات مع شعاعاتها إلى هذا العالم فإنها تسري أولًا في الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ثم يكون ذلك سببًا لكون الكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان» (٣: ١، ١٤٦-١٤٧).

أما عن كيفية نشوء الجزئيات المولَّدات، التي هي المعادن والنبات والحيوان، عن الأركان الأربعة، فللإخوان فيها نظرية تدل على تفكير علمي مادي سليم:

«واعلم يا أخي بأن هذه الأركان الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، فيصير الماء تارة هواءً، وتارة أرضًا، وهكذا أيضًا حكم الهواء، فإنه يصير تارة ماء، وتارة نارًا. وكذلك النار، وذلك أن النار إذا أطفئت وخمدت صارت هواءً، والهواء إذا غلظ صار ماء، والماء إذا جمد صار أرضًا، وعكس ذلك أن الأرض إذا تحللت ولطفت صارت ماءً، والماء إذا ذاب صار هواءً، والهواء إذا حمي صار نارًا، وليس للنار أن تلطف فتصير شيئًا آخر، ولا للأرض أن تغلظ فتصير شيئًا آخر. ولكن إذا اختلطت أجزاء هذه الأركان بعضها ببعض، كان منها المتولدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان. وأصل هذه كلها البخارات والعصارات إذا امتزج بعضها ببعض، فالبخار ما يصعد من لطائف البحار والأنهار والآجام في الهواء من إسخان الشمس والكواكب لها بمطارح شعاعاتها؛ والعصارات مما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتُخلط بالأجزاء الأرضية وتغلظ، فتنضجها الحرارة المستنبطة في عمق الأرض.

اعلم بأن أول ما يستحيل هي الأربعة الأركان إلى هذين الخليطين، أعني البخارات والعصارات، ويكون هذان الخليطان هيولى ومادة لسائر الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر، وذلك أن الشمس والكواكب إذا سخنت المياه … قللت المياه، ولطفت أجزاء الأرض، وصارت بخارًا ودخانًا. والبخار والدخان يصيران سحابًا، والسحاب يصير أمطارًا، والأمطار إذا بللت التراب واختلطت الأجزاء الأرضية بالأجزاء المائية، تتكوَّن منها العصارات، والعصارات تكون مادة وهيولى للكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان» (١٧: ٢، ٥٧-٥٨).

وينسب الإخوان كل الحوادث التي تجري في العالم السفلي الذي دون فلك القمر إلى قوى طبيعية يجملونها تحت اسم «الطبيعة»، وهي القوى التي يدعوها الدين بالملائكة. وهي تمارس نشاطها الخلَّاق بواسطة الأشخاص الفلكية:

«واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الطبيعة: إنما هي قوة من قوى النفس الكلية، منبثة منها في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، سارية في جميع أجزائها كلها، تسمى باللفظ الشرعي الملائكة الموكلين بحفظ العالم وتدبير الخليقة، بإذن الله، وتُسمى باللفظ الفلسفي: قوى طبيعية، وهي فاعلة في هذه الأجسام بإذن الباري، جل ثناؤه … والأشخاص الفلكية للطبيعة كالأدوات للصانع، وذلك أن الفلك يدوم دورانه حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة دورة واحدة، وبحركات كواكبه ومطارحه شعاعاته في سمك الهواء على سطح الأرض والبحار وإسخانها لا، يحلل المياه فيصيِّرها بخارًا، ويلطف أجزاء التراب فيصيرها دخانًا، وتختلطان، ويكون منهما المزاجات كما يكون من أصباغ المصورين. ثم إن قوى النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام المسماة الطبيعة، تنقش وتصور وتصوغ من تلك المزاجات والأخلاط أجناس الكائنات التي هي الحيوان والنبات والمعادن، بإذن الله، عز وجل» (١٨: ٢، ٦٣–٦٥).

على أن الطبيعة في تكوينها للمولَّدات الجزئيات في عالم الكون والفساد، لا تعمل مستقلة عن الباري عز وجل، فهي قوة من قوى النفس الكلية، والنفس الكلية فيض عن المبدع الأول:

«واعلم أن الله تعالى غير محتاج في أفعاله إلى الأدوات والآلات والأماكن والأزمان والهيولى والحركات، بل فعله الخاص به هو: الإبداع والاختراع، إذ الاختراع هو الإخراج من العدم إلى الوجود …

واعلم أن طائفة من المجادلة أنكرت أفعال الطبيعة لما جهلت ماهية الطبيعة نفسها، ولم تدرِ أنها ملَكٌ من ملائكة الله تعالى الموكلين بتدبير عالمه وإصلاح خلائقه، فنسبت كل أفعال الطبيعة إلى الباري، جل ثناؤه، حسنة كانت أم سيئة، خيرًا كانت أم شرًّا. وفيهم من نسب ما كان حسنًا إلى الباري وما كان قبيحًا إلى غيره …

واعلم يا أخي أن الباري، جل ثناؤه، لا يباشر الأجسام بنفسه، ولا يتولَّى الأفعال بذاته، بل يأمر ملائكته الموكلين، وعباده المؤيدين، فيفعلون ما يؤمرون … واعلم يا أخي أن هذه الصنائع والأفعال التي تجري على أيدي عباده، إذا نُسبت إلى الباري، جل جلاله، فإن نسبتها على مثل نسبة أفعال الملوك، إذا قيل: بنى فلان الملكُ مدينة كذا، وحفر نهر كذا، وعمَّر بلد كذا … فلأن ذلك كان بأمرهم وإرادتهم ومشيئتهم وعنايتهم، لا أنهم تولوا الأفعال بأنفسهم أو باشروا الأعمال بأجسامهم» (١٩: ٢، ١٢٧–١٢٩).

فيما يأتي من هذا الفصل سوف نركز على العالم السفلي، عالم الكون والفساد، الذي هبطت إليه النفوس الجزئية من عالمها الروحاني، كيما تستكمل فضائلها وتسعى لإعتاق نفسها من هيولى المادة وظلمة الأجسام الكثيفة. فهذا العالم هو الذي ينشط فيه الإنسان الذي وضع الإخوان رسائلهم من أجل الكشف عن بصيرته وإفهامه شرطه.

في كيفية نضد عالم الكون والفساد

في وصفنا لكيفية نضد العالم، قلنا: إن العالم السفلي الذي ينتظم تحت فلك القمر يتألف من كرتين هما آخر الأكر الإحدى عشرة التي يتكون منها العالم بأسره، وهما كرة الهواء وكرة الأرض؛ لأن الأرض والماء كرة واحدة. ولكن الإخوان يعودون إلى إعطائنا تفصيلات أكثر بخصوص نضد عالم الكون والفساد ودوائره المتتابعة.

«فأول الدوائر التي دون فلك القمر دائرة الأثير وهي دائرة كرية نارية حادثة من تحريك فلك القمر وما يتصل به من أفلاك الكواكب ونيران حرارات دوران الأفلاك واصطكاكاتها وتموجها وشعاعاتها، وتجتمع كلها تحت فلك القمر. وكيفية هذه الدائرة وردية متموجة متحركة مستديرة، ينحط منها إلى العالم قوى نارية، والنار التي في العالم منها، ويكون وصولها إلى العالم بوصول نور الشمس وهي الحرارة التي تنحل بنور الشمس مما دون فلك القمر، تقوى في الصيف وتضعف في الشتاء … ومن فعل دائرة الأثير في العالم يكون التسخين والنضج وإصلاح الغذاء، وهي النار المستضاء بها من ظلمات الليل، وهي نار جزئيَّة من النار الكلية.

ومن تحتها دائرة الزمهرير؛ وكيفيتها كُريَّة لونها أزرق وتحمرُّ، وحدوثها من الهواء والبخارات الصاعدة من الأرض، فإذا وصلت إلى سطح كرة الأثير تعذَّر عليها نفوذها فوقفت مرتبة تحتها. منها ينبث إلى العالم ما يحدث في الشتاء من البرد والأمطار والثلوج، وما شاكل ذلك، إذا بعدت الشمس وضعف فعل دائرة الأثير … وفعلها البرد والرطوبة، ووصولها يكون بوصول [نور] القمر، ويزيد بزيادته وينقص بنقصانه.

ومن تحتها دائرة النسيم٣ وكيفيتها مستديرة ممتزجة، ولونها اسمانجوني، وهو لون السماء، وتبيض بإشراق الشمس والقمر والكواكب عليه، تضيء بالنهار وتظلم بالليل، وهي مهيأة لقبول الأنوار وتضيء بحسب قواها فيها ووصولها إليها وإشراقها عليها. وفعل هذه الدائرة في العالم تغذية الأجسام وحفظها على استواء النظام، وترويح الحرارة الغريزية والنفَس، وحفظ القوة والحركة، وطيبة العيش ولذة الحياة. وهي معتدلة تميل مع ما يقوى عليها ويتصل بها، تبرد في الشتاء بما يتصل بها من قوة الزمهرير، وتحمى في الصيف بما يتصل بها من قوة حر الأثير، وما يكون من فعل الشمس والقمر وبقية الكواكب، ذلك تقدير العزيز العليم.

ودون دائرة الهواء دائرة الماء، وهي مستديرة حائطة بالأرض، والهواء حائط بها، فما ينشفه الهواء ويصعد به ويعرج معه بالبخارات الصاعدة مع لطائف الأمهات حتى يتصل بدائرة الزمهرير ويسخن بحرارة الأثير، وتشرق الشمس عليه مع شعاعات الكواكب، فيصير مطرًا وغيثًا يُغاث به أهل الأرض ويصير حلوًا طيبًا سائغًا … ومنه ما يكون قبل صعوده ملحًا أُجاجًا كالبحار المالحة …

وبعد دائرة الماء دائرة الأرض وهي التراب، وكيفيتها مستديرة، ولونها أسود، كثيفة جامدة، وعلى بسيطها مستقر الجثمانيين، وعلى ظهرها إشراق أنوار الروحانيين … وهي مهبط الوحي والملائكة المقربين، وفي باطنها سكون المعادن، وفي البقاع الطيبة يستقر الماء المعين الذي هو لذة للشاربين سطحها مما يلي الأفلاك هو وجهها، وهو مقر العالم الجسماني، والخلق الإنساني …

وإذ قد ذكرنا الدوائر التي هي دون فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض، فلنذكر الدوائر التي على سطح الأرض، الكائنة فيها، الصاعدة عنها، المستقرة عليها.

اعلم أيها الأخ أنه أول ما بدأ في باطن الأرض، وتحرك بالكون، المعادن؛ وهي دائرة كانت ذات قوة كامنة، كثيفة وثقيلة، منها صلبة ورخوة، ذات ألوان وأصباغ وزيادة ونقصان … ولكل شكل منها فعل يختص به وقوة توجد فيه. ثم الدائرة التي فوقها التالية لها دائرة النبات، وهي مرتفعة عن الأرض بعد كونها مرتفعة نحو المحيط، قابلة لما ينزل عليها، وفعلها الغذاء للحيوان، وهي الواسطة بينه وبين الأرض بما يتناوله من ثمارها وحبوبها …

والدائرة التي من فوقها دائرة الحيوان … وهي حائطة بدائرة النبات، قاهرة لما يكون فيها، تأكل منها وتتغذى بها، ولكل جنس منها عمل وهو عامل له، وفعل يختص به، وفيها للإنسان منافع. والدائرة المرتبة فوق هذه الدوائر، التي هي لها كالفلك المحيط بالأفلاك، دائرة عالم الإنسان، إذ كان المتحكم فيها كلها …

وهذه النفوس الحيوانية المرتبة تحت الإنسان بالطاعة له والانقياد لأمره ونهيه، هم الملائكة الذين سجدوا لآدم، عليه السلام، وأقروا بالطاعة، وهم صور وأشباح للملائكة الذين هم سكان السماوات وعالم الأفلاك» (٤٩: ٤، ٢٢٥–٢٢٩).

في صفة الأرض

يقول الإخوان في مطلع رسالة الجغرافيا: «من أجل أن مذهب إخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، هو النظر في جميع الموجودات والبحث عن مبادئها وعن علة وجدانها، وعن مراتب نظامها، والكشف عن كيفية ارتباط معلولاتها بعللها بإذن باريها، جل ثناؤه، احتجنا إلى أن نذكر حال الأرض وكيفية صورتها، وسبب وقوفها في مركز العالم. وذلك أن المعرفة بحالها وبكيفية وقوفها في الهواء، من العلوم الشريفة؛ لأن عليها وقوف أجسامنا، ومنها بدأ كون أجسادنا ونشوءُها ومادة بقائها، وإليها عَوْدُها عند مفارقة نفوسها. وأيضًا، فإن النظر في هذا العالم يكون سببًا لترقي همم نفوسنا إلى عالم الأفلاك مسكن العليين. وكثرة أفكارنا في عالم الأفلاك مسكن العليين. وكثرة أفكارنا في عالم الأفلاك تكون سببًا لانتباه نفوسنا من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويدعوها ذلك إلى الانبعاث من عالم الكون والفساد إلى عالم البقاء والدوام» (٤: ١، ١٥٨-١٥٩).

وفي الحقيقة فإن ما قدمه لنا الإخوان في وصف الأرض، يدل على معارف جغرافية واسعة تتفق في خطوطها العامة مع معارفنا الراهنة. فقد قاسوا محيط الأرض، وحددوا مركزها وطول قطرها، وأعطونا فكرة شاملة عن مناخاتها وأقاليمها، وعدد بحارها، وأهم سلاسل جبالها، وعدد أنهارها الرئيسة وأطوالها. وحدَّدوا قطب الشمال وقطب الجنوب، ورسموا خط الاستواء وخطوط العرض والطول، والخط الطولي الرئيس الذي ندعوه اليوم بخط غرينتش. وإليكم بعض ما قدموه من معلومات:

«وقبل وصفها [الأقاليم]، نحتاج إلى أن نذكر صفة الأرض وجهاتها الست، وكيفية وقوفها في الهواء. أما الجهات فهي الشرق والغرب والجنوب والشمال والفوق والأسفل. فالشرق من حيث تطلع الشمس، والغرب من حيث تغرب الشمس، والجنوب من حيث مدار سهيل [= السرطان]، والشمال من حيث مدار الجدي والفرقدين، والفوق مما يلي السماء، والأسفل مما يلي مركز الأرض.

والأرض جسم مدور مثل الكرة وهي واقفة في الهواء … والهواء محيط بها من جميع جهاتها شرقها وغربها وجنوبها وشمالها … وبُعد الأرض من السماء من جميع جهاتها متساوٍ. وأعظم دائرة في بسيط الأرض ٢٥٤٥٥ ميلًا ٦٨٥٥ فرسخًا، وقطر هذه الدائرة هو قطر الأرض ٦٥٥١ ميلًا ٢١٦٧ فرسخًا بالتقريب. ومركزها هي نقطة متوهمة في عمقها على نصف القطر، وبُعدها من ظاهر سطح الأرض ومن سطح البحر من جميع الجهات متساوٍ … وليس شيء من ظاهر سطح الأرض من جميع جهاتها هو أسفل الأرض كما يتوهم كثير من الناس … وذلك أنهم يتوهمون بأن سطح الأرض من الجانب المقابل لموضعنا هو أسفل الأرض، وليس الأمر كما توهموا … وذلك أن أسفل الأرض بالحقيقة هو نقطة وهمية في عمق الأرض … فأما سطحها الظاهر المماس للهواء، وسطح البحار من جميع الجهات، فهو فوق …

واعلم يا أخي أن الإنسان أي موضع وقف على سطح الأرض … فقدمُه أبدًا يكون فوق الأرض، ورأسه إلى فوق، مما يلي السماء، ورجلاه أسفل، مما يلي مركز الأرض. وهو يرى من السماء نصفها، والنصف الآخر يستره عنه حدبة الأرض، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الموضع إلى الموضع الآخر، ظهر له من السماء مقدار ما خفي عنه من الجهة الأخرى» (٤: ١، ١٦٠-١٦١).

وفي تعليلهم لسبب وقوف الأرض في وسط الهواء، يكشف الإخوان عن معرفتهم العامة بقانون الجاذبية:

«وأما سبب وقوف الأرض في وسط الهواء ففيه أربعة أقاويل؛ منها ما قيل: إن سبب وقوفها هو جذب القلب لها من جميع جهاتها بالسوية، فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الجذب من جميع الجهات؛ ومنها ما قيل: إنه الدفع بمثل ذلك، فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الدفع من جميع الجهات؛ ومنها ما قيل: إن سبب وقوفها في الوسط هو جذب المركز لجميع أجزائها من جميع الجهات إلى الوسط؛ لأنه لما كان مركز الأرض مركز الفلك أيضًا، وهو مغناطيس الأثقال بينما مركز الأرض، وأجزاء الأرض لما كانت كلها ثقيلة انجذبت إلى المركز، وسبق جزء واحد وحصل في المركز، ووقف باقي الأجزاء حولها، يعني حول النقطة، يطلب كل جزء منها المركز، فصارت الأرض بجميع أجزائها كرة واحدة بذلك السبب … والوجه الرابع ما قيل في سبب وقوف الأرض في وسط الهواء هو خصوصية الموضع اللائق بها، وذلك أن الباري، عز وجل، جعل لكل جسم من الأجسام الكليات، يعني النار والهواء والماء والأرض، موضعًا مخصوصًا هو أليق المواضع به، وهكذا القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، جعل لكل واحد منها موضعًا مخصوصًا في فلكه هو ثابت فيه والفلك يديره معه» (٤: ١، ١٦٢).

«الأرض نصفها مغطًّى بالبحر الأعظم المحيط، والنصف الآخر مكشوف؛ مثلها مثل بيضة غائصة نصفها في الماء والنصف الآخر ناتئ من الماء. وهذا النصف المكشوف نصف منه خراب مما يلي الجنوب من خط الاستواء والنصف الآخر الذي هو الربع المسكون مما يلي الشمال من خط الاستواء. وخط الاستواء هو خط متوهم ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس برج الحمل، والليل والنهار أبدًا على ذلك الخط متساويان، والقطبان هناك ملازمان للأفق، أحدهما مما يلي مدار سهيل [= السرطان] والآخر في الشمال مما يلي الجدي … وهذا الربع الشمالي المسكون من الأرض سبعة أبحر كبار، وفي كل بحر منها عدة جزائر، تكسير كل جزيرة منها عشرون فرسخًا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ. فمنها بحر الروم وفيه نحو خمسين جزيرة، ومنها بحر الصقالبة وفيه نحو ثلاثين جزيرة، ومنها بحر جرجان وفيه خمس جزائر، ومنها بحر القُلزُم وفيه نحو خمس عشرة جزيرة، ومنها بحر فارس وفيه سبع جزائر، ومنها بحر السند والهند وفيه نحو ألف جزيرة، ومنها بحر الصين وفيه نحو مائتي جزيرة … وأما بحر الغرب وبحر يأجوج ومأجوج وبحر الزنج، وبحر الزانج، والبحر الأخضر، والبحر المحيط فخارج عن هذا الربع المسكون، وكل واحد من هذه الأبحر شعبة وخليج من البحر المحيط، وكلها مالح.

وفي هذا الربع أيضًا مقدار مائتي جبل طوال، منها ما طوله من عشرين فرسخًا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ … ومنها ما يمتد طوله من المشرق إلى المغرب، أو من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يتنكب ما بين المشرق والجنوب، ومنها ما يتنكب ما بين المشرق والشمال … وفي هذا الربع أيضًا مقدار مائتين وأربعين نهرًا، طول كل نهر منها من عشرين فرسخًا إلى مائة فرسخ إلى ألف فرسخ. فمنها ما جريانه من المشرق إلى المغرب، ومنها ما جريانه من الغرب إلى الشرق، ومنها من الشمال إلى الجنوب، ومنها من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يتنكب من هذه الجهات. وكل هذه الأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار في جريانها وإلى البطائح والبحيرات، وتسقي في ممرها المدن والقرى والسوادات، وما يفضل من مائها ينصب إلى البحار، ويختلط بماء البحر، ثم يصير بخارًا ويصعد في الهواء، وتتراكم منه الغيوم وتسوقه الرياح إلى رءوس الجبال والبراري، ويمطر هناك ويسقي البلاد، فتجري الأودية والأنهار ويرجع إلى البحار من الرأس، وذلك دأبها.

وفي هذا الربع سبعة أقاليم تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة، يملكها نحوٌ من ألف ملك … كل إقليم منها كأنه بساط مفروش قد مد طوله من المشرق إلى المغرب وعرضه من الجنوب إلى الشمال … واعلم أن هذه الأقاليم السبعة ليست أقاليم طبيعية، وإنما خطوط وهمية وضعتها الملوك الأولون الذين طافوا الربع المسكون من الأرض؛ ليعلموا بها حدود البلدان والمسالك والممالك. وأما ثلاثة أرباعها الباقية فمنعهم من سلوكها الجبال الشامخة والمسالك الوعرة،٤ والبحار الزاخرة، والأهوية المتغيرة المفرطة التغير من الحر والبرد والظلمة. مثال ذلك ما في ناحية الشمال مما يلي مدار الجدي، فإن هناك بردًا مفرطًا جدًّا؛ لأنه ستة أشهر يكون الشتاء هناك ليلًا كله، فيظلم الهواء ظلمة شديدة، وتجمد المياه بشدة البرودة، ويتلف النبات والحيوان. وفي مقابل هذا الموضع في ناحية الجنوب حيث مدار سهيل [= السرطان] يكون نهارًا كله، ستة أشهر صيفًا …

فاعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن حدود الأقاليم معتبرة بساعات النهار وتفاوت الزيادة فيها. وبيان ذلك أنه إذا كانت الشمس في أول برج الحمل كان طول الليل والنهار وساعاتهما تتساوى في هذه الأقاليم كلها. فإذا سارت الشمس في درجات برج الحمل والثور والجوزاء، اختلفت ساعات نهار كل إقليم، حتى إذا بلغت آخر الجوزاء الذي هو أول السرطان، صار طول النهار في وسط الإقليم الأول ثلاث عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصفًا، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة … وفي المواضع التي عرضها ست وستون درجة وما زاد إلى تسعين درجة، يصير نهارًا كله.

واعلم أن معنى كل طول بلدة ومدينة هو بُعدها من أقصى المغرب [= خط غرينتش]، ومعنى عرضها: هو بُعدها من خط الاستواء، وخط الاستواء هو الموضع الذي يكون الليل والنهار هناك أبدًا متساويين. فكل مدينة على ذلك الخط فلا عرض لها، وكل مدينة في أقصى المغرب فلا طول لها أيضًا …

واعلم أن الأرض بجميع ما عليها من الجبال والبحار بالنسبة إلى سعة الأفلاك ما هي إلا كالنقطة في الدائرة، وذلك أن في الفلك ألفًا وتسعة وعشرين كوكبًا، أصغر كوكب منها مثل الأرض ثماني عشرة مرة، وأكبرها مائة وسبع مرات، فلشدة البعد وسعة الأفلاك تراها كأنها الدر المنثور على بساط أخضر. فإذا فكر الإنسان في هذه العظمة، تبيَّن له حكمة الصانع وجلالة عظمته، فينتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويعلم أنه ما خلق هذه الأشياء إلا لأمر عظيم، وذلك قوله تعالى مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ….٥
واعلم يا أخي بأن من دخل الدنيا وعاش فيها زمنًا طويلًا مشغولًا بالأكل والشرب والنكاح، دائبًا في طلب الشهوات … متمنيًا الخلود فيها، تاركًا لطلب العلم، مهملًا لرياضة النفس، متوانيًا في الاستعداد للرحلة إلى الدار الآخرة، حتى إذا فني العمر … ثم خرج من هذه الدار جاهلًا لم يعرف صورتها، ولم يفكر في الآيات التي في آفاقها … فمثلهم مثل قوم دخلوا إلى مدينة ملك عظيم حكيم عادل، قد بناها بحكمته، وأعد فيها من طرائف صنعته ما يقصر الوصف عنها إلا بالمشاهدة لها … ثم دعا عبادًا له إلى حضرته ليمنحهم بالكرامة، وأمرهم بالورود إلى تلك المدينة في طريقهم، لينظروا إليها ويبصروا ما فيها، ويتفكروا في عجائب مصنوعاته، ويعتبروا غرائب مصوراته، ليروض بها نفوسهم، فيصيرون برؤيتها ومعرفتها حكماء أخيارًا فضلاء، فيصلون إلى حضرته، ويستحقون كرامته. فوردها قوم ليلًا فباتوا طول ليلتهم مشغولين بالأكل والشرب واللعب واللهو، ثم خرجوا منها سَحَرًا لا يدرون من أي باب دخلوا، ولا من أيها خرجوا، ولا رأوا مما فيها شيئًا من آثار حكمته وغرائب صنعته، ولا انتفعوا بشيء منها أكثر من تمتعهم تلك الليلة بالأكل والشرب حسب. فهكذا حُكم أبناء الدنيا الواردين إليها جاهلين، الماكثين فيها متحيرين مكرهين، المنكرين أمر الدار الآخرة، الراحلين عنها كما قال الله، جل ثناؤه: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا»٦ (٤: ١، ١٦٢–١٦٩).

حول هذه الكرة الأرضية التي وصفناها بمقاطع منتقاة من رسائل إخوان الصفاء، تنشط في كرة الهواء ظواهر جوية ذات أثر كبير في الحياة الأرضية، مثل حركة الرياح والضباب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والشهب والمذنبات. وقد وصف الإخوان هذه الظواهر وعللوها تعليلات علمية تتفق في معظمها مع ما قدمته لنا العلوم الحديثة. وفي الأحوال التي قصروا فيها عن بلوغ الأرب وإصابة الحقيقة، فإن تقصيرهم لا يُعزَى إلى خلل في المنهج، وإنما إلى محدودية مساحة المعرفة العلمية في ذلك الزمان.

في الظواهر الطبيعية

«اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من ذكر الأركان الأربعة، أردنا أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالآثار العُلْويَّة حوادث الجو وتغييرات الهواء وكيفية حدوثها بتأثيرات الأشخاص الفلكية فيها. ولكن من أجل أن كثيرًا من الناس العقلاء يظنون أن المطر ينزل من السماء من بحر هناك، وأن البَرَدَ يقع من جبال، ثم يستشهدون على صحة ظنونهم بقوله عز وجل: … وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا٧ وقوله تعالى: … وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ …٨ ولا يعرفون معاني قوله سبحانه، ولا تفسير آيات كتابه، جلَّ ثناؤه، احتجنا أن نذكر فيها طرفًا لتزول الشكوك والشبهة.

واعلم يا أخي بأن معنى السماء في لغة العرب هو كل ما علا الرءُوس، وأن المطر إنما ينزل من السحاب، والسحاب يسمى سماءً لارتفاعه في الجو، ويسمى أيضًا السحاب جبالًا لتراكمه بعض فوق بعض كتراكم أركان الجبال وركود أطوادها بعضها فوق بعض، كما يُرى ذلك في أيام الربيع والخريف كأنها جبال من قطن مندوف متراكم بعضه فوق بعض» (١٨: ٢، ٦٢-٦٣).

«إنا قد بيَّنا في رسالة السماء والعالم أن كرة الهواء محيطة بكرة الأرض من جميع جهاتها، وأن سمكها من ظاهر سطح الأرض إلى أدنى فلك القمر مثل قطر الأرض ست عشرة مرة ونصفها، وذلك أن قطر الأرض ألفان ومائة وسبعة ستون فرسخًا، فيكون سمك الهواء ٣٥٧٥٨ فرسخًا» (١٨: ٢، ٦٥). وفيما يتعلق بكرة النسيم، وهي الأدنى إلى الأرض وفيها ينشط معظم الظواهر الجوية: «إن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم ستة عشر ألف ذراع ارتفاعًا في الهواء، وأقله ما يطابق سطح الأرض. ومن الدليل على أن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم هذا المقدار هو أن أعلى جبل يوجد على الأرض لا يجاوز ارتفاع رأسه في الهواء هذا المقدار …

اعلم يا أخي أن أول ما يقبلُ الهواءُ من التغييرات والاستحالات هو النور والظلمة والحر والبرد، ثم ما يحدث فيه من اختلاف الرياح من كثرة البخارات المتصاعدة، والدخانات الساطعة المطبقة، وتتبعها الزوابع والهالات والضباب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والهزات، ثم الأمطار والطل والندى والصقيع والثلوج والبرد وقوس قزح والشهب وكواكب الأذناب، وما يتبع هذه من هيجان البحار والمد والجزر في البحار» (١٨: ٢، ٦٨).

«واعلم يا أخي أن الهواء بحر واقف، لطيف الأجزاء، خفيف الحركة، سريع السيلان، سهل القبول للتغيرات والحوادث. وقد بيَّنَّا في رسالة الحاس والمحسوس كيفية قبوله للنور والظلمة والأصوات والروائح، وكيفية قبوله البرد والحر في رسالة الكون والفساد. ونريد أن نصف في هذا الفصل كيفية حدوث الرياح، وكمية أنواعها وجهاتها، واختلاف تصاريفها، وما العلة المحركة لها في وقت دون وقت، وفي بلد دون بلد؛ ونبين أيضًا كيفية سياقة الغيوم من البحار إلى البراري والقفار ورءُوس الجبال، وكيف تهز السحاب حتى يهطل القطر …

واعلم أن الريح ليست شيئًا سوى تموج الهواء بحركته إلى الجهات الست، كما أن أمواج البحر ليست شيئًا سوى حركة الماء وتدافع أجزائه إلى الجهات الأربع. وذلك أن الماء والهواء بحران واقفان، غير أن أجزاء الماء غليظة ثقيلة الحركة، وأجزاء الهواء لطيفة خفيفة الحركة.

واعلم يا أخي أن أحد أسباب حركة الهواء، هو أن صعود البخار من البحار والبراري والقفار، أثار من البحار بخارًا رطبًا، ومن البراري والقفار دخانًا يابسًا، فيدفع الهواء بعضه بعضًا إلى الجهات، فيتسع المكان للبخارين الصاعدين. فإن كان الدخان اليابس أكثر، كانت منه الرياح؛ لأن تلك الأجزاء إذا صعدت إلى أعلى كرة النسيم وبردت ومنعها برد الزمهرير عن الصعود إلى فوق، عطفت عند ذلك راجعة إلى أسفل، ودافعت الهواء إلى الجهات الأربع، فكانت منها الرياح المختلفة.

واعلم أن الرياح كثيرة التصاريف في الجهات الست، ولكن جملتها أربعة عشر نوعًا، المعروف منها عند جمهور الناس أربع … وذلك أن الهواء إذا تموج من المشرق إلى المغرب، يسمى ذلك التموج ريح الصبا، وإذا تموج من الجنوب إلى الشمال يسمى التيمن، وإذا تموج من المغرب إلى المشرق يسمى الدبور، وإذا تموج من الشمال إلى الجنوب يسمى الجريباء …

وأما التي تهب من أسفل إلى فوق، فمنها تكون الزوابع، وهما ريحان تلتقيان وتصعدان، كما يلتقي الماء في الكرادات وعند نزوله في البلاليع والثقب. وأما التي تهب من فوق إلى أسفل، فمنها الريح الصرصر التي أهلكت عادًا …

وإذا ذكرنا ماهية الريح وكمية أنواعها وجهات هبوبها، فإنا نريد أن نذكر علة تصاريفها في الجهات، وما الغرض منها، وذلك أن أحد الأغراض من تصاريفها هو أن تسوق الغيم من سواحل البحار إلى البلدان البعيدة والبراري المقصودة بها.

وأيضًا فإن أحد الأغراض من الجبال الشامخة الطوال المسطوحة على بسيط الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا هو أن تمنع الرياح من سوق السحاب إلى غير البلدان والبراري المقصودة بها … ولهذه الجبال الشامخة غرض آخر، وذلك أن في أجوافها مغارات وأهوية واسعة، فإذا هطلت في رءُوسها الأمطار والثلوج وذابت، غاضت المياه في تلك المغارات والأهوية، وصارت فيها كالمخزونة. وفي أسفل تلك الجبال منافذ ضيقة تخرج منها المياه المخزونة في تلك المغارات والأهوية، وهي العيون، وتجري منها جداول، وتسير منها أودية وأنهار تجري فتسقي الزروع والأشجار، وما يفضل منها ينصب إلى البحار والآجام والغدران، وتلطفها الشمس وتصعدها بخارًا من الرأس، وتكون منها الغيوم والسحاب، وتسوقها الرياح إلى المواضع المقصودة بها، كما كان عام أول. وذلك دأبها أبدًا، ذلك تقدير العزيز العليم …

واعلم يا أخي أنه إذا ارتفعت البخارات في الهواء، وتدافع الهواء إلى الجهات، ويكون تدافعه إلى جهة أكثر من جهة، ويكون من قدام له جبال شامخة مانعة، ومن فوق له برد الزمهرير مانع، ومن أسفل مادة البخارين متصلة، فما يزال البخاران يكثران ويغلظان في الهواء، وتتداخل أجزاء البخارين بعضها في بعض، حتى يسخن ويكون منها سحاب مؤلف متراكم. وكلما ارتفع السحاب بردت أجزاء البخارين، وانضمت أجزاء البخار الرطب بعضها إلى بعض، وصار ما كان دخانًا يابسًا ريحًا، وما كان بخارًا رطبًا ماءً وأنداءً. ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعض، وتصير قطرًا بَرَدًا؛ وتثقل فتهوي راجعة من العلو إلى السفل، فتسمى حينئذٍ مطرًا … وإن ارتفعت تلك البخارات في الهواء قليلًا، وعرض لها البرد، وصارت سحابًا رقيقًا، وإن كان البرد مفرطًا جمَّد القطر الصغار في حلل الغيم، فكان من ذلك الجليد أو الثلج … فإن عرض لها برْدٌ مفرط في طريقها جمدت وصارت بَرَدًا قبل أن تبلغ إلى الأرض …

… وأما البروق والرعود فإنهما يحدثان في وقت واحد، ولكن البرق يسبق إلى الأبصار قبل الصوت إلى المسامع؛ لأن أحدهما روحاني الصورة وهو الضوء، والآخر جسماني وهو الصوت … وأما علة حدوثهما فهي البخاران الصاعدان إذا اختلطا في الهواء، والتف البخار الرطب على البخار اليابس الذي هو الدخان، واحتوى برد الزمهرير على البخار الرطب، وضغطهما، فانحصر البخار اليابس في جوف البخار الرطب، والتهب في جوف البخار الرطب، وطلب الخروج دفعة، وانخرق البخار الرطب، وتفرقع من حرارة الدخان اليابس، كما تتفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوت عليها النار دفعة واحدة، وحدث من ذلك قرع في الهواء، واندفع إلى جميع الجهات … وانقدح من خروج ذلك البخار اليابس الدخاني ضوء يسمى البرق، كما يحدث من دخان السراج المنطفئ إذا أُدني من سراج مشتعل ثم ينطفئ. وربما يذوب ذلك البخار ويصير ريحًا، ويدور في جوف السحاب، ويطلب الخروج، فيُسمع له دوي وتقرقر، كما تَسمع من الجوف المنتفخ ريحًا. وربما ينشق السحاب دفعة واحدة بشدة، فيكون من ذلك صوت هائل يسمى صوت الصاعقة … فإنها تقتل كثيرًا من الحيوانات القريبة منها ومن الناس أيضًا … وكذلك حكم البروق أيضًا، وذلك أن من شأن النار أن تتحرك إلى فوق، فإذا منعها السحاب المتراكم رجعت منحطة إلى الأرض، فأحرقت ما أتت عليه من الحيوان والنبات.

وأما الهالة التي تكون حول الشمس والقمر، فإنها تدل على المطر ورطوبة الهواء. وذلك أنها تحدث في أعلى سطح كرة النسيم وقتما يرتفع البخار إلى هناك، ويأخذ يتألف منه الغيم. وعلتها أن النيِّرين إذا أشرقا على ذلك السطح انعكس شعاعهما، من هناك إلى فوق، وحدث من ذلك الانعكاس دائرة كما يحدث من إشراقهما على سطح الماء. ويشف رسم تلك الدائرة من تحت ذلك الغيم الرقيق …

وأما قوس قزح فإنه يحدث في سمك كرة النسيم عند ترطيب الهواء مشبعًا، ولا يكون وضعه إلا منتصبًا قائمًا، وحدبته إلى فوق مما يلي سطح كرة الزمهرير، وطرفاه إلى أسفل مما يلي وجه الأرض. ولا يكاد يحدث إلا في طرفي النهار في الجهة المقابلة لموضع الشمس مشرقًا أو مغربًا … وأما علة حدوث هذا القوس فهي أيضًا إشراق الشمس على أجزاء ذلك البخار الرطب الواقف في الهواء، وانعكاس شعاعها منه إلى ناحية الشمس. وأما أصباغه التي ترى فهي أربعة … هذه القوس إذا حدثت وكانت أصباغها مشبعة، تدل على ترطيب الهواء وكثرة العشب والكلأ وزكاء ثمر الشجر وحَب الزرع، فيكون ظهورها ورؤيتها كالبشارة قدمتها الطبيعة للحيوان والناس … وأما ترتيب ألوانها فإن الحمرة أبدًا تكون فوق الصفرة والصفرة دونها، والزرقة دون الخضرة فإن وجدت قوسًا أخرى دونها، ترتبت هذه الألوان في القوس السفلي عكس ذلك.

… وأما الحوادث التي في سمك كرة الزمهرير فهي الشهب … وأما هيولاها ومادتها فهو الدخان اليابس اللطيف، الصاعد من الجبال والبراري؛ فإذا بلغت تلك المادة في صعودها إلى الفصل المشترك بين كرة الزمهرير وبين كرة الأثير، استدارت هناك وتشكلت واشتعلت فيها نار الأثير، كما تشتعل نار السراج في دخان السراج المنطفئ، وكما تشتعل نار البرق في الدخان اليابس الدهني الذي في السحاب، وكما تشتعل النار في النفط الأبيض ثم تفنيه بسرعة فينطفئ. ومما يدل على أن مادتها دخان يابس كثرة ما يُرى منها في سني الجدب.

وأما كيفية تشكل هذه الدخانات، إذا صعدت إلى هناك واشتعلت فيها النار، فإنها إذا اعتُبرت بالفكر، وُجدت تارة كأنها أعمدة مخروطة قائمة قاعدتها مما يلي كرة النار، ومخروطها مما يلي وجه الأرض. ودليل ذلك أنه إذا اشتعلت النار فيها تُرى عظيمة الاشتعال، ثم لا تزال تصغر وتنخرط وتقل حتى تنطفئ.

وقد يظن كثير من الناس أن انقضاض هذه الشهب هي كواكب تسقط ويُرمى بها من السماء في الهواء إلى الأرض، ويستدلون على صحة ظنونهم الكاذبة بقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ …٩ وليس في هذه الآية دلالة على أن الكواكب هي تُرمى بأنفسها؛ لأنك إذا قلت: اتخذت هذه القوس لأرمي بها العدو والكفار، فليس في قولك دلالة على أنك ترمي بنفس القوس، بل ترمي عنها بالنشَّاب، فهكذا قوله تعالى: … وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ …؛١٠ أي يرمون بالشهب؛ لأن هذه الشهب لا تحدث في الهواء إلا بإشراق هذه الكواكب وشعاعاتها في الهواء، كما بيَّنَّا من قبل. وقد فسرنا معنى هذه الآية وأخواتها في رسائل لنا …

وممَّا يدل على أن هذه الشهب تحدث قريبة من الأرض، بعيدة عن فلك القمر، سرعة حركتها، فإنها في لحظة تمر من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق. فلو كانت قريبة من فلك القمر لما رأيت حركتها بهذه السرعة …

وأما الكواكب ذوات الأذناب التي تظهر في بعض الأحايين قبل طلوع الشمس أو بعد غروبها، فإنها لا تحدث إلا في كرة الأثير قريبًا من فلك القمر. والدليل على ذلك دورانها مع فلك القمر، تارة بالتقدم على توالي البروج كمسير الكواكب السيارة، وتارة بالتأخر كرجوعها. وأما مادتها التي تتكون منها فهي دخان وبخار لطيفان يصعدان إلى هناك، فينعقدان بقوة زحل وعطارد، وتكون شفافة كشفيف البلور … فلا تزال تدور مع الفلك وتطلع وتغيب إلى أن تضحمل وتتلاشى» (١٧: ٢، ٦٨–٨٥).

بهذا المنهج المادي في تفسير الظواهر الطبيعية، يتابع الإخوان تفسير استحالات المولَّدات الجزئيات وهي المعادن والنبات والحيوان، والتي تتكون وتحدث وتتغير وتفسد بطول الزمان والدهور، وتناوب الليل والنهار، وتعاقب الفصول على الأركان الأربعة واختلاف أحوالها بموجب أحكام النجوم، وبحسب أشكال الفلك ومسيرات الكواكب ومطارح شعاعاتها.

في تكوُّن المعادن

في مطلع رسالة المعادن يأخذنا الإخوان في جولة علمية شيقة أخرى تكشف لنا مزيدًا من أسرار الظواهر الطبيعية. فقد كان لديهم حدس صائب بخصوص ما ندعوه اليوم بالعصور الجيولوجية التي تعاقبت على الأرض، وبخصوص التغيرات المناخية الكبرى التي تطرأ على هذا الكوكب، وتؤدي إلى إعادة تشكيل الهيئات الطبيعية على سطحه:

«إن الأرض بجملتها نصفان، نصف شمالي ونصف جنوبي. وظاهر كل قسم منها ينقسم إلى نصفين، فتكون جملته أربعة أرباع، كل ربع منها موصوف بأربعة أنواع، فمنها مواضع براري وقفار وفلوات وخراب، ومنها مواضع البحار والأنهار والآجام والغدران، ومنها مواضع الجبال والتلال والارتفاع والانخفاض، ومنها مواضع المراعي والقرى والمدن والعمران.

واعلم يا أخي أن هذه المواضع تتغير وتتبدل على طول الدهور والأزمان، وتصير مواضع الجبال براري وفلوات، وتصير مواضع البراري بحارًا وغدرانًا وأزهارًا، وتصير مواضع البحار جبالًا وتلالًا وسباخًا وآجامًا ورمالًا، وتصير مواضع العمران خرابًا، ومواضع الخراب عمرانًا …

واعلم بأن في كل ثلاثة آلاف سنة تنتقل الكواكب الثابتة، وأوجات الكواكب السيارة وجوزهراتها، في البروج ودرجاتها. وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل إلى ربع من أرباع الفلك. وفي كل ستة وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة. فبهذا السبب تختلف مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها، إما باعتدال واستواء، أو بزيادة ونقص وإفراط من الحرارات والبرودات، واعتدال منهما. وتكون هذه أسبابًا وعللًا لاختلاف أحوال الأرباع من الأرض، وتغييرات أهوية البلاد والبقاع وتبديلها بالصفات من حال إلى حال» (١٩: ٢، ٩١-٩٢).

بعد ذلك ينتقل الإخوان إلى تفسير عدد من الظواهر الطبيعية، مثل علة هيجان البحار وارتفاع مياهها وشدة تلاطم أمواجها، وعلة المدة والجزر في البحار، وعلة اختلاف طعوم مياه العيون والينابيع، وعلة ملوحة طعم مياه البحر، والزلازل والبراكين، وفيض الأنهار، ومد نهر مصر، وغير ذلك مما لا يتيح لنا المجال الدخول في تفصيلاتها. نأتي الآن إلى مسألة المعادن، والتي يأتي ترتيبها الأول في التكون، ثم يليها النبات، ثم الحيوان.

«واعلم أن الجواهر المعدنية كثيرة الأنواع … وقد ذكر بعض الحكماء … أنَّه عرف وعد منها نحو تسعمائة نوع، كلها مختلفة الطباع والشكل واللون والطعم والرائحة والثقل والخفة، والمضرة والنفع. ونريد أن نذكر منها طرفًا ليكون دلالة على الباقية وقياسًا عليها، فنقول: إن من الجواهر المعدنية ما هو حجري صلب، لكن يذوب بالنار، ويجمد إذا برد، مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأُسرب (الرصاص الأسود الرديء) والرصاص والزجاج وما شاكلها. ومنها ما هي صلبة حجرية لا تذوب إلا بالنار الشديدة، ولا تنكسر إلا بالماس، كالياقوت والعقيق. ومنها ترابي رخو لا يذوب ولكن ينفرك، كالأملاح والزاجات والطلق. ومنها مائية رطبة تفر من النار كالزئبق. ومنها هوائي دهني تأكله النار كالكباريت والزرانيخ. ومنها نباتي كالمرجان الأبيض والأحمر. ومنها حيواني كالدر. ومنها طل منعقد كالعنبر والبازهرات، وذلك أن العنبر إنما هو طل يقع على سطح ماء البحر، فينعقد في مواضع مخصوصة في زمان معلوم … وكذلك الدر فإنه طل يرسخ في أصداف نوع من الحيوان البحري، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه … والطل هو رطوبة هوائية تجمد من برد الليل وتقع على النبات والحجر والشجر والصخور. وعلى هذا القياس حكم جميع الجواهر المعدنية، فإن مادتها إنما هي رطوبات ومياه وأندية وبخارات تنعقد بطول الوقوف وممر الزمان في البقاع المخصوصة لها. فقد تبيَّن بما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مركبة كلها مع اختلاف أنواعها … مركبة كلها ومؤلفة من أجزاء ترابية صلبة ثقيلة مظلمة مُشفة، ومن أجزاء مائية رطبة سيالة صافية بين الثقل والخفة، ومن أجزاء هوائية خفيفة لينة دهنية صافية نيرة، ومن حرارة قوية أو ضعيفة منضجة أو مقصرة، ومن تأليف على نسبة فاضلة أو دون ذلك من النسب التأليفية …

اعلم يا أخي أن تلك الرطوبات المختنقة في باطن الأرض والبخارات المحتبسة هناك إذا احتوت عليها حرارة المعدن تحللت ولطفت وخفت وتصاعدت علوًّا إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات، ومكثت هناك زمانًا. وإذا برد باطن الأرض في الصيف، جمدت وغلظت وتقاطرت راجعة إلى أسفل تلك الأهوية والمغارات، واختلطت بتربة تلك البقاع وطينها، ومكثت هناك زمانًا، وحرارة المعدن دائمًا في نضجها وطبخها، وهي تصفو بطول وقوفها وتزداد ثقلًا وغلظًا، وتصير تلك الرطوبات بما يخالطها من الأجزاء الترابية … زئبقًا رجراجًا، وتصير تلك الأجزاء الهوائية الدهنية، وما يتعلق بها من الأجزاء الترابية بطبخ الحرارة لها بطول الزمان، كبريتًا محترقًا.

فإذا اختلطت أجزاء الكبريت والزئبق مرة ثانية، تمازجت واختلطت واتحدت، والحرارة دائمة في نضجها وطبخها، فتنعقد عند ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة. وذلك أنه إذا كان الزئبق صافيًا والكبريت نقيًّا، واختلطت أجزاؤهما، وكانت مقاديرهما على النسبة الأفضل … وكانت حرارة المعدن على الاعتدال في طبخها ونضجها، ولم يعرض لها عارض من البرد واليبس قبل إنضاجها، انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز؛ وإن عرض لها البرد قبل النضج انعقدت وصارت فضة بيضاء؛ وإن عرض لها اليبس من فرط الحرارة وزيادة الأجزاء الأرضية، انعقدت فصارت نحاسًا أحمر يابسًا … وعلى هذا القياس تختلف الجواهر المعدنية بأسباب عارضة خارجة عن الاعتدال وعن النسبة الأفضل من زيادة الكبريت والزئبق ونقصانهما، وإفراط الحرارة أو نقصانها، أو برد المعادن قبل نضجها أو خروجها عن الاعتدال. فعلى هذا القياس حكم الجواهر المعدنية الترابية.

وأما الجواهر الحجرية مثل البلور والياقوت والزبرجد والعقيق، وما شاكلها من التي لا تذوب بالنار، فإنها تنعقد من مياه الأمطار والأنداء التي ترشح في تلك المغارات والكهوف والأودية التي من الجبال الصلدة والأحجار الصلبة، ولا يخالطها شيء من الأجزاء الترابية والطين، بل بطول الزمان كلما طال وقوفها هناك، ازدادت المياه بقاءً وثقلًا وغلظًا، وحرارة المعدن دائمًا في نضجها وطبخها، حتى تنعقد وتصير حجارة صلبة صافية …

وأما حكم الجواهر الترابية في كيفية تكوينها، فهي أن تلك المياه إذا اختلطت بتربة البقاع وعملت فيها حرارة المعدن، تحل أكثر تلك الرطوبات، وتصير بخارًا يرتفع في الهواء كما ذكرنا قبل، وما بقي منه يكون محبوسًا ملازمًا للأجزاء الأرضية، متحدًا بها، عملت فيها الحرارة وأنضجتها وطبختها، حتى تغلظ وتنعقد. فإن تكن تربة تلك البقاع مشورجة سبخة، تكونت منها ضروب الأملاح والبوارق والشبوب، وإن تكن تربة البقاع عفصة، انعقدت منها ضروب الزاجات الخضر والصفر … وإن تكن تربة البقاع حصاة وترابًا ورمالًا مختلطة، انعقد منها الجص والإسفيذاج وما شاكلها، وإن تكن تربة البقاع لينة وطينًا حرًّا انعقدت منها الكمأة، ونبتت منها ضروب العشب والحشائش والأشجار والزروع» (١٩: ٢، ١٠٤–١٠٨).

استمرارًا لنظريتهم في النفوس الجزئية المنبثقة عن النفس الكلية والحالة في المولدات الجزئيات، يرى إخوان الصفاء في المعادن نوعًا من الوعي الخافت لا يبلغ مرتبة وعي بقية المولدات من نبات وحيوان. هذه الفكرة تبدو لنا أقل غرابة إذا عرفنا أن علماء الفيزياء الكمومية الحديثة قد ألمحوا إلى وجود مثل هذا الوعي في المادة، عندما أذهلهم سلوك بعض الجسيمات الدقيقة في التجارب المخبرية، ولم يستطيعوا تفسيرها إلا بوجود وعي غامض في المادة غير الحية. يقول الإخوان:

«واعلم يا أخي أن لهذه الجواهر خواص كثيرة، طباعها مختلفة: فمنها متضادة متنافرة، ومنها متشاكلة متآلفة، ولها تأثيراتٌ بعضها في بعض، إما جذبًا وإمساكًا أو دفعًا ونفورًا. ولها أيضًا شعور خفي وحس لطيف كما للنبات والحيوان، إما شوقًا ومحبة، وإما بغضًا وعداوة … والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الحكماء في كتاب الأحجار ونعتهم لها أن طبيعةً تؤلف طبيعة، وطبيعة تناسب طبيعة أخرى، وطبيعة تلصق بطبيعة، وطبيعة تأنس بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة … [القائمة التي يوردها الإخوان طويلة، وهذا شرح لبعض فقراتها]:

فأما الطبيعة التي تألف طبيعة أخرى فمثل الألماس والذهب، فإنه إذا قرُب من الذهب التصق به وأمسكه … ومثل طبيعة حجر المغناطيس في جذب الحديد، فإن هذين الحجرين يابسين صلبين، بين طبيعتهما ألفة واشتياق، فإذا قرُب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والتصق به، وجذبه الحجر إلى نفسه … وعلى هذا القياس، ما من حجر من الأحجار المعدنية إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر ألفة واشتياق، عرف الناس ذلك أم لم يعرفوه … وأما الطبيعة التي تقهر طبيعة أخرى فمثل طبيعة السنباذج التي تأكل الأحجار عند الحك أكلًا، وتُليِّنها وتجعلها ملسًا. ومثل طبيعة الأسرب الوسخ الذي يفتت الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة … وأما الطبيعة التي تزين طبيعة أخرى وتنوِّرها فمثل النوشادر الذي يغوص في قعر الأحجار ويغسلها من الوسخ. وأما الطبيعة التي تعين على طبيعة أخرى، فمثل البورق الذي يعين النار على سبك هذه الأحجار المعدنية الترابية، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنورها … وعلى هذا القياس والمثال حُكم سائر الأحجار» (١٩: ٢، ١١٠–١١٢).

«وقد تبين مما ذكرنا أن الجواهر المعدنية، مع كثرة أنواعها واختلاف طبائعها وفنون خواصها، أصلها كلها وهيولاها هي الأركان الأربعة التي تسمى الأمهات، وهي النار والهواء والماء والأرض. وتبين أيضًا أن الفاعل فيها والمؤلف لأجزائها والمركِّب لها هي الطبيعة بإذن الله تعالى؛ وتبيَّن بأن الغرض من هذه الجواهر المعدنية هو منافع الناس والحيوان، وإصلاح أمر الحياة الدنيا ومعيشة الحيوان إلى وقت معلوم» (١٩: ٢، ١٢٧).

في تكوُّن النبات (بوادر نظرية التطور)

للإخوان نظرية في التطور الطبيعي سبقت بنحو ألف عام الفكر التطوري الذي ظهر في العصور الحديثة في القرن التاسع عشر. فالمولَّدات الكائنات التي دون فلك القمر، وهي المعادن والنبات والحيوان، أصلها كلها من مادة واحدة، واختلافها بالصور فقط، وهي مرتبطة ببعضها البعض في نظام تسلسلي بواسطة حلقات وصل.

«واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري، جل ثناؤه، لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات، جعل أصلها كلها من هيولى واحدة، وخالف بينها بالصور المختلفة، وجعلها أجناسًا وأنواعًا مختلفة متفننة متباينة، وقوَّى ما بين أطرافها، وربط أوائلها وأواخرها بما قبلها رباطًا واحدًا على ترتيب ونظام لما فيه من إتقان الحكمة وإحكام الصنعة لتكون الموجودات كلها عالمًا واحدًا منتظمًا نظامًا واحدًا وترتيبًا واحدًا لتدل على صانع أحد.

فمن تلك الموجودات المختلفة الأجناس، المتباينة الأنواع، المربوطة أوائلها بأواخرها، وأواخرها بما قبلها في الترتيب والنظام، المولَّدات الكائنات التي دون فلك القمر، وهي أربعة أجناس: المعادن والنبات والحيوان والإنسان. وذلك أن كل جنس منها تحته أنواع كثيرة، فمنها ما هو في أدون المراتب، ومنها ما هو في أشرفها وأعلاها، ومنها ما هو بين الطرفين. فأدون أطراف المعادن مما يلي التراب الجص والزاج وأنواع الشبوب، والطرف الأشرف الياقوت والذهب الأحمر، والباقي بين هذين الطرفين من الشرف والدناءة.

وهكذا أيضًا حكم النبات، فإنه أنواع كثيرة متباينة متفاوتة، ولكن منه ما هو في أدون الرتبة مما يلي رتبة المعادن، وهي خضراء الدمن، ومنها ما هو في أشرف الرتبة مما يلي رتبة الحيوان، وهي شجرة النخل. وبيان ذلك أن أول المرتبة النباتية وأدونها مما يلي التراب هي خضراء الدمن، وليس بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم تصيبه الأمطار وأنداء الليل، فيصبح بالغد كأنه نبت زرع وحشائش. فإذا أصابه حر شمس نصف النهار جف …

وأما النخل فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتًا. بيان ذلك أن القوة الفاعلة منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، ولأشخاص فحولته لقاح في إناثها كما يكون ذلك للحيوان … وأيضًا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءُها وماتت. كل ذلك موجود في الحيوان …

فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة … تُخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة، وتبسط يمنة ويسرة تطلب مادة يتغذى بها جسمها … وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا الحس اللمس فقط. وهكذا أيضًا الديدان التي تتكوَّن من الطين وفي قعر البحار وأعماق الأنهار … لأن الحكمة الإلهية من مقتضاها أن لا تُعطي الحيوان عضوًا لا يحتاج إليه في جذب المنفعة ودفع المضرة؛ لأنها لو أعطته ما لا يحتاج إليه لكان وبالًا عليه في حفظه وبقائه. فهذا النوع حيواني نباتي لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائمًا؛ وهو من أجل غذائه يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوانية، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة، فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية. وتلك الحاسة أيضًا فقد يشارك بها النبات، وذلك أن النبات له حس اللمس فقط. والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندية، وامتناعه عن إرسالها نحو الصخور واليبس، وأيضًا فإنه متى اتفق منبته في مضيف مال وعدل عنه طالبًا الفسحة والسعة … فهذه الأفعال تدل على أن له حسًّا وتمييزًا بمقدار الحاجة.

إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية ليست من وجه واحد ولكن من عدة وجوه. وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدنًا للفضل وينبوعًا للمناقب، لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن عدة أنواع، فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه … والفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار ونحوهما من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان … وما من حيوان يستعمله الناس ويأنس بهم إلا ولنفسه قرب من نفس الإنسانية» (٢١: ٢، ١٦٦–١٧٠).

بعد شرحهم لتداخل مراتب المولدات الجزئيات يتابع الإخوان موضوع تكون النبات في رسالتهم المعنونة: «في أجناس النبات» وهذه مقاطع من أهم ما ورد فيها:

«واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن النبات مصنوعات ظاهرة جلية لا تخفى، ولكن صانعها وعلتها باطنة خفية محتجبة عن إدراك الأبصار لها، وهي التي يسميها الفلاسفة القوى الطبيعية، ويسميها الناموس الملائكة وجنود الله الموكلين بتربية النبات وتوليد الحيوانات وتكوين المعادن، ونحن نسميها النفوس الجزئية. والعبارات مختلفة والمعنى واحد …

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن لكل نوع من النبات أصلًا، فما أصله لكيموسٍ [= خليط] ما، وليكيموسه مزاج ما، لا يتكون من ذلك المزاج إلا ذلك الكيموس، ولا يتكون من ذلك الكيموس إلا ذلك النوع من النبات، وإن كان يُسقى بماء واحد، وينبت في تربة واحدة، ويلحقها نسيم هواء واحد، وتنضجها حرارة شمس واحدة … وذلك أن أجزاء الأركان إذا اجتمعت واختلطت وامتزجت واتحدت، صارت هيولى، ليتكون النبات. والمسبب في اجتماعها واختلاطها هو دوران الأفلاك حول الأركان، ومسيرات الكواكب في البروج، ومطارح شعاعاتها في جو الهواء نحو مركز الأرض. كل ذلك بإذن الله تعالى ولطيف حكمته، فهو الذي خلق الأفلاك وأدارها، وقسم البروج وأطلعها، وصوَّر الكواكب وسيَّرها … وأما كيفية ذلك فنحن نذكرها ونبينها لقوم يعقلون …

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الشمس إذا طلعت على آفاق البلاد … حميت مياه البحار والأنهار، ولطفت أجزاؤها وصارت بخارًا لطيفًا خفيفًا وصارت غيومًا … وساقتها الرياح إلى رءوس الجبال والبراري والقفار والقرى والسوادات والمزارع، وهطلت هناك الأمطار، وابتل وجه الأرض، وشرب التراب رطوبة الماء، واختلطت أجزاؤه واتحدت؛ فإذا طلعت الشمس على وجه الأرض وسخنتها حيث تلك الأجزاء المائية، جفَّت وأخذت ترتقي من قعر الأرض إلى وجهها، ورفعت معها تلك الأجزاء الأرضية المتحدة بها إلى ظاهر سطح الأرض، ثم إن قوى النفس البسيطة التي هي دون فلك القمر السارية في الأركان، تصوَّر من تلك المادة أنواع النبات بفنون أشكالها وألوان أصباغها، كما يعمل الصناع البشريون في أسواق المدن فنون المصنوعات من الهيولات الموضوعات في صناعتهم …

واعلم يا أخي بأن قوى النفس الكلية الفلكية البسيطة التي ذكرنا أنها تعمل أجناس النبات وأنواعها هي التي ذُكرت في كتب الأنبياء، عليهم السلام، أنَّها ملائكة الله وجنوده … ونحن نسمي ما كان منها موكلًا بالنبات النفس النباتية. واعلم يا أخي أن الله، جل ثناؤه، قد أيَّد النفس النباتية بسبع قوى فعَّالة، وهي: القوة الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة الغاذية، والقوة المصوِّرة، والقوة النامية.

واعلم بأن كل قوة من هذه تفعل شيئًا خلاف ما تفعل القوة الأخرى في أجسام الحيوان والنبات. فأما أول فعلها في تكوين النبات فهو جذبها عصارات الأركان الأربعة، ومصها لطينها … ثم إمساكها لها بالقوة الماسكة، ثم نضجها لها بالهاضمة، ثم دفعها إلى أطرافها بالدافعة، ثم تغذيتها لها بالغاذية، ثم النمو والزيادة في أقطارها بالنامية، ثم التصوير لها بأنواع الأشكال والأصباغ بالمصوِّرة. وذلك أن القوة الجاذبة إذا مصت نداوة الماء بعروق النبات … وجذبتها، انجذبت معها الأجزاء الترابية اللطيفة لشدة انجذابها، فإذا حصلت تلك المادة في عروق النبات أنضجتها الهاضمة، وصارت كيموسًا على مزاج ما شاكلها من الجرم والعروق، وتناولتها القوة الغاذية وألصقت بكل شكل ما يلائمه من تلك المادة، وزادت في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وما فضل من تلك المادة ولَطُف ورقَّ دفعته إلى فوق في أصول النبات وقضبانها وأغصانها، وجذبته الجاذبة إلى هناك، وأمسكته الماسكة لئلا يسيل راجعًا إلى أسفل. ثم إن القوة الهاضمة تنضجها مرة ثانية …

واعلم يا أخي أن النباتات هي كل جسم يخرج من الأرض ويتغذى وينمو، فمنها ما هي أشجار تُغرس قضبانها أو عروقها، ومنها ما هي زروع تُبذر حبوبها أو بذورها أو قضبانها، ومنها ما هي أجزاء تتكون من أجزاء الأركان إذا اختلطت وامتزجت، كالكلأ والحشائش. فهذه ثلاثة الأجناس يتنوع كل واحد منها أنواعًا كثيرة من جهات عدة وصفات مختلفة، نحتاج أن نذكر منها طرفًا، ونشرحها ليكون قياسًا على باقيها …» (٢١: ٢، ١٥٢–١٥٨).

بعد ذلك يدخل الإخوان في تفاصيل عن هذه الأقسام الثلاثة، فيصفون أشكالها وأجناسها وأماكن نموها وأزمان نموها، ويصفون ثمارها وألوانها وطعومها، وما إلى ذلك مما لا نرى ضرورة للخوض فيه.

في تكوُّن الحيوان

في رسالتهم عن كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها، يقدم لنا إخوان الصفاء فصلًا جديدًا في نظريتهم عن التطور الطبيعي. فالنبات ظهر قبل الحيوان، والحيوان ظهر قبل الإنسان، والحيوانات الدنيا ظهرت قبل الحيوانات العليا. وقد تكوَّن الحيوان والإنسان في المناطق الواقعة تحت خط الاستواء، فهناك تكون آدم وحواء ثم توالدا. أي إنَّ آدم وحواء البشريان لم يعرفا الجنة قط، وإنما عرفها آدم وحواء الروحيان؛ وليست قصة الهبوط من الجنة، كما سنرى في فصول قادمة، إلا رواية عن قصة هبوط النفس من مكانتها السامية وحلولها في العالم المادي. كما أدرك الإخوان بحدسهم الصائب أن الحياة تكوَّنت في البحار أولًا:

«واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الجواهر المعدنية هي في أدوَن مراتب المولَّدات من الكائنات، وهي كل جسم مُتكوَّن منعقد من أجزاء الأركان الأربعة؛ وأن النبات يشارك الجواهر في كونها من الأركان، ويزيد عليها وينفصل بأنه كل جسم يتغذى من الأركان وينمو ويزيد في أقطاره الثلاثة طولًا وعرضًا وعمقًا؛ وأن الحيوان يشارك النبات في الغذاء والنمو، ويزيد عليه وينفصل عنه بأنه جسم متحرك حساس؛ والإنسان يشارك النبات والحيوان في أوصافها ويزيد عليها وينفصل عنها بأنه ناطق مميز، جامع لهذه الأوصاف كلها.

ثم اعلم يا أخي بأن النبات متقدم الكون والوجود على الحيوان بالزمان؛ لأنه مادة لها، وهيولى لصورها، وغذاءً لأجسادها، وهو كالوالدة للحيوان، أعني النبات. وذلك أنه يمتص رطوبات الماء ولطائف أجزاء الأرض بعروقه إلى أصوله، ثم يحيلها إلى ذاته، ويجعل من فضائل تلك المواد ورقًا وثمارًا وحبوبًا نضيجًا، ليتناول الحيوان غذاءً صافيًا هنيئًا مريئًا، وذلك كما تفعل الوالدة بالولد، فإنها تأكل الطعام نضيجًا ونيئًا وتُناول ولدها لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين. فلو لم يكن النبات يفعل ذلك من الأركان لكان يحتاج الحيوان إلى أن يتغذى من الطين صرفًا، ومن التراب سفًّا، ويكون منغصًا في غذائه وملاذه. فانظر يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، إلى معرفة حكمة الباري، جل ثناؤه، كيف جعل النبات واسطة بين الحيوان وبين الأركان … لطفًا من الله تعالى بخلقه …

ثم اعلم يا أخي، أيدك الله إيانا بروح منه، بأن من الحيوان ما هو تام الخلقة كامل الصورة كالتي تنزو وتحبل وترضع، ومنها ما هو ناقص الخلقة كالتي تتكون من العفونات، ومنها ما هو بين ذلك كالحشرات والهوام، التي تنفُذ وتبيض وتحضن وتربي.

ثم اعلم بأن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق، وذلك أنها تتكون في زمان قصير، والتي هي تامة الخلقة تتكون في زمان طويل لأسباب وعلل يطول شرحها. ونقول أيضًا: إن حيوان الماء وجوده قبل وجود حيوان البر بزمان؛ لأن الماء قبل التراب، والبحر قبل البر في بدء الخلق.

واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولًا، من ذكر وأنثى توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلًا وجبلًا، وبرًّا وبحرًا، من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين، والزمان أبدًا معتدلًا هناك بين الحر والبرد، والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائمًا. وهناك أيضًا تكوَّن أبونا آدم أبو البشر وزوجته، ثم توالدا وتناسلت أولادهما، وامتلأت الأرض منهم سهلًا وجبلًا، وبرًّا أو بحرًا إلى يومنا هذا.

ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان بالزمان؛ لأنها له ولأجله، وكل شيء هو من أجل شيء آخر فهو متقدم الوجود عليه. هذه الحكمة في أولية العقل لا تحتاج إلى دليل من المقدمات ونتائجها؛ لأنه لو لم يتقدم وجود هذه الحيوانات على وجود الإنسان لما كان للإنسان عيش هنيء ولا نعمة سائغة، بل كان يعيش عيشًا نكدًا …

واعلم يا أخي بأن الحيوان هو جسم متحرك حساس يتغذى وينمو ويحس ويتحرك حركة مكانٍ، وأن من الحيوان ما هو في أشرف المراتب مما يلي رتبة الإنسانية، وهو ما كانت له الحواس الخمس والتمييز الدقيق وقبول التعليم. ومنه ما هو في أدون رتبة مما يلي النبات، وهو كل حيوان ليس له إلا حاسة اللمس حسب، كالأصداف وما كان كأجناس الديدان كلها تتكوَّن في الطين أو في الماء أو في الخل أو في لب الثمر … وهذا النوع من الحيوانات أجسامه لحمية وبدنه متخلخل وجلده رقيق، وهو يمتص المادة بجميع بدنه بالقوة الجاذبة، ويحس باللمس وليس له حاسة أخرى. وهو سريع التكون وسريع الهلاك والفساد والبلى … ومنها ما هو أتم وأكمل، وهو كل حيوان له لمس وذوق وشم، وليس له سمع ولا بصر، وهي الحيوانات التي تعيش في قعر البحار والمياه والمواضع المظلمة. ومنها ما هو أتم وأكمل، وهو كل حيوان من الهوام والحشرات التي تدب في المواضع المظلمة، له لمس وذوق وسمع وشم، وليس له بصر، مثل الحلَمة … ومنه ما هو أتم بنية وأكمل صورة، وهو ما له خمس حواس كاملة، ثم يتفاضل في الجودة والدون …

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أبدان الحيوانات التامة الخلقة، والناقصة الخلقة جميعًا، مؤلفة ومركبة من أعضاء مختلفة … وما من عضو في أبدان الحيوانات صغيرًا كان أم كبيرًا إلا وهو خادم لعضو آخر، ومُعِين له … مثال ذلك الدماغ في بدن الإنسان، فإنه ملك الجسد، ومنشأ الحواس، ومعدن الفكر، وبيت الرؤية، وخزانة الحفظ، ومسكن النفس، ومجلس محل العقل. وإن القلب خادم للدماغ ومعينه في أفعاله، وإن كان هو أمير الجسد، ومدبر البدن، ومنشأ العروق الضوارب، وينبوع الحرارة الغريزية. وخادم القلب ومعينه في أفعاله ثلاثة أعضاء أخرى، وهي الكبد والعروق الضوارب والرئة …

وهكذا أيضًا حكم الرئة بيت الريح، يخدمها ويعينها في أفعالها أربعة أعضاء أخرى، وهي الصدر والحجاب والحلقوم والمنخران. وذلك أن من المنخرين يدخل الهواء المستنشق إلى الحلقوم، ويعتدل فيه مزاجه، ويصل إلى الرئة ويتصفى فيها، ثم يدخل إلى القلب ويروِّح الحرارة الغريزية هناك، وينفذ من القلب إلى العروق الضوارب، ويبلغ إلى سائر أطراف البدن الذي يسمى النبض، ويخرج من القلب الهواء المحترق إلى الرئة، ومن الرئة إلى الحلقوم، ومن الحلقوم إلى المنخرين أو إلى الفم.١١ والصدر يخدم الرئة في فتحه لها عند استنشاق الهواء، وضمه إياها عند خروج النفس. والحُجُب تحفظ الرئة من الآفات العارضة لها عند الصدمات والدفعات واضطراب أحوال البدن.

وهكذا حكم الكبد تخدمه المعدة بانضمام الكيموس قبل وصوله إليه … وتخدمه المرارة بجذب المِرَّة الصفراء إلى نفسها وتصفية الدم منها، وتخدمه الكليتان بجذب الرطوبة الرقيقة اللينة منها إلى نفسها، وهو الذي يكون منه البول؛ وتخدمه العروق المجوفة بجذب الدم إليها وإيصاله إلى سائر أطراف الجسد، الذي هو مادة لجميع أجزاء البدن … وعلى هذا المثال والقياس سائر الأعضاء. والغرض الأقصى منها كلها هو بقاء الشخص وتتميمه وتبليغه إلى أكمل حالاته» (٢٢: ٢، ١٨٠–١٩١).

بعد ذلك يدخل الإخوان في تفاصيل مطولة عن حيوان البر وحيوان الماء وطيور الجو، ويبحثون في أجناسها وأنواعها وسلوكها، مما لا يتسع المجال لذكره هنا.

لقد رأينا في عرضنا لتكوين المولدات الجزئيات كيف تعمل قوى الكواكب من خلال الأركان الأربعة على توليد المعادن والنبات والحيوان. ولكن للكواكب أفعال أخرى في الكائنات التي دون فلك القمر. سوف نعمل على شرحها فيما يأتي.

أفعال الكواكب في عالم الكون والفساد

«واعلم يا أخي بأن جسم العالم بأسره بمنزلة جسم إنسان واحد، وأن جميع أفلاكه وطبقات سماواته وكواكب أفلاكه وأركان طبائعه ومولَّداتها، من جملة جسمه، بمنزلة أعضاء بدن إنسان واحد ومفاصل جسده؛ فإن نفسه تدير أفلاكه وتحرك كواكبها بإذن الباري، جل وعز، كما تحرك نفسُ إنسان واحد أعضاء جسده ومفاصل بدنه؛ وإن للنفس بحركات كواكبه فيما دون فلك القمر من الأركان ومولداتها، أفعالًا فيها وبها ومنها لا يُحصي عددها إلا الله سبحانه … فكما أن في الجسد سبع قوى فعالة بها قوام أمر الجسد وصلاح حاله، وهي: القوة الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة الغاذية، والقوة النامية، والقوة المصوِّرة. ولكل قوة من هذه عضو مخصوص من الجسد، منه تسري القوة إلى جميع أعضاء الجسد، وبه تظهر أفعالها في البدن، وهي المعدة والكبد والقلب والدماغ والرئة والطحال والمرارة [عددها ٧]. فكما أن من هذه الأعضاء تُبثُّ هذه القوى في البدن، وتنشر أفعالها في الجسد، فهكذا حكم أفعال هذه الكواكب السبعة في الفلك؛ وكما أن من إفراط أفعال هذه القوى ونقصانها يَعرِض في البدن الاضطراب والتألم، فهكذا من إفراط تأثيرات هذه الكواكب ونقصان أفعال قوتها تكون المناحس والفساد في عالم الكون. وشرح أحكام النجوم طويل … ولكن نذكر منها طرفًا فنقول:

إنه يَنبَثُّ من جرم الشمس قوة روحانية في جميع العالم، فتسري في أفلاكه وأركان طبائعه ومولِّداتها، في جميع الأجساد الكلية والجزئية، وبها يكون صلاح العالم وتمام وجوده وكمال بقائه، كما تنبعث من القلب الحرارة الغريزية في جميع الجسد … ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما انبث منها في العالم روحانيات الشمس … ويسمي الناموس هذه القوة مَلَكًا ذا جنود وأعوان، وإسرافيل منهم صاحب الصُّور.

وهكذا ينبث من جرم زحل قوة روحانية تسري في جميع العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون تماسك الصور في الهيولى، وانبثاثها كما تنبث من جرم الطحال قوة الخلط السوداوي في جميع الجسد ومفاصله، وبها يكون تماسك الأجزاء في البدن من العظام والعصب والجلد، وجمود الرطوبات التي لو لم تكن لسال هيولى الجسد كما يسيل الماء والهواء. ويسمي الفلاسفة هذه القوة روحانيات زحل، والناموس يسميها مَلَكًا ذا جنود وأعوان، ومَلَك الموت منهم، ومنكر ونكير أيضًا.

وهكذا ينبث من جرم المريخ قوة روحانية تسري في جميع العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون النزوع والنهوض نحو المطالب، والنشاط نحو الأعمال والصنائع، والترقي في المعالي، وطلب الغايات للبلوغ إلى التمام والوصول إلى الكمال في الموجودات كلها. وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث منها في العالم روحانيات المريخ، ويسميها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان، وجبرائيل منهم، ومنهم مالك الغضبان وخزنة جهنم أجمعون. وسريانها في العالم وانبثاث قواها، كما ينبث من جرم المرارة والقوة الصفراوية المميزة للأخلاط، الموصلة بها إلى مواضعها المقصودة من أطراف البدن ونهايات الجسد، المثيرة للغضب والحقد والحمية وما يشاكلها.

وهكذا ينبث من جرم المشتري قوة روحانية تسري في جميع العالم، بها يكون اعتدال الطبائع المتضادات، وتأليف القوى المتنافرات، وسبب المتولدات الكائنات، وحفظ النظام على الموجودات، كما ينبث من الكبد رطوبة الدم التي بها تعتدل أخلاط الجسد، ويستوي مزاج الطبائع، وينمو الجسد وتنشأ الأبدان، وتطيب الحياة ويُلَذُّ بالعيش، وتأنس الأرواح وتألف النفوس. وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث من أفعالها روحانيات المشتري، ويسميها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان، ورضوان خازن الجنان منهم.

وهكذا ينبث من جرم الزهرة قوة روحانية فتسري في جميع العالم وأجزائه، وبها تكون زينة العالم وحسن نظامه وبهاء أنواره، ورونق الموجودات وزخرف الكائنات، والتشوق إليها والعشق لها، والمَحَبَّات والمودَّات أجمع، كما ينبث من جرم المعدة شهوة الملاذ إلى جميع مجاري الحواس، التي بها تُستلذُّ المشتهيات وتستطاب النعم وتُستحسن الزينة، ومن أجلها يُراد البقاء في الدنيا ولا يُتمنى الوصول إلى الآخرة. ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما يتفرَّع منها روحانيات الزهرة، ويسميها الناموس ملكًا ذا جنود وأعوان، منها الحور العين وخُزَّان الجنان.

وهكذا ينبث من جرم عطارد قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، بها تكون المعارف والإحساس في العالم والخواطر والإلهام والوحي والنبوة والعلوم أجمع، كما تنبث من الدماغ القوة الوهمية، وما يتبعها من الذهن والتخيل والروية والتمييز والفراسة والخواطر والإلهام والشعور والإحساس والمعارف والعلوم أجمع. وتسمي الفلاسفة هذه القوة وما يتبعها روحانيات عطارد، ويسميها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان، والوِلْدان الذين هم خدام أهل الجنان، والكرام البررة، والكرام الكاتبون منهم.

وهكذا ينبث من جرم القمر قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، وتكون النَّفَس للموجودات في العالمين جميعًا، تارة من عالم الأفلاك إلى عالم الكون والفساد من أول الشهر، وتارة من عالم الكون والفساد نحو عالم الأفلاك من آخر الشهر. وهي القوة المتوسطة بين عالم الأفلاك معدن البقاء والدوام، وبين عالم الأركان معدن الكون والفساد، كما ينبثُّ من جرم الرئة القوة التي يكون فيها التنفس … ويسمي الفلاسفة هذه القوة وما ينبث عنها من الأفعال روحانيات القمر، ويسميها الناموس مَلَكًا ذا جنود وأعوان. فبهذه القوة تنزل الملائكة بالوحي والبركات من السماء، وبها يُصعد بأعمال بني آدم إلى السماء …

وهكذا ينبث من كل كوكب من الثوابت قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم من أعلى الفلك الثامن الذي هو الكرسي الواسع إلى منتهى مركز الأرض، كما ينبث نور الشمس في الهواء والأجسام الشفافة. وبهذه القوة تُحفظ صورة أجناس الموجودات في الهيولى، وبها صلاح العالم وقوام وجوده بإذن الباري، عز وجل، ومنها ثبات سكان السماوات والأرضيين، وإليها أشار بقوله تعالى: … وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ …١٢ … وحملة العرش منهم. (٢٠: ٢، ١٤٣–١٤٨).

قبل أن نختم فصل «صفة العالم»، لا بد من التعرف على بعض المفاهيم الفيزيائية التي عالجها الإخوان بحرفية فلسفية عالية وهي: الحركة والسكون، الهيولى والصورة، الزمان والمكان.

مفاهيم فيزيائية

«لما كان النظر في علم الطبيعيات جزءًا من أجزاء صناعة إخواننا، أيدهم الله، والأصل في هذا العلم هو معرفة خمسة أشياء، وهي: الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا من معاني هذه الأشياء» (١٥: ٢، ٥).

في الهيولى والصورة

«اعلم، وفقك الله، أن معنى قول الحكماء الهيولى، إنما يعنون به كل جوهر قابل للصورة، وقولهم الصورة، يعنون به كل شكل ونقش يقبله الجوهر.

واعلم أن اختلاف الموجودات إما هو بالصورة لا بالهيولى، وذلك أنا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد، وصورها مختلفة. مثال ذلك: السكين والسيف والفأس والمنشار وكل ما يُعمل من الحديد من الآلات والأدوات والأواني، فإن اختلاف أسمائها من أَجْل اختلاف صورها، لا من أَجْل اختلاف جواهرها؛ لأن كلها بالحديد واحد … وعلى هذا المثال يُعتبر حال الهيولى والصورة في المصنوعات كلها؛ لأن كل مصنوع لا بد له من هيولى وصورة يُركَّب منهما.

واعلم أن الهيولى على أربعة أنواع، منها هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى. فهيولى الصناعة هي كل جسم يعمل منه وفيه الصانع صنعته، كالخشب للنجارين … والغزل للحاكة، والدقيق للخبازين، وعلى هذا القياس كل صانع لا بد له من جسم يعمل صنعته فيه ومنه … أما الأشكال والنقوش التي يعملها فيها، فهي الصورة. فهذا هو معنى الهيولى والصورة في الصنائع.

وأما الهيولى الطبيعية فهي الأركان الأربعة، وذلك أن كل ما تحت فلك القمر من الكائنات، أعني النبات والحيوان والمعادن، فمنها تتكون وإليها تستحيل عند الفساد. أما الطبيعة الفاعلة لهذا، فهي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية …

وأما هيولى الكل، فهي الجسم المطلق الذي منه جملة العالم، وأعني الأفلاك والكواكب والأركان والكائنات أجمع؛ لأنها كلها أجسام وإنما اختلافها من أجل صورها المختلفة. وأما الهيولى الأولى فهي جوهر بسيط معقول لا يدركه الحس، وذلك أنه صورة الوجود حسب، وهو الهوية. ولما قبلت الهوية الكمية صارت بذلك جسمًا مطلقًا مشارًا إليه أنه ذو ثلاثة أبعاد التي هي الطول والعرض والعمق. ولما قبل الجسم الكيفية وهي الشكل، كالتدوير والتثليث والتربيع وغيرها من الأشكال، صار بذلك جسمًا مخصوصًا مشارًا إليه، أيُّ شكل هو؛ فالكيفية هي كالثلاثة (بين الأعداد)، والكمية كالاثنين، والهوية كالواحد. وكما أن الثلاثة متأخرة الوجود عن الاثنين، كذلك الكمية متأخرة الوجود عن الهوية؛ والهوية هي متقدمة الوجود على الكمية والكيفية …

ثم اعلم أن الهوية والكمية والكيفية كلها صور بسيطة معقولة غير محسوسة، فإذا تُركت على بعض صار بعضها كالهيولى، وبعضها كالصورة. فالكيفية هي صورة في الكمية والكمية هيولى لها، والكمية هي صورة في الهوية والهوية هيولى لها. والمثال في ذلك من المحسوسات أن القميص صورة في الثوب [= القماش] والثوب هيولى له، والثوب صورة في الغزل والغزل هيولى له، والغزل صورة في القطن والقطن هيولى له، والقطن صورة في النبات والنبات هيولى له، والنبات صورة في الأركان وهي هيولى له، والأركان صورة في الجسم والجسم هيولى لها، والجسم صورة في الجوهر والجوهر هيولى له … وعلى هذا المثال يعتبر حال الصورة عند الهيولى وحال الهيولى عند الصورة، إلى أن تنتهي الأشياء كلها إلى الهيولى الأولى التي هي صورة الوجود حسب، لا كيفية فيها ولا كمية، وهي جوهر بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، قابل للصور كلها ولكن على الترتيب، الأول فالأول. مثال ذلك: أن الحبَّ لا يقبل صورة العجين إلا بعد قبوله صورة الدقيق، والدقيق لا يقبل صورة الخبز إلا بعد قبوله صورة العجين، وعلى هذا المثال يكون قبول الهيولى للصور واحدة بعد أخرى.

ثم اعلم أن الأجسام كلها جنس واحد من جوهر واحد وهيولى واحدة، وإنما اختلافها بحسب اختلاف صورها، ومن أجلها [أي صورها] صار بعضها أصفى من بعض وأشرف. وذلك أن عالم الأفلاك أصفى وأشرف من عالم الأركان، وعالم الأركان بعضها أشرف من بعض؛ وذلك أن النار أصفى من الهواء وأشرف منه، والهواء أصفى من الماء وألطف منه، والماء أصفى من التراب وأشرف منه. وكلها أجسام طبيعية يستحيل بعضها إلى بعض … إذا تكوَّنت أجزاؤها يكون منها المولدات، أعني المعادن والنبات والحيوان، لكن يكون بعضها أشرف تركيبًا من بعض، وذلك أن الياقوت أصفى من البلَّور وأشرف منه، والبلَّور أصفى من الزجاج وأشرف منه، والزجاج أصفى من الخزف وأشرف منه … وكلها أحجار معدنية أصلها كلها الزئبق والكبريت … وكذلك حكم الحيوان والنبات، فإنها بالهيولى واحد، واختلافها وشرف بعضها على بعض بحسب اختلاف صورها.

… وكل جسم قبل صورة ما، فإنه عند ذلك يكون أفضل من كونه ساذجًا، فهكذا الحكم في جواهر النفوس، وذلك أن كلها جنس واحد وجوهر واحد، وأنَّ اختلافها بحسب معارفها وأخلاقها وآرائها وأعمالها؛ لأن هذه الحالات هي صور في جواهرها وهي كالهيولى. وكذلك النفس الجزئية إذا قبلت علمًا من العلوم تكون أفضل وأشرف من سائر النفوس التي هي من أبناء جنسها.

ثم اعلم أن العلوم في النفس ليست بشيء سوى صور المعلومات انتزعتها النفس وصورتها في فكرها، فيكون عند ذلك جوهر النفس لصور تلك المعلومات كالهيولى، وهي فيها كالصورة.

واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصور بصورة النفس الكلية، ومنها ما يقاربها، وذلك بحسب قبولها ما يفيض عليها من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة، وكلما كانت أكثر قبولًا كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثل نفوس الأنبياء، عليهم السلام … ومثل نفوس المحققين من الحكماء، التي استنبطت علومًا كثيرة حقيقية … ومثل نفوس الكهنة والمخبرة بالكائنات قبل كونها بدلائل فلكية وعلامات زجرية. وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: الفلسفة هي التشبُّه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية» (١٥: ٢، ٥–١٠).

«ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصور المجردة من الهيولى، وهي جواهر باقية خالدة لا يعرض لها الفساد والآفات، كما يعرض للأمور الجسمانية. واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصور، فاجتهد في معرفتها لعلك تخلِّصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام وأسر الطبيعة …» (١٥: ٢، ٢١).

في المكان

«أما المكان عند الجمهور فهو الوعاء الذي يكون فيه المتمكن. فيقال إن الماء مكانه الكوز الذي هو فيه، وإن الخل مكانه الزق الذي هو فيه، وعلى هذا القياس مكان كل شيء هو الوعاء الذي هو فيه … وبالجملة مكان كل متمكن هو الجسم المحيط به. وقيل أيضًا إن المكان هو سطح الجسم الحاوي الذي يلي المحوي، وقيل لا بل المكان هو سطح الجسم المحوي الذي يلي الحاوي، وعلى كلا الرأيين والقولين يجب أن يكون المكان جوهرًا. وقيل إن المكان هو الفصل المشترك بين سطح الجسم الحاوي وسطح المحوي، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان عَرَضًا. وقيل أيضًا إنَّ المكان هو الفضاء الذي يكون فيه الجسم ذاهبًا طولًا وعرضًا وعمقًا، وإنَّ مكان كل جسم مثله سواء، فإن كان الجسم مدور الشكل أو مربعًا أو مثلثًا أو غيرها من الأشكال، فإن مكانه مثله سواءٌ لا أصغر ولا أكبر … وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان جوهرًا.

واعلم أن الذين قالوا إن المكان هو الفضاء، إنما نظروا إلى صورة الجسم، ثم انتزعوها من الهيولى بالقوة الفكرية، وصوروها في نفوسهم، وسموها الفضاء، وإذا نظروا إليها وهي في الهيولى سموها المكان، وهذا يدل على قلة معرفتهم بجوهر النفس وكيفية معارفها ومعانيها.

واعلم أن من شرف جوهر النفس وعجائب قواها، أنها تنتزع صورة المحسوسات من هيولاها، وتصورها في ذاتها، وتنظر إليها خلوًّا من الهيولى، وتفرق بين الهيولى والصورة، وتنظر إلى كل واحد منها تارة مفردة، وتارة مركبة … وتتوهم أيضًا أن خارج العالم فضاءً إلى ما لا نهاية له … وأن المُدَّة [= الزمان] جوهر أسبق من نشوء العالم، وأن الجزء من الهيولى يتجزأ أبدًا، وما شاكل هذه المسائل …» (١٥: ٢، ١٢-١٣).

«وقد ظن قوم من أهل العلم، أن بين فضاء الأفلاك وأطباق السماوات وأجزاء الأمهات مواضع فارغة، وأن وراء الفلك المحيط جسم آخر وخلاء بلا نهاية. وكلا الحكمين لا حقيقة له؛ لأن قد قام بالبرهان العقلي أن الخلاء [= الفراغ] غير موجود أصلًا، لا خارج العالم ولا داخله؛ لأن معنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا متمكَّن فيه، والمكان صفة من صفات الأجسام … وهو عَرَضٌ، ولا يقوم إلا بالجسم ولا يوجد إلا معه» (١٦: ٢، ٢٨-٢٩).

هذا الرأي لإخوان الصفاء في استحالة وجود مكان مطلق لا تشغله الأجسام يتفق ومعطيات الفيزياء الكونية الحديثة التي تنفي على طريقة إخوان الصفاء وجود مكان لا متمكن فيه، وتقول إن المجرات التي تتباعد عند أطراف الكون وتفر في كل اتجاه بسرعات مذهلة نتيجة تمدد الكون المستمر هي التي تخلق المكان الجديد، ولا مكان هناك سابق لوصولها إليه.

في الحركة والسكون

«الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثانٍ، وضدها السكون وهو الوقوف في المكان الأول في الزمان الثاني. والحركة نوعان: سريعة وبطيئة، والحركة السريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة بعيدة في زمان قصير، والبطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة أقل منها في ذلك الزمان بعينه. والحركتان لا تعدان اثنتين إلا أن يكون بينهما زمان سكون، والسكون هو وقوف المتحرك في مكانه الأول زمانًا ما كان يمكنه أن يكون متحركًا فيه حركة ما» (٥: ١، ١٩٢-١٩٣).

«الحركة يقال على ستة أوجه: الكون والفساد، والزيادة والنقصان، والتغير والنقلة. فالكون هو خروج الشيء من العدم إلى الوجود، أو من القوة إلى الفعل،١٣ والفساد عكس ذلك؛ والزيادة هي تباعد نهايات الجسم عن مركزه، والنقصان عكس ذلك؛ والتغير هو تبدل الصفات على الموصوف، من الألوان والطعوم والروائح وغيرها من الصفات؛ وأما الحركة التي تسمى النقلة فهي عند جمهور الناس الخروج من مكان إلى مكان آخر، وقد يقال: إن النقلة هي الكون في محاذاة ناحية أخرى في زمان ثانٍ. وكلا القولين يصح في الحركة التي هي على سبيل الاستقامة؛ فأما التي على الاستدارة فلا يصح؛ لأن المتحرك على الاستدارة لا يصير في محاذاة أخرى في زمان ثانٍ …

واعلم أنه متى تحركت الأجزاء من جسم فقد تحركت تلك الجملة، ومتى تحركت تلك الجملة فقد تحركت تلك الأجزاء؛ لأن تلك الأجزاء ليست غير تلك الجملة. وذلك أنه إذا تحرك الإنسان فقد تحركت جملة أعضائه؛ وإذا تحركت أعضاؤه فقد تحرك هو؛ وإن تحركت يده وحدها فقد تحركت أجزاء اليد كلها؛ لأن اليد ليست شيئًا غير تلك الأجزاء، وكذلك إن تحرك أُصبع واحد فقد تحركت أجزاء الأُصبع كلها؛ لأن الأصبع ليست غير تلك الأجزاء. فمن يظن أنه يجوز أن تتحرك الأجزاء ولا تتحرك الجملة، أو تتحرك الجملة ولا تتحرك بعض الأجزاء، فقد أخطأ.

واعلم أنه قد ظن كثير من أهل العلم أن المتحرك على الاستقامة يتحرك حركات كثيرة؛ لأنه يمر في حركته بمحاذيات كثيرة في حال حركته. لا ينبغي أن تُعتبر كثرة الحركات لكثرة المحاذيات، فإن السهم في مروره، إلى أن يقع، حركة واحدة يمر بمحاذيات كثيرة. وكذلك المتحرك على الاستدارة فحركته واحدة إلى أن يقف وإن كان يدور أدوارًا كثيرة.

ثم اعلم أنه لا تنفصل حركة عن حركة إلا بسكون بينهما، وهذا يعرفه ولا يشك فيه أهل صناعة الموسيقى؛ وذلك أن صناعتهم معرفة تأليف النغم، والنغم لا يكون إلا بالأصوات، والأصوات لا تحدث إلا من تصادم الأجسام، وتصادم الأجسام لا يكون إلا بالحركات، والحركات لا تنفصل بعضها عن بعض إلا بسكونات تكون بينها. فمن أجل هذا قال الذين نظروا في تأليف النغم إن بين زمان كل نقرتين زمان سكون. وقد بينا طرفًا من هذا العلم في رسالتنا في تأليف اللحون» (١٥: ٢، ١٣–١٥).

ولمعرفة المزيد عما قاله الإخوان بخصوص الحركة والسكون في الموسيقى، ننتقل إلى رسالتهم الخامسة الموسومة «في الموسيقى» لنقرأ في أحد فصولها ما يلي:

«إن كل نقرتين من نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان فلا بد من أن يكون بينهما زمان سكون، طويلًا كان أم قصيرًا؛ وإنه إذا تواترت نقرات تلك الأوتار، وإيقاعات تلك القضبان، تواترت أيضًا سكونات بينها، ثم لا تخلو أزمان تلك السكونات من أن تكون مساوية لأزمان تلك الحركات أو تكون أطول منها، وإذا كانت أقصر منها فالمتفق عليه بين أهل هذه الصناعة أن زمان الحركة لا يمكن أن يكون أطول من زمان السكون الذي هو من جنسه، فإن كانت أزمان السكونات مساوية لأزمان الحركات في الطول، ولا يمكن أن يقع في تلك الأزمان حركة أخرى، سميت تلك النغمات عند ذلك العمود الأول، وهو الخفيف الذي لا يمكن أخف منه؛ لأنه إذا وقعت في تلك الأزمان حركة أخرى صارت نغمتها متصلة بنغمة النقرة التي قبلها والتي بعدها، وصار الجميع صوتًا متصلًا. وإن كانت أزمان السكونات أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركة أخرى، سميت تلك النغمات العمود الثاني والخفيف الثاني. وإن كانت أزمان تلك السكونات طولها بمقدار ما يمكن أن يقع فيه حركتان، سميت تلك النغمات الثقيل الأول. وإن كانت تلك الأزمان أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيه ثلاث حركات، سميت تلك النغمات الثقيل الثاني …

واعلم يا أخي بأنه إذا زادت أزمان السكونات التي بين النقرات والإيقاعات على هذا المقدار من الطول، خرج من الأصل والقانون والقياس، أعني من أن تدركها وتميزها القوة الذائقة السمعية. والعلة في ذلك أن … طنين الأصوات لا يمكث في المسامع زمانًا إلا ريثما تأخذ القوة المتخيلة رسومها، ثم تضمحل من المسامع تلك الطنينات، وإذا طالت أزمان السكونات بين النقرات وزادت على المقدار الذي تقدم ذكره، اضمحلت النغمة الأولى وطنينها من المسامع قبل أن تَرد النغمة الأخرى، فلا تقدر القوة المفكرة أن تعرف مقدار الزمان الذي بينهما، فتميزهما وتعرف التناسب الذي بينهما؛ لأن جودة الذوق في المسامع هي معرفة كمية الأزمان التي بين النغمتين، وما بين أزمان السكونات وبين أزمان الحركات من التناسب والمقدار» (٥: ١، ٢٠٠-٢٠١).

نعود إلى موضوعنا الرئيس في الحركة لنقرأ:

«واعلم أنه ينبغي لمن ينظر في حقائق الأشياء، ويبحث عن ماهيتها، أن يبتدئ أولًا وينظر ويبحث هل الشيء جوهر، أو عَرَض، أو هيولى، أو صورة جسمانية، أو روحانية. فإن كان جوهرًا فأي جوهر هو؟ وإن كان عرضًا فأي عرض هو؟ وإن كان هيولى فأي هيولى هو؟ وإن كان صورة فأي صورة هي وكيف هي؟

واعلم أن الحركة في بعض الأجسام جوهرية كحركة النار، فإنها متى سكنت حركتها طفئت وبطلت وبطل وجودها؛ وفي بعض الأجسام عرضية لها كحركة الماء والهواء والأرض؛ لأنها إن سكنت حركتها لا يبطل وجدانها.

واعلم أن الحركة هي صورة جعلتها النفس في الجسم بعد الشكل، وأن السكون هو عدم تلك الصورة. والسكون بالجسم أولى من الحركة؛ لأن الجسم ذو جهات لا يمكنه أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة، وليست حركته إلى جهة أولى به من جهة؛ فالسكون به إذًا أولى من الحركة.

واعلم أن الحركة، وإن كانت صورة، فهي صورة روحانية متمِّمة تسري في جميع أجزاء الجسم، وتنسل عنه بلا زمان كما يسري الضوء في جميع أجزاء الجسم الشفاف … وذلك لو أن خشبة طولها من المشرق إلى المغرب نُصبت ثم جذبت إلى المشرق أو إلى المغرب عقدًا واحدًا، لتحركت جميع أجزائها دفعة واحدة» (١٥: ٢، ١٥-١٦).

ومن ناحية أخرى، فإن الحركة هي:

«صورة روحانية تجعلها النفس في الأجسام، فبها تكون الأجسام متحركة … فالنفوس هي المحركة للأجسام، والأجسام هي المحركات والمسكِّنات بتحريك النفوس لها وتسكينها إياها. والتحريك هو فعل النفس، والحركة هي صورة تجعلها النفس في الجسم، بها يكون الجسم متحركًا. وأما التسكين فهو أيضًا فعل من أفعال النفس [التي] تحرك الجسم تارة وتسكنه أخرى، مثال ذلك: أن الإنسان يحرك يده تارة ويسكنها أخرى … إن المحركات اثنا عشر نوعًا حسبُ، لا أقل ولا أكثر. منها حركات الأفلاك التسعة، ومنها حركات الكواكب السيارة، ومنها حركات الكواكب ذوات الأذناب، ومنها حركات الرياح … [إلخ] …

وإذا تأملت يا أخي واعتبرت ما وصفنا من أحوال الحركات والمتحركات التي في العالم، علمت وتبين لك أن حكم العالم بجميع أجزائه ومجاري أموره تجري مجرى مدينة واحدة، أو حيوان واحد، أو إنسان واحد لا ينفك من الحركة والسكون، إما بكليته أو بجزئيته» (٣٩: ٣، ٣٢٢، ٣٢٨).

«ثم اعلم أن غرضنا من ذكر حركات العالم وحركات أجزائه الكليات والجزئيات وفنون تصاريفها، هو بيان بطلان قول من يقول بقدم العالم. وذلك أن الحركات المختلفات تدل على اختلافها، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديمًا؛ لأن القديم هو الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال. وليس يوجد موجود هذا شأنه إلا الله تعالى الواحد الأحد …

ثم اعلم أن كل حركة في متحرك فهي متحركة له، وهي سبب لشيء آخر، فمتى عدمَتْ تلك الحركة بطل ذلك السبب. مثال ذلك حركة الرحى عن الدابة التي تديرها أو الماء، وهي سبب الطحن، فمتى وقفت الدابة وانقطع الماء سكنت الرحى وعدم الطحن وهكذا حكم الرياح وتحريكها المراكب والمياه فمتى سكنت الرياح وقفت مراكب البحر عن السير وسكنت الأمواج … فهكذا حكم العالم، متى وقف الفلك المحيط عن الدوران وقفت الكواكب عن المسير والحركات، ووقفت عند ذلك مجاري الليل والنهار والشتاء والصيف، فيبطل عند ذلك الكون والفساد، ويبطل نظام العالم، وتذهب الخلائق، وتفارق النفس الكلية الجسم الكلي، وتقوم القيامة الكبرى. وذلك أن العالم هو إنسان كبير، فإذا فارقت نفس العالم الجسم الكلي فقد مات الإنسان الكبير وقد قامت قيامته الكبرى» (٣٩: ٣، ٣٣٢-٣٣٣).

في الزمان

«أما الزمان عند جمهور الناس فهو مرور السنين والشهور والأيام والساعات. وقد قيل إنه عدد حركات الفلك بالتكرر، وقد قيل إنها مدة تَعُدُّها حركات الفلك. وقد يظن كثير من الناس أن الزمان ليس بموجود أصلًا إذا اعتبر بهذا الوجه، وذلك أن أطول أجزاء الزمان السنون، والسنون منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعد، وليس الموجود منها إلا سنة واحدة؛ وهذه السنة أيضًا شهور منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعد، وليس الموجود منها إلا شهرًا واحدًا وهذا الشهر منه أيام مضت وأيام لم تجئ بعد، وليس الموجود منها إلا يومًا واحدًا، وهذا اليوم ساعات منها ما قد قضت ومنها ما لم تجئ بعد، وليس الموجود منها إلا ساعة واحدة، وهذه الساعة أجزاء منها ما قد مضى وآخر ما جاء بعد. فبهذا الاعتبار ليس للزمان وجود أصلًا.

فأما الوجه الآخر إذا اعتُبر، فالزمان موجود أبدًا. وذلك أن الزمان كله يوم وليلة، أربع وعشرون ساعة، وهي موجودة في أربع وعشرين بقعة من استدارة الأرض تكون حولها دائمًا. بيان ذلك أنه إذا كان نصف النهار في يوم الأحد مثلًا في البلد الذي طوله تسعون درجة، فإن الساعة الأولى من هذا اليوم موجودة في البلدان التي طولها من درجة إلى خمس عشرة درجة، والساعة الثانية موجودة في البلدان التي طولها من ست عشرة درجة إلى ثلاثين درجة، والساعة الثالثة موجودة في البلد الذي طوله من إحدى وثلاثين درجة إلى خمس وأربعين درجة … [وهكذا وصولًا إلى الساعة الثانية عشرة التي تكون موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وثمانين درجة].

وفي مقابلة كل بقعة من هذه البقاع من استدارة الأرض، ساعات الليل موجودة كل واحدة كنظيرتها. ولكل موضع من الأرض أقدار مختلفة من الليل والنهار … وكلما دار النهار دار الليل معه، كل واحد منهما ضد صاحبه. وكلما زال أحدهما زال الآخر معه. فالليل والنهار يبتديان الإقبال من مشرق الأرض، ثم يسيران على مسير الشمس فيسبق طلوع الشمس على أول الأرض طلوعها على آخرها باثنتي عشرة ساعة، وكذلك الليل …

ثم اعلم أن من كرور الليل والنهار حول الأرض دائمًا، يحصل في نفس من يتأملها صورة الزمان كلها، مثلما يحصل فيها صورة العدد من تكرار الواحد؛ وذلك أن العدد كله أفراده وأزواجه، صحيحه وكسوره، آحاده وعشراته، ومئاته وألوفه، ليست بشيء غير جملة الآحاد تحصل في نفس مَن يتأملها كما بيَّنا في رسالة العدد. وهكذا الزمان ليس هو بشيء سوى جملة السنين والشهور والأيام والساعات، تحصل صورتها في نفس من يتأمل تكرار كرور الليل والنهار حول الأرض دائمًا. فهذه خمسة الأشياء التي أتينا على شرحها، وهي الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة، محتوية على كل جسم. فمن لم يكن مرتاضًا بالنظر في هذه الأشياء، فلا يسعه النظر في أمور الطبيعة؛ لأنه لا يمكن له أن يعرفها كنه معرفتها البتة، ولو لم يكن مرتاضًا في الأمور الطبيعية، فلا يسعه الكلام في الأمور الإلهية؛ لأنه لا يمكنه أن يعرفها كنه معرفتها» (١٥: ٢، ١٧–١٩).

هذه هي أهم الأفكار والمعلومات التي قدمها لنا إخوان الصفاء في صفة العالم وكيفية عمله. وكلها ليست إلا مقدمات لمعرفة الإنسان لنفسه وإدراكه لشرطه، وهي المعرفة المنجِّية التي تقود إلى الانعتاق. وهذا هو موضوع الفصل القادم.

١  سورة يس: الآية ٤٠.
٢  هذا المقطع والذي يليه ليسا من صياغة الإخوان، بل إعادة صياغة مكثفة من قِبلي لأفكارهم.
٣  ورد في الأصل دائرة الهواء. وهذا إما خطأ من الناسخ أو خطأ طباعي.
٤  هذه الأقاليم التي تحدها خطوط، هي المحاولة الأولى لرسم خطوط العرض الموازية لخط الاستواء شمالًا، حيث القسم المسكون من الأرض.
٥  سورة الأحقاف: الآية ٣.
٦  سورة الإسراء: الآية ٧٢.
٧  سورة الفرقان: الآية ٤٨.
٨  سورة النور: الآية ٤٣.
٩  سورة الملك: الآية ٥.
١٠  السورة والآية نفسهما.
١١  كتب الإخوان رسائلهم قبل اكتشاف مكونات الهواء، ودور الأوكسجين في حياة البدن ونحن إذا استبدلنا كلمة الهواء الواردة هنا بالأوكسجين الذي ينقله الدم إلى سائر أطراف البدن، لتطابق وصف الإخوان مع معطيات العلم الحديث.
١٢  سورة المدثر: الآية ٣١.
١٣  القوة هي الإمكان، والفعل هو الوجود الفعلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤