الفصل الثامن

تهدئة العقل

figure

كتب إم دي فيرنون تصريحًا أرى أنه من الممكن اعتباره قانونًا أساسيًّا لاستخدام اللون في البيئات البشرية؛ حيث قال: «ولذلك يجب أن نستنتج أن المستوى الطبيعي للوعي والإدراك والفكر يمكن الحفاظ عليه فقط في ظل البيئات المتغيرة باستمرار.» ويردف فيرنون قائلًا: «عندما لا يوجد تغيير، تحدث حالة من «الحرمان الحسي»، وتتدهور قدرة الكبار على التركيز، ويتذبذب الانتباه ويتوقف، ويتلاشى الإدراك الطبيعي. وفي الأطفال الذين لم يكتسبوا فهمًا كاملًا للبيئة المحيطة بهم، قد تتأثر شخصيتهم بالكامل، وقد يكون من الصعب إعادة تكيفهم مع البيئة العادية.»

(١) الحرمان الحسي في الحيوانات

إن استنتاج فيرنون المرتبط بالوعي والإدراك والفكر ينطبق أيضًا على السلامة البدنية؛ لأنه في حالة حدوث رتابة بصرية قد يعاني الجسم، بدوره، من عواقب سيئة. لقد زادت وتيرة سكن الإنسان في بيئات من تصميمه وخاضعة لسيطرته. وعلى الرغم من أن هذه الحالة المحزنة تشهد حاليًّا شيوعًا على نحو متزايد بين البشر، فإن كثيرًا من الحيوانات قد أصبحت منعزلة للغاية منذ عصور.

وعلى الرغم من أن الحيوانات المحبوسة في أقفاص محمية من المفترسات وأعدائها الطبيعيين يمكن أن تعيش حياة مريحة آمنة، فإنها نادرًا ما تجد السعادة. إن الحبس والرتابة قد يدفعان الحيوان إلى سلوكيات عديدة مثل: تجويع نفسه، والإفراط في الطعام، ورفض التناسل، وتدمير نوعه أو الأنواع الأخرى. وقد لوحظ أن القردة تصاب بالانطواء على النفس على غرار مرضى الفصام عند تركها بمفردها أو إحاطتها بحوائط صماء. وقد تصاب الحيوانات الأخرى بحالة سُبات تودي بها. وتبني حدائق الحيوان على نحو سريع بيئات أفضل وأكثر اتساعًا محققةً نتائج رائعة. وحاليًّا تولد جِرَاءٌ لحيوانات رفضت في السابق التزاوج في أقفاص أكثر تقشفًا، كما يتزايد معدل عمر هذه الحيوانات. ولا شك أننا نكتسب دروسًا مهمة من أجل المستقبل عندما يصبح الإنسان أيضًا مخلوقًا محبوسًا لا يحتاج فحسب إلى النوعية المناسبة من الطعام والضوء والتمارين، بل يحتاج أيضًا إلى مناظر وألوان بصرية مبهجة لتساعده على الحفاظ على طبيعته العقلانية.

وعن أثر الضوء والإضاءة، يروي جون أوط تجربة حدثت في حديقة حيوان بيرنيت في سيراكيوز بولاية نيويورك. فمن أجل حماية الحديقة من التخريب قاموا بتركيب مصابيح الضوء الغامر. والنتيجة؟ جاء الربيع! «لقد تحولت حديقة الحيوان إلى مستشفى ولادة حقيقي. وقع زوج الأسود الأمريكية في الحب مجددًا وأنجبا الشبل الرابع، وجمعنا خمس بيضات أوز، ووُلد ثمانية حملان على الأقل، وزاد عدد الأيائل بمعدل عشرين أيلًا، وولدت الدبة بيج ليزي دبًّا صغيرًا، وأنجبت أنثى كنغر الولب كنغرًا صغيرًا جديدًا، وتنتظر أنثى الشمبانزي ولادة وليدها في أغسطس.»

كان لإضاءة الطيف الكامل المتوازن آثار مميزة. وقد تحدث جوزيف لاسلو؛ أحد العاملين في حدائق هيوستن للحيوان في تكساس، عن أثر ضوء الفلورسنت ذي الطيف الكامل على الزواحف والبرمائيات. وجد لاسلو أن بعض الثعابين والسحالي مدة حياتها قصيرة، فشكَّ في أن قلة التعرض لضوء الشمس كانت مؤذية لهذه الحيوانات، فركَّب أنابيب فلورية تشع ضوءًا جيدًا يتضمن كل ألوان الطيف، وفيها قدر قليل من الأشعة فوق البنفسجية (كانت الأنابيب من نوعية فيتا لايت المصنوعة من قبل شركة دورو تيست كوربوريشن بولاية نيو جيرسي)، وسرعان ما لاحظ أن الحيوانات أصبحت أكثر نشاطًا؛ فبعض الثعابين التي كانت لا تأكل منذ فترة طويلة تناولت الطعام، وأحد الحيوانات الذي كان قد رفض تناول الطعام استعاد شهيته بعد أقل من أسبوعين. ويعلق لاسلو قائلًا: «نتيجة لهذه الاختبارات والتجارب، استنتجنا أن الإشعاع وشدة الإشعاع الصادرين عن مصباح طيف مرئي غير مشتت قد يكونان أكثر أهمية للحفاظ على هذه العينة من الحيوانات وغيرها، على نحو أكبر من أهمية مصباح الأشعة فوق البنفسجية ذات الموجات المتوسطة والطويلة فحسب، أو المصباح الذي يجمع ما بين الأشعة فوق البنفسجية والطيف المرئي المشتت.»

(٢) الحرمان الحسي في البشر

إن الحرمان الحسي موضوع مثير، ونظرًا لتزايد وجود الإنسان داخل بيئات صناعية، يوجِّه علماءُ الفسيولوجيا والأطباء النفسيون وعلماء النفس انتباهَهم إلى دراسة تأثيرات العزلة، فكتبوا الكُتب وعقدوا المؤتمرات حول هذا الأمر. لقد كانت العزلة معاناة عايشتها قديمًا الحيوانات المحبوسة في أقفاص، والمساجين في الحبس الانفرادي، وكذلك من تعرضوا «للتجنب» في بعض الطوائف الدينية، وأيضًا من تعرضوا للطقوس المهينة التي يُعاقب فيها الأفراد بتجاهلهم، وكذلك عايشها النساك والرهبان في عاداتهم. وفي المجتمع المعاصر، قد تكون العزلة سمة لدى الأشخاص المحددة إقامتهم في المستشفيات بسبب إصابتهم بكسور في العظام أو نوبات قلبية، وأيضًا لدى المجانين، وكبار السن، ورواد الفضاء، والغواصين، والطيارين، والعاملين على ماكينات آلية. كتب آر إل جريجوري فقال: «يبدو أنه في غياب التحفيز الحسي، يمكن أن يطلق العقل لخياله العنان وينتج تخيلات قد تسيطر عليه.»

يعتمد غسيل الدماغ إلى حدٍّ ما على العزلة الإجبارية التي تميل إلى كسر الروح المعنوية. ومن الغريب أن آثار العزلة قد تشبه في بعض الأحيان آثارًا تعقب تعاطي عقاقير الهلوسة. قال ثلاثة علماء كنديين؛ هم: وودبيرن هيرون، وبي كيه دوان، وتي إتش سكوت: «من غير المحتمل أن تكون الآثار الملاحظة عقب العزلة يمكن عزوها فحسب إلى نسيان العادات الإدراكية خلال فترة العزلة؛ فهذه الآثار يبدو أنها تشبه إلى حدٍّ ما الآثار التي وُصف حدوثها بعد تعاطي بعض العقاقير (مثل المسكالين وحمض الليسرجيك)، وبعد الإصابة بأنواع معينة من التلف الدماغي. وعندما نتأمل أيضًا الاضطرابات التي تحدث أثناء العزلة (مثل نشاط الهلوسة الشديدة الوضوح)، يبدو أن تعريض الشخص لبيئة رتيبة حسيًّا يمكن أن يؤدي إلى اختلال وظيفة الدماغ على نحو يشبه ويعادل في القدر في بعض الأحيان ما تحدثه المخدرات أو أشكال تلف الدماغ.» ومن مظاهر اختلال وظائف الدماغ عدم القدرة على إدراك الألوان، والإصابة بهلوسة متعلقة بالألوان، وتشوه الصور الملونة.

(٢-١) اكتشافات كندية قديمة

أجريت دراسات مكثفة على الحرمان الحسي في كندا خلال خمسينيات القرن العشرين. وفي كتاب «سيكولوجية الإدراك»، وصف إم دي فيرنون عددًا من الدراسات السريرية عن تأثيرات البيئة الرتيبة. وإليكم أحد هذه الأمثلة: «تحت إشراف هيب؛ عالم النفس بجامعة ماكجيل، أُجريت تجارب لدراسة آثار ترك أشخاص لفترات تصل إلى خمسة أيام في بيئات متماثلة تمامًا وغير متغيرة. في غرفة صغيرة استَلْقوا على أحد الأسِرَّة؛ لم يسمعوا شيئًا سوى هدير الآلات الرتيب، وأُلبسوا نظارات شبه شفافة على أعينهم كي لا يستطيعوا رؤية شيء إلا ضوءًا ضبابيًّا، وارتدوا أكمامًا طويلة تدلَّت مغطية أيديهم ومنعتهم من لمس أي شيء. بعض المراقبين كانوا قادرين على البقاء في مثل هذه البيئة على نحو مستمر لمدة خمسة أيام، والبعض الآخر لم يستطيعوا تحمُّلها لأكثر من يومين.»

يعلِّق البروفيسور فيرنون قائلًا إن الأشخاص الخاضعين للتجربة ناموا في البداية لفترات كثيرة وطويلة، لكنهم بعد اليوم الأول لم يستطيعوا إلا أن يناموا لفترات قصيرة. أصبحوا يشعرون بالملل والاضطراب وغير قادرين على التركيز. ويقول: «في حقيقة الأمر، عند اختبار ذكائهم، وجدنا أنه تَدَهْوَر. عانوا في أغلب الأوقات من هلوسات بصرية وسمعية. وعندما خرجوا من محبسهم، كان إدراكهم للبيئة المحيطة مختلًّا. كانت الأشياء تبدو لهم ضبابية وغير ثابتة؛ فالحواف المستقيمة، مثل حواف الجدران والأرضيات بدت منحنية، ولم تكن المسافات واضحة، وفي بعض الأحيان، كانت البيئة تتحرك وتلف حولهم؛ مما يسبب لهم الدوار.» هذا يشير بالتأكيد إلى الحاجة إلى تعرض معقول للألوان ولغيره من الأحاسيس في البيئة، كما يشير أيضًا إلى الحاجة إلى التنوع؛ فالأسطح الخالية من الألوان قد تبدو باهتة عند النظر إليها باستمرار، وحتى الألوان قد يبهت لونها ويتحول إلى الرمادي المحايد. ويبدو أن الرؤية تتدهور إن لم تُستَثَرْ، وأن العقل نفسه يصاب بالبلادة.

(٢-٢) حديثو الولادة ومرضى المستشفيات

يصف البروفيسور فيرنون دراسة أجراها إتش آر شيفر على أطفال حديثي الولادة تحت عمر سبعة الأشهر مكثوا في المستشفيات لفترات تتراوح ما بين أسبوع وأسبوعين. يقول شيفر إن بيئة المستشفى كانت رتيبة وتفتقر إلى التنوع. وعندما عاد هؤلاء الأطفال إلى منازلهم، استمروا في التحديق في الفراغ دون أن تظهر أي تعبيرات على وجوههم. واستمر هذا السلوك لعدة ساعات أو لعدة أيام.

وكتب هيربرت ليدرمان وزملاؤه من الباحثين عن مخاطر أخرى للعزلة متمحورة حول الرعاية الطبية. إن المستشفيات، بصفة خاصة، تحتاج إلى الألوان، بالإضافة إلى المبهجات الحسية الأخرى مثل الموسيقى والتليفزيون والزُّوَّار. وقد أجرى ليدرمان ومجموعته دراسة على متطوعين قيدوا حركتهم لمدة ٣٦ ساعة بارتداء قناع التنفس الذي لم يستطيعوا رؤية شيء من خلاله سوى جزء صغير من السقف. تمكن خمسة أشخاص فقط من سبعة عشر شخصًا من تحمُّل تقييد الحركة لمدة ٣٦ ساعة كاملة؛ «قال الجميع إنهم وجدوا صعوبة في التركيز، وشعروا بالتوتر على نحو دوري، وفقدوا القدرة على تقدير الوقت، وقال ثمانية إنهم شهدوا تشوشًا في الواقع يتراوح ما بين أوهام جسدية زائفة إلى هلوسات بصرية صريحة. أنهى أربعة أشخاص التجربة بسبب التوتر، واثنان من هؤلاء حاولوا تحرير أنفسهم عنوة من قناع التنفس.»

أما الأمر الوثيق الصلة في هذا الصدد فهو أن الأشخاص المضطربين عقليًّا أو المرضى، ناهيك عن العقلاء والأشخاص الحبيسي السكن في الشقق الضيقة، من المفترض في أغلب الأحيان أن يقضوا ساعات وأيامًا طويلة في أماكن ضيقة وباهتة. وإذا افترضنا أن إجراء عملية جراحية قد يشفي المرض الذي يعاني منه أحد الأشخاص، فماذا لو أدَّتْ حَبْستُه إلى أمراض أخرى غير متوقعة؟ وكتب ليدرمان ومجموعته فقالوا: «إذا كان الأشخاص الطبيعيون من الممكن أن يصابوا بحالات تشبه أمراض الذهان … فمن المحتمل بشدة إصابة المرضى، الذين ربما كانوا بالفعل على وشك الانهيار العقلي، بحالات اضطرابات نفسية تحت ضغط الحرمان الحسي. قد يكون الهذيان محدقًا بالأشخاص الذين أنهكتهم الحمى، أو السُّميَّة، أو اضطرابات التمثيل الغذائي، أو أحد الأمراض الدماغية العضوية، أو أثر العقاقير، أو الإجهاد العاطفي الحاد؛ فيرجح الحرمان العاطفي كفته فيصابون بذلك الهذيان. وقد جمعنا أدلة سريرية على أن الحرمان الحسي قد يكون أحد العناصر المهمة المسببة للاضطرابات العقلية؛ بصفته أحد المضاعفات المصاحبة للعديد من الحالات الطبية والجراحية.»

(٢-٣) السفر في الفضاء

عقدت الجمعية الأمريكية لعلم النفس في عام ١٩٥٧ ندوة بعنوان: «الحرمان الحسي: حقائق تبحث عن نظرية» كانت معظم الأبحاث العلمية تركز عادةً على عكس ذلك؛ إذ كانت بحثًا عن الحقائق؛ فمن الممكن الاستشهاد «بحقائق» لا تعد ولا تحصى عن العزلة، لكن كيف للمرء أن يفهم من هذه الحقائق؟ كتب مارفين زوكرمان يقول: «إن تجربة الحرمان الحسي تمثل كابوسًا للتجريبيين الذين يرغبون بشدة في مواقف تجريبية محددة ومحكمة جيدًا.»

السبب الذي يجعلني أُخصِّص وقتًا كبيرًا لتناول الحرمان الحسي هو أنني، بحكم عملي كاستشاري في الألوان، يُطلب مني في كثير من الأحيان كتابة المواصفات المتعلقة بالإضاءة والألوان للمؤسسات التي توفر الإسكان أو الإقامة لمجموعات من الأشخاص؛ ما هو أفضل سبيل لضمان رفاهة وكفاءة هؤلاء الأشخاص؟ إن أي ملاحظات أو «حقائق» يمكنني جمعها هي بذلك ذات أهمية وقيمة مؤكدة بالنسبة لي.

إن المسافرين عبر الفضاء المنشغلين بالآلات وتلقي التعليمات اللاسلكية وما شابه ذلك ربما سيظلون منشغلين على قدر كافٍ يحول دون تأثُّرهم برتابة الكبسولة الفضائية المكتظة، إلا أن المسافرين الذين ليس أمامهم إلا فعل القليل من الأمور، أو لا يفعلون أي شيء، قد لا يجدون نهاية للضيق الذهني الذي ينتابهم. جميعنا تقريبًا وجدنا أنفسنا مضطرين للبقاء في أحد الأماكن في يوم من الأيام؛ كالبقاء في قطار متوقف، أو عيادة الطبيب، أو في المطار، أو في الفندق في يوم مطير. ينفد الصبر خلال ساعات قليلة، لكن ماذا عن الأيام إن لم تكن الأسابيع؟

في إطار برنامج «تيكتايت»، أجرت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) سلسلة تجارب عن «تقييم صلاحية السكن»، فوضعت أسطوانتين عملاقتين على مسافة خمسين قدمًا تحت مياه جزر فيردين في المحيط الأطلنطي، وأقام بهما وسكنهما مجموعات مختلفة من الغواصين لفترات بلغت أربعة عشر يومًا، وعشرين يومًا، وثلاثين يومًا. كانوا كلهم مؤهلين جيدًا لتحمل هذه التجربة الشاقة، وخضعوا لاختبارات نفسية وسجَّلوا مستوًى فوق المتوسط كمهندسين وأشخاص أذكياء. جميعهم كان لديهم واجبات لإنجازها لم تترك وقتًا للعزلة أو للملل إلا بقدر قليل. أما الأمران اللذان كانوا يفتقدون إليهما إلى حدٍّ كبير، فكانا انعدام الأخبار وانعدام الخصوصية. كانوا يقضون كثيرًا من وقت فراغهم في تبادل الأحاديث والاستماع إلى الموسيقى المسجلة على شرائط.

إن بعض التعليقات المقتبسة من تقرير أعده ديفيد ناوليس، وهاري إتش ووترس، وإدوارد سي فيرتس، الذين قاموا بمهمة خاصة تتمثل في إعداد تقرير عن صلاحية السكن في كبسولات ناسا، تعد وثيقة الصلة بهذا الموضوع. «لقد قال الغواصون على نحو واضح وعفوي في عدد من المقابلات إنهم أنفسهم كانوا متفاجئين من قلة شعورهم بالتوتر أثناء المهمة … تركزت معظم الشكاوى حول مجال عام هو تصميم المسكن. وبصفة خاصة، كان الغواصون غير راضين عن تصميم المسكن على نحو أثَّر على أدائهم لمهماتهم … وعلى الرغم من أن أفراد الطاقم قالوا إن الكتب كانت هوايتهم المفضلة، فإنهم لم يقضوا الكثير من الوقت في قراءتها.» ربما كان هذا نوعًا من إعطاء الأجوبة المتوقعة! كان المشتركون في التجربة يفتقدون زوجاتهم وعائلاتهم. كانوا يحبون الموسيقى وأفلام التليفزيون، ولم يحبوا كثيرًا الطهي، ولم يبدُ أنهم يفتقدون الهواء الطلق. ويستطرد التقرير فيقول: «أما فيما يتعلق بالحالات المزاجية، فمن الواضح أن الحالات المزاجية الإيجابية المتمثلة في المشاعر الاجتماعية، واللطف، والتحفيز والتركيز، مالت إلى التدهور على نحو شديد مع طول مدة المهمة. وهذا يشير إلى أنه بالإضافة إلى التدهور الكبير في المشاعر الإيجابية، يوجد ميل إلى تحول الحالات المزاجية إلى حالة من اللاعاطفية الرتيبة والثابتة. وظاهريًّا، فإن المهمات الأكثر طولًا تشجع الغواصين على أن يكونوا في حالة مزاجية روتينية، حيادية، يقل فيها التحفيز، ويقل فيها التركيز، وتقل فيها شدة المشاعر سواء على الصعيد الإيجابي أو السلبي.»

مؤخرًا أجرت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء تجارب مشابهة على النساء لتحديد قدرتهن على تحمل قضاء فترات طويلة من الخمول والعزلة. كان من المتوقع أن تتأقلم مجموعة من المتطوعات، المدفوعات الأجر، المتوسطات العمر (بين ٣٥ إلى ٤٥ عامًا)، على الاستلقاء في وضع أفقي وغير متحرك، تقريبًا، لمدة تقدر بنحو ٢٤ يومًا! كان المكان المخصص لتقييد حركتهن بلا نوافذ وعازلًا للصوت. وعلى الرغم من وضعية الاستلقاء على الظهر، فقد كُنَّ يتمرنَّ على أداة تشبه الدراجة، ويسندْنَ على المرفقين عند تناول الطعام، ويدخلْنَ إلى مقصورة مغتسل ومرحاض أفقية. وكان باستطاعتهن القراءة في وضع الاستلقاء من خلال ارتداء عدسات منشورية، وكانت استجاباتهن مرصودة مع الاهتمام بالتوتر بصفة خاصة. ورتبت التجربة لخضوعهن لتعاقُب مكوَّن من ست عشرة ساعة من الضوء وثماني ساعات من الظلام. واعترفت النساء بشعورهن بالضجر والضعف والدوار، وبالشعور ببعض الضيق النفسي، لكنهن تجاوزن الاختبار بنجاح. ويمكنهن بلا شك أن يصبحن من المسافرين عبر الفضاء في المستقبل. ورغم ذلك، فالعزلة يمكن أن تسبِّب نتائج أكثر خطورة مما أوضحته تلك التجارب، فليس كل الأشخاص يتمتعون بالشباب أو بالحماس لخوض مغامرة السفر في الفضاء، أو مدربين تدريبًا خاصًّا على المهام التقنية والعلمية.

(٣) السلام والهدوء

كثير من الناس يعتنقون وهمًا يقول إن باستطاعتهم إنجاز الكثير من الأعمال الإبداعية فقط لو تمكنوا من العثور على مكان يتَّسم «بالسلام والهدوء». قد يكون هنري ديفيد ثورو استثناءً لذلك، لكن العبقرية عادة ما تكون مصحوبة بقدرة مضنية ومحمومة على العمل الجاد. أشخاص مثل ديكنز، ودوستويفسكي، وموتسارت، وفان جوخ، وغيرهم كثيرون، قاموا بأعمال مميزة لعدة أسباب: كسب المال، أو الوفاء بمواعيد تسليم المهام، أو لإخماد دافع داخلي متقد. إن الجلوس في كوخ عند البحر أو وسط الغابات، والجبال، وحدائق الزهور قد يجعل الطبيعة غير محتملة حتى بالنسبة للأشخاص الذين يُكِنُّون حبًّا كبيرًا للطبيعة. وفي بعض تجارب الحرمان الحسي خطط الأشخاص لإبقاء أذهانهم مشغولة بتأملات بناءة، لكن هيهات؛ فالأشخاص الذين قد يخططون للقيام بقدر من التفكير الإبداعي سرعان ما قد يجدون أنهم ليس لديهم رغبة في التركيز. وبدلًا من ذلك، ستتحرك الأفكار في أذهانهم بترتيب عشوائي. وهذا يقود إلى الموضوع الرائج حاليًّا المعروف باسم التأمل.

أصبحت موضوعات التأمل، والتغذية الرجعية البيولوجية، والسيطرة على العقل موضوعات رائجة في الوقت الحاضر. توجد جمعيات بحثية عن التغذية الرجعية البيولوجية، وعيادات، وممارسون خاصون، وكتب، ودورات، وآلياتٌ تمزج الفلسفات الشرقية والأبحاث العلمية الحديثة. كتبت باربرا براون تقول: «تكمن هموم البشر في عدم معرفتهم بخبايا أنفسهم … وحتى وقت كتابة هذا الكلام، أكدت مئات الدراسات حقيقة أنه عندما يستطيع البشر إدراك نشاط موجات ألفا الدماغية سيستطيعون تعلم السيطرة عليه.»

الألوان لها دور في هذا الأمر، كما قلنا في السابق، فإن الرتابة إذا فُرضت على الشخص، طوعًا أو كرهًا، فقد يؤدي ذلك إلى الحرمان الحسي. وقد يستطيع الأشخاص التأقلم مع الرتابة على نحو أفضل إذا تعلموا التأمل، والسيطرة على وظائفهم البدنية وأيضًا العقلية والنفسية. ورغم ذلك توجد تحفظات، فكما قلنا في السابق: «إنها لحالة عادية وطبيعية أن تستثار كل الحواس باستمرار إذا تم ذلك على نحو معتدل؛ فحالة السلام المطلق غير طبيعية حتى في النوم!» ويكمن التناقض في أن تلك العزلة يمكن أن يكون لها آثار سلبية، لكن إذا قبِلها الشخص على نحو متعمد وسيطر عليها، فمن الممكن أن يكون لها فوائد علاجية كثيرة.

قد لا يكون التأمل مناسبًا للجميع، ورغم ذلك فقد أخذ آلاف من الأشخاص المتأملين دورات في التدريب الذهني محققين نتائج ممتازة في أغلب الأحيان. وإذا كان الشخص، من خلال التوتر أو أي شكل آخر من أشكال الضيق، يجد الراحة والخلاص في التأمل، فهذا جيد، إلا أنني أقر بوجود قدر من التشكيك والتحيز؛ فبعض الأشخاص الذين خضعوا لدورات التدريب الذهني أصيبوا بأمراض عصبية. قد يكون من الخطر التنقيب بعمق شديد في نفسية المرء؛ فقد يوجد النقيض التام «لمملكة النعيم» الموجودة داخل الإنسان. وقد كتب جاري إي شفارتز في كتاب «العلاج النفسي والصوفية» يقول: «يحتاج الجهاز العصبي إلى تحفيز خارجي معتدل الشدة ومتنوع، ولا توجد سابقة تطورية، ولا سلوكية، ولا بيولوجية للتأمل الشديد والمطول.»

في بعض الأحيان، يعتمد التدريب الذهني، والسيطرة على العقل، والتغذية الرجعية البيولوجية على التنويم المغناطيسي، وهذا الأمر قد يسبب المشاكل. بعض الأشخاص الذين تظاهروا بكونهم صوفيين أو قادة روحيين استخدموا التنويم المغناطيسي كأحد الأساليب. وإذا كانوا قد حققوا نتائج مذهلة في بعض الأحيان، فقد سببت الاستجابة الارتجاعية أيضًا آثارًا عكسية وضارة. أنا لا أريد الانتقاص من قدر التأمل تمامًا، فهو رغم ذلك يمكن أن يكون له آثار مفيدة. ومن خلال السيطرة على موجات ألفا وثيتا عن طريق التركيز الإرادي (وكما هو مسجل من قبل أدوات التغذية الرجعية البيولوجية الاحترافية) قد تحدث نتائج علاجية. ومن خلال تقليل القلق والتوتر، يمكن التقليل من ضغط الدم المرتفع (ارتفاع ضغط الدم) إن لم يكن شفاؤه. وقد توجد فوائد لأولئك الذين يعانون من الاكتئاب أو الأرق أو إدمان الكحول والمخدرات.

(٤) الجماعية

إذا كان ثمة خطر من بقاء المرء وحيدًا، فإن «الجماعية» الزائدة قد تسبب المشاكل أيضًا. في مجموعات الأفراد الصغيرة العدد قد يسعى بعض الأشخاص إلى الخصوصية وينسحبون، كما أن الاحتجاز في سفن الفضاء، والغواصات، والمؤسسات، والمهاجع — في أغلب الأحيان — يولد التنافس بين الأصدقاء؛ يقول الأدميرال بيرد في كتابه «وحيدًا»: «حتى في قاعدة ليتل أمريكا، كنت أعلم بشأن زميلين يشتركان في سرير واحد ذي طابقين امتنعا تقريبًا عن التحدث أحدهما مع الآخر؛ لأن كلًّا منهما شك في أن الآخر يدفع بأغراضه إلى جزء من المساحة المخصصة لوضع أغراض الآخر، وعرفت أن أحد الأشخاص كان لا يستطيع تناول طعامه إلا بعد أن يجد مكانًا في قاعة الطعام بعيدًا عن مرأى أحد الأشخاص التابعين لطريقة فليتشر الغذائية، الذي كان يمضغ طعامه على نحو جدي ثمانٍ وعشرين مرة قبل ابتلاعه. في مثل هذه المعسكرات الاستقطابية، تمتلك هذه الأشياء البسيطة القدرة على دفع حتى أكثر الرجال انضباطًا إلى حافة الجنون. وأثناء قضاء أول شتاء في قاعدة ليتل أمريكا، مشيت لعدة ساعات مع رجل كان على وشك الإقدام على القتل أو الانتحار بسبب اضطهادات متخيلة من جانب شخص كان صديقه المقرب. ولأنه لا يوجد أي مهرب لأي مكان؛ فأنت محاصر من كل جانب من قِبل نواقصك، ومن قِبل الضغوط المتراكمة حولك من زملائك. والأشخاص الذين ينجون بمقياس السعادة هم أولئك الذين يعيشون بعيدين عن مواردهم العقلية إلى حد كبير.» لاحظ الجملة الأخيرة: إذا كان المرء يسعى إلى السلام والسعادة في التأمل — الذي قد يقود أيضًا إلى الحرمان الحسي — فقد يكون من الأفضل نصحه بتطوير «موارده العقلية».

(٥) المواصفات العملية للألوان

كيف نستخدم الألوان في مرافق مثل المكاتب، والمصانع، والمدارس، والمستشفيات، والمصحات العقلية، ودور النقاهة، ودور المسنين؟ دعوني أختم هذا الفصل باقتراحات وتوصيات من واقع خبرتي.

(٥-١) الإضاءة

من الأفضل أن يكون الضوء الصناعي حياديًّا وذا طابع دافئ نسبيًّا، وإذا أمكن إضافة قدر معقول من الأشعة فوق البنفسجية الطويلة الموجة، فسيكون هذا أفضل بكثير. وللحصول على أفضل مظهر لبشرة الإنسان والمفروشات والطعام، يجب أن يكون مصدر الإضاءة متوازنًا جيدًا في إشعاع الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والبنفسجي. وإذا وجدت ثغرات، فقد تبدو بعض العناصر الموجودة في البيئة بمظهر فج. وقد يكون من غير الضروري الاستعانة بمستويات عالية من الإضاءة إلا في حالة القيام بمهام مرهقة للعين.

(٥-٢) السطوع

أما الأبيض والعاجي، ففيما عدا الأسقف «يجب عدم استخدامهما على الجدران» في الأماكن التي يوجد فيها مجموعات من الأشخاص. إن شدة السطوع في البيئة لا يعيق الرؤية فحسب (من خلال تقديم نوع من أنواع عمى «الجليد» الداخلي)، بل يضيق بشدة فتحة حدقة العين البشرية. وهذا فعل عضلي ومرهق جدًّا. إن طول التعرض للسطوع الشديد يمكن أن يسبب أيضًا تضرر عضو الإبصار. وكما قلنا في الفصل الثالث، فإنه من الممكن أن يفاقم الاختلال العضلي، ومشاكل انكسار العين، وقصر النظر، واللابؤرية، ولا نغفل احتقان والتهاب العين. تجنَّب المناطق المتصارعة الشديدة الاختلافات في السطوع؛ فهذا الأمر من الممكن أن يجبر العين على القيام بتكيُّفات عضلية مرهقة.

(٥-٣) الاستجابات للألوان

يوجد قدر كبير من حرية الاختيار في هذا الصدد؛ فإذا كان اللون (والسطوع) يغطي المجال العام للرؤية، فسيحدث تكيف يتمثل في سعي العين والدماغ إلى تجاهل اللون ورؤية الأشياء على أنها طبيعية إلى حد ما. على سبيل المثال، سوف تجعل النظارات الشمسية الملوَّنة العالم ملوَّنًا، لكن مع حدوث التكيف ستتجاهل العين لون الزجاج، وإذا كانت بعض الألوان مثل الأحمر والبرتقالي «تميل» إلى زيادة ضغط الدم، ومعدل النبض، وغيرها من وظائف الجهاز العصبي الذاتي، فإن هذا التحفيز سيكون مؤقتًا، وبعده قد تنخفض الاستجابة «لأقل» من المستوى الطبيعي. ومن «هذه الملاحظات يتضح أن الاستجابات الفسيولوجية والنفسية للألوان، للحفاظ على نشاطها، تتطلب التغيير والتعاقب باستمرار. وهذا التغيير المستمر هو بالضبط ما سوف يساعد في التصدي للحرمان الحسي.»

(٥-٤) اختيار الألوان

من بين الألوان الفاتحة يفضل مؤلف الكتاب ألوانًا مثل: العاجي، والخوخي، والوردي، والأصفر، والأخضر الفاتح، والأزرق الفاتح المخضر، لكن لا يفضل الأزرق الفاتح الذي يخلق منظرًا باردًا وكئيبًا. وأقترح أن تكون نسبة الانعكاسات أقل من ستين بالمائة لتجنب احتمال حدوث الوهج، ولا أنصح بالألوان الأرجوانية والبنفسجية (كما هو الحال مع الأزرق الفاتح)، بسبب ارتباطاتها الرمزية بالحداد، ولأن صورها التلوية سوف تلقي ظلًّا شاحبًا ذا لون أخضر مصفر داخل المكان أو على الأشخاص الموجودين فيه، وأُوصي بشدةٍ باستخدام ألوان التمييز المتوسطة الدكانة مثل: المرجاني، والبرتقالي، والذهبي، والبني المحمر، والأخضر، والفيروزي، والأزرق «المتوسط أو الغامق» (ترميزات مونسل للألوان المذكورة في السابق موجودة في المربع المصاحب لهذا الفصل).

الألوان الموصى بها للأماكن الداخلية التي يتجمع فيها مجموعات من الأشخاص أو تُقيَّد حركتهم ويلزم فيها الحرص على الراحة والكفاءة. الترميزات مأخوذة من نظام مونسل.

الأبيض، العاجي ٥ أصفر ٩ / ١ (للأسقف).

بيج مسفوع ٥ أحمر مصفر ٨ / ٢ (أحد التدرجات اللونية للجدران).

«الألوان الفاتحة»

خوخي ٧٫٥ أحمر مصفر ٨ / ٤.

وردي ١٠ أحمر ٨ / ٤.

أصفر ٢٫٥ أصفر ٨٫٥ / ٤.

أخضر باهت ١٠ أخضر مصفر ٨ / ٢.

أزرق مخضر ٧٫٥ أخضر مزرق ٨ / ٢.

«ألوان التمييز»

المرجاني ٧٫٥ أحمر ٦ / ١٠.

البرتقالي ٥ أحمر مصفر ٦ / ١٠.

الذهبي ٢٫٥ أصفر ٦ / ٨.

البني المحمر ٥ أحمر ٥ / ٦.

الأخضر ٥ أصفر مخضر ٥ / ٤.

الفيروزي ٧٫٥ أخضر مزرق ٥ / ٦.

الأزرق ١٠ أزرق ٥ / ٦.

(٥-٥) دهانات نهاية الحوائط

لقد تحقق نجاح كبير بعد استخدام الأبيض أو العاجي للأسقف، واستخدام الألوان الفاتحة أو الألوان الفاتحة المتوسطة للأرضيات أو المفروشات أو المعدات. ويخصص استخدام أحد تدرجات هذه الألوان، مثل البيج أو البيج المسفوع، لمناطق الجدران عمومًا. وتستخدم ألوان التمييز المتوسطة أو متوسطة الدكانة، المذكورة على نحو منفصل، لنهايات الجدران (لكن لا تستخدم عند جدران النوافذ). ومن الممكن أن تستخدم الألوان الدافئة في الجهات المطلة على الجنوب أو الشرق، أو في مناطق الراحة والاستجمام، أو مؤسسات خدمات الطعام. ويمكن استخدام الألوان الباردة في أماكن العمل. ويجب تجنُّب الرتابة. وينبغي تقديم قدر معتدل من التنوُّع للعيون والحالات المزاجية لدى البشر. وعلى هذا النحو، سوف نتغلب على الحرمان الحسي، وستجعل بهجة الألوان الروح المعنوية مرتفعة دون خطر الإصابة بالإجهاد البصري أو البدني أو الذهني أو العاطفي.

(٥-٦) الألوان والسلامة

تستخدم الألوان على نطاق واسع وشديد العملية للحفاظ على انتباه الأشخاص في البيئات التي قد يكونون معرضين فيها للمخاطر. وعلى الرغم من أن هذا الاستخدام يتعلق فقط على نحو غير مباشر بالحرمان الحسي، فإنه يخدم هدفًا عقلانيًّا في أنواع الصناعات التي قد تتسبب فيها اللامبالاة أو الرتابة في ضعف الانتباه، ونتيجة لذلك قد تتعرض حياة الشخص أو أحد أطرافه للخطر.

في عام ١٩٤٣، اشترك مؤلف الكتاب مع قسم الدهانات الصناعية في شركة دو بونت، في وضع عدد من ممارسات السلامة المرتبطة بالألوان، ووضعوا قاعدة تبناها مجلس السلامة الوطني في عام ١٩٤٤. قُدمت هذه القواعد على نطاق كبير عام ١٩٤٨ من قبل البحرية الأمريكية في كتيب أعده مؤلف هذا الكتاب. وقد قَبِلَها جزئيًّا المعهد القومي الأمريكي للقياس في عام ١٩٤٥، وقبلها على نحو كامل في عام ١٩٥٣. ومع مرور الوقت، أصبحت قواعد عالمية توصي بها المنظمة الدولية لتوحيد المقاييس، وأصبحت قواعد السلامة الخاصة بالألوان إجبارية في الولايات المتحدة بموجب قانون صادر عام ١٩٧٠ من قبل الكونجرس يعرف باسم قانون السلامة والصحة المهنية (أوشا)، الموضوع «من أجل ضمان ظروف عمل آمنة وصحية للرجال والنساء العاملات.»

إليكم سمات القواعد: يستخدم الأحمر في الحماية من الحرائق، وعلى صناديق الإنذار من الحريق، وعلى طفايات الحريق، وصنابير إطفاء الحريق، ووصلات خراطيم الحريق، وخطوط رشاشات الماء، ومعدات إطفاء الحريق، ويستخدم الأصفر للتحذير من المخاطر الشديدة؛ فيدهن الأصفر على الحواف القاطعة، وعلى التروس والبكرات المكشوفة، وبالقرب من المناشير أو عليها، وعلى عجلات التجليخ، وعلى ماكينات الصنفرة، وعلى ماكينات الحفر على الأخشاب، وعلى المقصات والفأرات، كما يدهن أيضًا للفت الانتباه إلى الأنابيب الساخنة، والأسلاك الكهربية أو القضبان المكشوفة، وصناديق التحكم في حالات الطوارئ في الآلات الخطيرة. وتستخدم الأشرطة الصفراء أو الصفراء والزرقاء للدلالة على خطر التعرض للتعثر أو للسقوط، ويستخدم الأصفر في كشافات الضوء المنخفض في السيارة، ويستخدم عند العوائق وحواف الحفر والأرصفة، وفي الحواجز الموضوعة حول المناطق الخطيرة. كما من المناسب استخدامه في معدات الطرق، والجرارات، والروافع، والروافع الشوكية، وأي مركبة تعمل في مناطق صناعية. ويستخدم الأزرق في تطبيقات خاصة في العلامات أو الرموز للدلالة على المعدات التي يجب عدم تشغيلها دون إذن؛ مثل: الغلايات، والحاويات، والأفران، والمجففات، وأفران الحرق والمصاعد، كما يشيع استخدامه في صناديق الكهرباء. ومن الممكن استخدامه على المحركات والمولدات وملابس اللحام. والأخضر، لون الطب، يستخدم لتحديد أدوات الإسعافات الأولية؛ مثل: الأدوية، وخزانات الإسعافات الأولية، وصناديق النقالات، وخزانات أقنعة الغاز، ومغتسلات السلامة. ويرتبط الأرجواني والأصفر في رمز المروحة بالمواد والأجهزة الشديدة الخطورة المرتبطة بالإشعاع النووي، ويختص الأسود والأبيض بأهداف إعطاء التعليمات البحتة، مثل استخدامهما في اللافتات. بالإضافة إلى شفرة ألوان السلامة، توجد شفرات لشبكات الأنابيب، وأسطوانات الغاز المضغوط، وعلامات الشوارع والطرق السريعة، وعلامات مدارج المطارات، والتحذير من المخاطر، وغيرها من المجالات التي تحتاج إلى التمييز. وفي كل هذه المجالات تتحدث الألوان لغة عالمية لا تحتاج إلى معرفة القراءة والكتابة.

(٥-٧) الإضاءة النفسية

يعد الاستخدام المعاصر للألوان رفاهية تبالغ في إرضاء الذات إلى حد كبير ما بين طابع باهت وطابع جذاب. إن التوجه المعاصر الذي يسرف في استخدام الجدران البيضاء يفتقر إلى العاطفة، وخطير من الناحية البصرية، كما أن الإسراف العشوائي في استخدام ألوان التمييز الفاقعة — في السجاد والأثاث وأدوات الزينة — قد يكون جذابًا بالفعل، لكنه عبثي إلى حد كبير. إن ما يمكن فعله في المنزل لا يخص أحدًا إلا صاحب المنزل ومزخرفه، لكن من أجل تلبية الاحتياجات الفسيولوجية والنفسية لكثير من الأشخاص، يجب عدم اختيار الألوان على أساس الهوى أو الرغبة.

مع زيادة تعقيد الحضارة المعاصرة، سيحتاج المسئولون عن تخطيط البيئات إلى فهم أفضل للتكوين النفسي للأشخاص، وسيلزمهم دراسة عوامل أخرى بالإضافة إلى الألوان، لكن على الأقل يجب أن يتجنبوا الاعتماد على هوى الأشخاص فحسب عند اختيار مواصفات الألوان. وإذا كان الأفراد سيعيشون في بيئة محكمة، فمن الممكن تنظيم الظروف المادية، مثل الضوء والحرارة والطعام على نحو مباشر وكامل، والأمر نفسه ينبغي فعله مع الظروف النفسية.

في المستقبل ستكون البيئات نشطة وليست ثابتة؛ فتأثيرات الضوء واللون، وربما حتى عرض الأنماط والمناظر سيكون مراقبًا إلكترونيًّا صباحًا وظهرًا ومساءً وليلًا، تمامًا مثلما يحدث في الطبيعة. وسيبرمج قدر من الضوء لغرض السلامة الفسيولوجية، والقدر الآخر لغرض الثبات الانفعالي. إن التعاقب والتواتر الطبيعيين للنهار والليل سيجعلان الإنسان منسجمًا مع توافقات الطبيعة التي وجهت وجوده وسيطرت عليه على مر العصور.

وتوجد مؤشرات جديدة ومحتملة إلى حد كبير تدل على وجود إضاءة نفسية. ويبدو أن هذه الفكرة استُلهمتْ من تعاطي عقار إل إس دي المهلوس وغيره من المواد الكيميائية المؤثرة على الحالة النفسية. ومن أول مظاهر تجربة التعاطي رؤية عالم «مثير» من الألوان الفاقعة والمتوهجة والمتدفقة. الأمر المهم هو أن «محاكاة» حالات توسع العقل يمكن تحفيزها؛ فالمرء ليس في حاجة إلى تعاطي المهلوسات. إن زيادة الأضواء والألوان والأصوات يمكن أن تجعل الأشخاص يشعرون بمشاعر جارفة، فتنكسر الحواجز، ويُظهِر الناس إلى حدٍّ ما قدرًا أقل من الخجل والتحفظ. وتوجد فرصة جيدة لاحتمالية أن تصبح الإضاءة النفسية من أهم الإسهامات العملية والمجزية في البيئة الاصطناعية في المستقبل.

لم تخرج الإضاءة النفسية بعد من مختبرات مهندسي الإضاءة. وعلى النقيض من ذلك، فقد ازدرى الفنان المهلوس معدات الإضاءة وصنع ابتكاراته المبدعة الخاصة. والآن يتعاون العلماء والفنانون في محاولة لرؤية ما يمكنهما الاشتراك في فعله. وتوجد وسائل جديدة لاستغلالها في هذا الصدد؛ مثل: الضوء المستقطَب، وشعاع الليزر، والإشعاع النووي.

سيأتي اليوم، وبسرعة، الذي سيكون من الممكن فيه حقًّا إكساب حتى أكثر البيئات تقليدية وبساطة مزيدًا من الحياة والحيوية، من خلال تقديم الإضاءة النفسية بطريقة أو بأخرى. في المكاتب، أو المصانع، أو المدارس، من الممكن استخدام مصادر ضوء النهار، بالإضافة إلى بعض مصادر الأشعة فوق البنفسجية لجزء كبير من اليوم. ولأسباب نفسية وعاطفية، من الممكن وضع برنامج لاستخدام ضوء آخر ومستويات شدة أخرى ودرجات أخرى؛ فيستخدم الضوء الدافئ في الصباح، وتزداد الشدة والبياض مع مرور اليوم، وتستخدم إضاءة «محسنة لمظهر البشرة» في فترة استراحة القهوة أو أثناء ساعة الغداء، ويستخدم ضوء وردي أو برتقالي خلال الغسق.

وبالنسبة للأشخاص الذين يعانون من الأمراض العصبية وأمراض الذهان، فمن الممكن أن نوصي لهم «بالعلاج بالألوان» من النوع المهلوس، بالإضافة إلى الموسيقى المهدئة وغيرها من الأصوات المريحة. وكما يعلم جيدًا ممارس الطب النفسي الجسماني، فإن نسبة كبيرة من الأمراض التي يصاب بها البشر، من الربو إلى القرح، والشري، وتشنجات المعدة، وخفقان القلب، وضيق التنفس، كلها في الغالب يكون مصدرها العقل. ويبدأ الشخص المصاب في التفكير في شقائه، وتزداد حالته سوءًا.

إذا كان باستطاعة الضوء واللون إنقاذ الإنسان من نفسه، وسحبه بعيدًا عن اليأس، وإشراكه على نحو ممتع في العالم ومع الناس الموجودين فيه، يجب أن يكون للضوء واللون بكل تأكيد مكان أساسيٌّ في البيئات الاصطناعية في المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤