الفصل الأول

ما المقصود بتغيُّر المناخ؟

يمثِّل تغيُّر المناخ المستقبلي واحدًا من أبرز تحديات القرن الحادي والعشرين، إلى جانب غياب المساواة والتدهور البيئي وانعدام الأمن على الصعيد العالمي. وتكمن المشكلة في أن «تغيُّر المناخ» لم يعد مجرد قضية علمية بحتة، بل امتدت آثاره لتشمل علم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، والجغرافيا السياسية، والسياسات الوطنية والمحلية، والقانون، والصحة، على سبيل المثال لا الحصر. سيتناول هذا الفصل دور غازات الدفيئة في تهدئة المناخ العالمي في الماضي، وأسباب ارتفاع مستوياتها منذ الثورة الصناعية، ولماذا أصبحت تعتبر الآن ملوثات خطرة. كما سيبحث هذا الفصل في البلدان التي أنتجت أكبر كميات من غازات الدفيئة الناتجة عن الأنشطة البشرية، وكيف يتغيَّر هذا الوضع مع التطور الاقتصادي السريع. وسيعرِّف أيضًا الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ ودورها في الحرص على جمع وتقييم أحدث الأدلة المتعلقة بتغيُّر المناخ.

غازات الدفيئة الطبيعية للأرض

تتحدد درجة حرارة الأرض من خلال التوازن بين الطاقة المستقبَلة من الشمس والطاقة المنبعثة إلى الفضاء. وتتألف الطاقة الشمسية من إشعاع قصير الموجة (يتمثَّل بشكل أساسي في الضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية)، وتمرُّ معظم هذه الطاقة عبر الغلاف الجوي دون عائق (انظر شكل ١-١). لكن يُستثنى منها فحسب الأشعة فوق البنفسجية الضارَّة ذات الطاقة العالية التي تمتصُّها طبقة الأوزون في الغلاف الجوي. ينعكس نحو ثلث الطاقة الشمسية مباشرةً إلى الفضاء، بينما يمتص سطح الأرض ما تبقَّى من الطاقة الشمسية التي لم تنعكس إلى الفضاء. تعمل هذه الطاقة على تدفئة اليابسة والمحيطات، ثم تبث هذه الحرارة مجددًا على هيئة الأشعة تحت الحمراء الطويلة الموجة أو ما يُعرف بالإشعاع «الحراري».
fig2
شكل ١-١: تأثير الدفيئة. تحتجز غازات الدفيئة جزءًا من حرارة الأرض قبل أن تطلقها لتدفئة الغلاف الجوي.

تُعرف غازات الدفيئة بأنها الغازات المكونة للغلاف الجوي، مثل بخار الماء وثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز، حيث تمتص جزءًا من الأشعة الطويلة الموجة، مما يؤدي إلى تسخين الغلاف الجوي. وقد جرى قياس هذا التأثير في الغلاف الجوي، ويمكن محاكاته مرارًا وتكرارًا في المختبر. ولولا هذا التأثير الطبيعي لغازات الدفيئة، لانخفضت درجة حرارة الأرض بما لا يقل عن ٣٥ درجة مئوية، مما قد يؤدي إلى وصول بعض المناطق الاستوائية إلى نحو −١٠ درجة مئوية. منذ الثورة الصناعية، صرنا نحرق الوقود الأحفوري (مثل النفط والفحم والغاز الطبيعي) الذي ترسَّب منذ مئات ملايين السنين، مما تسبَّب في انبعاث الكربون مجددًا إلى الغلاف الجوي على هيئة غازَي ثاني أكسيد الكربون والميثان، وذلك يؤدي بدوره إلى زيادة «ظاهرة الدفيئة» وارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. إننا فعليًّا نحرق ضوء الشمس المخزَّن في شكل وقود أحفوري.

المناخ في الماضي

أعيد تمثيل تغيُّر المناخ في العصر الجيولوجي الماضي باستخدام مجموعة من السجلات الأرشيفية الرئيسية التي تضم بيانات عن رواسب البحار والبحيرات، والعينات اللُّبيَّة الجليدية، ورواسب الكهوف، وحلقات الأشجار. تكشف هذه السجلات المختلفة أنه على مدى الخمسين مليون سنة الماضية، كان مناخ الأرض يتجه نحو البرودة منتقلًا مما يُعرف ﺑ «عالم الدفيئة» الذي ساد في العصر الإيوسيني حيث الظروف الجوية الدافئة والمعتدلة، إلى «عالم الجليد» الأكثر برودة وديناميكية في الوقت الحاضر. من المنظور الجيولوجي، قد يبدو غريبًا أن كوكبنا شديد البرودة، في حين أن هذا الكتاب كله يتناول ظاهرة الاحترار السريع لكوكب الأرض. لكن يعود السبب في ذلك إلى أن مناخ الأرض بات شديد الحساسية تجاه التغيُّرات في غازات الدفيئة نتيجة وجود صفائح جليدية ضخمة في كلٍّ من القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) وجرينلاند، وكذلك في الجليد البحري شبه الدائم في المحيط القطبي الشمالي.

بدأ التبريد العالمي الطويل الأمد للأرض مع التكون الجليدي للقارة القطبية الجنوبية منذ نحو ٣٥ مليون سنة، ثم تسارَع مع العصور الجليدية الكبرى في نصف الكرة الشمالي التي بدأت منذ ٢,٥ مليون سنة. منذ بداية هذه العصور الجليدية الكبرى، مرَّ مناخ الأرض بدورةٍ انتقل فيها بين ظروف جوية مشابهة أو حتى أدفأ قليلًا مقارنةً بما عليه الحال اليوم، ثم إلى أطوار جليدية كاملة تشكَّلت خلالها طبقات جليدية بسُمك يزيد على ثلاثة كيلومترات فوق أجزاء كبيرة من أمريكا الشمالية وأوروبا. بين ٢,٥ مليون سنة ومليون سنة مضت، كانت الفترات الجليدية تتكرر كل ٤١ ألف سنة، لكن منذ مليون سنة أصبحت تتكرر كل ١٠٠ ألف سنة.

إن السبب الرئيسي في حدوث الدورات الجليدية الكبرى هو التغيُّرات في موضع مدار الأرض بالنسبة إلى الشمس. ففي الواقع، قضت الأرض أكثر من ٨٠٪ من آخر ٢,٥ مليون سنة في ظروف أكثر برودة من الوقت الحالي. أما الفترة الدفيئة الحالية التي تفصل بين عصرين جليديين — المعروفة باسم حقبة الهولوسين — فقد بدأت قبل نحو ١٠ آلاف سنة، وتُعَد مثالًا على فترات الدفء القصيرة التي تفصل بين عصر جليدي وآخر. وتزامنت بداية فترة الهولوسين مع الانتهاء السريع والمثير للعصر الجليدي الأخير: حيث ارتفعت درجات الحرارة بمقدار ٦ درجات مئوية خلال أقل من ٤ آلاف سنة، وارتفع مستوى سطح البحر بمقدار ١٢٠ مترًا، وزاد تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بمقدار الثلث، في حين تضاعف تركيز الميثان في الغلاف الجوي.

مع ذلك كانت التغييرات في الماضي أبطأ بكثير من تلك التي نشهدها في الوقت الحاضر. يشير جيمس لوفلوك، في كتابه «عصور الغايا» إلى أن الفترات الدافئة التي تفصل بين العصور الجليدية مثل الهولوسين هي بمثابة حالة محمومة تطرأ على كوكبنا الذي شهد بوضوح على مدار ٢,٥ مليون سنة درجة حرارة عالمية أكثر برودة. يعتقد لوفلوك أن الاحترار العالمي هو نتيجة التدخل البشري الذي زاد من تفاقم هذه الحالة المحمومة بالفعل. تُناقَش هذه التغيُّرات المناخية الواسعة النطاق في الماضي بمزيد من التفصيل في كتاب «المناخ: مقدمة قصيرة جدًّا».

التفاوتات السابقة في تركيز ثاني أكسيد الكربون

يستند أحد الأدلة العلمية، التي تُظهِر أن غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يشكل عنصرًا مهمًّا في المناخ العالمي، إلى دراسة المناخ في الماضي. كما أن الأدلة على التغيُّرات السابقة في غازات الدفيئة ودرجات الحرارة تستند إلى العينات اللُّبيَّة الجليدية المستخرجة من كلٍّ من القطب الجنوبي وجرينلاند. فحينما يتساقط الثلج، يكون خفيفًا ورقيقًا ويحتوي على كمية كبيرة من الهواء. ومع تزايد تساقط الثلج، فإن الثلج الأقدم ينضغط ببطء ليشكل طبقة جليدية تُحتجَز فيها فقاعات هوائية. ومن خلال استخراج الهواء من هذه الفقاعات المحتجزة في الجليد القديم، يمكن للعلماء قياس نسبة غازات الدفيئة التي كانت موجودة في الغلاف الجوي في الماضي. عكف العلماء على الحفر لعمقٍ يتجاوز الميلين في طبقات الجليد بجرينلاند والقطب الجنوبي، مما مكنهم من تصوُّر كمية غازات الدفيئة الموجودة في الغلاف الجوي على مدى المليون سنة الماضية. وعن طريق دراسة نظائر الأكسجين والهيدروجين في المياه المتجمدة التي تشكل اللُّب الجليدي، يمكن تقدير درجة الحرارة الجوية فوق طبقة الجليد عندما تجمَّدت المياه لأول مرة.

جاءت النتائج لافتةً للنظر: تتناسب نسبة غازات الدفيئة، مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي، طرديًّا مع درجات الحرارة خلال اﻟ ٨٠٠ ألف سنة الماضية (انظر شكل ١-٢). ويمكن أن يُلاحظ بوضوح في درجات الحرارة وفي محتوى الغلاف الجوي من غازات الدفيئة التغيُّرات الدورية في المناخ بين الفترات الجليدية والفترات الدفيئة. هذا يدعم بقوةٍ الفكرة القائلة بأن هناك ارتباطًا وثيقًا بين غازات الدفيئة في الغلاف الجوي ودرجة حرارة الأرض؛ فعندما يزيد ثاني أكسيد الكربون والميثان، ترتفع درجات الحرارة العالمية، والعكس صحيح عند انخفاضهما.
fig3
شكل ١-٢: غازات الدفيئة ودرجات الحرارة خلال الدورات الجليدية الثماني الماضية المسجلة في لُب الجليد.

المزارعون الأوائل

تُظهر الأدلة العالية الدقة المستمَدَّة من العينات اللُّبِّيَّة الجليدية في جرينلاند وأطراف القارة القطبية الجنوبية أن نسبة غازات الدفيئة في الغلاف الجوي ارتفعت قليلًا قبل الثورة الصناعية في القرن ١٨. أشار بيل روديمان، أستاذ علم المناخ القديم بجامعة فرجينيا، إلى أن المزارعين الأوائل كانوا السبب في تراجع هذا الانخفاض الطبيعي في غازات الدفيئة. فقد أدت إزالة الغابات والغطاء النباتي إلى زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي قبل نحو ٧ آلاف عام، في حين أدى التوسع في زراعة الأرز في حقولٍ مغمورة بالمياه وتربية الماشية إلى ارتفاع نسبة غاز الميثان في الغلاف الجوي قبل نحو ٥ آلاف عام. ومن ثَم، يبدو أن تفاعلات البشر الأوائل مع البيئة قد أدت إلى زيادة طفيفة في غازات الدفيئة في الغلاف الجوي، وكانت هذه الزيادة كافية لتأخير بداية العصر الجليدي التالي حتى قبل الثورة الصناعية؛ ولولا تأثير البشر لكان من الممكن أن يبدأ العصر الجليدي تدريجيًّا في أي وقت خلال الألف سنة المقبلة.

الثورة الصناعية

هناك أدلة واضحة على أن مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي استمرت في الارتفاع منذ بداية الثورة الصناعية. بدأت أولى قياسات تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عام ١٩٥٨ على قمة جبل ماونا لوا في هاواي، على ارتفاع يقارب أربعة آلاف متر. وقد أجريت هذه القياسات في هذا الموقع النائي لتجنب التلوث الناتج عن المصادر المحلية. تُظهر السجلات بوضوح أن تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي قد ارتفعت سنويًّا منذ عام ١٩٥٨. فمتوسط التركيز الذي كان نحو ٣١٦ جزءًا من المليون من حيث الحجم عام ١٩٥٨ قد ارتفع الآن متجاوزًا ٤٢٠ جزءًا من المليون من حيث الحجم (انظر شكل ١-٣). وتُعزى التقلبات السنوية في مرصد ماونا لوا إلى امتصاص النباتات النامية غاز ثاني أكسيد الكربون. إذ يصل امتصاص الغاز إلى ذروته خلال فصل الربيع في نصف الكرة الشمالي؛ وذلك بسبب اتساع رقعة اليابسة، ومن ثَم تشهد نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي انخفاضًا كل ربيع، لكن مع الأسف، لا يؤدي هذا الانخفاض إلى أي تغيير في الاتجاه العام نحو الارتفاع المستمر في القيم الإجمالية.
fig4
شكل ١-٣: قياسات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من مرصد ماونا لوا.

يمكن دمج بيانات ثاني أكسيد الكربون المستمَدَّة من مرصد ماونا لوا مع الأدلة التفصيلية المستمَدَّة من العينات اللُّبيَّة الجليدية لإنشاء سجلٍّ كامل يوضح تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي منذ بداية الثورة الصناعية. ويتضح من هذه البيانات أن تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي قد ارتفع من نحو ٢٨٠ جزءًا من المليون قبل الثورة الصناعية إلى أكثر من ٤٢٠ جزءًا من المليون من حيث الحجم حاليًّا، مما يمثِّل زيادةً تتجاوز ٤٥٪. لوضع هذه الزيادة في سياقها، تُظهر الأدلة المستمَدَّة من العينات اللُّبيَّة الجليدية أنه على مدار اﻟ ٨٠٠ ألف سنة الماضية، تراوحت التغيُّرات الطبيعية في تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بين نحو ٢٠٠ و٢٨٠ جزءًا من المليون من حيث الحجم. أما الفرق بين الفترات الدافئة والباردة، فبلغ نحو ٨٠ جزءًا من المليون، أي أقل من كمية التلوث الناتج عن ثاني أكسيد الكربون الذي أطلقناه في الغلاف الجوي خلال اﻟ ١٠٠ سنة الماضية.

إن مستوى التلوث البشري الذي تسببنا فيه خلال قرنٍ واحد قد فاق التغيُّرات الطبيعية التي استغرقت آلاف السنين.

مَن المسئول عن التلوث؟

تأسَّست اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ لإرساء أول اتفاق دولي للحد من انبعاثات غازات الدفيئة على مستوى العالم. هذه ليست مهمة سهلة؛ إذ لا تنتج الدول نسبًا متساوية من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ووفقًا للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ (انظر مربع ١)، فإن المصدر الرئيسي لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون هو احتراق الوقود الأحفوري؛ حيث يأتي أكثر من ٨٥٪ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية من إنتاج الطاقة، والعمليات الصناعية، والنقل. ولا تتوزع هذه الانبعاثات بالتساوي في أنحاء العالم بسبب التوزيع المتفاوت للصناعة والثروات: فنجد أن أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا تُصْدر أكثر من ٩٠٪ من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن الصناعة في العالم (انظر شكل ١-٤). بالإضافة إلى أن الدول المتقدمة، على مر التاريخ، قد أنتجت كميات أكبر بكثير مقارنةً بالدول الأقل تطورًا.
fig5
شكل ١-٤: انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التاريخية تبعًا للمنطقة.

المربع ١: ما الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ؟

أنشئت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ في عام ١٩٨٨ بمشاركة من برنامج الأمم المتحدة للبيئة والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، بهدف مواجهة القضايا المتعلقة بظاهرة الاحترار العالمي. وتهدف الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ إلى إجراء تقييم مستمر للوقوف على الجوانب المختلفة لظاهرة تغيُّر المناخ من بينها التأثير العلمي والبيئي والاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى وضع استراتيجيات الاستجابة لهذه الآثار. لا تهتم الهيئة بإجراء أبحاث علمية مستقلة، بل تُعنى بتجميع الأبحاث الرئيسية المنشورة في كل أنحاء العالم والوصول إلى إجماع علمي حول النتائج. وقد أصدرت الهيئة ستة تقارير رئيسية في الأعوام ١٩٩٠ و١٩٩٦ و٢٠٠١ و٢٠٠٧ و٢٠١٤/٢٠١٣ و٢٠٢٢/٢٠٢١، إلى جانب العديد من التقارير المتخصصة حول موضوعات مثل سيناريوهات انبعاثات الكربون، ومصادر الطاقة البديلة، والمحيطات، واستخدام اليابسة، والظواهر الجوية المتطرفة.

تُعرف الهيئة الحكومية الدولية باعتبارها أكثر الجهات المرجعية على الصعيدين العلمي والتقني في مجال تغيُّر المناخ، حيث كان لتقييماتها تأثير عميق على مفاوضي اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ. يُنظَّم عمل الهيئة إلى ثلاث فِرق عمل إضافةً إلى فريق خاص لحساب كمية غازات الدفيئة التي تنتجها كل دولة. يتولى كلَّ فريق من الفرق الأربع رئيسان مشاركان (أحدهما من دولةٍ متقدمة والآخر من دولة نامية) ووحدة دعم تقني. تقيِّم مجموعة العمل الأولى الجوانب العلمية للنظام المناخي وتغيُّر المناخ؛ بينما تتعامل مجموعة العمل الثانية مع تحديد نقاط الضعف في الأنظمة البشرية والطبيعية أمام تغيُّر المناخ، فضلًا عن خيارات التكيف معه؛ أما مجموعة العمل الثالثة، فتختص بتقييم الخيارات المتاحة للحد من انبعاثات غازات الدفيئة وسبل التخفيف من تأثيرات تغيُّر المناخ.

تقدِّم الهيئة الحكومية الدولية إلى الحكومات معلومات علمية وتقنية واجتماعية واقتصادية لها علاقة بتقييم المخاطر المحتملة ووضع خطط الاستجابات المناسبة لمواجهة تغيُّر المناخ العالمي. نُشِر أحدث التقارير الصادرة عن مجموعات العمل الثلاث بمشاركة نحو ٥٠٠ خبير من نحو ١٢٠ دولة في إعداد تقارير الهيئة ومراجعتها وإعداد صياغتها النهائية، بالإضافة إلى آلاف الخبراء الآخرين الذين شاركوا في عملية المراجعة. تأخذ الحكومات والمنظمات الدولية — بما في ذلك المنظمات غير الحكومية — على عاتقها تعيين مؤلفي تقارير الهيئة الحكومية الدولية. كما تُعَد هذه التقارير مرجعًا أساسيًّا للمهتمين بقضية تغيُّر المناخ، ولهذا أُدرجت ضمن قسم «قراءات إضافية» في نهاية هذا الكتاب. عام ٢٠٠٨، مُنحت الهيئة الحكومية الدولية، إلى جانب الخبير البيئي آل جور، جائزة نوبل للسلام تقديرًا لكل الجهود التي بذلتها الهيئة الحكومية الدولية خلال العشرين عامًا السابقة.

تأتي التغييرات التي طرأت على استغلال الأراضي بوصفها ثاني أكبر مصدر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون عالميًّا؛ إذ تمثِّل نسبةً تتراوح بين ١٠٪ و١٥٪ من إجمالي انبعاثات هذا الغاز. وتصدر هذه الانبعاثات في المقام الأول من قطع الغابات لأغراض الزراعة أو التوسع العمراني أو إنشاء الطرق. فعند قطع الغابات المطيرة، غالبًا ما تتحول الأراضي إلى مراعٍ أقل إنتاجيةً وذات قدرة أقل بكثير على تخزين ثاني أكسيد الكربون. في هذه الحالة، يختلف نمط انبعاثات ثاني أكسيد الكربون حيث تتحمل أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا مسئولية أكثر من ٩٠٪ من الانبعاثات الناتجة عن التغييرات في استغلال الأراضي الحالية. ويثير ذلك تساؤلات أخلاقية مهمة؛ إذ من الصعب مطالبة هذه الدول بوقف إزالة الغابات، في حين أن ذلك قد حدث بالفعل في معظم أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا قبل بداية القرن العشرين. وفيما يتعلق بكمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة، لا يزال تأثير العمليات الصناعية يفوق بدرجةٍ كبيرة تأثير التغييرات في استغلال الأراضي.

لقد أطلقنا في الغلاف الجوي قرابة نصف تريليون طن من الكربون منذ الثورة الصناعية، لكن هذه الكمية لا تمثِّل إلا نصف إجمالي انبعاثاتنا. أما النصف الآخر، فقد امتصته الأرض إذ ذهب ٢٥٪ منه إلى المحيطات و٢٥٪ إلى المحيط الحيوي على اليابسة. أعرَبَ العلماء عن قلقهم من أن قدرة الأرض على استيعاب هذا التلوث قد لا تستمر بالمعدل نفسه في المستقبل. ويُعزى سبب ذلك إلى أنه مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية، سترتفع حرارة المحيطات، مما يقلل من قدرتها على الاحتفاظ بثاني أكسيد الكربون المذاب. ومع استمرارنا في قطع الغابات وتحويل الأراضي لأغراض الزراعة والتوسع العمراني، ستتضاءل مساحة الغطاء النباتي القادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون، مما سيقلل مرة أخرى من امتصاص التلوث الكربوني الذي نتسبب فيه (انظر الشكل ١-٥).
fig6
شكل ١-٥: المصارف والمصادر العالمية التاريخية لثاني أكسيد الكربون.

ثَمة أدلة واضحة تشير إلى أن تركيزات غازات الدفيئة في الغلاف الجوي في ارتفاعٍ مستمر منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. وأصبحت تركيزات ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي أعلى الآن مما كانت عليه خلال ما لا يقل عن ثلاثة ملايين سنة. وخلال ١٠٠ عام، أطلقنا في الغلاف الجوي كمية من الكربون تزيد مرة ونصفًا عن الكمية التي انبعثت على مدار أربعة آلاف عام خلال الفترة الانتقالية من العصر الجليدي الأخير إلى الفترة الدفيئة الحالية.

أجمعت الآراء العلمية الحالية على أن التغيُّرات الحديثة في تركيزات غازات الدفيئة في الغلاف الجوي قد تسببت بالفعل في ارتفاع درجات الحرارة عالميًّا. فمنذ عام ١٨٨٠، ارتفع متوسط درجة حرارة سطح الأرض بمقدار ١,١ درجة مئوية. وقد صاحب هذا الاحترارَ ارتفاعٌ كبير في درجة حرارة المحيطات، وزيادة مستوى سطح البحر بأكثر من ٢٤ سنتيمترًا، وانخفاض بنسبة ٥٠٪ في جليد بحر القطب الشمالي، فضلًا عن تزايد عدد الظواهر الجوية المتطرفة. وكلما تمادينا في إطلاق المزيد من الكربون إلى الغلاف الجوي، تفاقمت الآثار الناتجة عن تغيُّر المناخ مما يفرض تهديدات وتحديات أكبر على المجتمعات البشرية.

تستعرض الفصول المتبقية من هذا الكتاب الأسس العلمية لتغيُّر المناخ والسياسات المتعلقة به والحلول المحتملة لمواجهته. فيناقش الفصل الثاني بروز تغيُّر المناخ باعتباره قضية عالمية. ويتناول الفصلان الثالث والرابع الأدلة العلمية الحالية على تغيُّر المناخ، وكيف يقوم العلماء بنمذجة المستقبل لتقييم تأثير الانبعاثات الكربونية العالمية على مناخنا. ويبحث الفصلان الخامس والسادس في تأثيرات تلك التغيُّرات المناخية المستقبلية، واحتمالية وجود مفاجآت خفية في النظام المناخي قد تُفاقِم من حدة تغيُّر المناخ. أما الفصلان السابع والثامن، فيتناولان الجوانب السياسية لتغيُّر المناخ، بالإضافة إلى الحلول السياسية والاقتصادية والتكنولوجية الممكنة المتاحة لنا. وأخيرًا، يقدم الفصل التاسع رؤًى متعددة للمستقبل بناءً على الانبعاثات الكربونية المستقبلية ويناقش كيفية حل أزمة تغيُّر المناخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥