الفصل الخامس

الأدب الفارسي الحديث

نشأته، وترعرعه، وخصائصه، وصلته باللغة العربية
لا نعرف شيئًا عن الشعر الفارسي قبل الإسلام حتى ليظن أن الفرس لم يكن لهم منهُ حظ كبير، ولأمر ما نسب بعض مؤرخي الفرس أول شعر فارسي إلى بهرام جور، وقالوا: إنهُ أخذ الشعر من العرب إذ تربى في الحيرة، يذكر هذا محمد عوفي في لباب الألباب وشمس قيس١ في كتاب المعجم، ويزيد الأخير أنهُ قرأ في بعض الكتب الفارسية أن علماء عصر بهرام لم يستهجنوا منهُ إلا قول الشعر وأن آذرباد بن زرادستان الحكيم بالغ في نصحه ليترك الشعر تنزهًا عن معايبه، ثم يقول: إن بهرام انتصح ومنع أولاده وذوي قرباه أن يقرضوا الشعر، ثم يقول: ومن أجل هذا كانت مدائح باربد وأغانيه عند كسرى برويز كلها منثور لا نظم فيها.

ويقول ابن قتيبة: «وللعرب شعر لا يشركها أحد من الأمم الأعاجم فيهِ على الأوزان والأعاريض والقوافي والتشبيه ووصف الديار والآثار والجبال والرمال والفلوات وسري الليل، والنجوم، وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم في مطلق من الكلام «منثور»، ثم سمع بعدُ قوم منهم أشعار العرب وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا مثل ذلك في الفارسية وشبهوه بالعربية.» وربما يهدي البحث إلى معرفة الشعر الفارسي القديم فيتغير هذا الرأي.

وأما في العصر الإسلامي فلا ريب أن الشعراء الذين يعرفهم تاريخ الأدب لا يتقدمون الدولة السامانية (٢٦١–٣٨٩) ولكن في كتب الأدب الفارسي روايات من شعر قيل قبل هذا العهد.

وهي على علاتها لا تخلو من دلالة على أدب فارسي أقدم مما نعرف عسى أن يهدي إليه البحث.

ولمحمد عوفي في تعليل ظهور الشعر الفارسي الحديث كلمة هذه خلاصتها: «حتى إذا سطعت شمس الملة الحنيفية على بلاد العجم جاور ذوو الطباع اللطيفة من الفرس فضلاء العرب، واقتبسوا من أنوارهم ووقفوا على أساليبهم واطلعوا على دقائق البحور والدوائر وتعلموا الوزن والقافية والردف والروي والإيطاء والإسناد والأركان والفواصل، ثم نسجوا على هذا المنوال.»

ثم يروي أبياتًا أربعة لشاعر اسمهُ عباس مدح بها المأمون في مرو سنة ١٩٣ منها:

كن بربن منوال بيش أزمن جنين شعري نكفت
مر زبان بارسي راهست تا ابن نوع بين
ليك زان كفتم من أين مدحت ترانا أين لفت
كيرد أزمدح وثناء حضرت توزيب وزين

وترجمتها: ما قال أحد قبلي شعرًا كهذا، وما كان للسان الفارسي عهد به، وإنما نظمت لك هذا المديح لتزدان هذه اللغة بمدحك والثناء عليك.

فأعطاه المأمون ألف دينار عينًا، وبالغ في إكرامه، يستمر عوفي فيقول: ولم ينظم الشعر الفارسي أحد بعده حتى كانت نوبة آل طاهر وآل الليث فظهر شعراء قليلون.

فلما كانت دولة السامانيين ارتفع علم البلاغة، وظهر كبار الشعراء.

ويروي شمس الدين الرازي أن أول من قال الشعر الفارسي أبو حفص السندي من سغد سمرقند وكان حاذقًا في الموسيقى، وقد ذكره أبو نصر الفارابي وصور آلاته الموسيقية، عاش حتى سنة ٣٠٠ﻫ وينسب إليه هذا البيت:

آهوى كوهي دردشت حكون داوا؟
جوندار ديار بي يار حكونة رودا؟

كيف يعدو هذا الظبي الجبلي في الصحراء؟ إنه لا حبيب له فكيف يسير بغير حبيب.

ورواية عباس المروي المتقدم يرتاب فيها المؤرخ الناقد؛ لأن غريبًا أن يبدأ الشعر الفارسي بهذا الأسلوب المتين ثم يصمت الشعراء أكثر من مائة سنة لا يُؤْثَرُ عنهم شيء، وأما رواية السندي فراجعة إلى العصر الذي بدأ فيه الشعر الفارسي وسجل لنا التاريخ بعض شعرائه.

ومهما يَكُنْ من شيء فاتِّفَاق مؤرخي الآداب على أن أول شاعر فارسي عظيم هو أبو جعفر الرودكي شاعر نصر بن أحمد الساماني الذي يسميه معروف البلخي (سلطان شاعران) ويقول فيه البلعمي: إنه لا نظير له بين العرب والعجم ويعترف الدقيقي والعنصري بتقدمه.

يروى أن الرودكي نظم شعرًا كثيرًا جدًّا يقدره بعضهم بألف ألف بيت، وأنه نظم كليلة ودمنة، ولكن ليس عندنا من شعر الرودكي كله إلا قطع فيها نحو ٢٤٢ رباعية.

ومن الحكايات المأثورة المشهورة عن هذا الشاعر ما ذكره نظامي العروي أن الأمير نصر بن أحمد خرج بجيشه إلى هراة فأُعْجِبَ بهوائها وثمارها، وبقي يتردد في أرجائها أربع سنين حتى ضاق العسكر ذرعًا ولم يستطيعوا صبرًا عن أوطانهم وأولادهم، فذهبوا إلى الرودكي وجعلوا له خمسة آلاف دينار على أن ينظم شعرًا يشوق الأمير إلى بخارا، فنظم قصيدة وجاء الأمير وهو يصطبح، فغناها على المزهر فما أتم الأبيات حتى نهض الأمير مسرعًا إلى فرسه لا يصبر حتى يلبس حذاءه وتوجه إلى بخارا، لا يلوي على شيء، فلم يدركه الناس إلا بعد فرسخين، وهناك قدم له الحذاء فلبسه، وأول هذه الأبيات:

بوي جوي موليان آيد همي
بوي يار مهربان أيد همي
ما يزال يهب علينا نسيم جيحون
وما نزال ننشق على بعد روح الأحباء

ثم يؤثر عن الرودكي شعر من نوع الدوبيت أو الرباعي وهو ضرب فارسي، فهذا أول شعراء الفرس ينظم على أساليب العرب وعلى أسلوب آخر، وهذا ينبئ بما سيكون عليه الشعر الفارسي الحديث من الجمع بين الصبغتين العربية والفارسية. ثم نجد هذا الشاعر يسبق إلى نظم القصص، إذ نظم كليلة ودمنة، وهذه ميزة أخرى من مزايا الشعر الفارسي كلف بها الشعراء من بعد، ثم توالى الشعراء من بعد الرودكي وارتقى الشعر على الزمن حتى بلغ غايته.

رعى السامانيون الآداب الفارسية، ولمنصور بن نوح منهم شعر فارسي، فنبغ في أيامهم شعراء يقاربون الثلاثين، ثم شرع علماؤهم يؤلفون ويترجمون الكتب من العربية إلى الفارسية، فترجم تاريخ الطبري وتفسيره وآل لهم بالفارسية كتاب أبي منصور الهروي في الطب، ومنهُ نسخة مخطوطة في فينا، وهي أقدم مخطوط فارسي (٤٤٧ﻫ) وألف لهم كذلك كتابًا في التفسير، فهذه الكتب الأربعة أقدم نثر فارسي بأيدينا.

وأما بنو بويه فليس لهم أثر في الأدب الفارسي، وأكثر أمرائهم كانوا شعراء في العربية.

ووزراؤهم ابن العميد والصاحب من حملة لواء الأدب العربي لا الفارسي، وحسبنا أن الصاحب لم يقصده إلا شاعران فارسيان هما المنطقي والخسروي على كثرة شعراء العربية الذين مدحوه.

وكان الزياريون في طبرستان من حماة العلوم والآداب، ولكن شيخهم قابوس كان أميل إلى العربية وله فيها رسائله المسماة كمال البلاغة. وقد مدحهُ الخسروي والسرخسي من شعراء الفرس، كما اتصل بابنه منوجهر الشاعر الفارسي الذي سمى نفسه منوجهري انتسابًا إلى أميره، وقد ألف كيكاوس حفيد قابوس كتابه قابوس نامه بالفارسية.

وكان من المتصلين بقابوس أبو علي بن سينا، وله شعر بالفارسية، وقد ألف كتابه دانش نامه علائي بعد موت قابوس، فأهداه إلى علاء الدولة أبي جعفر كاكويه في أصفهان وسماه باسمه.

وكان محمود بن سبكتكين في غزئه مقصد كبار الأدباء والعلماء وأثر عنه وعن ابنه محمد شعر فارسي. ومن شعرائه: العنصري، والأسدي، والعسجدي، والفردوسي صاحب الشاهنامة، وقد قدَّمها إلى هذا السلطان، فلم يعطه ما أراد فغاضبهُ وهجاه. وقد ألف شرف الملك من شعراء محمود كتابًا في الديوان بالفارسية سماه كتاب الاصطفا.

ويقال: إن اليميني من شعراء محمود أيضًا كتب تاريخ محمود بالفارسية، وكتب البيروني كتاب التفهيم في النجوم بالفارسية والعربية.

وفي عصر السلاجقة، ذلك العصر المديد، نبغ شعراء كثيرون جدًّا عد منهم عوفي مؤلف لباب الألباب أكثر من مائة، أعظمهم الأنوري والخاقاني ونظامي الكنجوي، والأزرقي، وظهير الفاربي، وناصر خسرو، والخيام، وبابا ظاهر، والفصيحي، ومسعود سعد، والأديب صابر، والمعزي، وعمعق البخاري، وسوزني، ونظامي العروضي. ومن الصوفية: أبو سعيد بن أبي الخير، والأنصاري، ثم مجد الدين سنائي، وفي نهاية هذا العصر ظهر فريد الدين العطار. ولا ريب أن هذا العصر أزهى عصور الشعر الفارسي.

ومن المؤلفين والكتَّاب في هذا العصر نظام الملك الوزير مؤلف سياستنامه، والغزالي والسنجزي الفرخي مؤلف ترجمان البلاغة في الشعر والصناعات البديعية، والرشيدي السمرقندي، مؤلف زيت نامه في علم الشعر، ورشيد الدين الوطواط مؤلف الكتاب الذائع الصيت: حدائق السحر في دقائق الشعر، وصاحب الرسائل العربية.

والبهرامي مؤلف غاية العروضين وكنز القافية والأسدي مؤلف لغة الفرس، وشاهمردان بن أبي الخير مؤلف الموسوعة «نزهتنامه علاني» ألفها لعلاء الدولة خاص بك أمير طبرستان آخر القرن الخامس، والباخرزي مؤلف دمية القصر، ومؤلف طرب نامه وهي رباعيات فارسية.

وأبو المعالي محمد بن عبيد الله مؤلف كتاب بيان الأديان في آخر القرن الخامس، ومن مؤلفي الصوفية الهجويري صاحب كشف المحجوب هو من أقدم الكتب الصوفية، ألف في القرن الخامس.

ومن المترجمين من العربية إلى الفارسية الجرباذفاني، ترجم تاريخ العتبي إلى الفارسية.

وجمال القرشي مترجم الصحاح، وفراهي الذي نظم قاموسًا عربيًّا فارسيًّا يقرأ في مدارس إيران في هذا العصر. والزوزني الذي كتب معجمًا عربيًّا فارسيًّا سماه ترجمان القرآن، ونصر بن عبد الحميد مترجم كليلة ودمنة.

وفي العصر القصير الذي بين السلاجقة والمغول نجد من الشعراء العطار وجلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وغيرهم. ونجد من المؤلفين ابن اسفنديار مؤلف تاريخ طبرستان، وفخر الدين الرازي مؤلف الاختيارات العلائية، ونصير الدين الطوسي، وشمس قيس مؤلف المعجم، ومحمد عوفي مؤلف لباب الألباب.

هذه نظرة عامة غير شاملة ولا بالغة ترينا كيف بدأ الأدب الفارسي شعرًا ونثرًا، وكيف توالى مع الدول المختلفة، ويكفي هنا أن يقال: إن لباب الألباب يحتوي على ٢٧ ملكًا نظموا بالفارسية و٤٣ وزيرًا و٦٠ عالميًّا، ويذكر من الشعراء تسعة وثلاثين ومائة. ولأجل أن ندل على حظ الأقطار المختلفة من هذا العدد نقول: إن خراسان وهي مهد الأدب الفارسي الحديث ينالها ٣١ من العلماء الذين نظموا بالفارسية و٥٥ من الشعراء، وما وراء النهر ١٣ من العلماء و٢٢ شاعرًا، والعراق ١٦ من العلماء و١٦ من الشعراء، وغزنة وما يليها ٢٢ شاعرًا، فخراسان أوفرها حظًّا.

صفات الأدب الفارسي الحديث

بعد هذا يحق لنا أن نسأل ما صفات هذا الأدب الفارسي الإسلامي شعره ونثره؟ وما علاقته بالأدب العربي؟

نشأ الأدب الفارسي الحديث في رعاية الأدب العربي وتحت سلطانه وطبع على غراره في أكثر الأساليب والموضوعات:

أخذ الأدب الفارسي عن العربي معظم موضوعات الشعر والنثر وكل صور الشعر والنثر وأساليبهما من الوزن والقافية والسجع وأنواع البديع إلخ. ثم امتاز الأدب الفارسي بخصائصه في الإسهاب والقَصص وغيرها، وقد اتصل الأدبان اتصالًا وثيقًا، وترجم من الفارسية إلى العربية شذرات أدبية كما ترجمت الكتب الفهلوية من قبل. نجد في ديوان المعاني للعسكري أمثالًا معربة و«جملًا من بلاغات العجم»، وفي اليتيمة أمثال معربة كذلك، وفي كتب الأدب أخبار عن المنشئين باللغتين والمترجمين شعرًا فارسيًّا إلى العربية كبديع الزمان الهمذاني.

وأما الترجمة من العربية إلى الفارسية فكانت أوسع وأنفع، وقد ذكرتُ بعض المترجمين وما ترجموا من الكتب آنفًا.

وكان كثير من المؤلفين والكتَّاب والأدباء والعلماء يكتبون باللغتين، ومعنى هذا تكون اللغتان أداتين للإبانة عن أفكار وأخيلة وصور متفقة، وفي هذا من التقريب بين اللغتين ما فيه.

وكانت اللغة العربية لغة العلم والأدب في إيران منذ الفتح الإسلامي فلما ترعرعت الفارسية وصارت لغة علم وأدب استعان المنشئون في الأدب الفارسي بالألفاظ والعبارات الأدبية المألوفة في العربية التي تعود الناس التعبير بها زمنًا طويلًا.

ونفصل هذا القول تفصيلًا قليلًا فيما يلي:

فأما الشعر فيشارك الشعر العربي في موضوعاته من الهجاء والمدح والغزل والفخر والوصف في ميل إلى المبالغة والإطناب، ويمتاز بأشياء:
  • (١)

    ذكر ملوك الفرس القدماء وأبطالهم مثل فريدون، ورستم، وزال، وجمشيد، وقد شرى هذا إلى الشعر العربي الذي نظم في بلاد الفرس كشعر بديع الزمان وأمثاله.

  • (٢)

    ويمتاز الشعر الفارسي بميزتين عظيمتين: الشعر القصصي والشعر الصوفي.

فأما الشعر القصصي فقد أولع الفرس به في كل عصر، وقد رأينا أن أبان بن عبد الحميد نظم كتاب كليلة ودمنة بالعربية، وأن الرودكي أول شعراء الفرس الكبار نظم هذا أيضًا. ومن الأدلة على ولع الفرس بالقصص قصة يوسف وزليخا، فهذه القصة مأخوذة من القرآن، ولكن شعراء العربية لم يهتموا بها. وأما الفرس فقد نظموها مرارًا، نظمها من كبارهم الفردوسي وجامي ونظمها آخرون، ورواية وامق وعذراء التي قيل: إنها قدمت لعبد الله بن طاهر فأمر بطرحها في الماء، نظمها العنصري شاعر محمود الغزنوي، ثم الفصيحي في رعاية كيكاوس الزياري، ونظمها أربعة شعراء آخرون، وقصة ليلى والمجنون نظمها كذلك غير واحد من شعرائهم.

وحسبنا شاهنامة الفردوسي التي حاكاها شعراء كثيرون فنظمت شاهنامات أخرى لم تنل ما نالته من القبول والصيت. ومن القصص المنظومة رواية خسرو وكل، وبلبل نامه لفريد الدين العطار وسلامان وأبسال لمولانا جامي، وغيرها مما لا يتسع المقال لتعديده.

وأما الشعر الصوفي فقد بدأه أبو سعيد بن أبي الخير من بلدة منها في خراسان وأبو عبد الله الأنصاري من هراة، نظمها فيه قطعًا ورباعيات، ولكن لم يكثر فيه التأليف إلا بعد نصف قرن إذ نبغ طليعة فرسانه ستأتي الغزنوي ثم قفاه العطار ثم تلاه إمام الصوفية مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوي الذي يسمى القرآن في اللغة الفارسية، ويقال لمؤلفه: لم يكن نبيًّا ولكن أوتي كتابًا. ومن بعد غارات التتار نبغ لسان الغيب شمس الدين حافظ الشيرازي والشيخ عبد الرحمن الجامي الذي يعد آخر شعراء الفرس العظام.

والحق أن اللغة الفارسية تبز سائر لغات العالم بهذا النوع من الشعر النفسي الإنساني الفلسفي الذي يرتفع عن جدال المذاهب وعصبيات الآراء، وينفذ إلى بواطن الأشياء فيصف النفس الإنسانية في أسمى منازعها، ويرى الحقائق الإلهية في أجلى مظاهرها.

وأما ألفاظ الشعر ففيها كثير من الألفاظ العربية وعليها طابع عربي في تركيبها، ولكن أثر العربية في الشعر أقل منه في النثر، وأما قوافيه وأوزانه فلا يمكن تفصيلها في هذا المقال، وحسبنا أن نقول: إن الفرس يكثرون من الشعر المزدوج الذي يسمونه المثنوي وهو شعر القصص كلها.

وأكثروا كذلك من الدوبيت أو الرباعي، وعندهم ما يسمونه تركيب بند، أو ترجيع بند، وهو قريب من الموشحات العربية، وعندهم الشعر المردف وهو الذي تكرر في آخر أبياته كلمة واحدة ويعتبر الروي والقافية ما قبل هذه الكلمة. وجملة القول أنهم لم يسهلوا القوافي العربية وإن اخترعوا ضروبًا فيها.

وأما الوزن فجدير بالتدقيق جدًّا، فإن الفرس حاكوا العرب في أوزانهم أول الأمر ولكنهم سرعان ما نبذوا أشهر الأوزان العربية، فالطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل، وهي أسير الأوزان في الشعر العربي، ولم ينظم فيها الفرس إلا جماعة من المتقدمين أرادوا إظهار براعتهم كما يقول شمس قيس. ونظموا في الرمل والرجز والخفيف والمضارع والمجتث والمتقارب (وهو وزن الشاهنامة) وأولعوا بالهزج ولعًا شديدًا حتى جعلوه أصلًا فرَّعوا منه أصناف الرباعي وخرجوا به عن أصله العربي.

ويلاحظ أنهم لم يقفوا بالبحور عند المقادير العربية، فالرمل قد يأتي مثمنًا والرجز كذلك، ما جاءا كذلك في شعر العرب قط، والهزج — مثلًا — الذي هو سداسي الأصل عند العرب ومجزوء وجوبًا ينظم منه الفرس مثمنًا. ثم تصرف الفرس في الزحاف والعلل تصرفًا كثيرًا جدًّا، واشتقوا من الدوائر العربية بحورًا أخرى قريبة من البحور الأصلية مثل الغريب والمشاكل والقريب.

وقد أراد بعض المستشرقين أن يعلل الخلاف بين الأوزان العربية والفارسية بما بين طبائع الأمتين من اختلاف ويقول شمس قيس: إن سبب ثقل الطويل والمديد والبسيط أن أجزاءها غير متناسبة في حركاتها وسكناتها ويطيل في بيان ذلك. ولا يمكن الفصل في هذه المسألة إلا بعد بحث مفصل في أوزان الشعر العربي وعلاقتها باللغة العربية، وفي تطور الأوزان العربية في الشعر الفارسي وتبيين ما بين هذا التطور ولغة الفرس من صلة.

وينبغي أن يذكر هنا أن وزن الرباعي نقل إلى العربية وسمي الدوبيت ومهما يقال في علاقته بالهزج يمكن أن يعد وزنًا فارسيًّا استعارته العربية.

وأما النثر الفارسي فأثر العربية عليه أبين: الألفاظ العربية فيه أكثر، والتركيب قريب من التركيب العربي، ولكن لا بد من الفرق بين النثر الأدبي — نثر الرسائل والمقامات — وبين نثر الكتب، فأما الأول فقريب من الشعر، وأما الكتب فمع اشتراكها كلها في كثرة الألفاظ العربية ينبغي أن يفرق فيها بين كتب التاريخ التي هي قصص يستعمل فيها الكلام المعتاد غالبًا، وبين المؤلفات العلمية مثل كتب الفقه والتوحيد والبلاغة والطب وهلم جرَّا. فهذا الصنف الأخير لا يكاد يكتب بألفاظ عربية، وتستعار فيه كلا الاصطلاحات العربية، فاصطلاحات البلاغة وضروب البديع واصطلاحات العروض أخذت برمتها، وما زادوه فيها اشتقوه من العربية أيضًا. ثم المؤلفات كلها علميها وأدبيها يتخللها كثير من المقتبسات العربية، ففي كتب الدين الآيات والأحاديث، وفي كتب الأدب والتاريخ كثير من الأبيات والأمثال والمأثورات. وقد نجد من ذلك أسطرًا متوالية.

وخير ما يفعل لمقارنة النثر العربي والنثر الفارسي أن ننظر على كتاب عربي وترجمته، لنرى كيف توافق الترجمة الأصل وكيف تخالفها مراعاة لأسلوب اللغة وذوق أهلها، فإذا قارن الباحث كتاب كليلة ودمنة العربي بالترجمة الفارسية التي كتبها نصر بن عبد الحميد والترجمة الأخرى التي كتبها الكاشفي من بعد وسماها أنوار سهيلي — عرف كيف تشترك اللغتان في كثير من الألفاظ والعبارات وضروب البديع وكيف تختلفان في الإطناب والتفصيل والمبالغة.

١  هو شمس الدين محمد بن قيس الرازي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤