تأثير ابن أبي ربيعة في شعراء اللغة العربية

عرف القارئ كيف أثَّر عمر بن أبي ربيعة في شعراء عصره، وكيف حملهم على الاعتراف بتفوقه عليهم في مذاهب النسيب، فمن الخير أن نعرف كيف أثر فيمن خلَفه من الشعراء.

وإنما عيَّنا من خَلف من بعده؛ لأنه غلب على شعراء عصره، فأضاف إليه الرواة أكثر القصائد التي وُسِمَت بميسمه، وطُبِعَتْ بطابعه، في حوار المِلاح.

وكان طبيعيًّا أن نحاول معرفة من تأثر به ابن أبي ربيعة من القدماء، وإن كنا قد ألمعنا إلى ذلك في المحاضرة الثالثة، فلنذكر الآن أنه تأثر بامرئ القيس؛ فجاراه في الحديث عن حوادث الليل، ومدافعة الأحراس، ومطاوعة الصبا والحب في هَصر أعواد الحسان.

وفي الحق أن أكثر ما مرَّ من شعر ابن أبي ربيعة يذكرنا في الغرض والأسلوب بقول امرئ القيس:

وبيضة خِدرٍ لا يرامُ خِباؤها
تمتَّعت من لهو بها غير مُعجَلِ١
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا
عليَّ حِراصًا لو يُسرُّون مقتلي٢
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
تعرُّض أثناء الوشاح المفصَّل٣
فجئت وقد نضَت لنوم ثيابها
لدي السِّتر إلا لِبسة المتفضلِ٤
فقالت: يمين الله ما لك حيلةٌ
وما إن أرى عنك الغواية تنجليِ٥
خرجت بها أمشي تجرُّ وراءنا
على أثَرَيْنا ذيل مِرطٍ مرحَّل٦
فلما أَجزنا ساحة الحي وانتحت
بنا بطن خَبْت ذي حِقاف عقنْقَلِ٧
هصرت بفودَىْ رأسها فتمايلت
عليَّ هضيم الكشح ريَّا المخلْخَلِ٨
مهفهفةٌ بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولةٌ كالسجنجلِ٩
كبكر المقاناة البياض بصُفرةٍ
غذاها نمير الماء غير المحللِ١٠
تصدُّ وتبدي عن أَسيل وتتقي
بناظرة من وحش وجرة مطفِلِ١١
وجيد كجيد الريم ليس بفاحشٍ
إذا هي نصته ولا بمعطَّلِ١٢
وفرع يزين المتْنَ أسود فاحمٍ
أثيث كقنو النخلة المتعثكلِ١٣
غدائره مستشزرات إلى العُلى
تضل المدَارَى في مثنًّى ومرسلِ١٤
وكشحٍ لطيفٍ كالجديل مخصَّرٍ
وساقٍ كأُنبوب السقيِّ المذللِ١٥
وتُضحي فتيت المسك فوق فراشها
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضلِ١٦
وتعطو برخص غير شثن كأنه
أساريع ظبي أو مساويك إسْحِلِ١٧
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة مُمْسَى راهب متبتل
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً
إذا ما اسبكرَّت بين درع ومجولِ١٨
تسلَّت عمايات الرجال عن الصبا
وليس فؤادي عن هواها بمنسلِ١٩
ألا رُبَّ خصم فيك أَلْوَى رددتهُ
نصيح على تعذاله غير مؤتل٢٠
فعلى هذا المنهج جرى ابن أبي ربيعة في محاكاة امرئ القيس، ولكن أستاذنا الدكتور طه حسين يعكس القضية؛ فيقرر أن امرأ القيس هو الذي حاكى ابن أبي ربيعة، إذ يفترض أن شعر امرئ القيس منحول، وضعه شاعر إسلاميٌّ تأثر بعمر بن أبي ربيعة فحاكاه، وأجاد المحاكاة والتقليد، وعنده أن هذا النحو من القصص الغراميِّ في الشعر هو فن عمر بن أبي ربيعة قد احتكره احتكارًا، ولم ينازعه فيه أحد، وأن من الغريب أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن، ويتخذ فيه هذا الأسلوب، ويُعرف عنه هذا النحو، ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بامرئ القيس، مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء الوصف، وأنه يبعد أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة، والذي كوَّن شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يُعرف له ذلك.٢١
وقد يُلاحظ أن ابن أبي ربيعة أذاع في شعراء عصره فكرة تَقَارُض المودة بين المحبين، وأظهر ما يكون ذلك في شعر العرجي،٢٢ إذ يقول:
وما أنْسَ مِلْأشياء لا أنس موقفًا
لنا ولها بالسَّفح دون ثبير٢٣
ولا قولها وَهنًا وقد بلَّ جيبها
سوابقُ دمع لا يجفُّ غزيرِ٢٤
أأنت الذي خَبَّرتَ أنك باكرٌ
غداة غد أو رائح بهجيرِ؟٢٥
فقلت: يسيرٌ بعض شهر أغيبهُ
وما بعض يوم غبته بيسيرِ
أحين عصيت العاذلين إليكمُ
ونازعت حبلي في هواكِ أميري
وباعدني فيك الأقاربُ كلهم
وباح بما يخفي اللسان ضميري
وقلت لها قول امرئٍ شفَّه الهوى
إليها ولو طال الزمان فقير:
فما أنا إن شطَّت بك الدار أو نأتْ
بيَ الدار عنكم فاعلمي بصبورِ

ولنرجع فنذكر أننا بحثنا طويلًا عن شاعر سَلَك مسلك عمر بن أبي ربيعة في مخاطبة النساء، فلم نجد من يقاربه غير بشار بن برد، الذي شهد آخر أيام بني أمية وصدر دولة بني العباس، ففي شعر بشار قرب من منهج ابن أبي ربيعة في محاورة الغواني والتودد إلى المِلاح، وفيه كذلك تأنُّق في وصف الجوانب الحِسِّية من المرأة المجدولة الخلْق، المشرقة الجبين، وهو الذي يقول:

وبيضاء يضحك ماء الشبا
ب في وجهها لك إذ تبتسم
رواء العذارى إذا زرنها
أطَفْنَ بحوراءَ مثل الصنم
يَرُحن فيمسَحْن أركانهَا
كما يمسح الحجَر المستلمِ

وفي هذا الشعر على يُسْره وسهولته نفحة من عبادة الجمال، وهو يذكرنا بقوله من كلمة ثانية:

تُلقَى بتسبيحة من حُسن ما خُلقت
وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد
كأنَّما صُوِّرت من ماء لُؤلؤةٍ
فكل جارحةٍ وجه بمرصاد

وقوله من كلمة أخرى يتحدث فيها عن ليلة وصل:

ومُرْتجَّة الأرداف مهضومة الحشا
تمور بسحرٍ عينها وتدورُ
إذا نظرت صبَّت عليك صبابةً
وكادت قلوب العالمين تطيرُ
خلوت بها لا يخلص الماء بيننا
إلى الصبح دوني حاجب وستور

وذكر صاحب «زهر الآداب» أن بشارًا لما قال:

لا يؤيسنَّك من مخبَّأة
قولٌ تغلِّظه وإن جرحا
عُسر النساء إلى مياسرة
والصعب يمكن بعدما جمحا

بلغ ذلك المهديَّ فغاظه، وقال: يحرِّض النساء على الفجور، ويسهِّل السبيل إليه! فقال له خاله يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، قد فتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تصبو إلى مثل قوله:

عجبت فطمة من نعتي لها
هل يُجيد النعت مكفوف البصر؟!
بنت عشر وثلاث قسمت
بين غصن وكثيب وقمر
دُرَّةٌ بحريةٌ مكنونةٌ
مازها التاجر من بين الدرر
أذرت الدمع وقالت: ويلتي
من وَلوع الكف ركاب الخطر
أُمَّتا بدَّد هذا لُعبي
ووشاحي حلَّه حتى انتثر
فدعيني معه يا أُمَّتا
علَّنا في خلوة نقضي الوطر
أقبلت في خلوة تضربها
واعتراها كجنون مُستعر
بأبي والله ما أحسنه
دمعُ عين غسل الكحل قطر
أيها النُّوام هُبُّوا ويحكم
وسلوني اليوم: ما طعم السهر؟

فأمره المهدي ألا يتغزل، فقال أشعارًا في ذلك، منها هذه التائية:

يا منظرًا حسنًا رأيْتُهْ
من وجه جارية فديتهْ
لَمَعَت إليَّ تسومني
ثوب الشباب وقد طويته٢٦
والله ربِّ محمدٍ
ما إن غدرت ولا نويتهْ
أمسكت عنك وربما
عرض البلاء وما ابتغيته
إن الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئًا أبيته
ويشوقني بيت الحبيـ
ـب إذا غدوت وأين بيته؟!
قام الخليفة دونهُ
فصبرت عنه وما قليته
ونهانيَ الملك الهما
مُ عن النساء فما عصيته
لا بل وفيت ولم أضع
عهدًا ولا رأيًا رأيته

وفي الحق أننا نجد في القصيدة الأولى شبهًا قويًّا بشعر عمر بن أبي ربيعة، وإنه ليحاكيه حتى في التغزل بنفسه والتحدث عن أسْره لقلوب النساء، ولو بقي شعر بشار لاستطعنا التثبُّت مما نراه من التشابه بين شعر هذين الشاعرين، ولكن شعر بشار ضاع فلم يبق إلا الاعتماد على تلك الشواهد الضئيلة في تأييد ما ذهبنا إليه، وإن كنا على يقين من أن لهذا الرأي حظًّا من الصحة غير قليل.

والخلاصة أننا لا نجد شاعرًا بعد عمر بن أبي ربيعة وقف حياته وشعره على التشبيب بالنساء، وإن كنا لا ننكر أن كثيرًا من الشعراء نحوا منحاه في القصص الغرامي، وإن لم يعرفوا بذلك، فإنَّا لا نشك في أن الأبيوردي حاكاه حين قال:

تَنوَّرْ سناها من بعيد ولا تُرعْ
فليس على من آنس النار من باسِ
ومن مُوقديها غادةٌ دونها الظُّبَى
تلوح بأيدي غِلمة غير أنكاسِ٢٧
وكل رُدينيٍّ كأن سنانه
يعط رداء الليل عنهم بنبراسِ٢٨
مهفهفةٌ غَرْثي الوشاحين دونها
تحرُّش عذال ورقبة حراس
يضيء لها وجهٌ يرقُّ أديمهُ
فما ضرَّها لو رقَّ لي قلبها القاسي
سموت لها والليل حارت نجومه
على أُفق عارٍ بظل الدُّجى كاسي
فهبَّت كما ارتاع الغزال وأوجست
من ابن أبيها خيفةً أيَّ إيجاسِ
تشير إلى مُهري حِذَار صهيلهِ
وتستكتم الأرض الخُطى خشية الناس
فقلت لها: لا تفرقي وتشبثي
بنَهَّاس أقران ومناع أخياسِ٢٩
ترد يديه عن وشاحك عفةٌ
وعرض صقيل لا يُزنُّ بأدناسِ٣٠
وطوَّقتها يُمنى يديَّ وصارمي
بيُسراي فارتاحت قليلًا لإيناسى
وذقت عفا عنَّا الإله وعنكمُ
جَنَى ريقةٍ تلهي أخاكم عن الكاسِ٣١
فلما استطال الفجر مال بعطفها
وداعى كما هز الصبا قُضُب الآسِ

ويمكن الحكم بأن أبا نواس جارى ابن أبي ربيعة في النسيب، لولا أنه غيَّر مجرى الحديث، فنقله من النساء إلى الغلمان، وجارى أبا نواس فريق من شعراء الأندلس، أشهرهم ابن خفاجة الذي يقول في وصف ليلة قضاها بين ضلال الهوى وجنون الصهباء:

وليلَ تعاطينا المدام وبيننا
حديثٌ كما هبَّ النسيم على الورد
نُعاوده والكأس يعبقُ نفحهُ
وأطيب منه ما نعيد وما نبدي
ونَقْلي أقاح الثغر أو سوسن الطلى
ونرجسة الأجفان أو وردة الخد٣٢
إلى أن سرت في جسمه الكأس والكرى
ومالا بعطفيه فمال على عضدي
فأقبلت أستهدي لما بين أضلعي
من الحر ما بين الضلوع من البرد
وعاينته قد سُلَّ من وشي بُرده
فعاينت منه السيف سُل من الغمد
لِيان مَجَسٍّ واستقامة قامةٍ
وهِزة أعطاف ورونق إفرندِ
أغازل منه الغصن في مغرس النقا
وألثم وجه الشمس في مطلع السعدِ
فإن لم يكنها أو تكنه، فإنه
أخوها كما قُدَّ الشراك من الجلد
تسافر كلتا راحتيَّ بجسمه
فطورًا إلى خصر وطورًا إلى نهدِ
فتهبط من كشحيه كفِّي تهامة
وتصعد من نهديه أخرى إلى نجدِ

(١) مصعب بن عبد الله الزبيري

وعدنا في مقدمة هذه الطبعة بكتابة فصل عن مصعب بن عبد الله الزبيري، الذي قدم شعر ابن أبي ربيعة إلى القدماء، وقد رأى القارئ أننا نقدناه في المحاضرة الثانية نقدًا رآه أستاذنا الدكتور طه حسين إلى الظلم أقرب منه إلى الإنصاف، فلنف بما وعدنا به، ولنحدد بعد ذلك رأينا في ذلك البحث الطويل الذي كتبه مصعب عن عمر، ورآه أستاذنا الدكتور طه من ذخائر الأدب القديم.٣٣

مصعب الزبيري هو ابن عبد الله بن مصعب أحد الشعراء المجيدين والخطباء المفوَّهين، الذين نادموا أوائل الخلفاء من بني العباس، وتولوا لهم أعمالًا، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة على أبي جعفر المنصور فيمن خرج من آل الزبير، فلما قتل محمد استتر إلى أن حج أبو جعفر المنصور، وأمَّن الناس جميعًا فظهر، وكان يُلقب «عائد الكلب» لقوله:

ما لي مرضت فلم يَعُدني عائدٌ
منكم ويمرض كلبُكم فأعود
وأشدُّ من مرضي عليَّ صدودكم
وصدودُ عبدِكُمُ عليَّ شديد

وذكر الربيع بن يونس أنه دخل على المهدي، وإذا هو يكتب على الأرض بفحمة قول عبد الله بن مصعب:

فإن يَحجُبوها أو يَحُلْ دون وصلها
مقالة واشٍ أو وعيد أمير
فلن يحجبوا عينيَّ من دائم البكا
ولن يُخرجوا ما قد أجنَّ ضميري
وما برح الواشون حتى بدت لنا
بطون الهوى مقلوبةً لظهور
إلى الله أشكو ما أُلاقي من الجوى
ومن نَفَس يعتادني وزفير
ويقول: أحسن والله عبد الله بن مصعب ما شاء.٣٤

ونعود إلى مصعب بن عبد الله، فنذكر أننا لم نَصِلْ إلى الوقوف على تفاصيل حياته الأدبية، وإنما عرفنا مما ينقل عنه صاحب «الأغاني» أنه كان من كبار الكتاب في القرن الثالث، وإليه يرجع الفضل في تدوين أكثر أخبار المغنين والشعراء، وعبارته نقية واضحة سليمة لا يشوبها تكلُّف ولا غموض، وله شعر جيد لم يبق منه إلا القليل، وفيه على نزارته دليل على أنه كان من المبدعين.

ويظهر مما قرأناه من أخباره المتفرقة أنه كان يعيش في جماعة لها حظ من المال والجاه والجمال، فكانت حياته لذلك فيها نفحة وجدانية لا يظفر بها إلا من استظلَّ بأعطاف الحسن الجامح والدَّلِّ الغَضُوب، كان متصلًا بأحمد بن هشام أخي علي بن هشام الذي كتب إليه إسحق الموصلي: جُعلت فداك، بعث إليَّ أبو نصر مولاك بكتاب منك إليَّ يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما أعرف من معانيه، لظننت أن الرسول غلط بي فيه، فما لنا ولك يا أبا عبد الله تَدَعُنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها ورجونا السلامة من شرها، أفسدتَ قلوبنا، وعلقتَ أنفسنا، فلا أنت تريدنا، ولا أنت تتركنا، فبأي شيء تستحل هذا؟ أما ما ذكرته من شوقك إليَّ، فلولا أنك حلفت عليه لقلت:

يا من شكا عبثًا إلينا شوقه
شكوى المحب وليس بالمشتاق
لو كنت مشتاقًا إليَّ تريدني
ما طِبت نفسًا ساعة بفراقي
وحفظتني حفظَ الخليل خليلهُ
ووفيت لي بالعهد والميثاق
هيهات قد حَدَثتْ أمورٌ بعدنا
وشُغلت باللذات عن إسحق
قد تركتُ — جُعلت فِداك — ما كرهتَ من العتاب في الشعر وغيره، وقلت أبياتًا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد،٣٥ وأستقبل الشَّمال، وأتنسم أرواحكم فيها، ثم يكون ما الله أعلم به، وإن كنت تكرهها تركتها إن شاء الله.
ألا قد أرى أن الثواء قليلُ
وأن ليس يبقى للخليل خليل
وإني وإن مُلِّيت في العيش حقبةً
كذي سفرٍ قد حانَ منه رحيل
فهل لي إلى أن تنظر العين مرةً
إلى ابن هشام في الحياة سبيل
فقد خفت أن ألقى المنايا بحسرة
وفي النفس منه حاجة وغليل

وقد تورط مصعب في صحبة هذه الجماعة ولحقه من تقلُّبها بعض الشر والسوء، حين وقعت الجفوة بين أحمد بن هشام وإسحق بن إبراهيم، فقد لقي أحمدُ مصعبًا فقال له: أما تستحي أنت وصباح بن خاقان المنقري، وأنتما شيخان من مشايخ المروءة والعلم والأدب أن يشيد بذكركما إسحق في شعره فيقول:

قد نهانا مصعبٌ وصبَاحٌ
فعصينا مصعبا وصباحا
عَذَلا ما عذلا ثم ملَّا
فاسترحنا منهما واستراحا

فقال له مصعب: إن كان قد فعل فما قال إلا خيرًا، إنما ذكر أننا نهيناه عن خمر شربها، أو امرأة عشقها، وقد أشاد باسمك في الشعر بأشد من هذا، قال: بماذا؟ قال بقوله:

وصافية تُعشي العيون رقيقة
رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهنًا
من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذَرَّ قرن الشمس حتى كأننا
من العِيِّ نحكي أحمد بن هشام

وكان صباح بن خاقان نديمًا لمصعب بن عبد الله، فقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن، وكان خليعًا من أهل البصرة:

من يكن إبطه كآباط ذا الخَلْـ
ـقِ فإِبطايَ في عداد الفِقاح٣٦
ليَ إبطان يرميان جليسي
بشبيه السلاح بل بالسلاح
فكأني من نتن هذا وهذا
جالسٌ بين مصعب وصباح

وقد ظل مصعب وفيًّا لإسحق الموصلي إلى أن مات، فرثاه بقصيدة بليغة نقتطف منها الكلمة الآتية:

أتدري لمن تبكي العيون الذوارفُ
وينهلُّ منها واكف ثم واكف
نعم لامرئ لم يبق في الناس مثله
مفيد لعلم أو صديق ملاطف
تجهز إسحقٌ إلى الله غاديًا
فلله ما ضمت عليه اللفائف
وما حملَ النعشَ المزجَّى عشية
إلى القبر إلا دامع العين لاهف
صدورهُم مَرْضى عليه عميدةٌ
لها أزمة من ذكره وزفازفُ٣٧

•••

ذهبت وخليت الصديق بعولةٍ
به أسف من حزنه مترادفُ
إذا خطَرَات الذكر عاودن قلبهُ
تتابع منهن الشئون النوازفُ
حبيبٌ إلى الإخوان يرزون مالهُ
وآت لما يأتي امرؤ الصدق عارفُ
هو المَنُّ والسَّلْوَى لمن يستفيدهُ
وسمٌّ على من يشرب السم زاعفُ
بكت داره من بعده وتنكرت
معالم من آفاقها ومعارفُ
هي الدار إلا أنها قد تخشَّعت
وأظلم منها جانب فهو كاسف
وقد كان فيها للصديق معرَّسٌ
وملتَمَسٌ إن طاف بالدار طائف

•••

سريعٌ إلى إخوانه برضائه
وعن كل ما ساء الأخلاء صارفُ
أرى الناس كالنسناس لم يبق منهم
خلافك إلا حشوةٌ وزعانف

آراء مصعب في النقد

كان مصعب من الكتاب والنقاد الممتازين، ولكن نقده لم يصل إلينا بطريقة تُفصِّل ما كان له من قواعد وأصول، فلم يبق إلا الاستئناس بما تفرق من آرائه؛ لنرى كيف كان يفهم الشعر، وكيف كان يحكم على الشعراء.

رأيناه يقضي في شعر العباس بن الأحنف وعمرو العراف، فيقرر أنهما «ما ابتذلا شعرهما رغبة أو رهبة، ولكن فيما أحباه، فلزما فنًّا واحدًا لو لزمه غيرهما ممكن يكثر إكثارهما لضعف فيه.»

وهذا نظر بعيد من مصعب، فإن الشاعر الذي يكثر في فن واحد، ويجيد مع الإكثار أولى بالتقدمة ممن يجيد في طائفة من الفنون، وفي كلامه تقدير لصدق العاطفة التي تعد أساسًا لجودة الشعر البليغ.

وقيل له: إن الناس يستبردون شعر العباس بن الأحنف، فقال: لقد ظلموه! أليس هو الذي يقول:

قالت ظَلومُ سَمِيَّةُ الظلم:
ما لي رأيتك ناحل الجسم؟
يا من رمى قلبي فأقصده
أنت العليم بموقع السهم

وهو في هذا يذكرنا بكثير من القدماء الذين كانوا يحكمون للشعراء، أو عليهم بشواهد من شعرهم من غير أن يبينوا مواطن الضعف ومواقع القوة، وكذلك كان يرى أبا العتاهية أشعر الناس إذ قال:

تعلقتَ بآمالٍ
طوال أيَّ آمال
وأقبلت على الدنيا
مُلِحًّا أيَّ إقبال
أيا هذا تجهَّز لـ
ـفراق الأهل والمال
فلا بد من الموت
على حال من الحال

ولعل أظهر آثار مصعب في النقد هو كلمته المطولة في خصائص شعر عمر بن أبي ربيعة، وقد تكلمنا عنها في المحاضرة الثانية، وأشار أستاذنا الدكتور طه في «حديث الأربعاء» إلى أننا أسرفنا في نقده، وأن مصدر هذا الإسراف أننا لم نقدر كما ينبغي اختلاف المُثل الأدبية باختلاف العصور والأجيال.

وهذا حق، إذ كان النقد يتأثر باختلاف الأذواق، وأنه لا يجب أن يرضينا ما كان يرضي أسلافنا من قبل، ولكن أليس في كلام مصعب بعد نقدنا له شيءٌ يستحق التقدير؟

لقد بحثت في ذلك طويلًا، فرأيت في كلمة مصعب ناحية لها حظ عظيم من الأهمية، وذلك أنه أراد التنويه بما أبدع ابن أبي ربيعة من التعابير، وأحدث من الصُّور؛ من ذلك تحيير ماء الشباب في قوله:

وهي مكنونةٌ تحيَّر منها
في أديم الخدين ماء الشباب

وغم الطير في قوله:

سراعًا نَغُمُّ الطير إن سنحت لنا
وإن تلقنا الركبان لا نتخبَّرِ

ومحالفته بسمعه وطرفه في قوله:

سمعي وطرفي حليفاها على جسدي
فكيف أصبر عن سمعي وعن بصري؟!

وإغلاقه رهن منًى وإهداره قتلاه في قوله:

فكم من قتيل ما يُباء به دمٌ
ومن غَلِقٍ رهنًا إذا لفَّه مِنى٣٨

وجنيه الحديث في قوله:

فاجتنينا من الحديث ثمارًا
ما جنى مثلها لعَمرُك جاني

وقياسه الهوى في قوله:

وقرَّبن أسباب الهوى لمتيم
يقيس ذراعًا كلما قِسْنَ إصبعا

وتشكِّيه الذي أشجى فيه إذ يقول:

لعمرك ما جاورت غُمدان طائعًا
وقصر شَعوب أن أكون به صبَّا٣٩
ولكنَّ حمَّى أضرعتني ثلاثة
مجرَّمة ثم استمرت بنا غِبَّا٤٠
وحتى لو أن الخُلد يعرض إِن مشت
إلى الباب رجلي ما نقلت لها إربا٤١
فإنك لو أبصرت يوم سُويقةٍ
مُناخي وحبسي العيس داميةً حُدبا٤٢
ومصرع إخوان كأن أنينهم
أنين مكاكي فارقت بلدًا خصبا٤٣
إذن لاقشعر الجلد منك صبابةً
ولاستفرغت عيناك من عبرة سكبا

وكلمة مصعب مثبتة في الجزء الأول من «الأغاني»، فليرجع إليها القارئ فقد يرى غير ما نراه.

(٢) الجوانب الجدية في حياة عمر بن أبي ربيعة

لقد أسلفنا القول في حب ابن أبي ربيعة وشعره، وقدمناه للقارئ في صورته التي ألفها الناس في حياته، وتمثلوها بعد مماته، فلم يبق إلا أن نقف قليلًا عند الجوانب الجدية من حياة ذلك الشاعر الغَزل الذي لم يره الناس إلا تِبْعَ نساء.

ولنُعِد مرة ثانية ما أشرنا إليه من قبل؛ فقد قلنا: إن كثيرًا من حوادثه الغرامية من صُنع الخيال، وقد قبلناه على علاته، واكتفينا بتلك الإشارة عند التمهيد لأخبار الملاح، إذ كانت حوادث ابن أبي ربيعة التي أضيفت إليه تدلنا على شيئين: فهي أولًا علامة على أن المتقدمين أَنِسُوا بروحه، وأسلموا قلوبهم لوحيه، فأبدعوا في ظِلال ذكراه ما شاء الخيال من أحاديث الحب الظافر، والهوى الغلاب. وهي ثانيًا دليلٌ على أنه كان للمتقدمين مَيلٌ إلى القَصَص الغرامي وحظ من الإجادة فيه، فكان من الخير أن نستغِلَّ تلك الباكورة القَصصية، ونحن نتحدث عمن هَوى هذا الشاعر من حسان النساء.

ومن العجيب أنه لم يلتفت أحد من القدماء ولا المُحدَثين إلى حياة هذا الشاعر الجدية، ولم يخطر ببال باحث منهم أن الدنيا في أحداثها وتصاريفها وأعاجيبها قد تكون ألأم من أن تسمح لشاعر بأن يظل عمره يمرح ويلعب في ميادين الحب، وملاعب الجمال.

لقد عاش ابن أبي ربيعة سبعين سنة، وقد حدثونا أنه ودَّع لهوه وهواه بعد الأربعين، فيا ليت شعري كيف قضى الثلاثين الباقية، على فرض أنه أمضى أربعينه الأولى ناعم القلب، وادع الروح؟ ثلاثون سنة بلا لهو ولا عبث، ولا تذكُّر ولا الْتِياع!

هذا والله كثير على شاعر روَّى شبابه بصهباء الرُّضاب، وقضى فوق ترائب المِلاح ليالِيَ وأيامًا كانت كل لحظةٍ فيها خيرًا من ألف سنة مما تعدون!

أصحيح أن ابن أبي ربيعة لم يقل كلمة واحدة في بكاء شبابه، والتوجُّع من مشيبه، وأنه ودَّع الشعر وداعًا أبديًّا بعد الأربعين؟ أم كانت له مواقف شعرية لها لونٌ غير اللون المشرق، وأن الرواة نسوها أو تناسوها؛ لأن هواهم كان يقضي ببقاء تلك الشخصية الجذابة في مرَحها ولهوها؛ لِتظل متعة بين نكت السمر، وأطايب الحديث؟

نحن إذن لا نعرف شيئًا عن الفصل الأخير من تلك الرواية؛ لأنهم أسدلوا الستار بعد انقضاء الفصل الثاني حين حلف الشاعر لا يقول بيتًا إلا أعتق رقبة، فلنبحث أكان الفصل الأول الذي مثَّل لنا الشاعر وهو يعبث في مناسك الحج صحيحًا في جملته، أم كان فصلًا غير محكم الوضع، ولا متقَن التصوير، أراد واضعه أن يبرز ما فيه من الجوانب الغرامية، وأن يغفل الجوانب الجدية، لحاجة في نفس يعقوب؟!

•••

أكتب هذا وأنا أذكر كلمة الثريا، وقد توسل إليها رسول عمر أن تعطف عليه، فقد قالت: ابن أبي ربيعة فارغٌ ونحن في شُغل.

وهي كلمة نقرؤها باسمين؛ لأنها كلمة نسائية مألوفة من ربات الحِجال، فإنه إذا فرغ عمر وشغلت الثريا فقد حق لنا أن نرتاب فيما نُسب إليه من الفراغ!

ومن العجيب أن هذا الشاعر الذي اتفق القدماء والمحدثون على فراغه وبطالته هو صاحب هذا البيت:

كُتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جز الذيول

وهو بيت عميق الأثر في النفوس العربية، وطالما كان لهبًا تَقْبِسُ منه عزائم الثائرين. وهو كذلك صاحب هذين البيتين:

ليت هندًا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرةً واحدةً
إنما العاجز من لا يستبد

والقارئ يعلم أن خصوم البرامكة دسُّوا إلى الرشيد من غنَّاه بهذا الشعر فثار بالبرامكة، ومزَّقهم كلَّ ممزق، بفضل روح عمر بن أبي ربيعة الذي ظنوا شعره بردًا وسلامًا، وفيه لو يعلمون أنفاس السَّعير!

ولقد حدَّثونا أن أخاه الحارث كان ينهاه عن قول الشعر فيأبى أن يقبل منه، وأنه أعطاه ألف دينار على ألَّا يقول شعرًا، فأخذ المال وخرج إلى أخواله بِلَحْج وأبين٤٤ مخافة أن يهيجه مُقامه بمكة على قول الشعر، فطرب يومًا فقال:
هيهات من أمةِ الوهاب منزلنا
إذا حللنا بسِيف البحر من عدن٤٥
واحتَّل أهلك أجيادًا فليس لنا
إلا التذكُّر أو حظٌ من الحزن٤٦
لو أنها أبصرت بالجزع عبرته
من أن يغرِّد قُمْرِيٌ على فَنن٤٧
إذن رأت غير ما ظنت بصاحبها
وأيقنت أن لحَجًا ليس من وطني
ما أنسَ لا أنس يَوم الخَيف موقفها
وموقفي وكلانا ثَمَّ ذو شجن
وقولها للثريا وهي باكية
والدمعُ منها على الخدين ذو سُنن٤٨
بالله قولي له في غير مَعتبة
ماذا أردت بطول المكث في يمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن

وأن القصيدة سارت حتى سمعها أخوه الحارث، فقال: هذا والله شعر عمر، قد فتك وغدر!

وأنا لا أصدق أن ابن أبي ربيعة ذهب إلى أخواله باليمن ليفر من نساء الحجاز، ولا أقبل أن يكون ابن أبي ربيعة قَبِل الرشوة من أخيه؛ ليتوب يومًا أو يومين قبل أن يموت!

فلا بد إذن أن يكون قد ذهب إلى اليمن في شأن من الشئون الجدية، ولكن ما هو هذا الشأن؟ نحن لا نعرفه لأن الرواة لم يحدثونا عنه، إذ كان من هواهم أن يخترعوا لهذه القصيدة سببًا طريفًا يضاف إلى ما له من شهيِّ الأقاصيص.

وقد حدثنا صاحب «الأغاني» أن مسعدة بن عمرو أخرج عمر بن أبي ربيعة إلى اليمن في أمر عرض له، وتزوجت الثريا وهو غائب، فليتنا نعلم أي غرض هذا الذي أخرج من أجله عمر بن أبي ربيعة إلى اليمن؟

فقد يكون أنشأ هذه النونية في هذه السَّفْرة، إن لم يكن ذهب إلى اليمن مرتين لغرضين مختلفين.

على أن صاحب «الأغاني» ذكر في أخبار جميلة أنها لما قضت حجها سألها المكيون أن تجعل لهم مجلسًا، فقالت: للغناء أم للحديث؟ قالوا: لهما جميعًا، فقالت: ما كنت لأخلط جِدًّا بهزل، وأبت أن تجلس للغناء، فقال عمر بن أبي ربيعة: أقسمت على من كان في قلبه حبٌّ لاستماع غنائها إلا خرج معها إلى المدينة، فإني خارج، فعزم جماعة من الأشراف والشعراء على الخروج، فلما قدمت المدينة تلقاها أهلها وأشرافها من الرجال والنساء، فلما دخلت منزلها وتفرق الجمع إلى منازلهم، ونزل أهل مكة على أقاربهم وإخوانهم أتاها الناس مسلِّمين، فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء، وقالت لعمر بن أبي ربيعة: إني جالسة لك ولأصحابك، وإذا شئت قعد الناس لذلك اليوم، فغصَّتِ الدار بالأشراف من الرجال والنساء، فابتدأت جميلة فغنَّت:

هيهات من أمة الوهاب منزلنا
إذا حللنا بسِيف البحر من عدن

فضج القوم من حسن ما سمعوا، ودمعت عينا عمر حتى جرى الدمع على ثيابه ولحيته، وما رأوه كذلك من قبل.

وهذه القصة تدلنا على أن ابن أبي ربيعة كان لا يزال يلهو، ويتبع النساء بعد قصيدته التي قالها في اليمن شوقًا إلى الحجاز، فلم يكن إذن بالرجل الذي يقبل الرشوة من أخيه ليودع قرة عينه في الحياة!

•••

وهناك فرض آخر لتوبة ابن أبي ربيعة، فقد ذكروا أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم تكن له همة إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص، فكتب إلى عامله على المدينة:

قد عرفت عمر والأحوص بالخبث والشر، فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما واحملهما إليَّ.

فلما أتاه الكتاب حملهما إليه فأقبل على عمر فقال له: هِيهِ!

فلم أر كالتجمير منظر ناظرٍ
ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
وكم مالئٍ عينيه من شيءِ غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدُّمى

فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يُفلتون؟ أما والله لو اهتممت بأمر حجك لم تنظر إلى شيء غيرك، ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أو خير من ذلك، قال: وما هو؟ قال: أعاهد الله أن لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبدًا، وأجدد توبةً على يديك، قال: أوتفعل؟ قال: نعم، فعاهد الله على التوبة وخلاه.

ولم تقف قصة هذا الشعر عند عمر بن عبد العزيز، فقد ذكروا أيضًا أن سليمان بن عبد الملك حج وهو خليفة، فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: ألست القائل:

وكم من قتيل ما يُباء به دمٌ
ومن غَلِقٍ رهنا إذا لفَّه مِنَى

قال: نعم، فقال: لا جَرَم، والله لا تحضر الحج مع الناس هذا العام، وأخرجه إلى الطائف.

أفكان هذا الشعر بعينه شُؤمًا على صاحبه إلى هذا الحد؛ فَيُمنع من الحج مرة، وينفى مرة؟!

أما أنا فأستبعد ذلك، وأرجح أن أنصار بني أمية أرادوا أن يبالغوا في وصف خلفائهم بالحزم والغيرة على الحرمات، فصوروا ابن أبي ربيعة طريدًا لعبد الملك بن مروان٤٩ وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.

وهذا ليس بغريب في بابه؛ فقد اخترع أشياع عمر بن الخطاب حكايةً جازت على الناس إلى اليوم، حتى أدخلها شاعرنا حافظ بك إبراهيم في قصيدته العمرية، وهي حكاية نصر بن حجاج، إذ زعموا أن عمر سمع امرأة تتغنى في هدأة الليل:

هل من سبيل إلى خمر فأشربَهَا
أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجَّاج

فغضب وطلب نصر بن حجاج، فإذا هو فتى وسيم الوجه، أجمل ما فيه شَعره، فأمرَ أن يُحلق لتُتَّقى فتنته، ولكنه نظر فإذا هو أفتن الناس وهو حليق، فأمر بنفيه من المدينة!

وأنا لا أشك في أن هذا من حديث خرافة، فما كنت لأصدق أن عمر بن الخطاب يفرغُ لهذه السفاسف، أو ينفي فتًى لا ذنب له إلا أنه جميل، وهو يعلم أنه ينقل فتنته إلى غير المدينة من أمصار المسلمين.

•••

وقد استقصيت أخبار عمر بن أبي ربيعة لأحدد ما كان في حياته من الجوانب الجِدية، فرأيت مثلًا أنه كان يشتغل بالدفاع عن قومه بني مخزوم، وأنه كان يقارع خصومهم، وله في ذلك حديثه المشهور يوم نازع اللهبي في المسجد الجامع،٥٠ ورأيت أيضًا أنه كان حريصًا مسرفًا في الحرص على الاستبداد بالحياة الأدبية؛ فكان يعارض جميلًا وجريرًا والفرزدق والأحوص ومالك بن أسماء، وهذا نوع من الجد لو دوِّنت أخباره لكان أمتع وأنفع من أخباره في أيام الطواف، ورأيت كذلك أنه تزوج غير مرة، وكان له بنون وبنات، وهذه شئون جِدُّها جِدٌّ، وهزلها جِدٌّ، لو عُني بها الرواة لأَرونا كيف كان يقابل هذا الشاعر مصاعب الحياة.

وقد مرت بالقارئ إشارات إلى مواقفه مع جميل والفرزدق ونُصيب وكُثيِّر، وله معهم حديث آخر سيجيء في باب المُلح والفكاهات، فلنذكر هنا حديثه مع مالك بن أسماء، فقد كان مفتونًا بشعره، وكان يتشوق إليه منذ سمع قوله:

إن لي عند كل نفحة بستا
نٍ من الورد أو من الياسمينا
نظرةً والتفاتةً أتمنَّى
أن تكوني حللت فيما يلينا

فلما تلاقيا وتعارفا وتناشدا قال له عمر: ما أحسن شعرك لولا أسماء القرى التي تذكرها فيه، قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قولك:

إن في الرفقة التي شيَّعتنا
بجوير يسما لزينَ الرِّفاقِ

ومثل قولك:

حبذا ليلتي بتلِّ بَوَنَّا
حيث نُسقى شرابنا ونُغنَّى

فقال له مالك: هي قرى البلد الذي أنا فيه، وهو مثل ما تذكره في شعرك من أرض بلادك: قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قولك:

حيِّ المنازل قد دثرن خرابا
بين الجوين وبين ركن كسابا

ومثل قولك:

ما على الرسم بالبُليَّين لو بيْـ
ـيَنَ رجع السلام أو لو أجابا

وفي هذا الحديث نحوٌ من الجد في نقد الشعر، ونظن أنه كانت له اتجاهات أدبية في النقد لم يدونها الرواة، إذ صرفوا همهم إلى حياته الغرامية.

قلت: إنه تزوج غير مرة، وكان له بنون وبنات، فلأذكر أني لم أستطع التثبت من عدد زوجاته ولا أبنائه؛ لأن الرواة أغفلوا الإفاضة في هذا الجانب من حياته الجدية، فلم يبينوا كيف كان يعامل زوجاته، ولا كيف كان يربي أولاده، ولا كيف كان يتصرف في تثمير أمواله، وتقويم عبيده وإمائه، ولم يعينوا «الحوائج» التي ذكروا في غير موطن أنه كان يعتمد في قضائها على الخلفاء.

ومع أن الرواة حدثونا أنه هجر الشعر بعد الأربعين، فقد حدثونا أيضًا أنه نظر في الطواف إلى امرأة شريفة، فرأى أحسن خلق الله صورة، فذهب عقله عليها وكلمها فلم تجبه، فقال فيها شعرًا جزعت منه فقيل لها: اذكريه لزوجك فإنه سينكر عليه قوله، فقالت: كلا والله، لا أشكوه إلا إلى الله، ثم قالت: اللهم إن كان نوه باسمي ظالمًا فاجعله طعامًا للريح، فاستجيبت دعوتها إذ غدا يومًا على فرس فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة، فعصفت الريح فخدشه غصن منها فدمِيَ وورم به ومات من ذلك، والاختلاق ظاهر في هذا الحديث.

ومن الرواة من حدَّث أنه مات في غزوة، والعجيب أن تدون حوادثه الغرامية بما رأى القارئ من التفصيل، ولا يتفق الرواة في حديثهم عن وفاته. أفنراهم أنصفوا يوم رأوا الموت غير خليق بعناية الأحياء؟!

هوامش

(١) بيضة الخدر: كناية عن العقيلة المخدرة المحجبة. غير معجل: غير مضطر إلى العجلة.
(٢) الأحراس والحراس معناهما واحد. حراص: جمع حريص. يسرون مقتله: يضمرونه.
(٣) الوشاح: أديم عريض يرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحها. والمفصل: هو المرصع بالذهب أو الزبرجد.
(٤) نضت ثيابها: نزعتها. والمتفضل هو الذي يلبس ثوبًا واحدًا حين يأوي إلى فراشه.
(٥) ما لك حيلة: هي كلمة نسائية يراد بها الدعابة لا التحقير.
(٦) المرط: كساء من صوف أو خز. المرحل: الذي فيه صور رحال، كالمشجر، وهو: الذي يحمل صور الأشجار.
(٧) جزت المكان وأجزته وجاوزته وتجاوزته: قطعته وخلَّفته. انتحت: قصدت. الخبت: الفضاء الواسع. الحقاف والأحقاف: جمع حقف، وهو: نقا يعوج ويدق. العقنقل: الوادي العظيم والكثيب المتراكم.
(٨) هصرت فوديها وبفوديها: أملتها إليَّ. والفودان: جانبا الرأس. هضيم الكشح: دقيقة الخصر. ريا المخلخل: بضة الساق. والمخلخل: موضع الخلخال.
(٩) مهفهفة: ضامرة البطن. غير مفاضة: غير مسترخية اللحم، واسترخاء اللحم من عيوب النساء. الترائب: موضع القلادة من الصدر. السجنجل: المرآة المجلوة.
(١٠) المقاناة: الخلط، تقول: قوني بياضها بصفرة، أي خلط، والشاعر يشبه خليلته ببيضة النعام لأول عهدها بمزج الصفرة بالبياض. نمير الماء: صافيه. المحلل: الذي كدرته الإبل، وهذا البيت يذكرنا بابن أبي ربيعة إذ يصف معشوقاته كثيرًا بالترف ولين العيش.
(١١) أسيل: رقيق، صفة لموصوف محذوف هو الخد. وجرة: مرب للوحش بين مكة والبصرة، قال بعض الأعراب:
وفي الحيرة الغادين من بطن وجرة
غزال أحم المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى
ولكنَّ من تنأين عنه غريب
ومطفل: ذات طفل: يريد أن نظرتها فيها عطف وحنان.
(١٢) الجيد: العنق. الريم: الظبي. نصته: رفعته. ومعطَّل وعاطل: لا حلية فيه.
(١٣) الفرع: الشعر. المتن: الظهر. فاحم: شديد السواد. أثيث: غزير. متعثكل: ذو عثاكيل، وهي في النخيل كالعناقيد في الأعناب.
(١٤) الغدائر: خصل الشعر. مستشزرات: مرتفعات. المدارى: الأمشاط.
(١٥) الجديل: الوشاح. مخصر: دقيق. السَّقِيِّ على وزن غَنِيِّ: نبات يسقى كثيرًا، ويسمى: البردي. المذلل: اللين.
(١٦) لم تنتطق: لم تلبس المنطق أو النطاق، وهو: شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها فترسل الأعلى على الأسفل، وينجر الأسفل على الأرض. والتفضل: لبس الثوب الواحد. وعن هنا بمعنى: بعد؛ أي: لم تلبس المنطق بعد المفضل، يريد أنها أصيلة الترف لم تكتس بعد عري.
(١٧) تعطو: تتناول. رخص: لين ناعم. شثن: خشن. أساريع: جمع أسروع، وهو: دود أبيض أحمر الرأس تشبه به الأنامل المخضبة الأطراف. وظبي: اسم واد. والأسحل: شجر يستاك به.
(١٨) اسبكرَّت: طابت واعتدلت. والدرع: القميص. والمجول على وزن منبر: ثوب تلبسه الفتاة، وتجول فيه قبل أن تخدر.
(١٩) منسل: سال.
(٢٠) خصم ألوى: عسر يلتوي على خصمه. غير مؤتل: غير مقصر.
(٢١) راجع ص٢٢٢ من «الأدب الجاهلي».
(٢٢) العرجي: هو عبد الله بن عثمان بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكان ينزل بعرج الطائف فنسب إليه.
(٢٣) ثبير: من جبال مكة.
(٢٤) الوهن: نحو من نصف الليل أو بعد ساعة منه.
(٢٥) يرى أستاذنا الدكتور طه حسين أنه لا يصح أن تقول: أنت الذي فعلت هذا، وإنما تقول: أنت الذي فعل هذا، فإن القرآن يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، ولا يقول: يا أيها الذين آمنتم، ونرى أنه لا مانع من أن تقول: أنت الذي فعلت هذا، بدليل قول العرجي هنا: «أأنت الذي خبرت»، وقول ابن الدمينة:
وأنت التي أخلفتني ما وعدتني
وأشمت بي من كان فيك يلوم
وقول كثير:
وأنت التي حببت شغبا إلى بدا
إليَّ وأوطاني بلاد سواهما
(٢٦) لمعت إليَّ: أشارت.
(٢٧) الأنكاس: جمع نِكس بالكسر، وهو: الضعيف.
(٢٨) الرُّديني: الرمح، نسبة إلى ردينة وهو رجل كان يثقف السلاح. يعط رداء الليل: يشقه، وقرئ: فلما رأى قميصه «عُطَّ» من دبر أي: قُدَّ. والنبراس: المصباح.
(٢٩) النهس في الأصل: أخذ اللحم بمقدم الأسنان، ومن أسماء الأسد النهاس. والأخياس: جمع خيس بالكسر، وهو: موضع الأسد.
(٣٠) لا يزن: لا يتهم.
(٣١) تقبل الله دعاء الشاعر وعفا عنا وعنه إنه سميع مجيب!
(٣٢) النَّقل: بالفتح ما يتناول على مائدة الشراب.
(٣٣) «حديث الأربعاء» ص١٤٠ ج٢.
(٣٤) راجع أخباره في الجزء العشرين من «الأغاني».
(٣٥) المربد بالكسر ثم السكون وفتح الباء: اسم موضع كان أهم أسواق البصرة، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وبه كانت مفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء، والمربد في الأصل: كل شيء حبست فيه الإبل، وأنشد الأصمعي:
بيت بأبواب القوافي كأنني
أصيد بها سربًا من الوحش نزعا
عواصي إلا ما جعلت وراءها
عصا مربد يغشى نحورًا وأذرعا
(٣٦) الفقاح: جمع فقحة، وهي: حلقة الدبر.
(٣٧) عميدة: مجروحة.
(٣٨) ما يباء به دم: لا يؤخذ له بثأر. وغلق الرهن في يد المرتهن: إذا لم يقدر الراهن على افتكاكه في الوقت المشروط.
(٣٩) غمدان: قصر باليمن كان من أعاجيب عصره، وقصر شعوب كذلك من قصور اليمن.
(٤٠) أضرعتني: أضعفتني وأذلتني. مجرمة: كاملة. والغب من الحمى: ما تأخذ يومًا وتدع يومًا.
(٤١) ما نقلت له إربا: ما حركت لها عضوًا.
(٤٢) حدب: جمع حدباء، وهي: الدامية التي تقوس ظهرها هزالًا.
(٤٣) المكاكي: جمع مكاء وهو طير يشبه القبرة أبلق الجناحين.
(٤٤) لحج وأبين: من مخاليف اليمن.
(٤٥) سِيف البحر بكسر السين: هو ساحله.
(٤٦) أجياد: موضع بمكة.
(٤٧) القُمْريُّ بضم القاف: ضرب من الحمام، والأنثى قُمْرِيَّةٌ، والجمع: قَمَارِىُّ.
(٤٨) ذو سنن: ذو طرائق.
(٤٩) وفد عمر على عبد الملك فأدخل عليه، فسأله عن نسبه فانتسب له، فقال:
لا أنعم الله بعين عينا
تحية السخط إذا التقينا
أنت لا أمَّ لك القائل:
نظرت إليها بالمحصَّب من مِنى
ولي نظر لولا التحرج عارم
فقلت: أشمس أم مصابيح بِيعة
بدت لك تحت السجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل
أبوها وإما عبد شمس وهاشم
ثم قال له: قاتلك الله فما ألأمك! أما كانت لك في بنات العرب مندوحة عن بنات عمك؟ فقال عمر: بئست والله هذه التحية يا أمير المؤمنين لابن العم على شحط الدار، وتنائي المزار.
وله مع عبد الملك موقف آخر أشرنا إليه في المحاضرة الثالثة، وفي كلا الموقفين يتنكر عبد الملك ويقف من الشاعر موقف المسيطر الغضبان، ولهذا النحو من الحديث دلالته على حرص أشياع بني أمية في تصوير خلفائهم بصورة الجد والوقار في معاملة الغَزِلين من الشعراء.
(٥٠) ص٨، ٩ ج١٥ من «الأغاني» طبع بولاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤