الفصل الأول

المنظر

يزاح الستار عن دار في قصر السلطان الصالح أيوب على النيل في الجانب القبلي من مدينة المنصورة، وهو بناء عربي الطراز والتقسيم: إيوان ورحبة، أما الإيوان فواقع في مؤخر المرزح، والرحبة في مقدمته ويعلو عنها شبرًا تقريبا، والإيوان نصف مثمن به ثلاثة أضلاع كاملة في مواجهة المشاهد، وهذه ذات شبابيك، أي: نوافذ فيها قضبان متعارضة، عليها من الداخل سجف «ذات فلقتين» من الديباج الثقيل إذ الوقت شتاء «١٠ ديسمبر١ سنة ١٢٤٩»، أما الضلعان الجانبيان فكل منهما نصف ضلع المثمن أو يزيد قليلا، وفي كل منهما باب قصير «أربع أذرع» مكفت بنقوش عربية من المعدن … واحد إلى اليمين بالنسبة إلى المتفرج وهو مؤد إلى غرف السلطان وحرمه، وآخر مثله إلى اليسار هو مقطع كبار الدولة، أي: الباب الخاص الذي يحضر منه وينصرف كبار أمناء السلطان، وأمراء حرسه الخاص المعروفون برجال الحلقة، ومن هم في كرامة المنزلة مثلهم … ويفصل الإيوان عن الرحبة عُمد من الرخام، تعلوها بوائك موشحة بنقوش عربية ما بين البواكير «الأقواس». والبوائك الثلاث: اثنتان منهما صغيرتان هما الجانبيتان، وواحدة كبيرة «وتعلو نصف ذراع عما بجوارها» بين هاتين.
والمكان جميعه مفروش بأنفس البسط الطبرستانية «الفارسية»؛ إذ الوقت شتاء كما نبهنا، ونرى على أبوابه جميعا سجفًا غير مسدلة بل مزاحة إلى الجانبين ما عدا باب حرم السلطان، وفي الإيوان مقاعد ووسائد فاخرة وضعت دُوَينَ النوافذ يعلو عليها في الصدر مقعد كبير يكون للسلطان عادة عند اجتماعه برجال ديوانه، ولكن الدار قد اتخذت تلك اليلة للنوبة، أي: حراسة السلطان وخدمته المستعجلة؛ لأنه مريض يئس الأطباء من شفائه؛ ولأن الفرنجة الفرنسيس — وكانت معهم فرقة إنجليزية — تحت إمرة Longsword وهو لورد Salisbury تحت إمرة الملك لويس التاسع المعروف في كتب التاريخ العربية باسم ري ديفرانس — أوروا دفرنس تعريب Roi de France — قد عاودوا ضرب مصر لامتلاكها توطئة لاسترداد القدس، وإبادة علم الإسلام من الدنيا؛ «إذ كان هذا مأمول أوروبا في القرون الوسطى ومناط مجدهم وفخرهم»، وقد نزلوا البلاد واحتلوا دمياط «التي أُخرجوا منها مدحورين أذلة قبل ذلك بثلاثين عامًّا على سيوف السلطان الكامل أبي السلطان الحالي، وباني مدينة المنصورة تخليدًا ليوم نصره»، ويوشك جيشهم أن يزحف على المنصورة في طريقه إلى بابليون «مصر القديمة»، فالأمر يستوجب قرب أعيان الدولة مناوبة بجوار السلطان في كل وقت.
وإذ كانت العادة أن يتلهى أمراء النوبة في تلك الليالي بلعب الشطرنج وغيره، ويستعينوا على السهر بمذاكرة الشعر، ورواية أحاديث الدول، وتلاوة القرآن الكريم ومطالعة الحديث الشريف٢ فإن في المكان خزانة على شكل صندوق، إذا أقفل غطاؤه حسبته مقعدًا ذا جانبين، وإذا رُفع الغطاء وجدت فيه نسخًا من أعيان الكتب المخطوطة في الشعر والتاريخ والقصص والفقه والتفسير وغير ذلك، وقد أتي بالخزانة في تلك الليلة من «دار الخاص»، ووضعت دُوَينَ الباب الأيسر الأعلى في الإيوان بميل وانحراف. وفي المكان في مقدمة المرزح دُوَينَ الباب الأيمن الأدنى ثلاث وسائد صغيرة ثمينة القيمة؛ اثنتان منهما إلى الأمام، وواحدة إلى الوراء بينهما على قيد ذراع منهما، وقد وضع بين الوسائد الثلاث دست، أي: صندوق صغير وضعت فوقه رقعة شطرنج، صفت عليها قطع من العاج والأبنوس المكفت بالفضة، وفي الدست درج ظاهر للمتفرج قد أخرج منه لتُلقى فيه القطع المدحورة ساعة اللعب أو تحفظ فيه بعده.

أما الوسائد الثلاث فقد جلس على اليمنى منها الكاتب سهيل، مولى شجرة الدر امرأة السلطان وكاتم سرها، وهو فتى في الثلاثين من عمره لا لحية ولا شارب له؛ لأنه خصي، قد لبس كلوتة «طاقية مضربة» ظاهرها أطلس رومي أصفر اللون اعتمَّ عليها على غير العادة بشاش من الحرير الإسكندري الأبيض، وعلى جسمه قياء بغلطاق «بلطو» من الحرير الأحمر الرومي، مسجف بفرو السنجاب، ومبطن بفرو ثمين، وقد تمنطق عليه بيند أبيض من الحرير، ويبدو من أسفل البغلطاق المذكور سراويل من الصوف الملطي «الجوخ» وفي رجليه خفان من الجلد الأسود البلغاري يلبسهما بخفين آخرين من الجلد الرقيق «أشبه بالمز أو هو بعينه» والخف الظاهر ذو رقبة عالية نوعًا ما وتدخل فيها فتحة السراويل.

وسهيل هذا جالس يلاعب رجلا أمامه هو الأمير الكبير جمال الدين محسن الكاظمي ناظر الخاص «وهي أرقى مراتب الدولة يومئذ وأسماها»، وهو رجل في الأربعين من عمره بادن شيئا ما قد ارتدى كما ارتدى سهيل مع اختلاف في اللون؛ إذ كانت كل ثيابه بيضاء غير أنه قد توشح بحميلة تدلى منها سيف عربي مرصع القراب بشيء قليل من الجوهر، وقبضته مكفته بالذهب، وجلس على الوسادة الثالثة رجل يدل ارتفاع رأسه عن الآخرين على أنه مديد القامة٣ وهذا هو الفارس أقطاي، وهو رجل دوين الأربعين يبدو نحيف الجسم لطول قامته، له نظرات حادة مطمئنة تدل على الفروسية والاعتداد بالنفس، وهو أصفر شعر الشارب والرأس، وملابسه ملابس محسن إلا أن كلوتته من الصوف الأحمر وعمامته مفرعة إلى العلى، وكانت مرتبته إذ ذاك نائب الأتابك، أي: نائب القائد العام.

وإلى اليسار الأقصى بأدنى المرزح مقعد منخفض عليه وسادة ثمينة ومساند جلس عليه الأمير بيبرس البندقداري قائد المماليك البحرية المرابطين حول القصر، وهو يطالع في كتاب أمامه قد فتح على كرسي مجنح منبسط بديع النقش والتكفيت هو القرآن الكريم.

والأمير بيبرس هذا رجل فوق الثلاثين من العمر ربعة في الجسم بلا بدانة، أبيض الوجه مربعه، أزرق لون الحدقة، له نظرة الأسد في وقار وكرم، وفي إحدى عينيه كسرة في مؤخرها٤ تزيده في عين الناظر مهابة، وهو مرتد قباء «بغلطاق» من الحرير السميك السنجابي اللون عليه أزرار كبيرة من الذهب في سجفه وهو متمنطق بحياصة عريضة من الذهب علق على يسارها سيف عربي، أما كلوتته فهي من الحرير الأسود المضرب، وعمامته صغيرة مفرعة، وخفاه الخارجيان مثبت فيهما مهماز مكفت بالذهب مثل أقطاي.
وإذ يزاح الستار يُرى رجلٌ آتيا من الباب الأيسر الأعلى — مقطع العظماء — ماشيا الهوينا على إفريز الإيوان وراء الأعمدة، وفي يده رسالة يقرؤها ثم ينزلي الرحبة، وإذ يرى الخزانة أمامه مقفلة الغطاء يجلس عليها، ويستمر في القراءة، وهذا هو الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أتابك الجند «القائد العام» ومدير الدولة في مرض السلطان، وملبسه في جملته مثل بيبرس إلا أنه أزرق اللون، وإذا نظر إليه الناظر وجده في الخمسين من عمره، ينم مجموعه على أنه نضو حروب، ظفر منها بمجد وعظمة جديرة به وبسالف محتده؛ إذ إنه سليل أمجاد وفرسان وقادة عظماء معروفين على مدى سبعة قرون،٥ ولكنه في صمته وقلة انشراح نفسه وعدم انقطاع نظره عن الرسالة التي بيده يشعر بأن ضميره مثقل بهمٍّ كبير.

والمكان مضاء بثريات عظيمة متعددة القناديل؛ واحدة في الإيوان، وثلاث في معاقد البوائك إلا أنها صغيرة، وأخرى كبيرة في وسط الرحبة يرى تحتها حامل مثمن الأضلاع، مصنوع باللقم والمخاريط الخشبية التي تصنع منها المشربيات عادة، وهو شبيه في جملته بكرسي العشاء في الأفراح عندنا.

التمثيل

سهيل (ناظرًا إلى الرقعة يتناول رخ محسن ويلقيه في درج الدست) : رخ (يلتفت إلى الفارس أقطاي) كيف حالك يا أقطاي؟
أقطاي : حال من يرى آماله يقصر ظلُّها. إن مرض السلطان يقلق بالي يا سهيل. أرأيت هبة الله الطبيب؟
سهيل : أدخلته الليلة على السلطان فمرخه بمرهم ثم خرج ولم أره، وكنت أريد أن أتعرف منه حقيقة الحال.
أقطاي : لعمري ما تنصفون إذ تدخلون هذا الطبيب على السلطان. أم نسيتم أنه ابن صليبي قتلناه؟
سهيل : إنه طبيب القصر قبل أن أطرق القصر. ولقد عشت ما عشت فرأيته يدخل ويخرج بالليل والنهار غير مدافع ولا مستراب، ويتنقل مع السلطان وحاشية السلطان في الكرك ودمشق وحمص وحلب وفي كل مكان، فهل كان لي أن أمنعه اليوم من أن يكون كعهده بالأمس؟
محسن (يقدم الفرس) : دونك هذا الفرس المطهم. وإذا أنصفت امتطيته وسرت به إلى شواطئ دمياط تجد هبة الله هناك.
سهيل (يضحك) : ما شأني به هناك؟
محسن : سله ماذا فعل مرهمه بمولاك؟ وأي خبر من أخبار القصر يحمله إلى أهله الأقدمين؟ وسله كذلك أين تنزل الأميرة صفية؟ (هنا يرفع بيبرس رأسه ويظل ينظر إليه، ويشرع فخر الدين جفنه إليه وهو يطل في الورقة) فإذا وصلت إليها فاقرأ الفاتحة على روحها.
أقطاي : وي! وي! وي! ما هذا؟
محسن : أخبار بسيطة يا نائب الأتابك وفارس الفوارس،٦ كيف حالك اليوم؟
أقطاي : عجبي! عجبي! من أوقع الأميرة صفية في أيدي الفرنسيس؟
محسن : علمها عند هبة الله، إنه يقول: إنها كانت آتية من الشام فاعتقلها الفرنسيس في دمياط.
أقطاي : ومن أين له علم بذلك إلا أن يكون له بمن اعتقلوها اتصال وثيق؟
محسن : سل نسوة القصر عن ذلك. ألا تدري أنه خطب الأميرة إليهن غير مرة ثم خطبها إلى من هو أكبر منهن وأعلى؟
أقطاي : خطب الأميرة صفية لنفسه!
محسن : أجل. أتظن أنه يرى نفسه في القدر دونها؟ إنه يزعم أنه ملك غير متوج.
أقطاي : ومتى كانت هذه الخطبة يا ترى؟
محسن : ونحن في حمص.
أقطاي : إلى أختها؟
محسن : بل إلى السلطان نفسه.
أقطاي : وماذا فعل السلطان؟
محسن : ضحك وضحك وظنها مزحة، ولكني علمت أنه كان هائمًا بها من يوم ما حملها بيبرس من بادية بغداد، كما كان هائمًا منذ سبعة عشر عامًا بفتاة كريمة كانت زهرة قصر الملك الكامل ودرته الناصعة، حتى لقد صارحها بحبه ذات يوم فلطمته على صدغه بنعلها لطمة أتلفت له ضرس العقل، وأطارت طائر الرشد من دماغه.
أقطاي (يضحك) : ترى من كانت هذه الفتاة العظيمة؟
محسن : ألا تعرفها؟
أقطاي : كلا والله.
محسن : هي التي بنيت بها أنت يا أقطاي.
أقطاي : امراتي؟
محسن : امرأتك بعينها.
أقطاي : وي! وي! قبّح الرجل! قبّح! حقا إنه غير سليم، ولكن هل شرعتم تحققون نبأ الأميرة صفية؟ لعلها أكذوبة يشيعها الفرنسيس على ألسنة جواسيسهم لينالوا من ورائها مأربًا، ألم تشرع مولاتنا شجرة الدر في ذلك؟
محسن : مثل مولاتنا لا يهدِّئ هذا النبأ بالها، وقد كتبت إلى مرغريتا امرأة ريدافرانس تسألها وتستوسطها في إرسال أختها إليها إن كان الأمر صحيحًا، وأهدت إليها شيئا كثيرًا من درها الأسود النادر، فذهب الرسول ولم يعد وكأنه طمع فيما كان يحمل.
أقطاي (متعجبًا) : ومن كان هذا الرسول يا ترى؟
محسن : تاجر من أهل البندقية تعرفه منذ كانت في بيت المستعصم ببغداد، أي: قبل أن تتزوج من مولأنا السلطان الصالح.
أقطاي : تالله ما وثقت يومًا بتاجر ولا رأيته فيمن يستحق كرامة. ولكن ماذا فعلت شجرة الدر؟
محسن : لعمري لولا أن مرض السلطان يقعدها لذهبت هي نفسها تبحث عن أختها هذي. فما أنسى يوم جيء بها معنا إلى العراق كيف كانت تبكي على أمها وأبيها وتتوسل إلى بائع الرقيق أن يردها إلى خوارزم. والرجل يضحك مرة ويعبس أخرى ويهم يضربها أحيانًا، ولا أنسى أيام اصطفاها السلطان زوجةً له كيف أخذت تنبش الأرض عمن تخطفهم تجار الرقيق من أهلها إثر نكبة التركمان الكبرى، وماذا أنفقت من الأموال حتى جاءها بيبرس بأختها صفية هذي.
أقطاي : لقد كان يومًا مشهودًا.
محسن : بل لعمري إنها بالرغم مما هي فيه من نعمة تغبطها عليها الحور لتحن إلى خوارزم، وتئن كلما ذكرت أنها مقطوعة عن الأهل في هذه الدنيا، ولا سيما بعد إذ فجعت في خليل ولدها الذي رزقته من مولانا. كم مرة دخلت عليها الخِدر٧ وهي تبكي لفراق أهلها وذكرى أمها فأبكتني معها.
أقطاي : أحزنتني والله يا محسن، أيقظت بي ذكرى الأهل والوطن، لعمري إني لأحس في بعض الأحيان لهبًا يندلع في فؤادي إذا تعرضتْ لي ذكريات الوطن.
محسن : أشكر الله على نعمة الإسلام يا أقطاي، إنه جعل من أهله إخوة ومن أوطانه كلها وطنا لأهله.
أقطاي : صدقت ولكن الإنسان يحب من الدنيا قطرًا فبلدا، ومن البلد خطًا فحارة، ومن الحارة زقاقا فبيتا، ومن البيت غرفة فزاوية، وإني لأتمنى أن أعود إلى هذه الزاوية من بيت أبي في خوارزم، أقضي بها بقية أيامي.
محسن : اِحْمِدِ الله على حالك يا أقطاي، كنت وكان أعيان المماليك البحرية من أعيان خوارزم، فلما شتتنا المغول لم يشأ ربك أن ننزل في غير بيت المجد والإمارة والنعمة الفياضة، فقيض لنا مولانا الملك الصالح ففدانا واشترانا وأعزنا كأهله وأمَّرنا كما كان آباؤنا.٨
أقطاي : إنها والله لنعمة كبرى لأبقى بشكرها أن نبذل أرواحنا في مدارج قدميه وقدمي أختنا ومولاتنا شجرة الدر فضلى نساء المسلمين. كان أجدر بك يا محسن أن تذكرها، إننا أهلها ومواليها وإننا نفديها من الشر بأرواحنا.
محسن : إنها والله لتعرف ذلك وتعتّز به، وترى أنها بخير ما دمتم. ولقد أقلق بالها اليوم أمر عصيب، فرأت أن تدعوكم للقائها.
أقطاي : إني تلقيت الليلة رسالة منها، ولكن يدهشني منها أنها بخط السلطان.
محسن : بخط السلطان! متى كان السلطان كاتب يدٍ لامرأته! بل هل يستطيع السلطان الكتابة وهو على خطة؟
أقطاي : لا أدري.

(سكوت)

سهيل : لعنة الله على هذا الفرس. (يرفع يده متضايقا، فيضحك أقطاي وينظر إلى الموقف).
محسن (يضحك مقهقهًا) : تقبّله هبة مني يا سهيل.
سهيل : هبة! والله لو كان لجامه من ذهب وكنبوشه مرصعًا بالماس ما أخذته … دونك هذا البيدق.

(يقدم البيدق)

أقطاي (يعرض الرسالة التي جاءته من شجرة الدر على سهيل) : أتعرف هذا الخط يا سهيل؟
سهيل (يأخذها منه وينظر فيها ويردها مسرعا بلا اكتراث وهو يبتسم ويعود فينظر إلى الرقعة) : هذا خط السلطان.
أقطاي (بتعجب) : خط السلطان! (يطوي الرسالة ويعيدها إلى حياصته).
محسن : قبّح البيدق وصاحبه (يقدم قطعة من قطعه).
أقطاي : إياك والاستهانة بالصغير … كم من بيدق فاز على ملك.
سهيل : وهذا برهان المقال. (يقدم بيدقا آخر). هذا بيدق آخر. كشّ الشاه.
محسن (بذعر) : شاه! كيف ذلك؟ محال!
سهيل : ويحك أما ترى!
أقطاي (يضحك) : قضي الأمر يا بني. مات الشاه!
سهيل : مات الشاه.
فخر (ينهض عن مقعده) : بئس الفال! بئس الفال! أقسمت عليكم أيها الأمراء إلا ما فضضتم هذا اللعب قبل أن يتم، دعوه بالله لنوبة أخرى. أرجع القطعة يا سهيل، إنه لفأل شؤم على السلطان (يلتفت إليه بيبرس ويعود إلى النظر في القرآن).
أقطاي (يضحك متهكما ولا يلتفت إليه) : أأنت من أهل الطيرة والفأل يا فخر الدين؟
فخر : كلا والله، ولكن النفس إذا وجدت استسلمت إلى كل شيء حتى الخرافة. ولقد أنقضنى مرض مولاي الصالح، وتملكني الحزن على مصر منذ نزلت الفرنجة بأرضنا. لعمري لئن فاجأه القدر ونحن في قتال مع الفرنسيس لانقسم الأجناد بعضهم على بعض وأخذنا بالسيف من كل جانب، أما والله إنه ليخيل إليّ أني متقدمه إلى دار الآخرة عما قليل.
أقطاي : تحسن والله صنعًا، إن فعلت يا سيدي الأتابك، هذا وحقك جزاء وقلق (سهيل ومحسن وإن كانا منهمكين في اللعب يضحكان ويشاركهما أقطاي بعد ذلك. وفخر الدين يؤخذ خجلا) أليس كذلك يا بيبرس؟
بيبرس : ذرني ونفسي يا أقطاي.
سهيل : دعه يكمل سورة الفتح يا أقطاي!
بيبرس : لست أقرأ سورة الفتح يا سهيل، إنما أقرأ سورة المنافقين. لا أدري من ذا جاء بهذا الأمير (مشيرا إلى فخر الدين) إلى هذا المكان؟ أهو من أمراء النوبة هذه الليلة.
محسن : كلا ولكنه …
بيبرس : فماذا يدعوه إلى مضاعفة همنا بظهوره بيننا في هذه الليلة الليلاء؟ أيريد أن يذكرنا بتخليه للفرنسيس عن دمياط؟
محسن (يتكلم ولا يلتفت) : لقد عفا الله عما سلف يا بيبرس … دع عنك هذا.
بيبرس : لعمري لئن عفا الله عن مثل هذا الجرم لقد هان الكفر على الكافرين.
فخر : إنك لتحرج صدري أيها الأمير. أتعي ما تقول؟

(ينهض ويمد يده إلى مقبض سيفه).

بيبرس (ينهض ويضع يده على مقبض سيفه ويجرد بعضه) : لقد كان جديرا بك أن ترينا بريق هذا السيف على شواطئ دمياط مقبلا ولا مدبرا … حسبك أيها الأمير … هذا برق خلب لا يخدعني.
فخر : إنه لينطفُّ دما يا بيبرس لو كنت تدري.
بيبرس : أجل دماء النساء والولدان من أهل دمياط.
أقطاي (ينهض) : دعونا من هذا اللجاج أيها الأخوان، حريّ بكم ألا تزيدوا السلطان مرضا على مرضه باقتتالكم على ما فات، إنى لأخشى أن يبلغه الأمر فيقضي نحبه، أغمد السيف يا فخر الدين. وأنت يا بيبرس حسبك.
بيبرس (يغمد السيف بشدة) : لو أن أنثي قد تولت الدفاع عن دمياط وهي في حصونها التي أقامها الصليبيون منذ ثلاثين عامًا، وتحت إمرتها من الرجال ما كان تحت أمرة هذا الأمير من بني كنانة والمماليك البحرية، وبين يديها من المئونة والذخيرة والعدة والسلاح ما كان بين يديه، لاستعصت على الجيش اللجب، ولأنزلت بعدوها أنكر العطب، ولكن كبير جند مصر لم يزد على أن نهض من مجلسه وأطل صوب البحر، فرأى مراكب الفرنسيس تدنو من دمياط ففر كالأرنب الأخرق المذعور، تاركا أعراض المسلمين من ورائه يتناهبها قسرا جنود الصليبيين، ورقاب الأمراء من بني كنانة يضربها السلطان في وجده، ورأس هذا الأمير بين كتفيه.
فخر : ويحك … أما والله لولا أن يقال: لم يرع للسلطان حرم لأسلت الآن دمك.
بيبرس : أو لَسَال دمك يا سبة الأمراء (يجرد سيفه ويهجم عليه، ويقابله فخر الدين بمثله ويقتتلان ويتقدم أقطاي نحوهم وينهض سهيل ومحسن ويحاول الجميع الحيلولة بينهما).
محسن : ما هذا!
أقطاي : بيبرس!

(وإذا بشجرة الدر قد فتحت الباب الأيمن وظهرت فتقدمت ثم وقفت تنظر، وشجرة الدر هذه في الخامسة والثلاثين من العمر كبيرة العينين حلوة الوجه صغيرته، نظرتها نظرة الصقر هادئة، تدل ملامحها على أنها قوية العصب واسعة الحيلة، وهي مرتدية قباء من الحرير السميك قصير الكمين مطرزًا، حول قبته وعلى ظهره وأطراف كميه وسجفه بالزركش الثمين المرصع بالجواهر على صور طيور وأفنان، وتحته قفطان من الحرير الأبيض المطرز أيضًا قد تمنطقت عليه بحياصة مرصعة بالجواهر، وتدلت منها ذلاذل من أسماط اللؤلؤ تخفي بينها خنجرا صغيرا مرصع المقبض والقراب، وعلى رأسها عمامة من الشاش الحريري الإسكندري «المقدوني» قد نثر عليها اللؤلؤ في أسماط ثبتت على صورة بوائك وموشحات، برزت فيما فوق الجبين منها درة سوداء كبيرة تحيط بها درر أخرى، وعلى صدرها ولبتها عقود من اللؤلؤ أيضًا، وفي رسغيها وأصابعها سواران وخاتم ثمين، وفي رجليها حذاء على شكل «المركوب» أو هو بعينه مرصع بالجواهر، وقد انتقبت بغطاء شعشاع؛ إذ إن جميع من في الدار عبيد زوجها ورجال بعضهم طواشى والبعض ممن اتصلوا في الخدمة بها مدة طويلة).

(الأمراء يتنحون فيرجع بيبرس إلى مكانه وأقطاي يقف إلى جوار فخر الدين ومحسن حيث كان يعمل وسهيل يبعد رقعة الشطرنج إلى الوراء).

شجرة : فخر الدين بن شيخ الشيوخ وبيبرس البندقداري! إذن فقد ضاعت الدولة على أيديكم أيها الأمراء (ملتفتة إلى الأمراء) أيقاتلكم العدو في ظاهر بلادكم، وتقتتلون أنتم في باطنها، ثم تبتغون نصر الله! مرحى! مرحى لزعماء الأجناد (تتقدم وتنزل الرحبة). ماذا جرّ إلى هذا الشقاق يا محسن؟
محسن : تخلى الأمير فخر الدين عن دمياط يا سيدتي.
شجرة (إلى بيبرس) : لعل للأمير عذرا في إخلائها، أفمن حقك أن تجزيه على ذنبه؟ لو كان فخر الدين قد أخطأ فيما فعل لضرب السلطان عنقه أسوة بسواه.
بيبرس : وي! … ألم يخطئ؟
شجرة : إن لإخلاء دمياط سرًّا لا يعرفه كثيرون، وقد أطلعني مولاي السلطان عليه منذ عهد قريب فعذرته والحرب خدعة.
بيبرس : أفعفا السلطان عنه بعد ذلك؟
شجرة : نعم، عذره عذر فارس لفارس.
بيبرس : فلماذا قتل السلطان أمراء بني كنانة الذين فروا معه، وهم إنما تركوها تأسيا به؟
شجرة : كان ذلك قبل أن يعرف السر وقد حزن لقتله إياهم حزنا شديدا.٩
أقطاي : إذن فقد أخطأ فخر الدين في التأخر عن الشفاعة لهم عند السلطان يا مولاتي.
شجرة : لا أدري لعله كذلك.
فخر : لم أستطع المثول بين يديه فقد شغلني ملك الفرنسيس وأخواه يومين كاملين عند البحيرة، ولو خليت ساحة القتال في تلك الساعة الرهيبة لقتل من أمرائي فوق هؤلاء عدًّا، ولكان جرمي إذ ذاك أعظم وأشد، على أنه لم يدر بخلدي أنه آمر بهم أن يقتلوا.
سهيل : إذن فقد أعذر كل منهما يا سيدتي.
شجرة : أجل أجل (تتقدم إلى الكرسي الكبير الذي في صدر الإيوان ثم تجلس ويذهب فخر الدين إلى يمين أقطاي) من لنا في الجند كهذين؟ أليس كذلك يا محسن؟
محسن : بلى يا سيدتي.
أقطاي : لم أجد في الدنيا رجلا يغضب للحق غضبه بيبرس، لقد كان إفضاء كل منهما إلى صاحبه أدنى إلى الإخوّة منه إلى الصداقة حتى رأيته الليلة يقاتله من أجل الحق.
شجرة : نعمت الغضبة لله والحق، أما والله لولا ذلك ما عفوت عنك يا بيبرس.
بيبرس : شكرًا لمولاتي.
شجرة : وأنت يا فخر الدين، اعذر أخاك.
فخر : لقد والله كنت أجد لومه إياي عتبا فاعذره، فلما لج أحرج نفسي والفطرة أغلب.
شجرة : إذن فتصافحا … تصافحا أمامي وليكن ودادٌ كما بعد اليوم في خدمة الله إخاء (يتصافحان) هذا أليق بحماة مصر (إلى أقطاي) أبلغتك رسالتي يا أقطاي؟
أقطاي : أجل يا سيدتي.
شجرة : وأنت يا فخر الدين؟
فخر : جئت طوع أمرك يا سيدتي.
شجرة : أما أنت يا بيبرس فقد علمت من محسن أنك من أمراء النوبة هذه الليلة فلم أجد حاجة إلى استدعائك، إني أريدك … أجاءك نبأ عن أختي؟
بيبرس : علمت الليلة أنها جاءت من الشام تنشدك في دمياط، ولم تكن تدري بما أصاب المدينة فوقعت في قبضة الفرنجة.
شجرة : فما بال ركن الدين قد توانى عنها؟ ترى نسي عهده أيام كانت معنا في الكرك عند يوسف؟ أم أنها جاءت مصر تبغي غير من أنقذها من أخياش بني الأصلم في بادية بغداد؟
بيبرس : لم أكن وحقك لأدري بما أصاب أختك إلا الليلة، إنني كنت بشار مساح حتى اليوم، ولكنت الساعة بين سمع الفرنسيس وبصرهم لولا أنها نوبتي في جوار مولاي السلطان، إنكِ لتعلمين أني لا أطيق أن أتمثل لنفسي أختًا في الدين والوطن أسيرة حتى أنقذها، فما بالك يا عصمةَ الدين بالفتاة التي علقت بها نفسي وعلقت بي نفسُها؟ أما والله لو كان فوق الروح فداء لفديتها، فاعذري يا سيدتي وتوكلي على الله.
شجرة : شكرا لك يا بيبرس، من أجل هذا رضيت بك فارسًا لها.
فخر (يتقدم من بيبرس) : ما أشد جرمي عليك يا ركن الدين، لقد كان إخلائي دمياط وقرا عليك يعدل ما أصاب الناس فيها جميعا، لو بقيت في يدي يومين لبلغتك عروسك سالمة، ولكنه قضاء الله. معذرة إليك يا ركن الدين.
بيبرس : لكأنه أراد لنا أن نتقاسم البؤسى؛ إذ نحن صديقان كما تقاسمنا النعمى في كل مكان. لاتحزن يا فخر الدين ذلك قضاء الله.
فخر : استمعوا لي أيها الرفاق، سأقص عليكم نبأي الذي كتمته عنكم حياء لتعذروا أخاكم حقا، ولتعلموا أني على ما عهدتم في إيثار الموت على العار.
شجرة : أحسنت يا فخر الدين. هذا أتقى لريبة النفوس.
بيبرس : إن كان في الذكر أسًى لك فأمسك عليك سرك، حسبنا عذر السلطان.
فخر : كلا، إن كان في الذكر أسًى لي فهو حسبى. لما جاءت مراكب الفرنسيس إلى بر دمياط جاءتني فتاة تلهث من الركض، وهي تبكي وتنتحب، تقول: أنقذنا، أنجدنا، أنقذ أبي وأمي وأهلي؛ إذ الفرنسيس نزلوا بفارسكور، فزعمت أن الفرنسيس أرادوا هذه المرة أن يأخذونا من كل الجهات، فنزل بعضهم بُحَيرة تنيس بشوان قريبة القاع؛ ليقطعوا الطريق على جيشي، ويبلغوا المنصورة بلا قتال، وإذ كان في الأمراء من قدّروا هذا الأمر وأشاروا عليّ بإنقاذ السلطان فقد خرجت بجيشي لا ألوي على شيء حتى بلغت فارسكور، ولكني لم أجد أثرا لما قالت تلك الفتاة الخائنة، وكذلك نزل الفرنسيس بدمياط بغير قتال.
أقطاي : من تكون هذه الفتاة يا ترى؟
فخر : لا أدري.
أقطاي : ألم تعلم من أمرها بعد ذلك شيئا؟
فخر : لم أرها منذ ذلك الحين ولم أعرف من هي.
محسن : لن يخون المؤمن أخاه المؤمن.
أقطاي : ولا المصريُّ أخاه المصريَّ، ولكني لا أظنها عملت ذلك بملكها.
محسن : هذا مقدر.
شجرة : خدعة إيّها الأمراء والكريم يُخدع.
بيبرس : لا جناح، لنخرجهم منها أذلة كما أخرجنا ملوكهم من قبل.١٠
أقطاي : والآن، ما مهمتنا نحن يا مولاتي؟ إن كان من أجل هذا دعوتنا فقد كان فيما فات بلاغ.
شجرة : ليس هذا كل ما دعوتكم له، ولكني رأيت مولاكم في حالة تدعو إلى القلق حتى لأشفق أن يلبي الليلة دعوة ربه، فإذا وافاه القدر وأنتم مشتغلون بمقاتلة عدوكم، وليس في مصر ولي عهد معهود فإني أخشى أن تنقصم ألفة الأجناد؛ فيتفرقوا ويفشلوا ويحل بمصر والإسلام ما لا دافعَ له إلا الله، فماذا أنتم فاعلون؟
فخر : إنَّا نضرع إلى الله أن يهبه العافية ويمدّ في أجله حتى تنجلي عنا هذه الغمة، أما والله لا أدري ماذا نفعل يا سيدتي.
شجرة : وأنت يا أقطاي، هب أن مولاك قضي في هذه الأيام، أيَفُتُّ في عضدكم وتذهب الدولة بقضائه؟ الله يعلم أني أحادثكم ونار الأسى تتأجج في صدري، ولكني عاهدت ربي أن أداري جواي في طية من طيات الفؤاد، وأجعل باقيه وقفا على مصلحة هذه البلاد؛ لذلك ترونني أستعجل المحتم وأنظر إلى الأمر كأنه تم، فما رأيك؟
أقطاي : لا قدر الله يا مولاتي، ولكن انظري في الأمر ومُري تطاعي.
شجرة : آه (متضايقة)، ما رأيك أنت يا محسن؟
محسن : لا رأي لنا معك يا سيدتي، إنَّ مولانا لم يوصِ بولاية العهد لأحد من أهله، ولا هو يستطيع الآن وصاية، إذن فالشقاق منظور، ما رأيك أنت يا بيبرس؟
بيبرس : أكاد أرى سيدتي تنهي إلينا نبأ الفاجعة في مولانا السلطان شيئا فشيئا، فإن كان كذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون.
شجرة : إنا لله وإنا إليه راجعون، قضي الأمر أيها الأمراء. (تبكي شجرة الدر).
بيبرس : اللهم لا حول ولا قوة إلا بك. (تبكي شجرة الدر ويقف الرجال محزونين).
فخر : ترفقي بنفسك يا مولاتي، اذكري قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
محسن : إنّ لنا في رسول الله أسوة حسنة، لعمري ليس هذا أوان البكاء والنحيب وإنما هو أوان الرأي والتدبير، أفتريدين أن تشغلي بالك بالحزن حتى تفقد مصر رأسها؟ إنا نعلم أنك كنت صاحبة الأمر أيام كان مولاي في حصار حمص، وكنت ذات الرأي منذ لزم السلطان فراشه، فإذا استسلمت للأسى استسلمت البلاد للأخطار، ووقعنا أسرى في أيدي الفرنسيس، وكنت أنت في مقدمتنا، إن كان لمولاي الراحل عليك حرمة فارعها اليوم بإرجاء الحزن عليه، ودبري له ملكه الذي كان يغار عليه غيرة عظيمة.
أقطاي : صدق محسن يا مولاتي، ورأيي أن تمضي فيما كنت فيه من تدبير شئون الدولة، وتكوني ملكة مصر والمسلمين طرًّا، ونحن كما نحن مواليك المخلصين.
شجرة : ملكة المسلمين! أفقدت الديار رجلًا؟ كلا، لم أكن لأحدث في الإسلام خرقا يا أقطاي.
أقطاي : ولكن ماذا نفعل يا سيدتي، ولم يوصِ مولانا بولاية العهد لأحد من آل بيت بني أيوب؟ إنك والدة ولده خليل رحمه الله، وقد فاضت أيديك كرمًا على أهل مصر والشام حتى أصبحت ولك في كل قلب عرش وفي كل فؤاد مقام، وعلم الناس أن مولانا كان يعهد إليك في تدبير الدولة في غيبته لفضلك وكياستك، فإذا توليت أمرهم بما عهد فيك من الحصافة وبُعْد النظر كان أجرك عند الله عظيما، كذلك كان أجر خاتون بنت الملك العادل، فقد ملكت حلب بعد وفاة ابنها العزيز، وتصرفت في الأمر تصرف السلاطين، وقامت بالملك أحسن قيام.١١
شجرة : أجل ولكني لا أريد أن أغضب الرسول في قبره، أم تريدون أن يحق عليكم قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يفلح قوم ولَّوا عليهم امرأة»؟
بيبرس : بارك الله في سيدة نساء المسلمين، استمعوا لي أيها الأمراء إن إعلان الخبر اليوم أذى لمصر فلا بد من الكتمان.
فخر : أجل. أجل.
محسن : لا شك في ذلك.
بيبرس : وما دامت مولاتنا لا ترى رأي أقطاي فلنبعث بأحدنا الليلة إلى ديار بكر سرًّا، وليكن أقطاي نفسه إلى الأمير طور الشاه بن السلطان الكريم يخبره بالنبأ المشئوم، ويأتي به إلى مصر لتولي شئون الدولة بعد أبيه.
محسن (بإنكار) : أتريد هذا سلطانًا علينا؟
بيبرس : أجل.
محسن : نحن لا نريد سلطانًا كهذا يا بيبرس، إنه ليس كأبيه ولا جده.
بيبرس : كلا ولكن المصريين لا يريدون إلا ملكا من بيت بني أيوب.
محسن : انظر لنا رجل من كرامهم، فما الملك هنة من الهنات.
بيبرس : نحن اليوم في غمرة، وإني لأخشى الفتنة في الداخل إن هممنا بمثل هذا.
محسن : ولكنه لا يصلح، أتريد أن يملأها خمرا وحمقا ونزقا، إني ما سمعت أباه يذكره بخير أبدا، هل بعث به إلى أقصى الأرض من مملكة الشرق وجعله واليا على كيفا إلا ليريح هذه البلاد من نزقه؟
بيبرس : أعرف ذلك، ولكن الدولة ليست بسلطانها ولا بملكها وحده يا محسن.
محسن : بمن إذن؟
بيبرس : برجالها، بنفوس أبنائها، فإن كان السلطان عظيما وهي دونه لم يفدها جلالة كثيرًا، وإن كانت عظيمة وهو دونها لم يضرها ذلك فتيلا، ونحن والحمد لله قوم لا نعرف في الحق زيغا ولا في الوطن مراء.
شجرة : الحمد لله على ذلك.
الجميع : حُيّيتَ يا بيبرس.
بيبرس : فلنولّه علينا طوعا لإرادة الناس ورعاية لعرف البلاد، إن المصريين لا يريدون إلا ملكا من بيت الصالح.
محسن : حتى ولو مال عن الحق؟
بيبرس : إذا مال عن الحق فما هو بأعز جانبا من عمر إلا أن تتلمّسوا سيوفكم فلا تجدوها.
محسن : ولكن مولاي لم يوص بولاية العهد إلى طور الشاه، فكيف يرضى به الناس؟ إنا لا نريد أن يتخذها دعاة الملك من بيت العادل والناصر فرصة للتفريق.
بيبرس : بين مصر وكيفا مسيرة أربعة أشهر ذهابًا وجيئة، ولست أظننا نقصر عن دفع العدو في غضونها.
فخر (يقاطعه) : ولكنكم نسيتم أنه قد يتسرب خبر موت سلطاننا إلى الناس من حيث لا نعلم فيفسد عملنا كله.
بيبرس (بصوت المتضايق) : إذن فلتكتب مولاتنا من فورها رسالة بالخط الذي راسلتك به أنت والفارس أقطاي، وهو يكاد يكون خط السلطان بعينه …
شجرة (تقاطعه) : إنه خط كاتبي سهيل.١٢
أقطاي (يلتفت متعجبا لسهيل) : خط سهيل!
سهيل : إنه خطي أيها الفارس (يبتسم).
بيبرس : إذن فليكتب سهيل بخطه وبتوقيع السلطان إلى الأُمرِ في قلعة الجبل في القاهرة، وإلى من كان منهم هنا في المنصورة بالطاعة للسلطان الصالح كأنه لا يزال حيا، وبولاية العهد لولده طور الشاه حتى نأمن هذا الجانب من تدبيرنا.
الجميع : حسن حسن.
بيبرس : وبالأتابكية للأمير فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ (يشير إلى فخر الدين).
فخر : لي أنا؟ كلا أيها الأمراء إن نجمي قد أفل، عليكم بغيري وليكن ركن الدين نفسه (يشير إلى بيبرس) إنه لأكبرنا همة وأعزنا نفرا.
بيبرس : بل لك أنت يا فخر الدين، إنك لكبيرنا وعمادنا على كل حال، وما الأتابكية إلا حق لك غير موفور.
سهيل : يا لجميل الاعتراف!
أقطاي : هذا أرعى لذمة السر يا رجال.
شجرة : صدقت يا أقطاي.
محسن : لا بد من ذلك يا فخر الدين.
فخر : شكرا لكم أيها الإخوان.
بيبرس : وليقم فخر الدين إلى حسام الدين لاجين يجمع في داره الأمراء ويحفلهم على ذلك وأنا أول الحالفين.
شجرة : مرحى للبطل.
بيبرس : وليبق كل امرئ منا على ما كان عليه، فمحسن ناظرًا للخاص، وسهيل لكتابة السر، وأقطاي في إمرة التدريب ونيابة الأتابكية، وعز الدين وقطز وبلبان وتكز وبيبرس ولاجين فيما هم فيه من الأمرة، ولتبق مولاتنا شجرة الدر تدبر الأمر شورى، حتى يأتي الأمير طور الشاه، عندئذ نعلن ما قد خفي وقد جزنا مرحلة الخطر سالمين.
أقطاي : أصبت.
فخر : أصبت.
شجرة : بارك الله فيك.
بيبرس : فأما مولانا عليه الرحمة فيوارى لحده في غفلة القصر، وتبقى مولاتنا على كتمان أمره لا تغيّر عادة من عاداته، بل يخرج الطعام في أوقاته ويصعد الأطباء على عهدهم، ثم يصرفون بعذر يختلق.
شجرة : هذا خير ما يفعل، أليس كذلك يا محسن؟
محسن : نِعْمَ الرأي يا مولاتي.
شجرة : وأنتم أيها الأمراء أتقسمون عليه؟
الأمراء : نعم.
شجرة : صدق بيبرس إن الدولة برجالها، هات القرآن يا سهيل، أأنت متوضئ؟
سهيل : لم يطلع الفجر بعد يا مولاتي، هاته أنت يا بيبرس لقد كنت تقرأ فيه الساعة.
بيبرس (يتناول كرسي المصحف بين يديه) : ها هو ذا يا مولاتي، (ويضعه فوق الكرسي المضلع الذي تحت الثريا).
شجرة (تتناول المصحف وهو مفتوح فتقبله وترده) : تقدموا.
بيبرس (ساعة تقدم الأمراء الحاضرين يستل سيفه ويضعه بين دفتي المصحف) : إن لهذا السيف حرمة فليكن مع القرآن في قراب.
شجرة : أحسنت، (للأمراء) أقسموا (يضعون أيديهم معها على الكتاب والسيف، وسهيل يضع يده في منديل يتناوله من حياصته وتكون يد شجرة الدر فوق الجميع، وهي تقول والأمراء يرددون كل كلمة تقولها) نقسم بالله العظيم (يرددون) ونبيه الكريم (يرددون) وكتابه هذا (يرددون)، وهذا السيف المسلول (يرددون) أن نحفظ السر (يرددون)، ونعمل بما أبداه بيبرس (يرددون).
بيبرس (يتمم) : ونكون عونًا لمولاتنا (يرددها الأمراء وحدهم) ما دامت على الحق والسنة (يرددون).
شجرة (ترفع كفها ويرفع الأمراء أيديهم ويعودون إلى أماكنهم الأولى ويأخذ بيبرس سيفه ويغمده في قرابه) : حياكم الله أيها الأمراء، بمثل هذا تقوم الممالك، عودوا الآن على بركة الله، سأدعوكم كلما جد في الأمر شيء، ما كنت فاعلة أمرًا حتى تفتون، اذهب الآن يا سهيل أنت وأقطاي لكتابة الرسائل.
سهيل وأقطاي : سمعا يا مولاتي (يخرجان من الباب الخاص).
شجرة : وأنت يا بيبرس فأتني بأختي طاهرة نقية أو فأتني برأس هاتك حجابها (تتراجع قليلا).
بيبرس : ويلٌ لهاتك حجاب المؤمنات! أما وهذا السيف الذي لا يعرف في الحق لومة ولا للبغاة حرمة لأطهرنّ البلاد منهم، أو لأغمدّنه في صدري، لآتينك بأختك كريمة أو أموت دونها كريما.
شجرة : إذن فاذهب إليها، إني أسمعها تدعوك (تهم بالخروج من حيث أتت وتلتفت مولية).
بيبرس (يمد يده للسيف فيجرده ويقيمه أمام ناظريه يحادثه وهو يهتز وينتفض) :
أيها السيف قد دعوتك فانهض
إن بنت الكرام رهن اللئام
قد أهابت بنا فإن لم نُجِرْهَا
ففراقا طول المدى يا حسامي

(ثم يضرب بالسيف في الفضاء إلى أسفل).

١  ذكر لين بول أن موت الصالح كان في ٢١ نوفمبر سنة ١٢٤٩ ولكن جوانفيل الذي كان في هذه الحملة بوظيفة Constalbe de France أمير جيش الملك، قال انه كان في ١٠ ديسمبر من تلك السنة.
٢  عن المقريزي.
٣  كتب التاريخ.
٤  كتب التاريخ.
٥  انظر تاريخه في المقريزي.
٦  انظر تاريخه في المقريزي.
٧  كان محسن هذا من الخصيان كسهيل.
٨  كتب التاريخ.
٩  كتب التاريخ.
١٠  يشير إلى إخراج الصليبيين من دمياط قبل هذا بثلاثين عاما.
١١  عن أبي الفداء.
١٢  ذكر المؤرخون أن خط سهيل كان مثيلا بخط السلطان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤