الفصل الرابع

أخطاء الذاكرة

في هذا الفصل، سنتناول المسألة المتعلقة بأساس النسيان، وسنستعرض الجدل الدائر حول ما إذا كنا ننسى فعلًا أي شيء — أو ما إذا كنا بدلًا من ذلك نصادف صعوبات في استرجاع المعلومات المخزنة. كما سنناقش أنواعًا أخرى من صعوبات الذاكرة، مثلًا: التحريفات والتحيزات في الذاكرة الناتجة عن الإيحاء، وهو محور كم هائل من الدراسات التي أجريت على مدار العقود القليلة الماضية (لا سيما فيما يتعلق بالأبحاث المجراة عن شهادة شاهد العيان). كما سنتناول أيضًا مواقف قد تعمل فيها الذاكرة بصورة نوعية أكثر فاعلية؛ أي في مواقف تسمى «الذاكرة الوميضية»، حيث اختُلف حول أن الذكريات قد تكون واضحة بشكل خاص (مثل: تذكر اغتيال جون إف كينيدي، أو مصرع ديانا أميرة ويلز). وفيما يتعلق بهذا الموضوع، سوف نستعرض الأحداث العاطفية المؤثرة على عمل الذاكرة، مثلما في مواقف المكافأة أو الخطر المُدرَكين التي نميل فيها إلى الاحتفاظ بالمعلومات بصورة أكثر فاعلية.

(١) النسيان

رجاءً تذكر الخامس من نوفمبر: خيانة ومؤامرة البارود. لا نعرف سببًا يدعو لنسيان خيانة البارود أبدًا.

مصدر مجهول

لم يثبت قط وجود النسيان: نحن نعلم فقط أن بعض الأشياء لا تتبادر إلى أذهاننا عندما نريدها.

فريدريك نيتشه

تذكر الفارق الثلاثي والضروري بصورة منطقية بين التشفير والتخزين والاسترجاع الذي قدمناه في الفصل الأول. يمكن تعريف «النسيان» بأنه فقدان للمعلومات التي تم تخزينها. قد يحدث النسيان ليس بسبب مشكلات في حفظ المعلومات في المخزن — «بحد ذاته» — ولكن لأن ذكريات مشابهة تختلط وتتداخل بعضها مع بعض عندما نحاول استرجاعها. وإذا أردنا فهم كيفية عمل الذاكرة تمامًا، فسنحتاج عندئذٍ إلى محاولة فهم بعض العوامل التي قد تؤثر على نسيان المعلومات.

يوجد رأيان تقليديان عن النسيان: يذهب الرأي الأول إلى أن الذاكرة ببساطة تذبل أو تتلاشى، تمامًا مثلما تذبل الأشياء في البيئة الواقعية أو تتآكل أو تفقد بريقها بمرور الوقت. يمثل هذا الرأي تصورًا أكثر «سلبية» عن النسيان والذاكرة. أما الرأي الثاني فيعتبر النسيان عملية أكثر «إيجابية». طبقًا لهذا المنظور، لا يوجد دليل دامغ على الذبول السلبي للمعلومات في الذاكرة، ولكن يحدث النسيان لأن آثار الذاكرة تعرضت للخلل أو التشويش أو الاحتجاب بسبب ذكريات أخرى. بعبارة أخرى: يحدث النسيان كنتيجة للتداخل.

تُجمِع الدراسات الحالية على وقوع هاتين العمليتين كلتيهما، ولكن غالبًا يكون من الصعب حقًّا فصل أهمية الزمن — أي ذبول الذكريات أو تلاشيها — عن التدخل من خلال أحداث أخرى؛ لأنه غالبًا ما يحدث هذان الأمران معًا. على سبيل المثال: إذا حاولت أن تتذكر ما حدث في نهائي بطولة ويمبلدون للتنس لفردي الرجال في عام ١٩٩٥، فقد تكون ذاكرتك ناقصة (١) بسبب النسيان نتيجة مرور الوقت، أو (٢) بسبب النسيان نتيجة أن ذكرياتك عن نهائيات أخرى لويمبلدون للتنس لفردي الرجال تتداخل مع ذكرياتك عن نهائي عام ١٩٩٥، أو (٣) لأن «كلتا العمليتين تحدثان معًا». مع هذا، يوجد ما يدل على أن التدخل قد يكون الآلية الأكثر أهمية المسببة للنسيان (بعبارة أخرى: لو لم تكن قد رأيت مباراة تنس أخرى منذ نهائي ويمبلدون للتنس لفردي الرجال في عام ١٩٩٥، فقد تتذكر هذا الحدث أفضل من شخص رأى مباريات تنس أخرى على مدار نفس المدة الزمنية؛ لأن ذاكرتك عن نهائي ١٩٩٥ أكثر «تفردًا» إلى حدٍّ ما).

بشكل أعم، تميل تجاربنا بالفعل إلى التفاعل داخل ذكرياتنا والتداخل بعضها مع البعض الآخر؛ مما ينتج عنه اتصال ذاكرتنا عن إحدى التجارب غالبًا بذاكرتنا عن تجربة أخرى. وكلما تشابهت تجربتان، زادت احتمالية تفاعلهما داخل ذاكرتنا. في بعض الحالات، قد يكون هذا التفاعل مفيدًا حيث إن المعرفة الدلالية الجديدة يمكن أن تبنى على معرفة قديمة (مثلًا: ثمة ما يدل على أن محترفي الشطرنج يستطيعون تذكر مواقع قطع الشطرنج أفضل من المستجدين، كما سنرى لاحقًا في هذا الفصل). ولكن عندما يكون من الضروري فصل تجربتين وجعلهما مستقلتين تمامًا، يمكن أن يدفعنا التدخل إلى التذكر بدقة أقل مما كنا سنفعل في ظروف أخرى. على سبيل المثال: قد تختلط الذكريات بعضها مع البعض حول نهائيين مختلفين لبطولة ويمبلدون للتنس.

(٢) الذكريات الوميضية وعثرة ذكريات الماضي

إحدى السمات الشائقة عن الذاكرة هي أن الناس يبدون قادرين على تذكر أحداث معينة بوضوح شديد لمدة طويلة، خصوصًا لو كانت غير عادية ولافتة على وجه الخصوص. يوجد جانبان مختلفان لهذه الظاهرة وهما: (١) الذكريات الوميضية و(٢) عثرة ذكريات الماضي.

إن اغتيال جون إف كينيدي في عام ١٩٦٣، ومصرع الأميرة ديانا عام ١٩٩٧، وتدمير برج التجارة العالمي في نيويورك عام ٢٠٠١، هي أحداث بارزة للغاية بالنسبة إلى الأشخاص الذين كانوا أحياءً وقت وقوع هذه الأحداث. تبدو ذكرى هذه الأحداث شديدة المقاومة للنسيان بمرور الوقت، ويستطيع كثير من الناس تذكر أين كانوا ومع من كانوا عندما سمعوا نبأ أحد هذه الأحداث أو كلها. هذا مثال لما أُطلق عليه اسم «الذاكرة الوميضية». وفي مواقف شديدة الإثارة كهذه، يبدو الناس غالبًا قادرين على التذكر جيدًا. وقد ترتبط هذه الظاهرة ارتباطًا وثيقًا بالضغوط المؤثرة علينا خلال ماضينا التطوري. وحسبما قال شكسبير في مسرحيته «هنري الخامس» عند الإشارة إلى معركة أجينكورت: «قد يعتري العجائز النسيان إذا تخلَّفوا عن الحرب؛ أما المحارب، فسيذكر ما أتاه في ذلك اليوم من جليل الأعمال.»

بالمقارنة، تحدث «عثرة ذكريات الماضي» عندما يُطلب من الشخص في حياته اللاحقة أن يتذكر أحداثًا من مراحل حياته المختلفة. في هذه المواقف، يميل الناس إلى أن يتذكروا بشكل غير متناسق أحداثًا أكثر وقعت في الفترة بين مراهقتهم وباكر شبابهم. لخص هذه النقطة بإتقان الكاتب والمحامي جون مورتيمر حين صرح بأن: «الماضي البعيد، وقتما كنت أمثِّل هاملت بأداء فردي أمام أعين والدي الضرير، مبارزًا نفسي ومحتسيًا كأسي المسمومة … يبدو لي واضحًا وضوح الأمس. أما ما فقدته في غياهب الذاكرة المتلاشية فهي أحداث مضت منذ عشر سنوات.» وقد تمت الإشارة إلى أن عثرة ذكريات الماضي هذه ناتجة عن الأهمية الخاصة للأحداث التي تقع خلال الفترة المبكرة من حياة المرء. غالبًا ما تكون هذه أحداثًا تتدخل فيها المشاعر بشكل مكثف (وهو اعتبار قد يكون مرتبطًا أيضًا بالذكريات الوميضية). وتشمل هذه الأحداث: لقاء الزوج أو الزوجة، أو الزواج، أو الإنجاب — وأحداث مهمة من نواحٍ أخرى، مثل بدء العمل، أو التخرج في الجامعة، أو التجول حول العالم.

إن المنطقتين اللتين توجد بهما الذكريات الوميضية وعثرة ذكريات الماضي مثيرتان للجدل إلى حدٍّ بعيد. على سبيل المثال: فيما يتعلق بالذكريات الوميضية، أثير الجدل حول إلى أي مدى قد تتطفل الذاكرة الدلالية على الذاكرة العرضية بحثًا عن أحداث مثل مصرع الأميرة ديانا (بحيث نشعر أننا نتذكر التفاصيل العرضية بدقة، في حين أن معظم هذه التفاصيل في حقيقة الأمر قد تكون مُستنتَجة — راجع الفصل الثاني لاستعراض مختصر عن مدى التفاعل بين الذاكرة الدلالية والعرضية، وكذلك راجع الفصل الأول فيما يتعلق بدرجة ارتباط المؤثرات «من المستوى العام إلى الخاص» داخل الذاكرة). على الرغم من ذلك، تعتبر هاتان النقطتان كلتاهما من الموضوعات المثيرة جدًّا للاهتمام في أبحاث الذاكرة.

fig8
شكل ٤-١: اغتيال جون إف كينيدي في عام ١٩٦٣، ومصرع الأميرة ديانا عام ١٩٩٧، وتدمير برج التجارة العالمي في نيويورك عام ٢٠٠١ هي أحداث بارزة للغاية بالنسبة إلى الأشخاص الذين كانوا أحياءً وقت وقوع هذه الأحداث.1

(٣) التنظيم والأخطاء في الذاكرة

fig9
شكل ٤-٢: ثمة ما يدل على أن محترفي الشطرنج يستطيعون تذكر مواقع قطع الشطرنج أفضل من المستجدين، وهذا مرتبط بوضوح بقدرة المحترفين على رؤية رقعة الشطرنج باعتبارها كيانًا كليًّا منظمًا، وليس مجموعة من القطع المنفصلة.2

أضعف الأحبار أفضل من أقوى ذاكرة.

مثل صيني

في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أجريت بعض الدراسات على لاعبي الشطرنج لاكتشاف مدى قدرتهم على تذكر مواقع قطع الشطرنج على اللوح. أثبتت الدراسات أن محترفي الشطرنج يستطيعون تذكر ٩٥٪ من القطع الموجودة على رقعة الشطرنج بعد لمحة واحدة تستغرق ٥ ثوانٍ. لكن لاعبي الشطرنج الأقل كفاءة كانوا قادرين على تحديد ٤٠٪ فقط من القطع بشكل صحيح، واحتاجوا ثماني محاولات للوصول إلى أداء صحيح بنسبة ٩٥٪. وبتحليل أكثر تفصيلًا، أشارت النتائج إلى أن الميزة التي يتمتع بها محترفو الشطرنج نابعة من قدرتهم على رؤية رقعة الشطرنج باعتبارها كيانًا كليًّا منظمًا، وليس مجموعة من القطع المنفصلة. وقد ظهرت آثار مشابهة لدى لاعبي البريدج المحترفين عندما يحاولون تذكر أيادي اللاعبين، أو عندما يُطلب من خبراء الإلكترونيات تذكر الدوائر الإلكترونية. في كل حالة، يبدو أن الخبراء ينظمون المادة في صورة مترابطة وهادفة. وبناءً على خلفية ثرية من التجارب السابقة، يبدو الخبراء قادرين على تحسين أداء الذاكرة بشكل ملحوظ يفوق أداء غير الخبراء.

رأينا بالفعل في الفصل الثالث أن تنظيم المعلومات خلال وقت «الاسترجاع» (في شكل تلميح) يمكن أن يساعد في التذكر، ولكن هذه الدراسات عن الخبراء تكشف عن مزايا التنظيم خلال وقت «التعلم» كذلك. وفي المعمل، قارن الباحثون بين الذاكرة من أجل تعلم: (١) مادة غير منظمة نسبيًّا وبين تذكر (٢) مادة تتسم ببعض التنظيم المفروض خلال وقت التعلم. على سبيل المثال: يمكن مقارنة ذاكرة عن قائمة كلمات عشوائية بذاكرة عن قائمة مُقسَّمة، لأغراض العرض، إلى فئات من — مثلًا — (١) الخضراوات أو (٢) قطع الأثاث، وذلك خلال وقت التشفير. عندما يُطلب من الأفراد أن يتذكروا لاحقًا القائمة التي كانت منظمة خلال وقت التشفير، يكون أداؤهم أفضل بشكل ملحوظ مقارنةً بوقت ما سمعوا القائمة المنظمة عشوائيًّا خلال مرحلة التعلم. لهذا، فالتنظيم الهادف للمعلومات خلال التعلم يمكن أن يؤدي أحيانًا إلى تحسن أداء الذاكرة عند الاختبار. ومع هذا، فكما سنرى قريبًا، يمكن أن تؤدي أنواع أخرى من التنظيم خلال التعلم إلى تحريفات في الذاكرة عندما يخضع الأفراد للاختبار لاحقًا.

(٤) آثار المعرفة السابقة

(٤-١) الأطر العقلية: ما نعرفه بالفعل

كما رأينا في الفصل الأول، طلب بارتليت في ثلاثينيات القرن العشرين من مشاركين إنجليز قراءة قصة شعبية تنتمي لسكان أمريكا الأصليين، ثم استرجاعها، وهي قصة «حرب الأشباح»، التي جاءت من ثقافة مختلفة للغاية عن ثقافتهم. عندما حاول الأفراد تذكر هذه القصة، كان نقلهم معتمدًا اعتمادًا واضحًا على القصة الأصلية، ولكنهم أضافوا وحذفوا وعدَّلوا المعلومات لإنتاج قصص بدت أكثر معقولية بالنسبة إليهم، وهو ما سماه بارتليت «السعي وراء المعنى».

اقترح بارتليت أننا نملك «أطرًا عقلية»، وصفها بأنها تنظيمات نشطة لتجارب ماضية. تساعدنا هذه الأطر العقلية في فهم المواقف المألوفة، فتوجِّه توقعاتنا وتقدم إطارًا عمليًّا يمكن في ظله معالجة معلومات جديدة. على سبيل المثال: قد نملك إطارًا عقليًّا ليوم «عادي» في العمل أو المدرسة، أو لزيارة «عادية» إلى مطعم أو إلى السينما.

وفيما يبدو، يواجه الناس مشكلة في فهم المعلومات المقدمة إليهم لو لم يستطيعوا الاعتماد على الأطر العقلية الخاصة بمعرفة مكتسبة سابقًا. وأوضحت هذه النقطة بدقة دراسةٌ أجراها برانسفورد وجونسون. فقد أعطى هذان الباحثان المشاركين فقرة ليتذكروها، والتي بدأت كالتالي:

العملية في الواقع بسيطة جدًّا: أولًا ستنظم العناصر في مجموعات مختلفة. بالطبع يمكن أن تكون كومة واحدة كافية بحسب مقدار العناصر الموجودة. وإذا كنت مضطرًّا للذهاب إلى مكان آخر بسبب نقص التسهيلات فهذه هي الخطوة التالية؛ غير ذلك يمكنك أن تظل في مكانك. من الضروري ألا تفرط في التعامل مع الأشياء؛ أي من الأفضل أن تفعل أمورًا قليلة في المرة عن أن تفعل الكثير.

ثبتت صعوبة استرجاع هذه الفقرة النصية بالنسبة إلى المشاركين، حتى لو قُدم العنوان بعد قراءة الفقرة. اكتشف برانسفورد وجونسون أنه فقط عندما قُدم العنوان («غسيل الملابس») «قبل» النص، تحسن الاسترجاع اللاحق. عندما قُدم العنوان سلفًا، أصبحت الفقرة ذات معنى أوضح، وتضاعف أداء الاسترجاع. كان التفسير المقدم حول هذه النتائج كالتالي: تقديم العنوان سلفًا (١) أوضح ما تدور حوله الفقرة، و(٢) ألمح بإطار عقلي مألوف، و(٣) ساعد الأفراد في فهم التصريحات المقدمة. لذا يبدو أن تقديم سياق له معنى يحسن الذاكرة.

ومع هذا، فمن الممكن التذكر دون فهم، خصوصًا مع تقديم مساعدات إضافية، مثل تقديم المعلومات لإثباتها باستخدام اختبار التعرف (انظر الفصل الثالث). أوضح ألبا وزملاؤه أنه على الرغم من أن «استرجاع» فقرة «غسيل الملابس» (المشار إليها في الجزء السابق) تحسن كثيرًا عندما عُرف العنوان مقدمًا، فإن «التعرف» على جمل من الفقرة كان متساويًا، سواءٌ بالعنوان أو دونه. فاستخلص ألبا وزملاؤه أن تقديم العنوان أتاح للمشاركين دمج الجمل في وحدة أكثر ترابطًا؛ مما أفاد الاسترجاع، ولكن هذا أثَّر فقط على الروابط بين الجمل، وليس على تشفير الجمل نفسها (ولهذا كان أداء التعرف على مادة النص محفوظًا بوضوح، دون تقديم العنوان).

يوضح البحث الذي أُجري بفقرة «غسيل الملابس» كيف تساعدنا معرفتنا السابقة في تذكر المعلومات. وقدم باور ووينزينز وزملاؤهما مثالًا آخر: فقد طلبوا من المشاركين حفظ مجموعة كلمات قُدمت إليهم إما (١) عشوائيًّا أو (٢) في تسلسل منظم. واكتشف هؤلاء الباحثون أن تقديم الكلمات في تسلسلات ذات معنى قللت وقت الحفظ إلى ربع الوقت المطلوب لنفس الكلمات عندما كانت مرتبة بشكل عشوائي. وقد أبرز تنظيم التسلسل بوضوحٍ الفروق الدقيقة في معاني الكلمات، وهو ما بدا أنه لا يبسِّط فقط حفظ القوائم، ولكنه يقدم أيضًا إطارًا عمليًّا يستطيع في ظله المشاركون تنظيم استرجاعهم اللاحق؛ وبالتالي فإن تنظيم مادة الذاكرة قد يعمل على تحسين «كل من»: (١) تعلُّم نفس المواد و(٢) استرجاعها.

(٤-٢) كيف تحفز المعرفة التذكر؟

مثلما أشرنا في الفصل الثالث، يجد الخبراء في أي مجال أنه من الأسهل والأسرع اكتساب معلومة جديدة في إطار خبرتهم أكثر من المستجدين. يشير هذا الاكتشاف إلى أن ما نتعلمه يبدو معتمدًا اعتمادًا كبيرًا على معرفتنا الحالية. على سبيل المثال: برهن موريس وزملاؤه على وجود علاقة قوية للغاية بين مقدار ما يعرفه مشاركوهم عن كرة القدم وعدد نتائج المباريات الجديدة التي يستطيعون تذكرها بعد سماعها مرة واحدة فقط. قُرئت على المشاركين مجموعة جديدة من نتائج مباريات كرة القدم وقت إذاعتها في نهاية الأسبوع. وكانت مجموعة واحدة من النتائج هي النتائج الحقيقية، في حين زُيفت مجموعة أخرى من النتائج بتشكيل أزواج مُقنِعة من الفرق وتحديد الأهداف بنفس التواتر كما حدث في أسبوع سابق. أُخبِرَ المشاركون في الدراسة ما إذا كانت النتائج التي سمعوها حقيقية أم مزيفة. وحدها النتائج الحقيقية بدت أنها تنشِّط المعرفة والاهتمام لدى الخبراء بكرة القدم. وبالنسبة إلى النتائج الحقيقية، كان مستوى استرجاع الذاكرة مرتبطًا بوضوح بالخبرة في كرة القدم؛ ولهذا استرجع المشجعون الأكثر معرفة أغلب النتائج. أما بالنسبة إلى النتائج المزيفة (حيث كانت النتائج مقنعة للغاية ولكنها ليست النتائج الحقيقية)، فقد اكتُشف أن للخبرة تأثيرًا ضئيلًا نسبيًّا على أداء الاسترجاع اللاحق. وتوضح هذه النتائج التفاعل بين سعة الذاكرة والمعرفة الحالية (وعلى الأرجح الاهتمام والحافز أيضًا) في تحديد ما يتم تذكره بكفاءة.

(٤-٣) كيف يمكن أن تؤدي المعرفة إلى أخطاء؟

معرفتنا السابقة هي أحد الأصول القيمة للغاية، ولكنها يمكن أن تؤدي أيضًا إلى أخطاء. ففي إحدى الدراسات وثيقة الصلة، أعطى أوينز وزملاؤه مشاركيهم وصفًا بالأنشطة التي يؤديها شخص معين. على سبيل المثال: دار أحد الأوصاف حول طالبة تدعى نانسي. وهذا هو الجزء الأول من ذلك الوصف:

ذهبت نانسي إلى الطبيب. وصلت إلى العيادة وحجزت لدى موظف الاستقبال. ذهبت لمقابلة الممرضة التي بدأت إجراءاتها المعتادة. ثم وقفت نانسي على الميزان وسجلت الممرضة وزنها. دخل الطبيب الغرفة وفحص النتائج. ابتسم لنانسي وقال: «حسنًا، يبدو أن توقعاتي قد صدقت.» بعد انتهاء الكشف، غادرت نانسي العيادة.

أُخبر نصف المشاركين مقدمًا بأن نانسي كانت قلقة من أن تكون حاملًا. وضَمَّن هؤلاء المشاركون معلومات خاطئة يتراوح قدرها بين مرتين وأربع مرات عند اختبار استرجاعهم للوصف. مثلًا: تذكر بعضهم «الإجراءات المعتادة» التي أجريت بأنها تشمل «اختبارات الحمل». وارتُكبت هذه الأنواع من الأخطاء في كل من اختبارات التعرف والاسترجاع. فتعكس هذه النتائج واقع أن للأفراد توقعات كثيرة حول كيفية سير الأنشطة الاعتيادية (الذهاب إلى الطبيب، المحاضرة، المطعم)، وهذه التوقعات تقدم أطرًا عقلية يمكنها إما أن تسهل أو تضلل فيما يتعلق بأداء ذاكرتنا. وفي جزء آخر من دراسة «غسيل الملابس»، درس باور وزملاؤه تأثير هذه الأطر العقلية على الاسترجاع اللاحق. فأعطوا مشاركيهم قصصًا بناءً على التوقعات العادية، ولكن القصص اشتملت على اختلافات ملحوظة عن المعيار؛ وبالتالي — على سبيل المثال — قد تشير قصة عن تناول الطعام في مطعم إلى سداد الفاتورة في بداية الوجبة. عند استرجاع القصص، مال المشاركون إلى إعادة ترتيب استرجاعهم ليعود إلى شكل الإطار العقلي (أي الأكثر اعتيادًا) للقصة. واشتملت الأخطاء الأخرى الشائعة التي ارتكبها الأفراد على تضمين أفعال يمكن توقعها عادةً في هذا السياق المحدد، ولكنها لم تُذكر في القصة الأصلية — مثل النظر إلى قائمة الطعام قبل اختيار الوجبة.

بصفة عامة، تشير نتائج هذه الدراسات وما شابهها إلى أن الأفراد يميلون إلى تذكر ما يتوافق مع أطرهم العقلية، ولكنهم يستثنون ما لا يتوافق معها.

(٥) الذكريات الحقيقية مقابل المتخيلة

كما أشرنا في الفصل الأول، حتى عندما نصدق أننا حرفيًّا «نعيد» حدثًا سابقًا أو معلومة سابقة إلى عقلنا، كما لو كان شريط فيديو، فإننا في الواقع نكوِّن ذكرى من كل الأمور الصغيرة التي نتذكرها بالفعل، إلى جانب معرفتنا العامة (أي الدلالية) حول الكيفية التي يجب بها تجميع هذه الأمور.

عادةً ما تكون هذه الاستراتيجية تكيفية للغاية، فتقلل من احتياجنا إلى تذكر أمور جديدة تتشابه كثيرًا مع أمور نعرفها بالفعل. ولكن أحيانًا يمكن أن يكون هناك خلط بين ما حدث بالفعل وما تخيلناه أو أوحي إلينا.

(٥-١) مراقبة الواقع

تناولت مارسيا جونسون وزملاؤها بشكل منهجي على مدى سنوات موضوع مراقبة الواقع؛ بمعنى تحديد أي الذكريات قائمة على أحداث حقيقية وأيها نابعة من أحلام أو مصادر خيالية أخرى. وذهبت جونسون إلى أن الاختلافات النوعية بين الذكريات مهمة لتمييز «الذكريات الخارجية» عن «الذكريات المنتَجة داخليًّا». وهي تؤكد أن الذكريات الخارجية (١) تتمتع بسمات حسية أقوى، و(٢) أكثر تفصيلًا وتعقيدًا، و(٣) توجد في سياق زماني ومكاني مترابط. من ناحية أخرى، ذهبت جونسون أيضًا إلى أن الذكريات المنتَجة داخليًّا تجسد آثارًا أكثر للعمليات المنطقية والتخيلية التي أنتجتها.

رغم أن جونسون وجدت دليلًا على هذه الاختلافات، فإن تطبيق هذه الاختلافات المقترحة كمعايير محددة يمكن أن يؤدي رغم ذلك إلى قبولنا بعض الذكريات بصفتها حقيقية، حتى عندما لا تكون كذلك. على سبيل المثال: أجريت دراسة في تسعينيات القرن العشرين طُلب فيها من المشاركين استرجاع تفاصيل من شريط فيديو، وأن يبلغوا عن كل من (١) ثقتهم و(٢) وجود أو غياب تفاصيل وصور عقلية واضحة. واكتُشف أن التفاصيل والصور العقلية الواضحة قد رُصدت بشكل أكبر وبتبليغات صحيحة حول ما قدم على شريط الفيديو. ومع هذا، فإن وجود صور قابلة للوصول إليها دفع الأفراد إلى أن يفرطوا في الثقة؛ وبالتالي أبلغوا بثقة أكبر عن تفاصيل خاطئة مصحوبة بالصور العقلية مقارنةً بتفاصيل صحيحة تفتقر إلى هذه الصور المصاحبة. تبدو هذه الاكتشافات وكأنها تشير إلى أنه لا توجد طريقة يمكن الاعتماد عليها للتمييز بين الذكريات «الحقيقية» و«المتخيلة».

ترتبط «مراقبة المصدر» بمفهوم مراقبة الواقع؛ أي القدرة على نسْب مصدر ذكرياتنا بنجاح (مثل القدرة على التصريح بأننا سمعنا معلومة معينة (١) من صديق بدلًا من (٢) سماعها في الراديو). كما سنرى، يمكن أن تؤدي الأخطاء في نسْب ذكرياتنا إلى عواقب خطيرة؛ على سبيل المثال: خلال شهادة شاهد العيان (ميتشل وجونسون، ٢٠٠٠).

(٥-٢) شهادة شاهد العيان

حتى جوانب بيئة حياتنا اليومية يمكننا أن نتذكرها بشكل ضعيف. على سبيل المثال: رأينا في الفصل الأول أنه قد يكون من الصعب أن نتذكر بشكل صحيح شيئًا واضحًا مثل ما إذا كان الوجه الموجود على عملة نقدية في جيب المرء يتجه نحو اليمين أم نحو اليسار. وبصفة عامة، يعجز الناس كثيرًا عن الإجابة عن هذا السؤال، حتى عندما يستخدمون تلك العملات بالتحديد كل يوم تقريبًا. ومع هذا، قد يجادل بعض الناس بأننا عندما نلاحظ حدثًا «غير عادي» (مثل جريمة قتل)، فإننا نصبح في وضع أفضل يسمح لنا بتذكر هذا بكفاءة مقارنةً بحالنا عندما نحاول تذكر السمات العادية لعملة نقدية. فرغم كل شيء، لا نحتاج في حياتنا اليومية إلى معرفة اتجاه الوجه لكي نستطيع استخدام العملات بكفاءة.

على الرغم من ذلك، ففي موقف جريمة القتل، نعلم أن هناك عوامل عديدة تعمل ضد مصلحة شاهد العيان، ويمكن أن تحجب ذاكرته أو تشوِّهها:
  • رغم أن الاستثارة المعززة يمكن أن تنشِّط الذاكرة (كما رأينا قبلًا)، فإنه عندما يتعرض الشخص ﻟ «ضغط شديد»، يمكن أن يقل انتباهه (مثلًا: تجاه سلاح خطير محتمل) وغالبًا ما يكون الإدراك متحيزًا.

  • فيما يرتبط بهذه النقطة السابقة، يميل الناس إلى التذكر بشكل أضعف عندما يتعرضون ﻟ «موقف عنيف»؛ حيث يصبح الدفاع عن النفس هو الأولوية (مثلًا: قد يوجِّه المرء موارده المعرفية تجاه إيجاد طريق للخروج، أو إيجاد أداة يمكن للمرء بها أن يدافع عن نفسه، بدلًا من أن يوجهها تجاه الانتباه إلى مظهر المجرم وهويته).

  • فيما يرتبط بما سبق، يمكن أن يشتت «السلاح» الموجود في مسرح الجريمة انتباه الشخص عن مقترف الجريمة.

  • رغم أننا نجيد «التعرف» على الوجوه أكثر من «استرجاع» المعلومات، فإن الثياب بشكل خاص مصدر قوي للتحيز عند التعرف؛ وبالتالي فالفرد الذي يُصادَف أنه يرتدي ثيابًا مماثلة للمتهم يمكن «التعرف» عليه خطأً.

  • يميل الناس إلى أن يكونوا أضعف في التعرف على وجوه الأفراد المنتمين إلى «جماعات إثنية وعرقية مختلفة» — حتى عندما تكون لديهم تجربة جديرة بالاعتبار — عنهم في التفاعل مع أشخاص ينتمون لأعراق أخرى (علاوة على هذا، لا يبدو أن هذه الظاهرة مرتبطة بدرجة التحيز العرقي).

هناك عامل آخر قوي يؤثر في تحريف الذاكرة، وهو استخدام الأسئلة الموجهة. «هل رأيت «الرجل الذي اغتصب» المرأة؟» هو مثال لسؤال موجه، ويمكن أن يؤدي إلى تأكيدات بجريمة مزعومة أكثر بكثير من سؤال مثل «هل رأيت «رجلًا يغتصب» المرأة؟» وهكذا، افترض أنك شهدت حادثة عند تقاطع طرق، ثم سُئلت لاحقًا ما إذا كانت السيارة توقفت قبل الشجرة أم بعدها. عندما يُطرح عليك سؤال كهذا، فمن الأرجح فيما بعد أن «تضيف» شجرة في ذاكرتك عن المشهد، حتى لو لم تكن هناك شجرة من الأساس. وبمجرد إضافة الشجرة تميل إلى العمل كما لو أنها جزء من الذاكرة الأصلية؛ وبالتالي يصبح من الصعب تحديد الفرق بين الذاكرة الحقيقية وما تم تقديمه فيما بعد.

أحد الأمثلة البارزة بشكل خاص لتحيز الذاكرة مر به دونالد طومسون، الذي (للمفارقة، كما سنرى) كان متحمسًا للغاية في جداله عن عدم موثوقية شهادة شاهد العيان. في إحدى المناسبات، شارك طومسون في حوار تليفزيوني حول الموضوع نفسه المتعلق بشهادة شاهد العيان. وفي وقت لاحق اعتقلته الشرطة ولكنها رفضت شرح السبب. لم يكتشف أنه متهم بالاغتصاب إلا بعدما تعرفت عليه امرأة في طابور عرض المشتبهين في قسم الشرطة. وعندما سأل عن المزيد من التفاصيل، اتضح أن الاغتصاب قد وقع في نفس وقت مشاركته في الحوار التليفزيوني؛ وبالتالي كان يملك حجة غياب قوية جدًّا (بالطبع) بوجود عدد كبير من الشهود، بمن في ذلك ضابط شرطة شارك في نفس الحوار! وبدا أنه — بالصدفة — تعرضت المرأة للاغتصاب في وقت إذاعة هذا البرنامج التليفزيوني في الغرفة التي وقع فيها الاغتصاب. مثَّل هذا مشكلة في مراقبة المصدر، والتي تسمى أيضًا «نسيان المصدر» (أو ما سماه دان شاكتر، ضمن «خطايا الذاكرة السبع»، «خطأ نسْب المعلومة»؛ رجاء مطالعة قراءات إضافية في نهاية الكتاب). وهكذا اتضح أن ذاكرة المرأة عن المغتصب قد تلوثت بالوجه (وجه دونالد طومسون) الذي رأته على شاشة التلفاز في نفس الوقت. (قد يكون موضوع الحوار في البرنامج التليفزيوني أيضًا ذا صلة كبيرة.) وهكذا تعرفت المرأة على وجه طومسون، ولكنها أخطأت في نسب مصدر التعرف.

وفي موضوع وثيق الصلة، سجلت دراسات أخرى مواقف عجز فيها الأفراد عن التعرف عندما غيَّر شخصان مكانيهما. يشار إلى هذه الظاهرة باسم «عمى التغيير»، حيث يكون واضحًا ضعف الأفراد الشديد في تحديد ما إذا كان قد حدث تغيير في بيئتهم الحالية. بالنظر إلى عمى التغيير إلى جانب المشكلات التي قد تنشأ في حالة شهادة شاهد العيان، فإنه يوحي بمدى ضعفنا فيما يتعلق بالمعالجة غير الدقيقة لبعض المعلومات في بيئتنا الحالية.

(٥-٣) تأثير المعلومات الخاطئة

كان تحريف الذاكرة عن طريق تضمين معلومات جديدة موضوع بحث مهم بالنسبة إلى الباحثين المهتمين بكل من التأثيرات العملية لشهادة شاهد العيان والتفسيرات النظرية لطبيعة الذاكرة. فرغم ما نعرفه عن قابلية الذاكرة للخطأ، لم تزل توجه أهمية كبيرة في العادة لشهادة شاهد العيان من جانب مهنة القانون، والشرطة، والصحافة. ولكن (كما رأينا في الجزء السابق) قد نتوقع من شهود العيان تقديم «معلومات» غير واقعية تمامًا في سياق ما نعرفه — بناءً على تجارب علمية أجريت بدقة — عن طريقة عمل ذكرياتنا. كما قد تعتمد إفادات شهود العيان عن الجرائم أيضًا على تركيزهم الانفعالي ومنظورهم الشخصي؛ مثلًا، ما إذا كانوا يتعاطفون أكثر مع مرتكب الجريمة أم مع الضحية.

استكشفت إليزابيث لوفتس وزملاؤها بالتفصيل «تأثير المعلومات الخاطئة». وعلى وجه الخصوص، أثبتت لوفتس وزملاؤها بشكل متكرر تحريفات الذاكرة عقب الأسئلة أو المعلومات المضللة المتدخِّلة. ينشأ هذا الأمر عندما تُقدَّم معلومات مضللة بشكل غير مباشر. على سبيل المثال: عرضت لوفتس وزملاؤها على المشاركين سلسلة من الشرائح مع قصة عن حادثة مرورية. فيما بعد، سئل المشاركون عن الحدث. كان أحد الأسئلة مختلفًا بعض الشيء بالنسبة إلى نصف المشاركين، حيث أشار إلى علامة «قف» بدلًا من علامة «أولوية المرور» (أو «حق الطريق»). كان المشاركون الذين طُرح عليهم سؤال يحتوي على معلومات مضللة هم الأرجح في أن يؤكدوا هذه المعلومات الخاطئة في اختبار لاحق لذاكرة التعرف. مال هؤلاء المشاركون إلى اختيار علامة الطريق التي ذُكرت في السؤال المضلل، بدلًا من العلامة التي رأوها بالفعل. تتسم النتائج بالدقة ولها تبعات مهمة على نوعية الأسئلة التي يجب أن تُطرح على شهود الجرائم والحوادث لكي يتذكروا بأقصى دقة ممكنة. مع هذا، لم يزل بعض الباحثين يفندون أساس تأثير المعلومات الخاطئة. ويذهب أولئك الذين يتَحدَّون تفسير لوفتس لنتائجها إلى أنه من الممكن فعلًا أن تتعرض ذكريات المشاركين الأصلية للتحريف بشكل دائم عن طريق الاستجواب، ولكن من الممكن أيضًا أن تكمِّل الأسئلة بكل بساطة ذكريات المشاركين عن طريق تقديم معلومات لم يكن المشاركون ليستطيعوا تذكرها بطريقة أخرى. سنناقش هذا الموضوع بالتفصيل في جزء لاحق من هذا الفصل.

مع هذا، بصفة عامة، فإن الرسالة المحورية لهذه الدراسات هي أن الذاكرة، مجددًا، لا يجب النظر إليها بصفتها عملية سلبية؛ فكما رأينا في الفصل الأول، فإنها منظومة «من المستوى العام إلى الخاص» تتأثر ﺑ «نزعتنا النفسية» (تحيزاتنا وآرائنا النمطية ومعتقداتنا ومواقفنا وأفكارنا) علاوة على أنها منظومة «من المستوى الخاص إلى العام» تتأثر بالمدخلات الحسية. بعبارة أخرى: لا تتأثر الذاكرة بالمعلومات الحسية المستقاة من بيئتنا المادية فحسب، بحيث نستقبل بشكل سلبي هذه المعلومات ونضعها في ذاكرتنا بالجملة. لكننا بدلًا من ذلك، وتحت تأثير افتراضاتنا المسبقة ومعرفتنا السابقة، نفرض معنى على المعلومات المكتسبة، فنحرِّف ذكرياتنا لتتلاءم مع نظرتنا العامة عن العالم.

(٥-٤) الذكريات الزائفة

ترتبط الذكريات المسترجعة والزائفة بتأثير المعلومات الخاطئة، ولكن بعواقب ربما تكون أكثر خطورة. تحت تأثير العلاج، «استرجع» بعض البالغين ذكريات عن انتهاك مزعوم في الطفولة أدى إلى إدانات جنائية. ولكن في هذه المواقف، هل «يسترجع» الأفراد حقًّا ذكريات عن أحداث حقيقية وقعت في طفولتهم، أم يتعرضون للتحفيز لتذكر أحداث لم تقع فعلًا؟ أثبتت أبحاث كثيرة أنه في ظل ظروف معينة يمكن اختلاق ذكريات زائفة. أحيانًا تكون هذه الذكريات غير خطرة؛ على سبيل المثال: أجرى روديجر وماكديرموت وزملاؤهما عددًا كبيرًا من الأبحاث منذ تسعينيات القرن العشرين تثبت أن الناس يمكن تحفيزهم على «تذكر» شيء مرتبط دلاليًّا بسلسلة من الأشياء المقدمة سلفًا، ولكنه في حد ذاته لم يُقدَّم (مثلًا: قد يتذكر الناس تقديم كلمة «ليل» أمامهم، عندما قُدمت لهم قبلًا سلسلة من الكلمات مرتبطة دلاليًّا ﺑ «ليل»، مثل: «مظلم» و«قمر» و«أسود» و«هادئ» و«نهار» …)

fig10
شكل ٤-٣: يمكن أن تتأثر ذاكرتنا عن الأحداث، مثل حادثة سيارة، بنوع السؤال الذي يُطرح علينا، ويمكن «إدخال» معلومات كهذه إلى ذاكرتنا. ولهذه الظاهرة — المعروفة باسم تأثير المعلومات الخاطئة — آثار خطيرة على شهادة شاهد العيان.3

الأقل خطرًا أنه من المحتمل اختلاق ذكريات — باستخدام إيحاءات ومعلومات مضللة — عن «أحداث» يتصور المرء بقوة أنها حدثت في ماضيه، ولكنها — في واقع الأمر — زائفة؛ لذا يبقى من المقبول على الأقل أن بعض الأحداث الانتهاكية التي «يتذكرها» الناس هي في حقيقة الأمر ذكريات زائفة.

اكتشفت إليزابيث لوفتس خلال تجاربها المعملية أن الأفراد يجيبون بنفس السرعة والثقة عن الأسئلة المضللة كما يفعلون عند الإجابة عن الأسئلة التي تتم صياغتها دون تحيزات. في مثل هذه المواقف، حتى لو لاحظ المشارك أنه قد تم تقديم معلومات جديدة، يظل من الممكن أن تصبح هذه المعلومات جزءًا من «ذاكرته» عن الحادثة؛ وهكذا يمكن تقديم تحيز الذاكرة بأثر رجعي (حتى لو تم تحديده بشكلٍ واعٍ على هذا الأساس). في إحدى التجارب، طلبت لوفتس وبالمر من بعض الطلاب مشاهدة سلسلة من الأفلام، يعرض كل منها حادثة مرورية. بعد ذلك كان عليهم أن يجيبوا عن أسئلة متعلقة بالأحداث. كان أحد الأسئلة كالتالي: «كم كانت سرعة السيارتين عندما … إحداهما الأخرى؟» ملأت كل مجموعة من الطلاب الفراغ بكلمة مختلفة، ويمكن أن تكون أيًّا من الآتي: «هشمت» أو «صدمت» أو «ارتطمت» أو «خبطت» أو «حكَّت». ما اكتشفه الباحثون هو أن تقديرات الطلاب لسرعة السيارتين كانت متأثرة باختيار الفعل في ذلك السؤال بالتحديد. فاستخلصت لوفتس وبالمر أن ذاكرة الطلاب عن الحادثة قد تغيرت بسبب المعلومة الضمنية المقدمة في السؤال.

واصل لوفتس وبالمر بحثهما في هذا الموضوع بمزيد من التفصيل بأنْ طلبا من الطلاب مشاهدة فيلم لحادثة بين أكثر من سيارة. مرة ثانية، سئل الطلاب عن سرعة السيارات، مع استخدام كلمة «هشمت» (إشارة إلى سرعة اصطدام أكبر) مع مجموعة من الطلاب و«خبطت» مع مجموعة أخرى، بينما لم يُطرح هذا السؤال بالتحديد على مجموعة ثالثة من الطلاب. بعد أسبوع، طُلب من الطلاب أن يجيبوا عن المزيد من الأسئلة، كان أحدها: «هل رأيت أي زجاج مكسور» في مكان الحادثة؟

اكتشف لوفتس وبالمر أن الفعل المستخدم في السؤال عن السرعة لم يؤثر فقط على تقديرات الطلاب عن السرعة، ولكن أن هذا السؤال أثَّر فيما بعد على إجابتهم عن سؤال الزجاج المكسور الذي طُرح بعد ذلك بأسبوع؛ وبالتالي كان الطلاب الذين قدَّروا سرعة أعلى هم الأكثر احتمالية في تذكر رؤية الزجاج المكسور في مسرح الحادث، رغم أنه لم يكن هناك — في واقع الأمر — أي زجاج مكسور في الفيلم. أما أولئك الطلاب الذين لم يُطرح عليهم سؤال السرعة قبلًا فكانوا الأقل احتمالية في تذكر رؤية الزجاج المكسور، عندما سُئلوا عن هذا بعد أسبوع.

في دراسةٍ أخرى، عرضت لوفتس مجددًا على المشاركين فيلمًا لحادثة مرورية. هذه المرة سألت بعض المشاركين: «كم كانت سرعة السيارة الرياضية البيضاء عندما مرت بالحظيرة في أثناء سيرها على الطريق الريفي؟» في واقع الأمر، لم تكن هناك أية حظيرة في الفيلم. وبعد أسبوع، كان أولئك المشاركون الذين طُرح عليهم هذا السؤال هم الأكثر احتمالية في أن يقولوا إنهم يتذكرون رؤية حظيرة في الفيلم. حتى لو سئل المشاركون ببساطة: «هل رأيتم حظيرة؟» بعد فترة وجيزة من مشاهدة الفيلم، فسيكونون أكثر احتمالية — بعد أسبوع — في «تذكر» رؤيتها.

استخلصت لوفتس من هذه النتائج أن تمثيل الذاكرة لحدث يمكن أن يتغير بسبب التقديم اللاحق لمعلومات مضللة. ومع هذا، فقد جادل بعض الباحثين بأن المشاركين في هذه الدراسات كانوا ببساطة يجيبون وفق ما كان متوقعًا منهم، تمامًا مثلما سيقدم الطفل الإجابة التي يعتقد أنها متوقعة منه، بدلًا من أن يقول إنه «لا يعرف». إلا أن لوفتس واصلت عملها لإيجاد دليل أكثر إقناعًا تدعم به استنتاجها.

عرضت لوفتس وزملاؤها مجددًا على المشاركين حادثة مرورية، ولكنها كانت هذه المرة في سلسلة من الشرائح. أظهرت الحادثة سيارة داتسون حمراء تنعطف عند تقاطع طرق وتصدم أحد المشاة، ولكن مجموعة من المشاركين (١) رأت السيارة تتوقف أولًا عند علامة «قف»، في حين أن مجموعة أخرى (٢) رأتها تتوقف عند علامة «أولوية المرور». كان السؤال الحاسم هذه المرة هو: «هل تجاوزت سيارة أخرى الداتسون الحمراء خلال توقفها عند علامة التوقف؟» أو «هل تجاوزت سيارة أخرى الداتسون الحمراء خلال توقفها عند علامة أولوية المرور؟» بالنسبة إلى نصف المشاركين في كل مجموعة، استُخدمت كلمة «قف»، وبالنسبة إلى النصف الآخر من المشاركين في كل مجموعة، استُخدمت كلمة «أولوية المرور». استقبل نصف المشاركين من كل مجموعة معلومات تتطابق مع ما رأوه في الحادثة، في حين استقبل النصف الآخر من كل مجموعة معلومات مضللة.

بعد عشرين دقيقة، عُرض على المشاركين أزواج من الشرائح، حيث تُظهِر شريحة واحدة من كل زوج من الشرائح ما رأوه بالفعل بينما كانت الأخرى مختلفة بعض الشيء. كان على المشاركين اختيار أدق شريحة من كل زوج. أظهر أحد أزواج الشرائح السيارة تتوقف عند علامة «قف» بينما أظهرتها الشريحة الأخرى تتوقف عند علامة «أولوية المرور». اكتشف الباحثون أن أولئك المشاركين الذين طُرِح عليهم قبلًا السؤال المتطابق مع ما رأوه في الشرائح الأصلية كانوا الأكثر احتمالية في اختيار الشريحة الصحيحة عندما طُلب منهم اختيار الشريحة الأدق، بعد عشرين دقيقة. على النقيض من ذلك، كان أولئك المشاركون الذين طُرح عليهم قبلًا سؤال مضلل هم الأكثر احتمالية في اختيار الشريحة الخطأ عندما طُلب منهم اختيار الشريحة الأدق، بعد عشرين دقيقة. على الرغم من صعوبة تقييم هذه النتيجة بعض الشيء، فإنها تشير إلى أن بعض المشاركين كانوا «يتذكرون» بالفعل طبقًا للمعلومات التي قُدِّمت إليهم من خلال علامة «قف» أو «أولوية المرور» عقب الحدث، بدلًا من الالتزام ببساطة بما كان متوقعًا منهم، حسبما اقترح بعض معارضي لوفتس سابقًا (لأن كل مشارك أصبحت أمامه الآن إجابتان معقولتان بالتساوي ليختار من بينهما في وقت الاختبار).

لهذه الاكتشافات أهمية كبرى في تقنيات الاستجواب التي يستخدمها ضباط الشرطة والمحامون والقضاة وغيرهم من العاملين في المنظومة القضائية. وعلى النقيض من هذا، تشير بعض النتائج الأخرى إلى أن الذاكرة — تحت ظروف معينة — يمكن أن تعمل بطريقة «لا» تدمج بشكل صحيح (كما يجب) المعلومات اللاحقة وثيقة الصلة. تدل هذه المجموعة المُكمِّلة من الأبحاث على أنه رغم أن الناس قد تتذكر تصحيحات للمعلومات الخاطئة السابقة، فإنهم مع هذا قد يواصلون اعتمادهم على المعلومات المشكوك فيها (كما لوحظ في الأبحاث المعملية التي أجراها ليفاندوفسكي وزملاؤه). بالنظر إلى أمثلة لهذه الظاهرة من العالم الواقعي، تأمل الآتي: بعد عام تقريبًا من غزو العراق في ٢٠٠٣، لم يزل ٣٠٪ من المجيبين عن استطلاع أمريكي يصدقون أنه تم العثور على أسلحة دمار شامل في هذا البلد. وبعد عدة شهور من إعلان الرئيس جورج بوش انتهاء الحرب على العراق (في مايو ٢٠٠٣)، صدق ٢٠٪ من الأمريكيين أن العراق استخدمت أسلحة كيميائية أو بيولوجية في المعركة خلال النزاع. لهذا، ففي بعض المواقف، يبدو أن هناك احتفاظًا بالمعلومات الخاطئة في الذاكرة، وهي ظاهرة يمكن أن تكون لها أيضًا عواقب اجتماعية خطيرة. إن الاستفاضة في وصف الظروف البيئية التي تجعلنا ميالين إما إلى (١) تحيز الذاكرة الاسترجاعي الخاطئ (الذي عرَّفته لوفتس وزملاؤها) أو (٢) الفشل غير الملائم في دمج المعلومات وثيقة الصلة المقدمة عقب الحدث الأصلي (الذي عرفه ليفاندوفسكي وزملاؤه) تمثل تحديًا مهمًّا للأبحاث المستقبلية.

«خطايا الذاكرة السبع»، كما يقترحها دان شاكتر

اقترح دان شاكتر أن خلل وظائف الذاكرة يمكن تقسيمه إلى سبعة انتهاكات أو «خطايا» أساسية:

شرود الذهن: تعطُّل في الصلة البينية بين الانتباه والذاكرة، بدلًا من فقدان المعلومات بمرور الوقت، فإننا إما لم نسجل المعلومة أساسًا، أو أننا لا نبحث عنها عند الحاجة إليها؛ لأن انتباهنا يتركز في مكان آخر.
سرعة الزوال: ضعف أو فقدان في الذاكرة بمرور الوقت؛ ولهذا نستطيع أن نتذكر ما فعلناه اليوم، ولكننا على الأرجح سننساه خلال شهور قلائل بسبب تلاشيه.
التعطل: بحث لا طائل منه عن معلومات قد نحاول استرجاعها باستماتة. تعتبر ظاهرة «طرف اللسان» مثالًا لهذا الخلل.
خطأ نسَب المعلومة: عزو الذاكرة إلى مصدر خطأ؛ ولهذا قد تسمع عن شيء في التلفاز، ولكنك تتذكر لاحقًا بشكل خاطئ أن المعلومة قد وصلتك عن طريق زميل في العمل.
الإيحاء: الذكريات الراسخة نتيجة للإيحاءات والتعليقات والأسئلة الموجهة، وبالاشتراك مع خطأ نسَب المعلومة، فإنه يمكن أن يسبب مشكلات خطيرة في سياق جنائي.
التحيز: التأثير القوي لمعرفتنا ومعتقداتنا الحالية على كيفية تذكرنا لماضينا؛ ولهذا نحرِّف بشكل لاواعٍ الأحداث الماضية أو المادة المكتسبة في ضوء منظورنا الحالي، وفي محاولاتنا لتقديم أنفسنا للآخرين في ضوء إيجابي.
الإلحاح: الاسترجاع المتكرر لمعلومات أو أحداث مزعجة نُفضِّل أن نقصيها عن عقولنا، يمكن أن يتنوع هذا ما بين خطأ محرج في العمل وتجربة صادمة بشدة (كما في اضطراب ما بعد الصدمة).

هوامش

(1) © 2007 TopFoto.
(2) © iStockphoto.
(3) © Aspix/Alamy.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤