الملح والفكاهات

رأينا أن نختم هذا الكتاب بطائفة من المُلَح والفكاهات التي تتصل بعمر بن أبي ربيعة؛ ليرى القارئ كيف كانت تجري النادرة على ألسنة الحجازيين في ذلك الزمان.

١

أنشد عمرُ بن أبي ربيعة ابنَ عتيق قوله:

لم تَر العينُ للثريا شبيهًا
بِمَسيل التِّلاع يوم التقينا١

فلما بلغ إلى قوله:

ثم قالت لأختها: قد ظلمنا
أن رددناه خائبًا واعتدينا
قال: أحسنتْ والهدايا٢ وأجادتْ، ثم أنشد ابن أبي عتيق متمثلًا:
أريني جوادًا مات هُزلًا لعلَّني
أرى ما تَرَيْن أو بخيلًا مخلَّدا
فلما بلغ عمر إلى قوله: في خلاءٍ من الأنيس وأمن، قال ابن عتيق: أمكنتْ للشارب الغُدُر،٣ من عال بعدها فلا انجبر.٤ فلما بلغ إلى قوله:
فمكثْنا كذاك عشْرًا تِباعا
فقضينا ديوننا واقتضينا

قال: أما والله ما قضيتها ذهبًا ولا فضة ولا اقتضيتها إياه، فلا عرَّفكما الله قبيحًا.

فلما بلغ إلى قوله:

كان ذا في مسيرنا إذ حججنا
علم الله فيه ما قد نوينا

قال: إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه، فأورد التفسير، ولئن مت لأموتن معك، أُفٍّ للدنيا بعدك يا أبا الخطاب! فقال له عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد!

٢

حدَّث محمد بن سلَّام قال: كانت سوداء بالمدينة مشغوفة بشعر عمر بن أبي ربيعة، وكانت من مولَّدَات مكة، فلما ورد على أهل المدينة نعي عمر بن أبي ربيعة أكبروا ذلك، واشتد عليهم، وكانت السوداء أشدهم حزنًا وتسلُّبًا٥ وجعلت لا تمر بسكة من سكك المدينة إلا ندبته، فلقيها بعض فتيان مكة فقال لها: خفضي عليك فقد نشأ ابن عمٍّ له يشبه شعره شعره، فقالت: أنشدني بعضه، فأنشدها قوله:
إني وما نحروا غداة مِنًى
عند الجمار تئودها العُقل٦
لو بُدِّلت أعلى منازلها
سِفلا وأصبح سِفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها
فيرده الإِقواء والمَحْل٧
لعرفت مغناها بما احتملت
مني الضلوع لأهلها قبلُ

فجعلت تمسح عينها من الدموع وتقول: الحمد لله الذي لم يضيِّع حَرَمه!

كذلك روى صاحب «الأغاني»٨ أما صاحب «زهر الآداب» فقد قال:٩ لما مات عمر بن أبي ربيعة نُعِيَ لامرأة من مولدات مكة وكانت بالشام، فبكت وقالت: مَن لأباطح مكة١٠ ومن يمدح نساءها، ويصف محاسنهن، ويبكي طاعتهن، فقيل لها: قد نشأ فتى من ولد عثمان بن عفان على طريقته، فقالت: أنشدوني له، فأنشدوها:
لقد أرسلتْ ليلى رسولًا بأن أقِمْ
ولا تقربنَّا فالتجنُّب أمثلُ
لعل العيون الرامقات لودنا
تُكذَّب عنا أو تنام فتغفل
أناس أمنَّاهم فنثُّوا حديثنا
فلما كتمنا السر عنهم تقوَّلوا١١
فما حفظوا العهد الذي كان بيننا
ولا حين هموا بالقطيعة أجملوا
فقلت وقد ضاقت بلادي برحبها
عليَّ بما قد قيل فالعين تهمل
سأجتنب الدار التي أنتمُ بها
ولكنَّ طرفي نحوها سوف يعمل
ألم تعلمي أني — وهل ذاك نافعي
لديك، وما أخفى من الود أفضل؟
أُرى مستقيم الطرف ما الطرف أَمَّكم
وإن أمَّ طرفي غيركم فهو أحولُ

فتسلَّت وقالت: هذا أجلُّ عوض، وأفضل خلف، فالحمد لله الذي خلَّف على حرمه وأُمته مثل هذا.

وفي هذا الاختلاف بين رواية القصة كما ذكرها صاحب «الأغاني» وصاحب «زهر الآداب»، دليل على أن فيها أثرًا للوضع، أو التحريف، وهي تدلنا على أنه كان معروفًا في ذلك العصر أن في شعر الحارث بن خالد، وفي شعر العرجي، مشابهةً بينة لشعر عمر بن أبي ربيعة، وقربًا لِمَنْحاه في التشبيب بالنساء.

وقد ذكر موريس دونيه في حياة ألفريد دي ميسيه الغرامية أنه رؤيت سيدة تنتحب في القطار، فسألها الناس عن سبب بكائها فقالت: يا ويحكم! ألم تعلموا أن ألفريد دي ميسيه قد مات!

وكذلك تتشابه الحياة الوجدانية على اختلاف البقاع والأجيال.

٣

قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة: أنت القائل:

أأترك ليلى ليس بيني وبينها
سوى ليلةٍ؟ إني إذن لصبور١٢

فقال: نعم! فقال: بئس المحب أنت، تركتها وبينها وبينك غدوة! فقال: يا أمير المؤمنين، إنها من غدوات سليمان، غدوُّها شهر، ورواحها شهر!

٤

قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة من أجل امرأة من أهلها فأقام بها شهرًا، فذلك قوله:

يا خليليَّ قد مَللْت ثوائي
بالمصلَّى وقد شنئتُ البقيعا١٣
بلِّغاني ديار هند وسلمى
وارجعا بي فقد هويت الرجوعا
ثم خرج إلى مكة وخرج معه الأحوص واعتمرا، ثم مرَّا بوَدَّان١٤ في رواحهما فحبسهما نصيب وذبح لهما وأكرمهما، وكان لحقهما سائب راوية كثير، ثم خرجوا وخرج معهم نصيب، فلما جاءوا كُلَيَّة١٥ عدلوا جميعًا إلى منزل كثير فقيل لهم: هبط قُدَيدًا١٦ وذكر لهم أنه في خيمة من خيامها، فقال ابن أبي ربيعة لسائب: اذهب فادعه لي، فقال النصيب: هو أحمق وأشد كِبرًا من أن يأتيك، فقال عمر: اذهب كما أقول فادعه لي، فجاءه فهش له، وقال: اذكر غائبًا تره، لقد جئت وأنا أذكرك، فأبلغه رسالة عمر، فحدَّد إليه نظره وقال: أما كان عندك من المعرفة ما يردعك عن إتياني بمثل هذه الرسالة؟ فقال: بلى والله! ولكني سترت عليك فأبى الله إلا أن يهتك سِترك، فقال له: إنك والله يا ابن ذكوان ما أنت من شكلي، فقل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشيًّا فأنا قرشي، فقال له: لا تترك هذا التلصق وأنت تفرق عنهم كما تفرق الصمغة؟! فقال كثير: والله لأنا أثبت فيهم منك في سدوس، ثم قال: وقل له: إن كنت شاعرًا فأنا أشعر منك! فقال له: هذا إذا كان الحكم إليك، فقال: وإلى من هو؟ ومن أولى بالحكم مني اليوم؟ فرجع سائب إلى عمر فقال: ما وراءك؟ فقال: ما قال لك نصيب، وأخبره الخبر فضحك وضحك صاحباه، ثم نهضوا معه إليه، فدخلوا عليه في خيمة فوجدوه جالسًا على جلد كبش، فلم يوسع لابن أبي ربيعة، فلما تحدثوا مليًّا وأفاضوا في ذكر الشعراء أقبل على عمر فقال له: أنت تنعت المرأة فتشبب بها ثم تدعها وتنسب بنفسك، أخبرني يا هذا عن قولك:
قومي تصدَّيْ له ليعرفنا
ثم اغمزيه يا أخت في خَفَرِ
قالت لها: قد غمزته فأبى
ثم استُطيرت تشتد في أثري١٧

أتراك لو وصفت بهذا هِرة أهلك، ألم تكن قد قبَّحت وأسأت، وقلت الهجر؟ إنما توصف الحرة بالحياء والإباء، والبخل والامتناع، كما قال هذا، وأشار إلى الأحوص:

أدور ولولا أن أرى أم جعفر
بأبياتكم ما درت حيث أدورُ
وما كنت زوَّارًا ولكن ذا الهوى
إذا لم يُزر لا بد أنْ سيزور
لقد منعت معروفها أم جعفر
وإني إلى معروفها لفقير

فدخلت الأحوص أبهة، وعُرفت الخيلاء فيه، فلما استبان ذلك كُثير قال: أبطل آخرك أولك، أخبرني عن قولك:

فإن تصِلي أصِلك وإن تبيني
بصرمك بعد وصلك لا أبالي
ولا ألفى كمن إن سِيمَ صَرْمًا
تعرَّض كي يُردَّ إلى الوصال

أما والله لو كنت فحلًا لما باليت ولو كسرت أنفك! ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب:

بزينب ألمِمْ قبل أن يرحل الركبُ
وقل: إن تملِّينا فما ملَّك القلبُ

فانكسر الأحوص، ودخلت النُّصَيب أبهة، فلما نظر أن الكبرياء قد دخلته قال له: وأنت يا ابن السوداء فأخبرني عن قولك:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
فوا كبدى من ذا يهيم بها بعدي

أهمك من ينيكها بعدك؟

فلما أمسك كثيِّر أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع يا مذبوب١٨ أخبرني عن تخيرك لنفسك، وتخيُّرك لمن تحب، حيث تقول:
ألا ليتنا يا عز كنا لذي غنى
بعيرين نرعى في الخلاء ونُعزَبُ١٩
كلانا به عر فمن يرنا يقل
على حسنها جرباء تُعدي وأجرب٢٠
إذا ما وردنا منهلًا صاح أهله
علينا فما ننفك نُرمى ونضربُ
ودِدْتُ وبيت الله أنك بَكرةٌ
هِجانٌ وأني مصعبٌ ثم نهربُ٢١
نكون بعيريْ ذي غنًى فيُضِيعنا
فلا هو يرعانا ولا نحن نُطلبُ
والله لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بُؤت به على نفسك، فخفق كثيِّر كما يخفق الطائر، فأقبل عليه نصيب فقال: أقبل عليَّ يا زب الذباب٢٢ فقد تمنيت معرفة غائب عندي علمه فيك حيث تقول:
وددت وما تغني الودادة أنني
بما في ضمير الحاجبية عالمُ
فإن كان خيرًا سرَّني وعلمته
وإن كان شرًّا لم تلمني اللوائم
انظر في مرآتك، واطلع في جيبك، واعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها، فاضطرب كثير اضطراب العصفور وقام القوم يضحكون.٢٣

٥

واعدت الثريا عمر بن أبي ربيعة أن تزوره، فلما جاءت في الوقت الذي ذكرته صادفت أخاه الحارث قد زاره فأقام عنده ووجه به في حاجة له، ونام مكانه وغطى وجهه بثوبه، فلم يشعر إلا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تقبله، فانتبه وجعل يقول: اعزبي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله!

فلما علمت بالقصة انصرفت وجاء عمر فأخبره الحارث بخبرها، فاغتمَّ لما فاته منها، وقال: أما والله لا تمسك النار أبدًا وقد ألقت نفسها عليك! فقال الحارث: عليك وعليها لعنة الله!

٦

كان لابن أبي ربيعة ابن صالح يقال له: «جوان» وفيه يقول العرجي:

شهيدي جُوانٌ على حبها
أليس بعدل عليها جوانُ

وقد جاء جوان هذا إلى زياد بن عبد الله الحارثي، وهو إذ ذاك أمير على الحجاز فشهد عنده بشهادة، فتمثل:

شهيدي جوان على حبها
أليس بعدل عليها جُوانُ!

ثم قال: قد أجزنا شهادتك. وقد غضب جوان من هذا الشعر وجاء إلى العرجي، فقال له: يا هذا، ما لي ولك تشهِّرني في شعرك! متى أشهدتني على صاحبتك هذه! ومتى كنت أنا أشهد في مثل هذا!

٧

عرض يزيد بن معاوية جيش أهل الحرة، فمر به رجل من أهل الشام معه تُرسٌ خَلَق سَمْج، فنظر إليه يزيد وضحك، وقال له: ويحك! تُرس عمر بن أبي ربيعة كان أحسن من ترسك! يريد قول عمر:

فكان مِجنِّي دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كاعبان ومُعصِر

٨

حدث بُدَيح قال: حجت بنت محمد بن الأشعث الكندية، فراسلها عمر بن أبي ربيعة ووعدها أن يتلقاها مساء الغد، وجعل الآية بينه وبينها أن تسمع ناشدًا ينشُد يعلمها بمصيره إلى المكان الذي وعدها، قال بديح: فلم أشعر به إلا متلثمًا فقال لي: يا بديح، ائت بنت محمد بن الأشعث فأخبرها أني قد جئت لموعدها، فأبيت أن أذهب وقلت: مثلي لا يعين على مثل هذا، فغيَّب بغلته عني ثم جاءني فقال لي: قد أضللت بغلتي فانشُدها لي في زقاق الحاج، فذهبت فنشدتها، فخرجت عليَّ بنت محمد بن الأشعث وقد فهمت الآية، فأتته لموعده، وذلك قوله:

وآية ذلك أن تسمعي
إذا جئتكم ناشدًا ينشُدُ

قال بديح: فلما رأيتها مقبلة عرفت أنه قد خدعني بنَشْدي البغلة، فقلت له: يا عمر! لقد صدقت التي قالت لك:

فهذا سحرك النسوا
ن قد خبَّرنني الخبرا

قد سَحَرْتني وأنا رجل! فكيف برقة قلوب النساء وضعف رأيهن! وما آمنك بعدها، ولو دخلت الطواف ظننت أنك دخلته لبلية، قال: وحدثها بحديثي فما زالا ليلتهما يفصلان حديثهما بالضحك مني.

٩

أنشد ابن أبي ربيعة قوله:

يا خليليَّ من ملام دعاني
وألمَّا الغداة بالأظعان
لا تلوما في آل زينب إن الـ
ـقلب رهنٌ بآل زينب عاني

فبلغ ذلك أبا وَدَاعة السَّهمي فأنكره وغضب، وبلغ ذلك ابن أبي عتيق وقيل له: إن أبا وداعة قد اعترض لابن أبي ربيعة دون زينب بنت موسى، وقال: لا أُقر لابن أبي ربيعة أن يذكر امرأة من بني هُصَيْص في شعره، فقال ابن أبي عتيق: لا تلوموا أبا وداعة أن يُنعِظ من سَمَرْقنْد على أهل عَدَن!

١٠

قال ابن أبي عتيق لابن أبي ربيعة: يا عمر! ألم تخبرني أنك ما أتيت حرامًا قط؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قولك:

وما نلتُ منها مَحرمًا غير أننا
كلانا من الثوب المورد لابسُ

ما معناه؟ فقال: والله لأخبرنك: خرجت أريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشِّعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يُرى بثيابها بلل المطر فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه! فأمرت غلماني فسترونا بكساء خز كان عليَّ، فذلك حين أقول:

كلانا من الثوب المورد لابس

فقال له ابن عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة!

١١

خرج عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد وأبو ربيعة المصطلقي ورجل من بني مخزوم يشيعون بعض خلفاء بني أمية، فلما انصرفوا نزلوا بسَرِفَ فلاح لهم برق، فقال الحارث: كلنا شاعر، فهلمُّوا نصف البرق، فقال أبو ربيعة:

أرقت لبرق آخر الليل لامع
جرى من سناه ذو الرُّبى فيُنابع٢٤

فقال الحارث:

أرقت له ليل التمام ودونهُ
مهامهُ موماةٍ وأرض بلاقع٢٥

فقال المخزومي:

يضيء عضاه الشوك حتى كأنه
مصابيح أو فجر من الصبح ساطع٢٦

فقال عمر:

أيا رب لا آلو المودة جاهدًا
لأسماء فاصنع بي الذي أنت صانع

ثم قال: ما لي وللبرق والشوك!

١٢

لقي عمر ليلى بنت الحارث وهي تسير على بغلة لها، وكان قد شبب بها فقال: جعلني الله فداك! عرِّجي ها هنا أسمعك بعض ما قلته فيك. فقالت: أوَقد فعلت؟ قال: نعم، فوقفت وقالت: هات، فأنشدها:

ألا يا ليلَ إن شفاء نفسي
نوالك إن بخلت فنوِّلينا
وقد حضر الرحيل وحان منا
فراقك فانظري ما تأمرينا

فقالت: آمرك بتقوى الله وإيثار طاعته، وترك ما أنت عليه! ثم صاحت ببغلتها ومضت.

١٣

حدث سفيان بن عيينة قال: بينا أنا ومِسعر بن كِدام مع إسماعيل بن أمية بفناء الكعبة، وإذا بعجوز قد طلعت علينا عوراء متكئة على عصا يصفق أحد لَحييها على الآخر، فوقفتْ على إسماعيل فسلمت عليه، فرد عليها السلام، وسألها فأحفى المسألة، ثم انصرفت، فقال إسماعيل: لا إله إلا الله! ماذا تفعل الدنيا بأهلها! ثم أقبل علينا فقال: أتعرفان هذه؟ قلنا: لا والله، ومن هي؟ قال: هذه «بَغوم» ابن أبي ربيعة التي يقول فيها:

حبذا أنت يا بَغُوم وأسما
ءُ وعِيصٌ يَكُننا وخلَاءُ٢٧

انظرا كيف صارت، وما كان بمكة امرأةٌ أجمل منها! فقال له مسعر: لا ورب هذه البَنِية، ما أرى أنه كان عند هذه خير قط!

١٤

حدثت ذُهيبة مولاة محمد بن مصعب بن الزبير قالت: كنت عند أمة الحميد بنت عمر بن أبي ربيعة في الجُنيد الذي في بيت سكينة بنت خالد بن مصعب، أنا وأبوها عمر وجاريتان له تغنيان، يقال لإحداهما: البغوم، والأخرى: أسماء، وكانت أمة الحميد بنت عمر تحت محمد بن مصعب بن الزبير، فقال عمر بن أبي ربيعة وهو معهم في الجنيد:

صَرَمت حبلك البَغوم وصدَّت
عنك في غير ريبةٍ أسماءُ
والغواني إذا رأينك كهلًا
كان فيهن عن هواك التواءُ
حبذا أنت يا بغوم وأسما
ءُ وعيصٌ يكننا وخَلاءُ

فلما انتهى إلى قوله:

ولقد قلت ليلة الجزل لما
أخضلتْ ريطتي عليَّ السماء
خرجت البغوم ثم رجعت إليه فقالت: ما رأيت أكذب منك يا عمر تزعم أنك بالجزل وأنت في جُنيد محمد بن مصعب، وتزعم أن السماء أخضلت ريطتك وليس في السماء قَزَعة.٢٨ فقال عمر: هكذا يستقيم هذا الشأن.

•••

أما بعد؛ فهذا كتابٌ أشعر بأن خَيرهُ نِفايةُ شره، وأن ما فيه من هُدًى أسير ما فيه من ضلال، وإني لأقول:

ضاق الفضاءُ عليَّ من عبثِ الصبا
ورحمت فضلي من هواه العائثِ
فأغِثْ فديتك يا مَشيبُ كرامتي
إني سئمت من الشباب العابثِ

وسبحان مَن لو شاء لعجَّل التَّوب، وعفا عما تسلَّف من ذنوب.

هوامش

(١) التلاع: جمع تلعة، وهي: مجرى الماء من أعلى الوادي إلى بطون الأرض.
(٢) الهدايا: جمع هدية، والمراد بها ههنا: ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لتنحر برًّا بالفقراء.
(٣) الغدر: جمع غدير، وهو: مجرى صغير من بقايا السيل.
(٤) عال: افتقر.
(٥) التسلب: الحداد، وتسلبت المرأة وسلبت على ميتها، فهي مسلب إذا أحدت عليه.
(٦) تئودها: تثقلها. العُقل: جمع عقال.
(٧) الإقواء: الإقفار.
(٨) ج٣ ص١١٤ طبع بولاق.
(٩) ج٢ ص٢٤٠.
(١٠) جمع أبطح، وهو: مسيل واسع فيه دقائق الحصى.
(١١) نث الحديث: أذاعه، والنثاث: المغتابون، وهو تمثيل للغيبة بالنثيثة وهي رشح الزق والسقاء.
(١٢) بعد هذا البيت:
هبوني امرءًا منكم أضل بعيره
له ذمة إن الذمام كبير
وللصاحب المتروك أعظم حرمة
على صاحب من أن يضل بعير
وينسب هذا الشعر أيضًا لأبي دهبل الجمحي ومجنون بني عامر — إن صح أنه وجد — وفي ذلك تأييد لما أشرنا إليه من أن ابن أبي ربيعة غلب على شعراء عصره، فأضاف إليه الرواة كثيرًا من شعرهم.
(١٣) البقيع: الموضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى؛ وهو اسم لعدة مواضع بالمدينة.
(١٤) ودان: موضع بين مكة والمدينة يكثر ذكره في شعر نصيب.
(١٥) كلية على وزن سمية: واد بقرب الجحفة.
(١٦) قديد: اسم موضع قرب مكة.
(١٧) استطيرت بالبناء للمجهول: أسرعت في الجري، وروي: اسبطرت، والمعنى واحد.
(١٨) المذبوب: المجنون.
(١٩) نعزب: نبعد.
(٢٠) العر بالفتح والضم: الجرب.
(٢١) الهجان، على وزن كتاب: هي من الإبل البيض. والمصعب: الفحل.
(٢٢) يرميه بالضعف والضئولة.
(٢٣) «الأغاني» ج١١ ص١٨ طبع بولاق.
(٢٤) ينابع: اسم مكان أو جبل أو وادٍ في بلاد هذيل.
(٢٥) ليل التمام: هو أطول ليالي الشتاء. والمهامه: جمع مهمه، وهو: الصحراء الواسعة الأرجاء. والموماة: الفلاة الواسعة الملساء. وأرض بلاقع: خراب.
(٢٦) العضاه: كل شجر يعظم وله شوك.
(٢٧) العيص: الشجر الكثير الملتف.
(٢٨) القزعة: قطعة الغيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤