الثقافة الإنجليزية وأثرها في تقدم العالم

لحضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين بك

سيداتي وسادتي

من الموضوعات التي يتناولها الناس في المحاضرات ما لا يمكن التعمق فيها؛ لأنها أوسع وأخطر من أن يتناولها المُحاضر في ساعة أو ساعات؛ ولأنها أوسع وأخطر من أن يتناولها المؤلف في كتاب يتألف من جزء أو جزئين، فالمحاضر إذن مضطر إلى أن يمسَّ هذه الموضوعات مسًّا رفيقًا، وأن يدور حولها أكثر من أن يهاجمها ويتعمق فيها، والموضوع الذي طُلِب إليَّ أن أتحدث إليكم فيه الليلة من هذه الموضوعات.

فالثقافة البريطانية شيءٌ لا يمكن أن يُحاط به في حديث أو أحاديث، ويكفي أن نلاحظ أن الثقافة البريطانية الحديثة في هذا العصر الحديث إنما هي مجموعة ما أنتجه العقل الإنجليزي في القرون الأربعة منذ القرن السادس عشر إلى الآن، ويكفي أن نلاحظ أن كثيرًا جدًّا من الذين اشتركوا في تكوين هذه الثقافة من الأدباء والعلماء والفلاسفة وأصحاب الفن، وقد كان موضوعات الكتب ضخمة مطولة، مفضلًا عن أن يكون موضوعات الأحاديث كثيرًا ما يمكن أن تكون في ساعة أو ساعات، فلا تنتظروا مني إذن أن أتحدث إليكم في هذه الليلة حديثًا عميقًا عن الثقافة البريطانية وعن مكانتها في الثقافة العالمية، وإنما انتظروا مني أن أخصص لكم بعض الصفات التي يمكن أن تمتاز بها هذه الثقافة الإنجليزية من الثقافات الأخرى الأوروبية، وبعض الصفات التي مكَّنت هذه الثقافة من أن يكون لها مكان ممتاز في الثقافات الأوروبية المختلفة.

وهناك خطأ لا بدَّ من أن نتفق على إصلاحه واجتنابه، فقد يظن بعض الناس أن هناك أممًا تستطيع أن تعطي دون أن تحتاج إلى أن تأخذ، فهي مؤثرة في الثقافات الأخرى، وهي غير متأثرة بهذه الثقافات، وهذه الأمة لم توجد بعدُ ولا يُنتظر أن توجد، والحياة العقلية شيءٌ متبادل بين الأمم، كما أنه شيءٌ متبادل بين الأفراد، فكما أن الفرد لا يستطيع أن يُعطي ولا أن يفيد الحياة العقلية إلَّا إذا أخذ هو واستفاد من حياة غيره العقلية، فالأمم كذلك لا تستطيع أن تعطي إلَّا إذا أخذت.

فإذا تحدث محدِّث عن الثقافة الإنجليزية وعن أثرها في الثقافات الأخرى، فلا بدَّ له من أن يفكر قبل هذا في الثقافة الإنجليزية من حيث إنها ثقافة قد تأثرت بثقافة الأمم الأخرى، وليس من شكٍّ في أن الأمة الإنجليزية قد تأثرت في عصر النهضة بما تأثرت به الأمم الأوروبية المختلفة من هذه الثقافة القديمة، الثقافة اليونانية والثقافة اللاتينية، وكلكم يعرف أن الحياة الأوروبية الحديثة إنما هي نتيجة لهذه الثقافة اليونانية واللاتينية التي بعثت من نومها في القرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر بعد المسيح، وكلكم يعرف أن أول هذه النهضة إنما كانت في إيطاليا، ثم انتقلت النهضة من إيطاليا إلى غيرها من الأقطار الأوروبية.

وفي هذا العصر — عصر النهضة — كانت السيادة العلمية أو العقلية منذ القرن السادس عشر بنوع خاص مقسَّمة تقريبًا بين أمتين تنازعتاها تنازعًا شديدًا، وتعاونتا عليها تعاونًا تامًّا، هما الأمة الفرنسية والأمة البريطانية، وكانت الأمم الأوروبية الأخرى تأخذ من هذه النهضة — نهضة الثقافة القديمة — بحظوظ مختلفة تختلف قوةً وضعفًا، ولكن الثقافة في القرن السادس عشر كانت في هاتين الأمتين، الأمة الفرنسية والأمة الإنجليزية، ولم تكن هناك حدود ولا حواجز بين الأمم الأوروبية في المسائل الثقافية في ذلك الوقت؛ لأن نظم الحكم لم تكن قد بلغت من الشدة والعنف ما بلغته في القرن السابع عشر أو القرن الثامن عشر؛ لأن فكرة الوطنية وافتراق الأمم في هذه الفكرة، وحرص الأمم على أن تكون لكل منها وطنيتها الخاصة واستقلالها الخاص، هذا الحرص لم يكن قد عظُم بعدُ، وإنما كانت هذه الأمم الأوروبية قد خرجت شيئًا فشيئًا من النظام القديم الذي كان معروفًا في القرون الوسطى، وأخذت الوطنيات تنشأ، ولكن ظلت هذه الأمم محتفظة بشيءٍ كثير من التسامح واليسر، وكانت متأثرة بهذه الفكرة العامة، فكرة أوروبا المسيحية أكثر من تأثرها بهذه الأفكار التي جاءت فيما بعدُ، وهي فكرة الوطنية والحدود الجغرافية الضيقة التي تُكَوِّن الأمم باستقلال دقيق بالمعنى الصحيح، وأخص ما امتازت به الثقافة التي كانت شائعة في ذلك الوقت في القرن السادس عشر في أوروبا كلها، وفي فرنسا وبريطانيا العظمى بنوع خاص، أخصُّ ما امتازت به هذه الثقافة شيءٌ من الرجوع إلى الحياة اليونانية واللاتينية القديمة، وما كان يميِّز هذه الحياة من طموح إلى المُثُلِ العليا الفلسفية كما صورها أفلاطون وأرسطوطاليس، وإلى المُثُلِ العليا في الآداب والفنون كما صوَّرها الأدباء والفنانون من اليونان والرومان.

ومعنى هذا أن هذه النهضة التي تأثرت أحيانًا باليونانية واللاتينية قد تأثرت بما كانت تمتاز به هذه الآداب والفنون اليونانية واللاتينية من نزعة حرة إلى الوثنية، أو التي لم تتقيد بما تقيد به الناس حين كانت المسيحية متسلطة على العقول والقلوب وعلى الحياة الخاصة والعامة، وأخذ الناس يشعرون كما كان الشعراء من قبل يشعرون، وأخذوا يحبون الطبيعة ويَكْلَفُون بها، ويصوِّرونها كما كان الشعراء اللاتينيون واليونانيون يشعرون ويصوِّرون هذه الطبيعة ويكلفون بها، بل أخذوا يقلِّدون هؤلاء الناس، اليونان والرومان، يقلِّدونهم في التفكير، ويقلِّدونهم في التأثر بالأشياء الواقعة التي تحيط بهم، ثم يقلِّدونهم في التعبير وفيما يشعرون به، وفيما يجدونه من التأثر بهذه الأشياء التي تحيط بهم، فهم إذا وصفوا الحياة أو وصفوا الألم أو وصفوا اللذة أو وصفوا منظرًا من المناظر التي تعجبهم، لم يتخذوا ما كانوا يألفون من عبارات ومن أساليب العرض ما يريدون أن يصفوا، إنما يتخذون ما كان يألفه اليونان والرومان، ويخضِعون اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية للأساليب أو الأصول التي كان الرومان واليونان يتخذونها إذا تكلموا أو شعروا أو نثروا، ثم هم قد تجاوزوا هذا الحد من التقليد إلى ما هو أبعد منه، فقلَّدوا حتى في الآراء والأفكار والعادات، وأصبح رأي الفلاسفة والعلماء من القدماء شيئًا أساسيًّا، يتخذونه أصلًا للتفكير وأصلًا لما يؤلفونه من الكتب، وأصلًا في كل ما يحاولونه من التأليف والتعليم، بل من الحياة نفسها، وكذلك يمكن أن يُقال إن عصر النهضة في أوروبا وفي فرنسا وإنجلترا بنوع خاص قد كان عصر انحراف عن الدين المسيحي إلى حدٍّ بعيدٍ، وقد كان عصر رجوع إلى الوثنية اليونانية في كثيرٍ من مظاهره، وفي كثيرٍ من المظاهر الأدبية والفنية بنوع خاص.

لذلك اشتد الصراع بين هذه النزعة الجديدة إلى المذاهب القديمة من جهة، وبين المحافظة على الأصول المألوفة لأصول الدين وأصول الحضارة في القرون الوسطى من جهة أخرى، واضطرت الحكومات في فرنسا وفي إنجلترا وغيرهما من البلاد الأوروبية، اضطرت هذه الحكومات إلى أن تقاوم هذه النزعة مقاومة شديدة، حتى كان من العسير أن يؤلف المؤلفون أو ينشروا كتبهم دون أن يحتاجوا إلى من يعينهم ويؤيدهم ويحميهم من بطش الدولة، ومن بطش الذين تقوم الدولة على حمايتهم وعلى تأييدهم من رجال الدين، ولست في حاجة إلى أن أتحدث عما لقيَ العلماء والأدباء في القرن السادس عشر من الاضطهاد الذي كان يصل أحيانًا إلى التحريق فضلًا عن التعرض للسجن وكثير من الأخطار التي هي أقل من الموت والسجن، ولست في حاجة إلى أن أتعرض لما لَقِيَتْه الكتب والمؤلفات والآثار الأدبية التي كانت تُنشر في ذلك العصر من عَنَتِ المراقبة التي كانت تقوم بها الدولة، والتي كان يقوم بها رجال الدين، فكان هذا شيئًا معروفًا، وهو يصوِّر الصراع بين نشأة الحياة الأوروبية الحديثة، ومحافظة القرون الوسطى على حضارتها التي أخذت تتقهقر أمام الحضارة اليونانية واللاتينية القديمة.

وفي ذلك العصر كانت فرنسا وإنجلترا — كما قلت لكم — تتنازعان أو تتقاسمان سيادة الحياة العقلية في أوروبا، ولكنَّ بين طبيعة الأمتين شيئًا عظيمًا من الاختلاف، فطبيعة العقل الفرنسي تميل إلى الاحتياط والاتزان والتقيد بأصول محدودة في القول والعمل والتأثر بالعقل اليوناني القديم إلى أبعد حدٍّ ممكن، على حين تختلف الطبيعة البريطانية عن هذه الطبيعة الفرنسية اختلافًا شديدًا، فهي تميل إلى الحرية، وإلى الحرية الجامحة التي لا تعرف قيدًا ولا تتأثر بقانون، والطبيعة الفرنسية تميل إلى التأثر بالحياة الاجتماعية، وبالنظام الاجتماعي الدقيق، وتميل إلى تأثر الفرد بالجماعة، وإلى فناء الفرد في الجماعة إلى حدٍّ بعيدٍ جدًّا، على حين تميل الطبيعة البريطانية إلى شيءٍ آخر ليس هو خروجَ الفرد على الجماعة، ولكنه ليس في الوقت نفسه إذعان الفرد للجماعة، إنما هو شيء بين ذلك فيه كثير من التناقض، فالفرد الإنجليزي حريصٌ أشد الحرص على شخصيته وعلى وجوده الخاص، وعلى حريته فيما بينه وبين نفسه، ولكنه في الوقت ذاته حريصٌ على أن تكون حياته في ظاهرها — على أقل تقدير — ملائمة للحياة الاجتماعية العامة، فإذا كان الفرنسي في خضوعه وإذعانه لسلطان الجماعة مخلصًا صادقًا ملائمًا بين هذا وبين طبيعته الوطنية، فالبريطاني في خضوعه للجماعة لا يخلو من شيءٍ من النفاق وهو يحافظ على نظام الجماعة؛ لأنه مضطر إلى هذه المحافظة؛ لأنه لا يستطيع أن يعيش إلَّا إذا كانت الصلة بينه وبين الجماعة مقبولة أو محتملة، ولكنه فيما بينه وبين نفسه حريص على حريته مهما تكن هذه الحرية.

فالاختلاف بين طبيعة الأمتين ظاهر بين ما أنتجه الفرنسيون والإنجليز في الآداب والعلوم والفلسفة في هذا العصر من عصور النهضة، وفي أول العصر الحديث بنوع خاص، فبينما كانت الآثار الأدبية الفرنسية معتدلة وحريصة على ألَّا تقيد المؤلف إلَّا بمقدار حرصها على أن تلائم بين ما تنتج على ما فيه من التجديد وبين ما هو قائم من النظام والتقليد من الذي ينتجه الأدباء الإنجليز والعلماء الإنجليز ثائر على المألوف، وثائر على المألوف ثورة عنيفة حقًّا بحيث إذا أردنا أن نلتمس الآداب والفنون القديمة عند الإنجليز وعند الفرنسيين رأينا هاتين الظاهرتين متناقضتين، وتأثير اليونان في الأمة الفرنسية ظاهرٌ جدًّا وقويٌّ جدًّا؛ لأن الأمة الفرنسية التي هي متأثرة بالطبيعة اللاتينية ومتأثرة بطبيعة هذه الحضارة، حضارة البحر الأبيض المتوسط، قريبة في عقلها وشعورها من اليونانية واللاتينية، ولكن التأثر الذي نراه عند الفرنسيين ظاهرًا قويًّا نراه في الوقت نفسه متضائلًا في نتائجه من ناحية الحرية.

فرابليه الكاتب الفرنسي في القرن السادس عشر مضطر إلى أن يغيِّر اسمه عندما يريد أن يصدر كتبه التي أخذ يقصُّ فيها قصصه المشهورة، مضطر إلى أن يحرِّف اسمه حتى يكون بمأمن من العقاب، ومن عقاب رجال الدين؛ لأنه كان من رجال الدين، ومن عقاب رجال السياسة؛ لأنه كان بكتبه هذه يُعَرِّض بكثير من رجال الدين والسياسة، فكان يقرر حقائق ربما لم يُقِرَّها نظام الدين المسيحي، فهو كان محتاجًا إلى أن يحتاط، وإلى أن يتحفظ في إعلان اسمه عندما ينشر كتبه، وإلى أن يتحفظ في تعبيره أيضًا كلما أصدر طبعة لكتاب من كتبه ولاحظ مقدار ما يكون لهذا الكتاب من تأثير في القراء، ولاحظ ما يمكن أن يستتبعه هذا الكتاب من رد الفعل، فإذا أعاد طبع الكتاب انتفع بهذه الملاحظات، فلطَّف ما كان يحتاج إلى التلطيف، وخفف ما يحتاج إلى التخفيف، واجتنب ما استطاع أن يجتنب؛ ليتِّقي الشر الذي يمكن أن يأتيه من رجال الدين أو رجال السياسة، على حين كان البريطانيون في هذا العصر مندفعين مع أمزجتهم إلى أبعد حدٍّ ممكن، فالشعر الذي نتج في هذا العصر والآثار المختلفة التي أنتجوها في هذا العصر، كل هذه الآثار كانت متأثرة بطبيعة الحال باليونانية واللاتينية، لكنها في الوقت نفسه كانت متأثرة بالجموح الطبيعي في المزاج البريطاني بهذه الحرية الواسعة التي يحرص عليها البريطانيون، والتي يبذلون في سبيلها كثيرًا من الجهود، من هنا كانت الآداب التي أنتجها الإنجليز أشد تأثرًا باليونانية واللاتينية من ناحية الحرية، وأقل تأثرًا باليونانية واللاتينية من ناحية المزاج، فالأثر الإنجليزي خاضع لتأثير الآداب اليونانية واللاتينية إلى أبعد حدٍّ ممكن؛ لأن المزاج البريطاني حريصٌ على الحرية التي تمكِّنه من أن يجاري هذا المذهب القديم، ومن هنا كانت الحياة البريطانية حياة ربما كانت أدنى إلى الحرية المطلقة التي لا تعرف حدًّا ولا قيدًا.

وظهر هذا الإنتاج الأدبي عندما جاء القرن السابع عشر، وأخذ الفرنسيون ينتجون آدابهم التي تسمَّى الآداب الكلاسيكية، وظهر الفرق الهائل بين هذه الحرية الإنجليزية المطلقة التي تنشأ عن مزاج جامح والتي تنشأ على هذا المزاج في وقت قد تعرضت فيه النظم السياسية إلى كثيرٍ من الخطر بين هذا الإنتاج الفرنسي الذي يخضع لسلطان العقل المتأثر بالصبغة اليونانية وبالانسجام اليوناني، وبهذه الحدود والقيود التي يفرضها اليونانيون على أنفسهم، فإذا قرأنا قصة من قصص «كرونيل» أو قصة من قصص «راسين»، وحاولنا أن نوازن بينها وبين قصة من قصص «شكسبير» ظهر الفرق بين هاتين القصتين، وسنرى أن الكاتب الفرنسي قد وضع لنفسه نظامًا دقيقًا محدودًا عليه يسير في وضع قصته ولا يتجاوزه بحال من الأحوال، فلا بدَّ مثلًا من الوحدة المشهورة؛ وحدة الزمان ووحدة المكان، ولا بدَّ أن يتقيد الكاتب بهذه الوحدة، ولا بدَّ أن يتقيد الكاتب بما يحيط به من خصائص البيئة الفرنسية في ذلك العصر، وبما يحيط به من نظام القصر خاصة.

فالأثر الفرنسي إذن شيءٌ دقيقٌ جدًّا مقيد، رُسِمت له خطط لا يستطيع الكاتب أن يتجاوزها، وهو إذا تجاوزها فقد أفسد عمله وعرضه للخطر ولضياع الفن، على حين أننا نأخذ القصة من قصص «شكسبير» فنرى الشاعر قد عمد إلى الموضوع، وأراد أن يصوِّره، ولكنه لم يقيِّد نفسه بما قيد الكاتب الفرنسي نفسه من الخطط المرسومة أو الحدود والقيود الضيقة التي لا يتجاوزها ولا يخرج عنها، إنما الكاتب أو الشاعر حر، يعالج موضوعه كما يشاء، ولا يتقيد بوحدة الزمان ولا وحدة المكان، فليس من الضروري أن تقع حوادث القصة في مكان واحد من ابتدائها إلى نهايتها، وليس من الضروري أن تقع حوادث القصة في ٢٤ ساعة، إنما القصة حرة تقع في الوقت الذي تقتضيه، سواء أطال هذا الوقت أم قصُر، وتقع في الأماكن التي تقتضيها، فالمسارح أو الملاعب تتغير بمقتضى ما تحتاج إليه القصة من التغيير، فليس من الضروري أن يشهد النظارة مكانًا واحدًا منذ ابتداء القصة إلى نهايتها، وليس ضروريًّا للنظارة أن يشعروا بأن هذه القصة تقع في وقت معين، بل وحدة العمل ليست ضرورية، فيجوز أن يكثر الأشخاص جدًّا، وأن يتعددوا وأن يختلفوا، وأن يناقض بعضهم بعضًا في كثيرٍ من الأعمال والأقوال، أفهم من هذا أن الكاتب نفسه ليس مقيَّدًا بشيء، ولكنه يمضي في موضوعه كما يحب، ويمضي إليه مسرعًا إن رأى الإسراع، ولكن يجوز أن يلقى في طريقه منظرًا يقتضيه أن يقف عنده شيئًا ما، فيترك الموضوع الأساسي الذي وضع القصة من أجله ويقف عند هذا المنظر الخاص، ويطيل عنده الوقوف، ويطيل عنده الحديث، ويشرك السامعين من النظارة أو القراء الذين لم يشاهدوا القصة ولم يحسوا بها وهم من جميل هذا المنظر، أو مما يثيره هذا المنظر من التأثير مهما يكن هذا التأثير، وهذا الفرق الهائل بين طبيعة المزاج الفرنسي وطبيعة المزاج البريطاني في إنتاج الآداب، وفي التصور الفني في التأثر بالنهضة، أو بما ترك اليونان والرومان من آثار أدبية وفنية.

هذا الفرق الهائل بين طبيعة هذين الشعبين كان له آثار بعيدة جدًّا فيما نتج لهذين الشعبين من الثقافة، وكان له أثر أبعد من الآداب أو من الآثار الأدبية، وكان له أثر في الحياة العقلية بوجه عام، وإذا أردنا أن نشخِّص العقل الإنجليزي أثناء القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، فقد نستطيع أن نشخِّصه بأنه عقل متمرد مندفع إلى الثورة على المألوف بغير تحفظ ولا احتياط.

ومن هنا نستطيع إذا تتبعنا فكرة الحرية في العصر الحديث أن نقول: إن الحرية في العصر الحديث الأوروبي ربما كانت نتيجة للحياة العقلية الإنجليزية أكثر من نتيجة أي حياة عقلية أخرى، ومن أروع الأشياء أن نتتبع تطور فكرة الحرية عند الإنجليز، ولا أريد الحرية السياسية التي كثر فيها القول، ولا أريد ما تستتبعه الحرية السياسية من النظم البرلمانية أو الديمقراطية التي عُرِف بها الإنجليز، إنما أريد الحياة العقلية الخالصة، وبالطبع يعرف الناس عن إنجلترا أنها موطن النظام البرلماني، وموطن الحرية، وموطن الديمقراطية، ولكن ربما كان علمهم بهذه النظم البرلمانية، وبما لإنجلترا من تفوق في هذه الناحية، ربما كان علمهم محتاجًا إلى أن تكون أكثر تعمُّقًا، وهذا التعمق يتحقق إذا عرفنا مقدار تأثر الإنجليز بفكرة الحرية في حياتهم العقلية، أولًا عندما تظهر الثورة على الفلسفة القديمة وعلى فلسفة أرسطوطاليس وعلى النظام العقلي، كما تركه لنا اليونان والرومان والعرب، وهي تظهر عند الإنجليز بفضل «بيكون» الذي يستعرض حياة العقل ويستعرض الفلسفة، ويريد أن يحرر العقل أمام العقل نفسه، ويريد أن يخرج العقل من هذا التأثر الذي طال عليه العهد بقواعد «أرسطوطاليس» وأصوله ونُظُمه الدقيقة التي خضعت لها القرون الوسطى خضوعًا تامًّا، يريد أن يردَّ على العقل هذه الحرية التي تمكِّنه من نقد هذه الفلسفة التي كان الناس مؤمنين بها كما يؤمنون بالدين، يريد أن ينقد هذه الأصول الفلسفية نقدًا حرًّا، وهو من أجل هذا يصل إلى ما تعرفون من وجوب تحرير العقل من الخضوع لهذه الأصنام التي نشأت عن تعدد القواعد والأصول الفلسفية التي تركها أرسطوطاليس بنوع خاص.

فالعقل إذن يجب ألَّا يتأثر بهذه القواعد التقليدية، ويجب أن يأخذ هذه القواعد واحدة واحدة، فينقدها نقدًا حرًّا صريحًا، ويجب ألَّا يُستبْقَى من هذه القواعد إلَّا ما يثبت لهذا النقد، فما يثبت له يجب أن يبقى، وما لم يثبت له يجب العدول عنه في حرية وصراحة وفي غير تحفظ ولا احتياط.

ولا يكاد بيكون يصل إلى ما يريد من تحرير العقل مما فرضته القواعد الفلسفية وقواعد أرسطوطاليس بنوع خاص حتى تظهر فكرة أخرى عند الإنجليز تتصل بالحرية العقلية، ولكنها تتجاوز الناحية الفلسفية التي رأيناها إلى ناحية أخرى، فتحرير العقل من القواعد التقليدية يمكِّنه من أن يفكر تفكيرًا صحيحًا مستقيمًا منتجًا، وهذا حسن، ولكن ما فائدة الحرية الفكرية إذا لم تنتهِ إلى حرية التعبير؟ فحرية العقل أمام الدولة إذن يجب أن تتحقق من طريقين أو يجب أن يكون تحقيقها مؤلَّفًا من مرحلتين:
  • الأولى: حرية العقل في التفكير كما يحب هو لا كما يحب غيره.
  • والثانية: حرية العقل في أن يعلن تفكيره دون أن يتعرض لخطرٍ ما، دون أن يتعرض للرقابة، ودون أن يتعرض للمحاكمة من حيث إنه قد فكَّر وأعلن رأيه، ودون أن يتعرض للاضطهاد.

وقد كان الشاعر العظيم ملتون بطلًا من أبطال المطالبة بهذا النوع من حرية العقل أمام السلطان، فبعد أن عنيَ الفلاسفة وفرغوا من تحديد حرية العقل أمام العقل جاهد ملتون في تحقيق هذه الحرية جهادًا هائلًا، وأنفق حياته كلها تقريبًا في هذا الجهاد محتملًا كل ما كان يمكن أن يُحتمل من مقاومة الخصوم ومقاومة السلطان، جاهرًا في ذلك بكل ما كان يمكن أن يُجاهر به من الأقوال التي تصل بالحرية إلى أبعد مدًى.

وملتون هو الذي قال في رجال الدين إنهم قوم لم يستطيعوا أن يرفعوا أنفسهم إلى السماء، فأنزلوا الله إلى الأرض ليكون معهم، وملتون الذي استطاع أن يواجه السياسة بهذه الفكرة الرائعة، فكرة أن الكتاب أو الفصل الذي يكتبه الكاتب وكذلك الأثر الأدبي إنما هو صورة حية من صاحبه، فكل مساس بهذا الأثر الأدبي إنما هو مساس بمؤلفه، فإذا كانت التقاليد الدينية والقوانين تمنع أحد الناس من أن يؤذي الناس في أنفسهم بغير حق، فيجب أن تمنع القوانين الدولة من أن تقتل الكِتَاب؛ لأن قتل الكتاب ليس أقل خطرًا من قتل المؤلف؛ ذلك لأن مؤلف الكتاب شخص محدود الأجل محدود الحياة، يوجد وقتًا ما ثم ينتهي بالموت، فحياته محدودة وآثاره محدودة بحياته، على حين أن الكِتَاب أجَلُه أطول وأوسع من أجل مؤلفه، وهو الوسيلة التي يتمكن بها العقل من أن يكون طويل التأثير عميقَهُ وبَعِيدَه، فالكتاب لا يؤثر في البيئة التي يؤلَّف فيها وقتًا معينًا، ولكنه يؤثر في هذه البيئة، ثم يمضي بتأثيره إلى بيئة أخرى بعده، وربما يكون بينه وبين مؤلفه قرون وعصور.

فالاعتداء على حرية التعبير إنما هو اعتداء على شيءٍ أغلى من حياة الأفراد؛ ولأنه اعتداء على شيءٍ للناس فيه منفعة دائمة.

في هذا الوقت وصل الإنجليز إلى تحديد حرية العقل أمام العقل، ووصلوا إلى تحديد حرية العقل أمام السلطان، ولم يكَدِ القرن الثامن عشر يأتي حتى كانت بلاد الإنجليز وحدها هي البلاد التي يستطيع الناس فيها أن يفكِّروا أحرارًا وأن يقولوا أحرارًا، وأن يخاصم بعضهم بعضًا في حرية مطلقة، لا يتعرضون للرقابة ولا لغضب السلطان أو الاضطهاد، ولكن هذا النوع من الحرية ليس كل ما حاول الإنجليز أن يحققوه للعقل، فهم بعد أن حققوا حرية العقل أمام العقل، وبعد أن حققوا حرية العقل أمام السلطان حاولوا أن يحققوا حرية العقل أمام الجماعة وأمام العُرْف، أو حاولوا أن يحققوا حرية الأديب أمام البيئة التي يعيش فيها.

فليس يكفي أن يكون الأديب حرًّا يستطيع أن يفكِّر كما يريد هو لا كما يريد «أرسطوطاليس»، وليس يكفي أن يفكِّر ويعلن آراءه دون أن يتعرض لغضب السلطان، بل لا بدَّ أن يكون الأديب حرًّا يستطيع أن يفكِّر، وأن يعلن آراءه دون أن يتعرض لسلطان الجماعة ودون أن يلقى من الجماعة عنتًا أو أذًى، وهنا اضطربت ميول الأدباء.

فإذا كان الفلاسفة الإنجليز قد استطاعوا أن يحرروا الفلسفة، وإذا كان الأدباء الإنجليز قد استطاعوا أن ينتصروا على السلطان السياسي، وأن يكسبوا لأنفسهم حرية التعبير، فهم لم يستطيعوا أن يقهروا سلطان الجماعة وسلطان العرف، وكان أمرهم ثورة مستمرة بينهم وبين الجماعة الإنجليزية.

ذلك لأن الجماعة الإنجليزية تخضع لكثيرٍ جدًّا من المحافظة، وقد قُلْتُ لكم في أول هذا الحديث إن المزاج الإنجليزي فيه هذان الأمران المتناقضان؛ فيه الميل إلى الحرية الفردية إلى أبعد حد، وفيه الميل إلى موافقة الجماعة وتحسين الصلة بين الفرد وبينها إلى أبعد حد، ومن هنا نشأ ما يسمونه بالنفاق الإنجليزي، هذا النفاق الذي يُفرض على الأفراد إذا لقيَ بعضهم بعضًا في الأندية والمجالس والحياة العامة أن يكونوا مقيدين بقيود عنيفة جدًّا، ومتأثرين بهذه النزعة التي لا يصح الانحراف عنها بحال من الأحوال مهما تكون الظروف في الحركات والألفاظ، وفيما يمكن أن يكون من الأوضاع الاجتماعية المختلفة، وهم في أثناء تقييدهم بهذه القيود إذا خلوا إلى أنفسهم يستمتعون بأعظم حظٍّ ممكن من الحرية.

ومن هنا لقيَ الكثير من الأدباء الفرنسيين شيئًا غير قليل من الشطط، وأحسُّوا شيئًا غير قليل من الغرابة عندما ذهبوا إلى بلاد الإنجليز؛ لأنهم لم يصادفوا في بلاد الإنجليز ما تعودوا في بلادهم من هذه الحرية الاجتماعية التي يحرص الفرنسيون عليها قبل كل شيء، «فروسو» مثلًا أنكر حياته في بريطانيا العظمى إنكارًا شديدًا؛ لأنه كان حريصًا على أن يتكلم كما يريد في الاجتماعات، وأظنكم قد سمعتم أن «روسو» كان مسرفًا في هذه الحرية، وأنه في بعض الولائم جعل يتحدث عن مرضه وكان مريضًا بالمعدة، فلم تَكَدْ سيدة البيت تسمعه يتحدث عن مرضه حتى تركت المائدة وانصرفت.

وهذا الحرص على المحافظة الاجتماعية مع الحرص على الحرية الفردية كان مصدر اصطدام عنيف بين أدباء الإنجليز وبين الجماعة الإنجليزية، وربما كان من أهم ما يحبب الأديب الإنجليزي إلى كثير من قرائه هذا النوعُ من الاصطدام وهذا النوع من الحذر بين الأفراد والجماعة في إنتاج الأدب الإنجليزي.

فالكاتب الإنجليزي «سويفث» حريص أشد الحرص على حريته، وثائر أشد الثورة على النظام الاجتماعي، وهو من أجل هذا يقول ما يريد، ويفكِّر كما يحب، ويعلن آراءه في صراحة، وينشر هذه الآراء مهما يكن رضاء الناس عنه أو سخط الناس عليه، وهو في علاقته الاجتماعية ثائر على النظم، يتكلف هذه الثورة ويتعمدها مهما تكن النتيجة، وهو قابل لما تنتجه هذه الثورة من سخط الناس عليه، وهو ينتهي إلى أن يخيف الناس منه؛ لأنه متمرد ويصل بهذا التمرد إلى أبعد حد ممكن، ولكنْ شاعر آخر مثل بيرون يخرج على هذا النظام، ويخرج عليه في آرائه وفي حياته العملية، وفي آثاره الأدبية والفنية، يقاومه المجتمع ويقاوم هو المجتمع، ولكن ينتهي الأمر بأن يقهره المجتمع، وإذا هو مضطر إلى أن يغادر بلاد الإنجليز؛ لأنه لا يستطيع أن يخضع للنظم الاجتماعية والتقليدية.

كل هذه الملاحظات ليست إلَّا شيئًا يسيرًا جدًّا مما كنت أحب أن أتحدث إليكم به عن الثقافة الإنجليزية، ومن هذه الملاحظات نستطيع أن نستنتج: أن الإنجليز بمزاجهم الخاص من جهة، وبتأثرهم بالثقافة القديمة كما تأثر بها غيرهم من الأمم الأوروبية من جهة ثانية، وباتصالهم بالأمم الأخرى وتأثرهم بالثقافة الأوروبية الحديثة من جهة ثالثة، قد استطاعوا أن يكوِّنوا لأنفسهم ثقافة خاصة لها طابعها الإنجليزي الخاص، وأخص ما تمتاز به هذه الثقافة هو هذا الذي حدثتكم عنه طابع الحرية، الحرية الفلسفية؛ أي: حرية العقل أمام العقل، وحرية العقل أمام السياسة والسلطان وحرية العقل أمام العرف الاجتماعي.

هذه الثقافة الإنجليزية التي طُبِعَت بهذا الطابع الخاص لم يقتصر تأثيرها على الأمة الإنجليزية وحدها، بل أخَصُّ ما تمتاز به بعد هذه الصفة التي ذكرتها لكم أنها ثقافة قد حُبِّبت إلى نفوس الأوروبيين في القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر بنوع خاص؛ ذلك لأنها ثقافة حرة لم يعرفها الأوروبيون.

ففولتير إذْ ذهب إلى أن إنجلترا في أول القرن الثامن عشر فُتِن بهذه الحرية البريطانية، وعاد إلى بلاده وقد كتب رسائله الفلسفية التي كان لها أبعد الأثر وأعمقه في تكوين الحياة الفكرية في فرنسا في القرن الثامن عشر.

وبيرون بثورته هذه المعروفة، ثورة الأديب على الجماعة، في حياته الفنية والعملية استطاع أن يهزَّ النفوس الفرنسية هزًّا عنيفًا، وأن يوجِد لنفسه مقلِّدين له مفتونين به بين كبار الشعراء والكتَّاب، هنالك شيءٌ آخر حبب الثقافة الإنجليزية أو فرض الثقافة الإنجليزية على أوروبا منذ القرن السابع عشر، وقد نشأ عن هذه الحرية، وهو أن هذا الذي وصل إليه العقل البريطاني من التحرر أمام الفلسفة وأصولها القديمة قد جعل التجربة أصلًا من أصول العلم.

فالعلم الإنجليزي كالفلسفة الإنجليزية يمتاز بالاعتماد على التجربة أكثر من الاعتماد على أي شيء آخر، وقد رأيتم كيف وصل بيكون إلى الاعتراف بحق العقل في النقد والتمحيص والتحليل والاختبار، ولست في حاجة إلى أن أعرض عليكم جهود «نيوتن» التي أقامت بناء العلم التجريبي.

فالفلسفة الإنجليزية والعلم الإنجليزي هما اللذان أهديا إلى أوروبا في القرن السابع عشر والثامن عشر بنوع خاص هذا العقلَ المجرب الذي لا يفنى في الاستنتاج والاستنباط الفلسفي الخالص، وإنما يستقري ويستقصي ويمتحن الظواهر ويستخرج قوانين العلم من الحقائق الخارجية لا من عند نفسه، ولست في حاجة إلى أن أعيد ما قيل ألف مرة ومرة من أن حضارة أوروبا الحديثة إن امتازت بشيء فأخَصُّ ما تمتاز به هو أنها تقوم على العلم التجريبي.

ويخيَّل إليَّ أيها السادة أن خير ما يمكن أن نشخِّص به الثقافة الإنجليزية هو أنها قد بذلت منذ عصر النهضة جهودًا متصلة في سبيل الحرية فوُفِّقت إليها، ثم لم تستأثر بها وإنما أذاعتها في فرنسا أولًا ثم في أوروبا بعد ذلك، وعن هذه الحرية التي كسبتها الثقافة الإنجليزية لنفسها وأشاعتها في الثقافات الأوروبية الأخرى نشأ ما امتلأت به الحياة الأوروبية الحديثة من ألوان الصراع والاضطراب وما امتازت به الحياة الأوروبية الحديثة من هذه النظم الديمقراطية التي رفعت للأفراد والجماعات أعلام الحرية والحق والعدل، وما أظن أن الإنجليز يطمحون إلى شرفٍ أرقى من هذا الشرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤