الفصل الخامس

الاستجابة الجمالية

figure

كُتبَت كتبٌ كثيرة عن موضوع هذا الفصل. إن مبادئ تناغم الألوان كثيرًا ما كانت محل اهتمام ليس فقط من الفنانين، وإنما من المعماريين والمصممين والعاملين في النسيج والخزف والزجاج والفسيفساء، والبستانيين ومنسقي الزهور كذلك. وقد تكرر كثيرًا الحديث عن موضوع مجموعات الألوان المتناغمة؛ فتوجد دوائر الألوان ومقاييس الألوان، وأدوات مزودة بأقنعة ومؤشرات، وتوجد إشارات لا تعد ولا تحصى عن مشاعر الأفراد، بالإضافة إلى نظريات لفنانين معينين.

(١) الرمزية مقابل التعبير الشخصي

من الجيد توضيح أن استخدام الإنسان القديم للألوان لم يكن في الأساس مُنصبًّا على الجماليات، فالتوجه المعاصر تجاه الألوان، بصفته عنصرًا جماليًّا، يعود إلى حدٍّ ما إلى عصر النهضة وليس قبل ذلك. بالنسبة للإنسان القديم، كان يوجد جمال ومجد في الألوان والتصميم، لكن تعبيره الفني لم يكن يثيره أي رغبة جمالية أو عاطفية بالقدر نفسه الذي كانت تثيره رغبته المحمومة في أن يرمز إلى ألغاز الكون والقوى الخارقة للطبيعة؛ فالكتابة الهيروغليفية وزخارف المقابر والتوابيت المصرية لم تكن زخارف نفيسة لأصحاب الأذواق الرفيعة. ويتحدث إي إيه واليس بودج عن الصور المصرية الموجودة في «كتاب الموتى» فيقول: «من الممكن أن تكون هذه الصور قد أضيفت فقط باعتبارها رسومًا توضيحية لمختلف نصوص ذلك الكتاب، لكني أعتقد أنها، على غرار رسوم شعب البوشمن التي وُجدت في كهوف في جنوب أفريقيا، رُسمت ولُوِّنت بهدف ليس له علاقة بالأفكار الفنية أو التطور الفني. وكان هذا الهدف هو إفادة الميت بواسطة طرق سحرية.» والأمر نفسه صحيح بالنسبة للزخارف الداخلية للمباني، من خلال النحت والرسم والتصميم، ليس فقط في وادي النيل، لكن في كلدو، وفي الهند والصين واليونان وروما! فمن خلال زخارف الجدران والتماثيل وصور الكتب، أضفى الإنسان سحرًا على وجوده، وعبَد آلهته، وصوَّر فلسفته وعلومه، وحدَّد كل بقعة في الأرض والسموات، وسجَّل تاريخه، وحمَى حياته، وضمن خلاصه.

خلال فترة ٤ آلاف سنة حتى عصر النهضة، كانت لوحة الألوان بالبساطة التي وصفناها في الفصل الأول؛ إذ كانت تتكون من اللون الأحمر والذهبي والأصفر والأخضر والأزرق والأرجواني والأسود والأبيض. لا شك أن مثل هذه الألوان كانت بسيطة؛ لأنها كانت ترمز إلى معرفة الإنسان وفلسفته؛ فقد كانت تتحدث عن الألغاز والآلهة والشياطين والفناء. ونتيجة لذلك كانت قوية وفاقعة؛ فالأحمر فقط — وليس الوردي أو الوردي الداكن أو الأحمر البني الداكن — كان يمكنه أن يرمز إلى البشر، وإلى عنصر النار، ولون النهار، والأزرق فقط — وليس ظلاله الفاتحة أو الداكنة — كان يمكنه أن يمثل عنصر الهواء، لون الرب الأب. كان لزامًا أن تكون الألوان مباشرة؛ لأنها تقدم تفسيرات مباشرة وواضحة للحياة على الأرض، وللحياة بعد الموت.

كثير من الأمور المتعلقة بهذه الرمزية مذكورة في الفصل الأول من هذا الكتاب. أما الأمر المميز إلى حد كبير، فهو أن لوحة الألوان نفسها فعليًّا كانت موجودة في كل الحضارات القديمة من أفريقيا إلى آسيا الصغرى، وآسيا، وأوروبا، وشعب المايا وشعب الإنكا في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية. وبالنسبة للعمارة الإغريقية والنحت الإغريقي (وقد كان معظم هذه الأعمال ملوَّنًا بالمناسبة)، فقد استُخدمت الألوان نفسها مرارًا وتكرارًا، ومرة تلو الأخرى على مدار قرون. وعلى الرغم من العثور على بعض صور الأشخاص الواقعية إلى حدٍّ كبير، فلا أحد من الفنانين القدماء (المجهولين في معظمهم) انغمس مطلقًا في التعبير التجريدي أو الرومانسي الصرف — أي «روح» أي شيء مثل الحرية والأمل والخير والإلهام — التي أمتعت الكثيرين من فناني العصور الحديثة. وفي واقع الأمر، كانت هذه الزخارف القديمة مهتمة بأمور عملية مثل التناغم مع الطبيعة والآلهة، والتوسل من أجل هطول الأمطار، ووفرة المحاصيل، والنجاة من الأوبئة والأمراض، والحياة بعد الموت.

(٢) دافينشي وعصر النهضة

دعوني أبدأ قصتي عن المفاهيم الحديثة لتناغم الألوان بالحديث عن ليوناردو دافينشي، الذي كتب ببلاغة وبصيرة فائقة في كتابه «أطروحة عن الرسم». قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي بوقت طويل، أعلن دافينشي أن «الهدف الأول للرسام هو أن يجعل أحد الأجسام المدورة البارزة يبدو مجسمًا على السطح المستوي للصورة، ومن يتفوق على الآخرين في هذا الصدد يستحق أن يعتبر الأكثر مهارة من الآخرين في مهنته. ونظرًا لأن إتقان هذا الفن يأتي من التنسيق الحقيقي والطبيعي للضوء والظل، أو ما يطلق عليه «كياروسكورو» (الضوء والظل)، فإذا ضنَّ الرسام بالظلال عندما تكون ضرورية، فإنه يخطئ في حق نفسه ويجعل عمله وضيعًا في عين الخبراء؛ كي يكسب احتفاء لا قيمة له يأتيه من السُّوقيين والجهلة الذي ينظرون فقط لسطوع وبهجة الألوان الموجودة في الصورة، ولا يهتمون مطلقًا بالبروز.»

كان لدى دافينشي أفكار محددة عن الألوان والجمال والتناغم. وبدلًا من تفسير وجهات نظره، سأدعه يتحدث بنفسه: «من بين الأجسام المختلفة المتساوية في البياض، والمتساوية في بُعدها عن العين، سيبدو الجسم المحاط بأكبر قدر من الظلمة هو الأكثر بياضًا، وعلى النقيض، فإن الظل الذي سيبدو أكثر ظلمة هو ذلك المحاط بلون أبيض بالغ السطوع.

من بين الألوان المتساوية في الإتقان، اللون الذي سيبدو أكثر تميزًا هو ذلك الذي يُرى بالقرب من نقيضه المباشر؛ لون باهت على لون أحمر، أسود على أبيض … أزرق بالقرب من أصفر، أخضر بالقرب من أحمر؛ لأن كل لون يُرى على نحو أكثر تميزًا عندما يكون مقابلًا لنقيضه، مقارنة بمواجهته لأي لون آخر مشابهٍ له.

إذا أردت تقديم قدر كبير من الظل، فلا بد من فعل ذلك من خلال تباين كبير بينه وبين قدر كبير من الضوء، وإذا أردتَ تقديم قدر كبير من السطوع، فلا بد من مواجهته بظل قاتم للغاية؛ ولذلك فإن الأصفر الفاتح سيجعل الأحمر يبدو أكثر جمالًا عما إذا كان مقابلًا للون الأرجواني.

توجد قاعدة أخرى، من خلال مراعاتها — على الرغم من أنك لن تزيد من الجمال الطبيعي للألوان — يمكن بوضع لونين جنبًا إلى جنب أن يعطيا مزيدًا من التألق أحدهما إلى الآخر. كما هو الحال عند وضع الأخضر بالقرب من الأحمر، في حين أن التأثير سيكون العكس تمامًا إذا وضعنا الأخضر بالقرب من الأزرق.

يتحقق التناغم والتألق أيضًا من خلال التنسيق الحكيم بين الألوان؛ مثل الأزرق مع الأصفر الفاتح أو الأبيض وما شابه ذلك.»

وفيما يخص طريقته في الرسم قال: «بعد الأسود والأبيض، يأتي الأزرق والأصفر، ثم الأخضر والأسمر المصفر أو العنبري، ثم الأرجواني والأحمر. هذه الألوان الثمانية كلها تنتجها الطبيعة. وبهذه الألوان أبدأ خلطات الألوان، الأسود أولًا والأبيض، الأسود والأصفر، الأسود والأحمر، ثم الأصفر والأحمر.» ويضيف قائلًا: «يزداد جمال الأسود في الظلال، والأبيض في الضوء البالغ القوة، والأزرق والأخضر في الألوان المتوسطة بين الظلمة والسطوع، والأصفر والأحمر في الضوء الأساسي، والذهبي في الانعكاسات، والأحمر الأرجواني في الألوان المتوسطة بين الظلمة والضوء.»

سيطر أسلوب دافينشي في الرسم المعروف باسم أسلوب الضوء والظل (كياروسكورو) على عصر النهضة، وعلى الأجيال التي تلته. لقد فهم الظلال الملونة، والظلال المتداخلة، والظلال الساقطة، وربما توقع ظهور الفن التجريدي عندما كتب: «عند رمي إسفنجة مشربة بألوان مختلفة على حائط، فإنها تترك عليه بعض البقع التي قد تبدو مثل منظر طبيعي. وصحيح أيضًا أنه قد تُرى مجموعة من التركيبات في تلك البقع وفقًا لتوجُّه العقل الذي يتأمل هذه البقع؛ ومن أمثلة تلك التركيبات: رءوس الرجال، أو حيوانات متعددة، ومعارك، ومناظر جبلية، وبحار، وسحب، وغابات وما شابه ذلك.» لقد فضَّل دافينشي المعرفة والفهم على الإحساس الصرف فقال: «كل من يقنع نفسه بأنه يستطيع أن يحتفظ في ذاكرته بكل تأثيرات الطبيعة فهو مخدوع؛ لأن ذاكرتنا ليست واسعة لهذه الدرجة؛ لذلك استشر الطبيعة في كل شيء.»

(٣) السير جوشوا رينولدز

كل فناني العصور الحديثة كان لديهم إحساس قوي تجاه الألوان، وكلهم افتخروا بموهبتهم الاستثنائية في التعبير بالألوان. وأُفضِّل تخصيص بقية هذا الفصل لنظريات تناغم الألوان الواسعة الاطلاع والأصلية إلى حد كبير، مع مقولة فاصلة قصيرة للسير جوشوا رينولدز. كتب رينولدز يقول: «من الضروري، في رأيي، أن نلاحظ أن مساحات الضوء في الصورة تكون دائمًا بألوان هادئة دافئة، أصفر أو أحمر أو أبيض مصفر، وأن يُستبعد اللون الأزرق أو الرمادي أو الأخضر بشكل كامل تقريبًا عن هذه المساحات، وأن تستخدم تلك الألوان فقط لدعم وإبراز تلك الألوان الدافئة، ومن أجل هذا الغرض، سيكون كافيًا استخدام جزء قليل من الألوان الباردة. وعند عكس هذا السلوك، وجعل الضوء باردًا والألوان المحيطة به دافئة، كما نرى غالبًا في أعمال الرسامين الرومانيين والفلورنسيين، فلن يكون الفن قادرًا، حتى لو كان ذلك على يد روبنز أو تيتيان، على أن يجعل الصورة رائعة ومتناغمة.» وكان رينولدز متأكدًا للغاية من تعميمه، ويقال إن جينزبره دحض هذا المبدأ وعكسه عن عمد، وذلك عندما رسم رائعته الشهيرة «الولد الأزرق».

(٤) يوهان فولفجانج فون جوته

كرَّس الشاعر الألماني الكبير جوته سنوات كثيرة لدراسة الألوان، وعارض نظريات نيوتن العلمية معارضة شرسة. ورغم ذلك، فقد كان جوته مخطئًا في هذا الصدد، وما أسهم به في فن الألوان كان حماس العبقري وروحه وبصيرته المميزة. وقد اخترع جوته دوائر ومثلثات الألوان.

كان لجوته آراء قوية فيما يتعلق بالعامل الجمالي والعامل العاطفي في الألوان، واعتقد أن كل الألوان مشتقة من الضوء والظلام، وأن اللونين الرئيسيين الأساسيين هما الأصفر والأزرق. ورأى أن بعض الألوان كانت «إيجابية»: الأصفر، الأصفر المحمر (البرتقالي)، الأحمر المصفر (الزنجفري). وفيما يتعلق بالأصفر: «في أعلى مستويات نقاوته، يحمل دائمًا بطبيعته السطوع، ويحمل طابعًا هادئًا ومبهجًا ومثيرًا على نحو هادئ …» وقال عن قرمزي الزنجفر: «تأثير هذا اللون غريب على قدر غرابة طبيعته؛ فهو يعطي انطباع الجدية والرزانة، وفي الوقت نفسه يعطي انطباع الجمال والجاذبية.» كانت الطاقة عالية في الأصفر المحمر: «يعطي الأصفر المحمر انطباع الدفء والبهجة؛ لأنه يمثل لون لهيب النار الأكثر شدة، وإشعاع شمس الغروب الأكثر اعتدالًا … ولا عجب أن الرجل غير المتعلم الطائش الفج لا بد أن يسرَّه كثيرًا هذا اللون.»

وكان ضمن الألوان «السلبية» الأزرق والأزرق المحمر (البنفسجي)، والأحمر المزرق (الأرجواني). وفيما يتعلق بالأزرق، يقول جوته: «لهذا اللون تأثير غريب على العين ولا يمكن وصفه؛ فهو قوي كلونٍ، لكنه على الجانب السلبي، وفي أعلى حالات نقاوته، يمكن القول إنه تناقض مثير؛ ولذلك فإن مظهره يمثل نوعًا من التناقض بين الإثارة والاسترخاء.» وقال عن البنفسجي: «يتعمق الأزرق في الأحمر على نحو معتدل جدًّا، ثم يكتسب شخصية نشطة إلى حدٍّ ما، على الرغم من أنه على الجانب السلبي … ويمكن القول إنه يسبب لنا الإزعاج أكثر مما يسبب لنا البهجة.»

وعلى الرغم من أن جوته كان يكره اللون الأخضر المصفر، فقد كان مغرمًا باللون الأخضر نفسه: «إن الأصفر والأزرق، اللذين نعتبرهما اللونين الأكثر أساسية ولونين بسيطين، إذا توحَّدا عند ظهورهما الأول، في أولى حالات نشاطهما، فستكون النتيجة اللون الذي نطلق عليه الأخضر. يتولد لدى العين انطباع بالامتنان على نحو مميز عند رؤية هذا اللون.» وإذا كان الأخضر متوازنًا على نحو مثالي بين الأصفر والأزرق، فإن: «الناظر لن تكون لديه الرغبة ولا القوة في تخيل حالة أفضل منه. لذلك، ومن أجل الغرف التي نعيش فيها باستمرار، فإن اللون الأخضر هو اللون الأكثر اختيارًا في العموم.» وفيما يتعلق بالتناغم، فإن الأصفر والأزرق مجموعة ضعيفة التناغم، والأصفر والأحمر لهما «تأثير باعث على السكينة والروعة». وكان البرتقالي والأرجواني بالنسبة لجوته لونين يسببان الإثارة ورفع الروح المعنوية، فقال عنهما: «إن الجمع بين الأصفر والأخضر لطالما كان له أثر عادي، لكن بطريقة مبهجة. أما الأزرق والأخضر، على النقيض من ذلك، فلهما أثر عادي على نحو منفر. وأطلق أسلافنا الصالحون على هذين اللونين الأخيرين ألوان المهرج.»

وبالنسبة للتناغم فقد فضَّل المكمِّلات، مثلما فعل شيفيرول لاحقًا. وفي إشارة إلى دائرة الألوان كتب يقول: «الأصفر يتطلَّب الأزرق المحمر؛ والأزرق يتطلَّب الأصفر المحمر؛ والأحمر يتطلَّب الأخضر «والعكس».» وتوقع أن يكون لدى الفنانين معرفة مناسبة بترتيب الألوان وتناغمها فقال: «إن التجنب المقيت بل والحازم لكل الآراء النظرية المتعلقة بالألوان وكل ما ينتمي إليها، موجود حتى الآن بين الرسامين. وهذا تحيز لا يُلامون عليه على أي حال؛ لأن كل ما أطلق عليه نظريات حتى الآن كان لا أساس له، ومتذبذبًا، وشبيهًا بالتجريبية.» وبذل جوته قصارى جهده لإصلاح ذلك.

(٥) يوجين ديلاكروا

في عصره، ناضل ديلاكروا من أجل الألوان وحارب النمطية وأصبح بطل أتباع المدرسة الانطباعية. كان يراقب بدقة ظواهر الألوان في الطبيعة، وكان توَّاقًا للمعرفة؛ فكتب يقول: «إن عناصر نظرية الألوان لم نحللها ولم نتعلمها في كليات الفنون؛ لأنه في فرنسا يعتبر من غير الضروري دراسة قوانين الألوان، وفقًا للقول المأثور: «رسامو التصاميم يُصنعون. أما رسامو الألوان فيولدون.» أسرار نظرية الألوان؟ لماذا نطلق لفظة أسرار على تلك المبادئ التي يجب أن يعلمها كل الفنانين، ويجب أن يتعلموها؟» أصبح ديلاكروا مثار الإعجاب، وحفر اسمه في ذاكرة الجميع بسبب تعليقاته القاطعة مثل: «عدو كل الألوان هو الرمادي … امنع كل ألوان الأرض … وأعطني لون الطين وسأصنع منه جلد فينوس، لو سمحت لي بإحاطته بما أريد من ألوان.»

كان لدى ديلاكروا وجهة نظر مميزة تجاه الألوان وفضول تجاهها أيضًا. وإليكم مقتطفًا مبهجًا من «الدورية» التي كان يكتبها: «من نافذتي أرى نجارًا يعمل، عاريًا حتى خصره، في أحد المعارض. ألاحظ كيف أن الألوان النصفية لجسده ملونة بقوة مقارنة ببقية جسمه الذي لا يتحرك. ولاحظت الأمر نفسه بالأمس في ساحة سان سولبيس؛ حيث كان أحد المتسكعين يتسلق تماثيل النافورة، في الشمس. البرتقالي الباهت في لون لحم الجسم، والألوان البنفسجية الأقوى للظلال الساقطة، والانعكاسات الذهبية في الظلال التي أصبحت بارزة على الأرض. سيطر اللون البرتقالي واللون البنفسجي بالتناوب أو اختلطا معًا. كان اللون الذهبي ينطوي على لون أخضر. وأظهر الجسم لونه الحقيقي فقط في الهواء الطلق، وفوق كل هذا تحت أشعة الشمس؛ فعندما يخرج المرء رأسه من النافذة يصبح مختلفًا إلى حدٍّ كبير عما كان عليه وهو داخل المبنى. ومن هنا تأتي حماقة اللوحات المرسومة في المرسم التي تبذل قصارى جهدها في تزييف هذا اللون.» وكان لانتقاده «للوحات المرسومة في المرسم» ودعوته إلى ملاحظة الألوان في «الهواء الطلق» أثرهما في إثارة وإلهام شباب المدرسة الانطباعية في عصره. وقد أصبح بعضهم رسامين للمناظر الطبيعية يرسمون بالفعل في الهواء الطلق خارج الأماكن المغلقة!

(٦) ميشيل أوجين شيفيرول

كان ديلاكروا من المعجبين بميشيل أوجين شيفيرول؛ الكيميائي الفرنسي ورئيس قسم الأصباغ في مصانع جوبلين الشهيرة لقماش النجود الموجودة خارج باريس. ورغم أن ديلاكروا حاول في وقت من الأوقات مقابلة شيفيرول، فإن هذا اللقاء لم يتم مطلقًا؛ ربما بسبب تدهور صحة شيفيرول (الذي عاش إلى أن وصل إلى ١٠٣ سنة). وعلى أي حال، ففي عام ١٨٣٥، نشر شيفيرول واحدًا من أعظم الكتب التي كتبها عن الألوان؛ وهو كتاب «مبادئ التناغم والتباين في الألوان». وأشار هذا الكتاب إلى «الرسم، والزخرفة الداخلية، وأقمشة النجود، والسجاد، والفسيفساء، وزجاج النوافذ الملون، وتلوين الأوراق، وطباعة القماش القطني كاليكو، والطباعة البارزة، وتلوين الخرائط، والملابس، وتنسيق المناظر الطبيعية والزهور، إلخ». وقد كرمته الحكومة الفرنسية لاحقًا بميدالية برونزية وتمثال، وطبعة خاصة لكتابه الرائع بمناسبة عيد ميلاده المائة.

وتعد جهود شيفيرول الإبداعية في مجال الألوان بارزة في ثلاثة جوانب كبرى؛ أولًا: على الرغم من أن الفن التجريدي لم يكن موجودًا في وقته، فإن نقاشات شيفيرول ورسومه التصويرية للصور التلوية وتأثيرات التباين المتناوب والمتزامن أثرت قطعًا على ما ظهر لاحقًا من رسامين غير تمثيليين، وبعض مدارس الرسم مثل مدرسة الفن البصري. ولاحقًا نسخت هذه الاكتشافات وقلَّدها وسرقها آخرون. ثانيًا: أثرت دراساته عن المزج اللوني البصري على المدرسة الانطباعية، وعلى المدرسة الانطباعية الجديدة، وعلى كافة أشكال التعبير اللوني المتعلقة بالظواهر البصرية. ثالثًا: كان واحدًا من أوائل الرجال الذين وضعوا مبادئ محددة للتناغم اللوني (التي سنعرضها بعد قليل)، والتي أصبحت دراستها ضرورية عند تعليم الألوان والتدريب عليها منذ ذلك الحين.

ماذا يعلمنا شيفيرول عن تناغم الألوان؟ في البداية، لقد فرَّق بين أشكال التناغم الصادرة عن التشابه وتلك الصادرة عن التباين. كانت أشكال التناغم الصادرة عن التباين هي الأشكال المفضلة لديه، فيقول شيفيرول: «كلما زاد الاختلاف بين اللونين أصبح ارتباطهما مفضلًا فيما يتعلق بالتباين بين كل منهما، وكلما تقارب الشبه بينهما زاد خطر إضرار ارتباطهما بجمالهما.» وبافتراض أن القارئ تلقى بعض التدريب في مجال التناغم بين الألوان على صعيد أكاديمي، دعوني أستعرض ما كررته الكثير من الكتب. تأمَّل دائرة ألوان تقليدية مثل تلك التي استخدمها شيفيرول، تجد أنها تتكون من ألوان أساسية هي الأحمر والأصفر والأزرق، وألوان ثانوية هي البرتقالي والأخضر والبنفسجي، وألوان وسطية مثل البرتقالي المحمر، والبرتقالي المصفر، والبنفسجي المحمر.

توجد تناغمات قائمة على التشابه، ويتمثل ذلك في الألوان المتجاورة في دائرة الألوان؛ وهي: الأحمر مع البرتقالي المحمر، أو البرتقالي، أو البنفسجي المحمر، أو البنفسجي. وتوجد تناغمات الأضداد المباشرة أو الألوان المتكاملة؛ وهي: الأحمر مع الأخضر، والأصفر مع البنفسجي، والبرتقالي مع الأزرق، وكل لون من هذه الألوان يقع مواجهًا للآخر في دائرة الألوان. وتوجد تناغمات الألوان المتكاملة المنقسمة؛ وهي: لون أساسي مع اللونين الموجودين على جانبي اللون المكمل له. ومن أمثلة ذلك: الأحمر مع الأخضر المصفر والأخضر المزرق، والأصفر مع البنفسجي المحمر والبنفسجي المزرق، والأزرق مع البرتقالي المحمر والبرتقالي المصفر. وتوجد التناغمات الثلاثية؛ وهي ثلاثة ألوان تقع على مسافة متساوية بعضها من بعض في دائرة الألوان؛ مثل الأحمر والأصفر والأزرق، والبرتقالي والأخضر والبنفسجي، والبرتقالي المصفر، والأخضر المزرق، والبنفسجي المحمر. وتوجد تناغمات رباعية، وتضم أربعة ألوان موجودة على مسافة متساوية بعضها من بعض في دائرة الألوان؛ مثل: الأحمر والبرتقالي المصفر والأخضر والبنفسجي المزرق، والأصفر والأخضر المزرق والبنفسجي والبرتقالي المحمر، والأزرق والبنفسجي المحمر والبرتقالي والأخضر المصفر. وأضاف شيفيرول قائلًا إنه «عندما يكون الجمع بين لونين يعطي مظهرًا سيئًا، فمن المفيد دائمًا الفصل بينهما باللون الأبيض.» وكان الأسود مناسبًا أيضًا للفصل بين الألوان. أما الرمادي فكان «أقل تأثيرًا من الأسود والأبيض.»

أما تأثير شيفيرول الذي ما زال مستمرًّا على أنماط الفن المعاصرة فقط، فتمحور حول قانون التباين المتزامن. كيف يعمل هذا القانون؟ لنقتبس ما قاله: «إذا نظرنا في الوقت نفسه لقطاعين من درجتين مختلفتين للون نفسه، أو لقطاعين من الدرجة نفسها للونين مختلفين متجاورين، فإذا كان القطاعان غير عريضين للغاية، فسوف تدرك العين تعديلات معينة تؤثر أولًا على شدة اللون، وتؤثر ثانيًا على التركيبة البصرية للونين المتجاورين تباعًا. كل الظواهر التي لاحظتها تبدو لي أنها تعتمد على قانون بسيط للغاية إذا نظرنا إلى معناه العام قد يمكننا التعبير عنه بهذه الطريقة: «في حالة رؤية العين في الوقت نفسه للونين متجاورين، سيبدو اللونان مختلفين قدر الإمكان، من حيث كلٍّ من التركيبة البصرية وشدة درجة كلٍّ منهما.» وهذا يعني أن اللونين المختلفَي «اللون» سوف يميلان إلى «التباعد» إلى حد كبير أحدهما عن الآخر، واللونين المختلفَي «القيمة» (السطوع) سوف يظهر أحدهما أفتح، والآخر أغمق من الآخر بسبب التبايُن.»

ومضى شيفيرول في سرد قوائم طويلة وأمثلة على هذا التباين. وكانت هذه النتائج المدهشة راجعة إلى كلٍّ من تأثير الصور التلوية وإلى النتائج الفردية للألوان المختلفة التي تشوَّشت أو امتزجت على شبكية العين. وكثير مما قاله شيفيرول يعتبر كلامًا أكاديميًّا في وقتنا المعاصر. أما في وقت شيفيرول فقد كانت تلك الحقائق مذهلة. وفي حال لم يكن القارئ على معرفة بأمور التباين المتزامن في الألوان، فإليكم بعض أمثلة هذا التباين: إذا رأينا منطقة حمراء بالقرب من منطقة صفراء، فإن الصورة التلوية للأحمر (الأخضر) سوف تجعل الأصفر يبدو مخضرًّا، والصورة التلوية البنفسجية للأصفر سوف تجعل الأحمر بالمثل يبدو أرجوانيًّا، بيد أن اللونين المكملين يعزز سطوع أحدهما الآخر، ويجعل كلٌّ منهما الآخر يبدو ساطعًا. فإذا تجاور الأحمر والأخضر، فكلٌّ منهما ستزيد قوته بسبب صورهما التلوية. وعن هذا كتب شيفيرول: «الأحمر؛ اللون المكمل للأخضر، عند إضافته للأحمر، فإنه يزيد من شدته، والأخضر؛ اللون المكمل للأحمر، عند إضافته للأخضر، فإنه يقوي شدته.»

وفي مسألة الخلطات البصرية (الخطوط الرفيعة أو النقاط الصغيرة الملونة المختلطة في شبكية العين) تمكن شيفيرول من استخدام خبرته الكبيرة في عالم الألوان التي اكتسبها أثناء صناعة أقمشة النجود في مصنعي جوبلين وبوفيه، وصناعة السجاد في مصنع سافونري؛ تلك المنسوجات الفرنسية المتميزة عالميًّا. وتمثلت استنتاجاته فيما يلي: «يوجد «مزيج من الألوان» يحدث عند تجزئة مواد مختلفة الألوان تجزئة شديدة، ثم تجميعها بحيث لا تستطيع العين تمييز تلك المواد بعضها عن بعض؛ وفي هذه الحالة تتلقى العين انطباعًا واحدًا.» ويختلف هذا الانطباع عن انطباع الألوان المرئية في المناطق الكبيرة المتجاورة. وقد أثبت الأمريكي أوجدن رود لاحقًا أنه يتمتع بقدر كبير من قوة الملاحظة في موضوع خلطات الألوان المرئية.

(٧) أوجدن نيكولاس رود

أصبح أوجدن نيكولاس رود؛ الأستاذ بجامعة كولومبيا في نيويورك، المرجعية الأمريكية الرائدة في البصريات الفسيولوجية عند نشر كتابه «علم الألوان الحديث» في عام ١٨٧٩، والذي أصبح عنوانه في الطبعات اللاحقة «كتاب الألوان للطلاب». وعلى الرغم من كون رود عالمًا، فإنه كان يمتلك موهبة كبيرة بصفته فنانًا، ومن ثم كان قادرًا على تفسير البيانات التقنية تفسيرًا جيدًا بمفردات جمالية مفهومة. الأمر المميز في رود أن كتابه؛ الذي تُرجم إلى الفرنسية في عام ١٨٨١، أصبح مرجعًا لأتباع المدرسة الانطباعية الجديدة، وقرأه بنَهَم رسامون أمثال: كاميل بيسارو، وجورج سورا، وبول سينياك.

كتب رود: «نشير إلى عادة وضع كمية مكونة من نقاط صغيرة من لونين قريبًا جدًّا أحدهما من الآخر، والسماح باختلاطهما عن طريق العين من على مسافة مناسبة … والنتائج المكتسبة من خلال هذه الطريقة هي خلطات حقيقية من الضوء الملون … وهذه الطريقة هي تقريبًا الطريقة العملية الوحيدة المتاحة للفنان، التي من خلالها يمكنه فعليًّا مزج، ليس الأصباغ، لكن كتل الضوء الملون.» كان هذا مبدأ أسلوب التجزُّؤ الذي درسه (لكن لفترات قصيرة) رسامون مثل: فان جوخ، وهنري ماتيس، وإميل برنارد، وتولوز لوتريك. وقد بقيت أمثلة مميزة للمدرسة التجزيئية من صنع هؤلاء الرسامين.

قدم رود النصح إلى ألبرت إتش مونسل عند تطوير كرة مونسل للألوان، ونظرًا لموهبته في الفن، فقد تضمن كتابه فصولًا عن الرسم والزخرفة والتناغم، وأقرَّ بأن الشكل أهم من الألوان في الرسوم الواقعية، لكن «في فن الزخرفة يكون عنصر اللون أهم من الشكل.» وكرَّر كثيرًا من تجارب شيفيرول، وتحدَّث عن تناغم الأضداد، والألوان المتجاورة، والألوان الثلاثية، وقدَّم قوائم شاملة لمجموعات الألوان السيئة، والمتدنية، وغير المستحسنة، والمستساغة والممتازة. وعلى غرار جوته، فقد شعر أن «الأخضر والأزرق، على سبيل المثال، اجتماعهما معًا فقير من الناحية الجمالية، ورغم ذلك فإن وجودهما معًا يتكرر باستمرار في الطبيعة، كما في حالة رؤية السماء الزرقاء من خلال أوراق الأشجار الخضراء.» وربما استعار مونسل كلام رود في العبارة التالية الواردة في كتاب «علم الألوان الحديث»: «نعود الآن لفرضية أن أفضل تأثير ينتج عندما تكون الألوان الموجودة في أحد التصاميم متناسبة؛ بحيث إذا صنعنا خليطًا مركبًا من هذه النسب يكون الناتج لونًا رماديًّا حياديًّا.»

كان رود مصدر فخر لأمريكا، وقد أعيد نشر كتابه الرائع الذي يستحق إعادة النشر في وقت قريب (١٩٧٣). لقد دافع عن المعرفة والانضباط — والموهبة — بصفتها من متطلبات الفن.

(٨) فاسيلي كاندينسكي

قليل من الرسامين العظماء كانوا أصحاب نظريات ألوان، باستثناء قليل كان منهم دافنشي. في واقع الأمر كان السير جوشوا رينولدز محاضرًا أكثر منه معلمًا. وعلى الرغم من أن ديلاكروا كان مراقبًا فطنًا للطبيعة، فإنه لم يحاول تحديد أو تنظيم ملاحظاته الكثيرة النبيهة حول الألوان. أما في الفنون المعاصرة، فيتربع اسم فاسيلي كاندينسكي على عرش الرومانسية بل والتمجيد. فمن بين واضعي نظريات الألوان، وضع كاندينسكي نظرية تعدُّ الأكثر خيالية وغموضًا بين النظريات. ولقد طبَّق أفكاره على لوحاته الخاصة، واستغلَّ طيف الألوان ليُقدِّم بعضًا من أندر التصاميم التجريدية على مستوى حرفة الرسم، وفي هذه التأثيرات كان الشكل قطعًا في المرتبة التالية للألوان.

كان كاندينسكي، مثل معظم الرسامين، يؤمن بالفردانية؛ فقد كانت شخصيته تصبغ كل افتراضاته بصبغته الخاصة، وكان يرى أن للألوان تأثيرًا روحانيًّا تمامًا مثلما لها صفة مادية؛ «فالألوان تصدر ذبذبات روحانية مماثلة. ولأنه فقط يمثِّل خطوة تجاه هذه الذبذبات الروحانية، فإن هذا الانطباع المادي الأولي يعد في غاية الأهمية.» وهذا يعني أن اللون لديه قدرات غريبة، وأن مسائل التناغم لا بد أن تتأمل روح الإنسان وكذلك رؤيته. «من الواضح … أن تناغم الألوان لا بد أن يعتمد فقط على الذبذبات المماثلة في الروح الإنسانية. وهذا أحد المبادئ الدالَّة للحاجة الداخلية.»

للطيف اللوني أبعاد كبيرة من الدفء والبرودة والضوء والظلمة؛ ولذلك يمكن أن يكون للألوان أربعة ظلال حسب ما يروق للشخص: دافئ ومضيء، أو دافئ ومظلم، أو بارد ومضيء، أو بارد ومظلم. كان الأزرق والأصفر هما المسيطران. «في العموم، إن الدفء أو البرودة في أحد الألوان يعني اقترابًا إلى الأصفر أو الأزرق على الترتيب.» كان كاندينسكي يؤمن بوجود حركة في الألوان الرئيسية، وكان يرى أن الأصفر لديه أكبر قدرة على الانتشار. وكان يرى أن الأصفر يميل إلى الأبيض، ويميل إلى الاقتراب من الرائي، وكان يعتقد أن الأزرق يميل إلى الأسود وينكمش على نفسه ويتراجع، وقال عنه: «إن قوة المعنى العميق هي الأزرق.»

«الأحمر يدور للداخل بشدة محددة وقوية، ويتوهج داخل نفسه، بنضج، ولا يوزع قوته بلا هدف.»

«البرتقالي لون أحمر أصبح أقرب إلى البشر بفعل الأصفر.»

«البنفسجي لون أحمر منسحب عن البشر بفعل الأزرق.»

كان كاندينسكي يعتقد أن الألوان «الشديدة» (الأصفر) مناسبة للغاية للأشكال الحادة الحواف، وأن الألوان الناعمة العميقة (الأزرق) مناسبة للغاية للأشكال المستديرة. والشكل أيضًا يؤثر على الجاذبية؛ فالدرجة اللونية نفسها يمكن استخدامها لإعطاء قيم روحية مختلفة من خلال أشكال مختلفة.

(٩) ألبرت هنري مونسل

يعد ألبرت هنري مونسل أشهر الرسامين الأمريكيين. وكرة الألوان التي ابتكرها في بداية القرن العشرين، والتي حسَّنها العلماء الأمريكيون منذ ذلك الحين؛ أصبحت أكثر أنظمة الترميز اللوني الموجودة شيوعًا في الاستخدام في وقتنا المعاصر. كما أن كتابه «الترميز اللوني»، الذي نشر في الأساس في عام ١٩٠٥، ما زالت تصدر منه طبعات أخرى منذ ذلك الحين. إن تحريري لنظريات مونسل عن تناغم الألوان (دون الجوانب التقنية لكرة الألوان) كان مخصصًا لكتاب «قواعد الألوان»، الذي كتبه تي إم كليلاند في عام ١٩٢١، واحتوى على فصول قصيرة كتبها مونسل بنفسه قبل وفاته في عام ١٩١٨.

كان مونسل في عصره يتبنى ذوق الفيكتوريين المتأخرين ذي النزعة المحافظة. وتوجد مقتطفات مثيرة تعبر عن آرائه: «إن الإحساس بالراحة لهو نتيجة للتوازن، في حين أن عدم التوازن الظاهر يتطلب دائمًا وسيلة للتصحيح.» وقد تطلب هذا وضع حدٍّ له. «إن استخدام الألوان الشديدة القوة يجهد العين فحسب، وهذا الأمر ينطبق أيضًا على الألوان البالغة الضعف.» وقد تختلف المدرسة الوحشية الفرنسية مع هذه النزعة المحافظة، مثلما قد يختلف معها معظم الفنانين المعاصرين. «ويجب أن يتجنب المبتدئون الألوان القوية» في حين أن «الألوان الهادئة هي علامة الذوق الرفيع.»

«إن عربة السيرك وملصقها الدعائي، على الرغم من نجاحهما في جذب الانتباه اللحظي، سرعان ما تصبح رؤيتهما مؤذية للغاية لدرجة تجعل المرء يعرض عنهما.» وأخيرًا، «إذا كنا نرغب في أن يصبح أبناؤنا على تربية حسنة، فهل من المنطقي أن نبدأ بتشجيع الأذواق الهمجية؟»

إن مبادئ التناغم التي وضعها مونسل، التي سنراجعها الآن، تدرس حاليًّا في كثير من المدارس، وتتسم هذه المبادئ بأنها صارمة وأكاديمية؛ فهي تقيد التعبير بدلًا من أن تحرِّره. في كتاب كليلاند المذكور آنفًا، وُصفت (ورُسمت بالألوان الكاملة) تسعة من مبادئ مونسل التي سأسردها هنا:

  • (١)

    يحتفي مونسل احتفاء كبيرًا بالألوان المتوسطة القيمة (السطوع) والمتوسطة الكروما (مصطلح اخترعه) أو الصفاء. وباستخدام مقياس مكوَّن من تسع درجات رمادية، سيكون مزيج من الدرجات ١ (أسود)، و٥ (رمادي متوسط)، و٩ (أبيض) مزيجًا مثاليًّا؛ وبذلك ستكون الدرجة ٥ هي نقطة التوازن دائمًا بين الدرجات ٣، ٥، ٧، والدرجات ٤، ٥، ٦. ستبدو الألوان الفاتحة مناسبةً على الألوان القاتمة وكذلك الألوان القاتمة على الفاتحة، لكن مع استخدام القيمة ٥ كمحور ارتكاز.

  • (٢)

    الألوان المتناغمة الأحادية اللون التي تتضمن أحد الألوان الأساسية يجب أيضًا أن تتبع المبدأ السالف ذكره. واللون المثالي سيكون لونًا ذا قيمة متوسطة هي ٥، وكروما صفاء لوني درجته ٥، بالإضافة إلى (أ) قيمة ٣ أو ٧ أو ٤ أو ٦ من اللون نفسه، أو (ب) ٣ أو ٧ أو ٢ أو ٨ درجة صفاء لوني (كروما). ويمكن ترتيب الألوان المتناغمة الأحادية اللون المائلة لكن مع استخدام القيمة ٥ / ٥ كلون أساسي.

  • (٣)

    وكما هو الحال مع شيفيرول، فإن الألوان المتكاملة هي ألوان متناغمة إلى حد كبير، لكن مع تحفظات معينة. ومرة أخرى، فاللون الأحمر ذو القيمة ٥ يمكن أن يجتمع على نحو متناغم مع أخضر مزرق من القيمة ٥ على لون رمادي قيمته ٥، أو يمكن جمع لون أحمر من درجة كروما ٥ مع لون أخضر مزرق درجة كروما ٥ على لون رمادي قيمته ٥. والألوان المتكاملة الأخرى يمكن، بالطبع، تنسيقها بالطريقة نفسها.

  • (٤)

    وتفرد مونسل تمامًا باعتقاد أن توازن القيمة ٥ يعد توازنًا مرغوبًا. ووفقًا لهذا المبدأ، فإن اللون الأحمر الذي قيمة صفائه اللوني (الكروما) تعادل ٣، على سبيل المثال، سوف يحتاج لونًا أخضر مزرقًا ذا قيمة كروما تعادل ٣ لتحقيق التوازن. أما لو كانت قيمة الكروما للون الأحمر هي ٦، فإن منطقة ذات لون أخضر مزرق تعادل ضعف حجم الأحمر المستخدم ستكون ضرورية لتحقيق التوازن.

  • (٥)

    وعلى غرار المبدأ الرابع، ففي حالة القيم المختلفة، فإن أي كروما أقوى لا بد أن تحتل منطقة أقل من أي كروما أضعف. «يمكن إثبات الجمال إذا قيست كل المناطق ووضعت على قرص، وإذا كانت نتيجة دوران المناطق على القرص هي لونًا رماديًّا حياديًّا من القيمة ٥؛ فسيكون كل شيء على ما يرام!»

  • (٦)

    يمكن ترتيب الكرومات المختلفة والقيم المختلفة ترتيبًا منسقًا كما في المبدأ ٥، لكن مع مرور النتيجة المقاسة دائمًا من خلال القيمة ٥ السحرية.

  • (٧)

    يمكن جمع الألوان المتجاورة مع الألوان المكملة المنقسمة، لكن على نحوٍ متوازن كما هو مذكور سابقًا.

  • (٨)

    يمكن أن نحدد في كل أجزاء كرة الألوان تسلسلات متضائلة من القيم الفاتحة إلى القاتمة، ومن الكرومات الصافية إلى الكرومات الضعيفة.

  • (٩)

    يمكن ترتيب المسارات البيضاوية بين الألوان المتقابلة؛ فهي معقدة لكنها جميلة.

إن مبادئ مونسل قد تؤدي إلى التناغم، لكن معظمها — مع الأسف — يؤدي إلى مجموعات لونية باهتة ورمادية لا تكاد تعكس الذوق المعاصر وتفضيل الألوان الفاقعة.

(١٠) فيلهيلم أوستفالد

إذا كنا نتناول كرات الألوان وأنظمة الألوان من أجل أغراض التناغم، فإن مبادئ أوستفالد أهم من مبادئ مونسل (وقد أوليتُ اهتمامًا مكثفًا لكلا النظامين). يقل اهتمام أوستفالد بالقيمة والكروما في مقابل زيادة الاهتمام بصفات البياض والسواد في اللون.

على النقيض من رود ومونسيل، وكلاهما كان يمارس مهنة الرسم، فقد كان فيلهيلم أوستفالد عالمًا فاز بجائزة نوبل في الكيمياء في عام ١٩٠٩، وكان مهتمًّا بمشاكل تنظيم الألوان، وابتكر مفهومًا جديدًا عن ترتيب الألوان (وقد قدَّم شكرًا مستحقًّا لعالم النفس الألماني إيفالد هيرينج)، واكتسب شهرة عالمية بصفته خبيرًا في الألوان. وقد نشر أحد كتبه؛ وهو «الكتاب التمهيدي في الألوان»، في عام ١٩١٦، ووصل عدد طبعاته إلى ١٥ طبعة. وفي ترجمة إنجليزية لاحقة حمَلت عنوان «المقدمة التمهيدية في الألوان» (١٩٦٩)، أُضيف فصل يتحدث عن تاريخ أنظمة الألوان ومُلحقٌ لتقييم إنجازات أوستفالد.

وبينما أكد مونسل على أهمية القيمة والكروما (الصفاء اللوني)، تناول أوستفالد صفات البياض والسواد في اللون. وكان النموذج العقلاني للون هو المثلث، مع وجود اللون الصافي (ن) عند إحدى زواياه، ووجود الأبيض (ض) عند الزاوية الثانية، والأسود (س) عند الزاوية الثالثة. وكل التنويعات الممكنة لأي لون يمكن تحديدها داخل هذا المثلث: ن + ض + س = ١.

ويمكن التعبير عن نظريات أوستفالد في التناغم على نحو بسيط، فيقول أوستفالد إن أي ألوان متماثلة في محتوى اللون والأبيض والأسود ستكون متناغمة (بغض النظر عن الاختلافات في القيمة)، ومقاييس الألوان المتشابهة في محتوى اللون والأبيض (ن ض) متماثلة في محتوى الأسود. وفي هذه المقاييس تكون الدرجة الأغمق صافية، وتكون الدرجة الأفتح ضعيفة. ومقاييس الألوان المتشابهة في محتوى اللون والأسود (ن س) متماثلة في محتوى الأبيض، وفيها تكون الدرجة الأفتح صافية، والدرجة الأغمق باهتة. ومقاييس الألوان المتشابهة في محتوى الأبيض والأسود (ض س) (مقاييس رأسية) كانت هي المفضلة للغاية لدى أوستفالد، وأطلق عليها «سلسلة الظل»، وشبَّهها بتجسيم الكياروسكورو الذي اتَّبعه رسامو عصر النهضة. وكانت هذه المقاييس ذات محتوًى متساوٍ في اللون على نحو واضح. وكانت تلك الألوان المتناغمة المسماة «النجمة الدائرية» على قدر أكبر من التعقيد، وحددت درجات متناسقة في مجسم الألوان، على غرار التسلسلات المتضائلة والمسارات البيضاوية التي حددها مونسل، لكن مع مراعاة حذرة لتوازن محتوى الأبيض أو الأسود أو اللون.

وقد كتب ميتلاند جريفز كتابًا رائعًا عن مونسل. ويعد إيجبرت جيكوبسن من أفضل الكتاب الذين كتبوا عن أوستفالد (انظر قائمة المراجع). والكتب الأخرى الموصى بها التي تتضمن ملاحظات عن التناغم توجد ضمن أعمال يوهانس إيتين، وجوزيف ألبرس، وبول كلي، وفرانس جاريتسون. للاطلاع على مبادئ أخرى عن تناغم الألوان أقل أكاديمية عن التي تناولناها هنا، استعينوا بكتبي الخاصة، ومعظمها يحاول ابتكار نماذج جديدة للتعبير اللوني مأخوذة من عجائب وظواهر الإدراك البشري.

(١١) تفضيلات الألوان

أجري الكثير من الاختبارات حول تفضيلات الألوان (الألوان من أجل الألوان) على مدار سنوات؛ فعلى سبيل المثال، نجد أن حديثي الولادة، الذين يتأثرون لا شك بالجاذبية البصرية أكثر من المتعة العاطفية، يطيلون النظر إلى الألوان المضيئة مثل الأصفر والأبيض والوردي والأحمر أكثر من غيرها من الألوان. وبالنسبة للأطفال، يبدأ حبهم للون الأصفر في التراجع، ويستمر هذا التراجع مع مرور السنوات. وبعد ذلك يفضلون اللون الأحمر والأزرق، وهما لونان مفضلان عالميًّا، ويظلون معجبين بهذين اللونين طوال الحياة. ومع البلوغ، يزيد حبهم للألوان ذات الطول الموجي الأقصر (الأزرق، والأخضر) مقارنةً بالألوان ذات الطول الموجي الأطول (الأحمر، والبرتقالي، والأصفر). وأصبح الترتيب الآن هو: أزرق، أحمر، أخضر، بنفسجي، برتقالي، أصفر. وهكذا يظل هذا هو الترتيب الأبدي والعالمي.

إن نزعة تفضيل الألوان تلك موجودة تقريبًا في كل البشر من الجنسين، وفي كل الأشخاص باختلاف جنسياتهم وعقائدهم. وهذا أمر مؤكد من جميع الجهات. وقد وجد تي آر جارث أن ترتيب الألوان المفضلة لدى الهنود الحمر هو: الأحمر، الأزرق، البنفسجي، الأخضر، البرتقالي، الأصفر. وكان ترتيب الألوان المفضلة لدى شعب الفلبين هو الأحمر، الأخضر، الأزرق، البنفسجي، البرتقالي، الأصفر. وبين الزنوج كان الترتيب هو: الأزرق، الأحمر، الأخضر، البنفسجي، البرتقالي، الأصفر؛ وهو الترتيب نفسه بالنسبة لكل الأشخاص الآخرين تقريبًا. وحتى بين الأشخاص غير العاقلين الذين خضعوا للاختبارات، وجد إس إي كاتس الترتيب نفسه تقريبًا؛ الذي تمثل في: الأزرق، الأخضر، الأحمر، البنفسجي، الأصفر، البرتقالي. وكان الأخضر هو اللون المفضل للسجناء الذكور، وكان الأحمر اللون المفضل للسجينات الإناث. وبدا أن الألوان الدافئة تلقى استحسانًا لدى مرضى الأمراض العضوية، وأن الألوان الباردة تلقى استحسانًا لدى المرضى المصابين بالهيستيريا إلى حدٍّ كبير.

وتلخيصًا للصورة كاملة، جمع إتش جيه آيزينك مجموعة من الأبحاث تضم حوالي ٢١ ألفًا وستين حكمًا فرديًّا. احتل الأزرق المرتبة الأولى، وتلاه الأحمر، ثم الأخضر، والبنفسجي، والبرتقالي، والأصفر. وفي تلخيص مشابهٍ للاختلافات بين الجنسين، كان الترتيب كما هو باستثناء أنه في حين وضع الرجال البرتقالي في المرتبة الخامسة، والأصفر في المرتبة السادسة، وضعت النساء الأصفر في المرتبة الخامسة، والبرتقالي في المرتبة السادسة.

(١٢) مجموعات الألوان

كثير من الأبحاث خُصِّص أيضًا لمجموعات الألوان. وأثناء العمل مع الأطفال وجد إم إيمادا أن تفضيلات الألوان لدى الأطفال لم تكن عشوائية، على الرغم من أن ملكة التمييز الجيد لم تتطور لديهم إلى حدٍّ كبير؛ فعند إعطاء الصغار أقلام التلوين السوداء، مالوا إلى رسم الجمادات، مثل السيارات والمباني، وعند إعطاء الأطفال أنفسهم أقلام تلوين ملونة، ألهم ذلك خيالهم فرسموا أشخاصًا وحيوانات ونباتات، وكان الأحمر مع الأصفر والأحمر مع الأزرق مجموعات ألوان مفضلة عند الأطفال. وفي تجارب مشابهة، وجدت آن فان نيس جيل أن الأصفر يشيع استخدامه مع البنفسجي المحمر أو الأزرق، وأن الأطفال يحبون أيضًا الجمع بين الأزرق والأخضر. إن التباين، بطبيعة الحال، يبدو أكثر إثارة من التشابه أو الاختلاف الطفيف.

وباستخدام أضواء ملونة ساقطة على حائل، وجد ويليام إي والتون وبيلا إم موريسون أن مجموعة الأحمر والأزرق حققت أعلى المراتب بين البالغين، وتلاها الأزرق مع الأخضر، والأحمر مع الأخضر، والشفاف والأزرق، والكهرماني والأزرق، والكهرماني والأخضر، والأحمر والكهرماني، والشفاف والكهرماني. يوجد المزيد من المعلومات عن الألوان المفضلة للأطفال والكبار ومعناها فيما يتعلق بالشخصية في الفصل التاسع.

(١٣) جيه بي جيلفورد

أجرى جيه بي جيلفورد عددًا من الاستقصاءات التقنية حول تناغم مجموعات الألوان، ورأى أن المسألة تنطوي على أمور أخرى أكثر من مجرد المتعة العاطفية، فقال: «أعتقد أنه أكثر من مجرد تعبير مجازي قولنا إن النسيج الحي، لا سيما نسيج الدماغ، تولِّد الألوان والمتعة أو الانزعاج مثلما تولد مجموعات المواد الأخرى ظواهر مثل الحرارة أو المغناطيسية أو الكهربية.»

وفيما يتعلق بمجموعات الألوان المتناسقة كتب: «توجد بعض الأدلة على أن الاختلافات القليلة للغاية أو الكبيرة للغاية في الألوان تعطي نتائج مرضية على نحو أكبر مما تعطيه الاختلافات المتوسطة. وتعد هذه النزعة أقوى في النساء منها لدى الرجال.» ومن ثم فمن المحتمل أن يرى الشخص تناغمًا إما في الألوان القريبة الشبه أو في الألوان المعاكسة والمتناقضة، وليس في علاقات أخرى. وإذا تخيلنا دائرة الألوان، فسنجد أن الأصفر، على سبيل المثال، سيبدو متناغمًا مع البرتقالي المصفر والأخضر المصفر، وسنجد الأزرق متناغمًا مع البنفسجي المزرق أو البنفسجي. ولن يكون مستحسنًا جدًّا على وجه الخصوص في مجموعة تضمه مع البرتقالي أو الأخضر، أو حتى الأحمر. وبالمثل حدد جيلفورد من خلال الأبحاث أنه إذا كان الاختيار بين الدرجات الرمادية والألوان الصافية، فإن الأنماط الصافية ستكون هي المفضلة، وإذا كان الاختيار بين الدرجات القاتمة والدرجات الفاتحة، فإن الدرجات الفاتحة ستكون المفضلة.

وتوجد علاقات تربط بين الألوان والموسيقى والطعام والروائح والأشكال والأنماط والصفات الملموسة مثل الدفء والبرودة والحالات المزاجية. وتجدون المزيد من المعلومات في كتابي «سيكولوجية الألوان والعلاج بالألوان»، وتوجد معلومات أخرى أيضًا في فصول أخرى من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤