الفصل الثاني

اللغة الفارسية في القرنين الأولين

الآداب الفارسية الحديثة تؤرَّخ من أواخر القرن الثالث الهجري — كما يأتي — فماذا أصاب اللغة الفارسية في المدة التي تلت الفتح الإسلامي؟ وماذا أصاب الفرس في هذه الحقبة؟

في إجابة هذين السؤالين يجب أن نفرِّق تفريقًا تامًّا بين الكلام على الفرس، والكلام على اللغة الفارسية؟

فأما اللغة الفارسية فالكلام عنها من جهتين: من حيث إنها لُغَةُ تَخَاطُبٍ ومن حيث إنها لغة العلم والأدب. فأما من الوجهة العلمية فقد وقفت اللغة وقفة طويلة، ولم يؤلَّف فيها إلا كتب قليلة معظمها في الدين. ويمكن أن يقال أن إنتاجها قلَّ على مر الزمان حتى عقمت تمامًا بعد قرنين من ظهور الإسلام. فالكتب التي أُلِّفَتْ في العصر الإسلامي وبقيت على الزمن لا تتجاوز عصر المأمون، وأكثرها كتب دينية أراد بها الزردشتيون الدفاع عن دينهم والإبقاء عليه وقد تقدم ذكر بعضها.

ولكن كان للغة الفهلوية عمل أعظم من هذا وأبقى أثرًا هو حفظها آداب الساسانيين وتاريخهم في كتبها لتكون مصدرًا للترجمة العربية، ولتكون من بعدُ أساسًا للآداب الفارسية الحديثة، فقد بذل رجل الدين أو الموابذة وأصحاب المزارع — أي الدهاقين — جهدهم في حفظ كتبهم، وكان الساسانيون من قبلُ ذوي عناية بالكتب وحفظها. ويمتاز إقليمان في إيران بأن كانا موئل الآثار الفارسية: فارس وخراسان، كما امتازت طبرستان بوعورة أرضها وكثرة غاباتها فبقي استقلال الفرس فيها مدة طويلة.

فأما خراسان فكانت مبعث الشعر الفارسي الحديث، وأما فارس مهد الدولة الفارسية القديمة فقد لاذ بجبالها جماعة من الزردشتيين، فعكفوا على درس آدابهم القديمة وحفظ كتبها، فحصن شيز في جهة أرجان كان مسكن مجوس خبراء بإيران وتاريخها، وكان به صور الملوك والعظماء وتاريخهم، هكذا يقول الإصطخري وابن حوقل، ويؤيد هذا ما يقوله المسعودي: أنهُ رأى في إصطخر عند أسرة فارسية كبيرة كتاب الملوك يتضمن صور الملوك وأزمنتهم ووصف آثارهم.

ويتصل بهذا ما رواه صاحب الفهرست عن أبي معشر أن الفرس القدماءَ خزنوا كثيرًا من كتبهم في أصفهان في بناء عظيم بقي إلى زمان أبي معشر، وأن الناس عثروا على كتب فيه، ثم يقول ابن النديم: «أخبرني الثقة أنهُ انهار سنة ٣٥٠ أزج آخر عن كتب كثيرة لا يهتدى إلى قراءتها، والذي رأيتهُ أنا بالمشاهدة أن أبا الفضل بن العميد أرسل ها هنا في سنة نيف وأربعين كتبًا متقطعة أصيبت بأصفهان في سورة المدينة وكانت باليونانية إلخ.»

ففي أمثال حصن شيز وبناء أصفهان وفي دور الأسر الفارسية الكبيرة حُفظت الكتب القديمة التي تُرجمت إلى العربية أيام الدولة العباسية.

وقد بقيت اللغة الفارسية لغة الدواوين المالية في إيران حتى زمان عبد الملك بن مروان لغة التخاطب، ولا ريب أنها بقيت لغة التخاطب في إيران، ولا سيما في القرى والنواحي البعيدة فإنا قد وجدناها منذ القرن الثالث ترتقي إلى أن تكون لغة آداب، واللغة لا تموت جملة واحدة ولا تُخلق جملة واحدة. على أن كثيرًا من الدلائل يثبت أنها كانت لغة الكلام في هذه الفترة، أي قبل عصرها الأدبي الحديث.

وقد روى الطبري أغنية فارسية قيلت حينما رجع أسد بن عبد الله من غزوة في بلاد الختل. وقد انتقلت منها كلمات كثيرة إلى البلاد العربية مع النازحين من الفرس وتأثرت بها لهجات بعض العرب. وقد روى المؤرخون، أن إبراهيم الإمام العباسي حينما أوصى أبا مسلم الخراساني ببث الدعوة قال: «وإن استطعت ألا تبقي في خراسان لسانًا عربيًّا فافعل»، وهذا يدل على أن لغة الجمهور هناك كانت الفارسية، بل كانت الفارسية لغة الفرس الذين نزحوا إلى العراق وامتزجوا بالعرب، فأرسل عبد الملك بن مروان إلى المختار بن أبي عبيدة حينما جاءوا معسكر ابن الأشتر وكان معظم أنصاره من الموالي، لم يسمعوا لغة عربية، وعبد الله بن زياد، وهو أمير عربي، كانت فيه لكنة فارسية (أخذها من زوج أمه).

والفرس الذين عرفوا العربية لم يخلصوا من لغتهم ولهجتها، وقد روى الجاحظ أن الحجاج قال لنخاس فارسي: أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان! فقال: «شريكاتنا في أهوازها وشريكاتنا في مدائنها وكما تجيء تكون»، فقال الحجاج: ويحك ما تقول؟ فقال بعض من كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك: يقول: شركاؤنا بالأهواز والمدائن يبعثون إلينا بهذه الدواب، فنحن نبيعها على وجوهها. وأبو مسلم الخراساني على فصاحته التي جعلت رؤبة بن العجاج يقول: ما رأيت أعجميًّا أفصح منه، كان لا يستطيع النطق بالقاف، وبابك الخرَّمي كان لسانه منعقدًا بالفارسية كما يقول صاحب الفهرست.

ويحدثنا الجاحظ أن لغة أهل البصرة بل لغة أهل المدينة، كان بها كثير من الكلمات الفارسية في أيامه، مما يدلنا على بقاء الفارسية وتأثيرها البعيد. ويحدثنا أيضًا أنهُ سأل خادمًا لهُ إلى من أرسل هذا الغلام؟ فقال: إلى أصحاب السندنعال، يعني النعال السندية. وأمثال هذا في كتب الأدب كثير وهو يحكي في كتاب البخلاء جملًا فارسية كثيرة. ولهذا ثار النزاع منذ أيام أبي حنيفة على قراءة القرآن بالفارسية. و(به آفريد) الفارسي المتنبي على عهد أبي مسلم لما أراد أن يضع لأتباعه كتابًا وضعهُ بالفارسية، ولست في حاجة إلى ذكر ما دخل العربية من الفارسية لا سيما في أسماء الطعون والأثاث، فكُتب اللغة كفيلة بهذا، بل نجد بعض الشعراء يتملح بذكر ألفاظ فارسية في شعره. وقد روى بعض ذلك الجاحظ وجاءَ في شعر العماني الذي مدح بهِ الرشيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤