تغيير مستقبلنا
مقدمة
يجب أن يُنظر إلى تحدي تغيُّر المناخ في إطار المشهد السياسي والاقتصادي السائد حاليًّا. ولا يمكننا أن نتطلع إلى بناء أنظمة قادرة على تقليل الانبعاثات الكربونية بوتيرة سريعة إلا من خلال فهم الأسباب المجتمعية والاقتصادية الجذرية المسببة لها. وفي الوقت نفسه الذي نعالج فيه تغيُّر المناخ، من الضروري أن نتأكد من أننا نعالج التحديات العالمية الأخرى، مثل الفقر وغياب المساواة على مستوى العالم وتدهور البيئة وعدم الأمان العالمي. كما تحتاج السياسات المستقبلية والاتفاقيات الدولية إلى تقديم حلول مربحة للطرفين تعالج أكبر التحديات التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين.
إدارة الكوكب
يواجه العلماء صعوبة في التعامل مع حقيقة أنه، على الرغم من الثقل الهائل للأدلة التي تشير إلى تغيُّر المناخ، لا تزال أقلية صغيرة، ولكنها صاخبة ومؤثرة، تنكر حدوث تغيُّر المناخ. وقد استجاب العلماء لهذا بالتركيز على جمع المزيد من الأدلة. يُطلق على هذا النهج اسم استجابة «نموذج العجز»، حيث يفترض العلماء عدم اتخاذ القرارات المتعلقة بالتخفيف من تأثيرات تغيُّر المناخ بسبب نقص المعلومات.
مع ذلك، اكتشف علماء الاجتماع أن قبول تغيُّر المناخ لا يرتبط بالعلم بقدر ما يرتبط بالسياسة. فقبول تغيُّر المناخ يمثِّل تحديًا للرؤية النيوليبرالية الأنجلو-أمريكية التي يتبناها العديد من الاقتصاديين والسياسيين التقليديين. يكشف تغيُّر المناخ عن فشل جوهري في السوق، وهو ما يفرض على الحكومات أن تعمل بشكل جماعي لتنظيم العمليات الصناعية والتجارية. ومن المفارقات البارزة أن السياسيين الذين ينكرون تغيُّر المناخ بسبب تهديداته المفترضة لقيم السوق الحر، هم أنفسهم الأكثر دعمًا لتقديم أكثر من ٥ تريليونات دولار أمريكي من الدعم السنوي لصناعة الوقود الأحفوري. فمن غير الصحيح تمامًا الاعتقاد بوجود سوق حر؛ إذ إن العديد من الدول تؤيد بكل ترحيب تقديمَ الدعم المالي وفرض قيود على الواردات.
تجسِّد الليبرالية الحديثة مجموعة من المعتقدات التي تشمل: ضرورة أن تكون الأسواق حرة، وأن يكون تدخل الدولة محدودًا قدر الإمكان، وضمان حقوق ملكية خاصة قوية، وفرض ضرائب منخفضة، وتعزيز النزعة الفردية. يستند جوهر الليبرالية الحديثة على افتراض أنها توفر حلًّا قائمًا على السوق يسمح للجميع بأن يصبحوا أكثر ثراءً. وقد شكَّل هذا المفهوم، المعروف باسم «الاقتصاد المتدرج»، الركيزة الأساسية لليبرالية الحديثة على مدار اﻟ ٤٠ عامًا الماضية، إلا أنه لا يوجد أي دليل على تحققه. يعيش نصف سكان العالم على أقل من ٥ دولارات أمريكية ونصف دولار يوميًّا. وفي الواقع، قدَّرت منظمة أوكسفام أن أغنى ٢٦ شخصًا في العالم يمتلكون حاليًّا مقدار الثروة نفسه الذي يمتلكه أفقر ٣,٨ مليارات شخص مجتمعين. وقد صرَّح صندوق النقد الدولي مؤخرًا بأن الجيل الأخير من السياسات الاقتصادية ربما يكون قد فشل تمامًا.
لقد غيَّرت جائحة كوفيد-١٩ العالمية التي بدأت في عام ٢٠٢٠ نظرة الكثيرين إلى الليبرالية الحديثة. فقد أدرك المواطنون في كل أنحاء العالم أنه قد يوجد شكل مختلف من العلاقات بين الحكومة والصناعة والمجتمع المدني، وهي علاقة تُمنح فيها الأولوية للصحة والرفاهية على المكاسب الاقتصادية للدولة أو للأقليات. عندما تواجه المجتمعات أزمة حقيقية تتطلب استجابة قوية ومنسَّقة، فإنها تلجأ إلى الدولة وإلى الخبراء العلميين، ودعم المجتمع المدني. قد يؤدي القطاع الخاص دورًا مهمًّا، مثل تأمين الإمدادات الغذائية في مواجهة موجات التهافت على الشراء، أو إعادة تنظيم إنتاج المستلزمات الطبية الأساسية أو تطوير اللقاحات. ولكن، في المقابل، تلجأ العديد من الشركات إلى الدولة بحثًا عن القروض وحزم الإنقاذ المالي.
في ضوء التحديات الطويلة الأجل التي يفرضها تغيُّر المناخ وفقدان التنوع البيولوجي واحتمالية تكرار الأوبئة، فإن الدرس الأهم الذي نتعلمه من جائحة كوفيد-١٩ هو فشل الأسواق الحرة في حمايتنا. وبدلًا من ذلك، فإن السبيل الأمثل لمواجهة تغيُّر المناخ وسائر تحديات القرن الحادي والعشرين يكمن في تدخل حكومي موجَّه من قِبل الخبراء، يعزز دور المجتمعات ويثمِّن قيمتها، ويحظى بدعم قطاع أعمال نشط ومساند. ما نحتاجه هو عصرٌ جديد من إدارة الكوكب تقوده الحكومات وترتكز فيه على نظريات اقتصادية جديدة.
اتخاذ الإجراءات

الحكومات والمؤسسات والمجتمع المدني
إن الخفض الفعال في انبعاثات الكربون يتطلب شراكة بين الحكومة — على مستويَيها المحلي والوطني — والشركات، والمجتمع المدني، على أن يكون ذلك مدعومًا ومُعزَّزًا بتغيير في سلوك الأفراد.
تتحكم الحكومات في تطلعات المجتمع المدني من خلال سيادة القانون وتطوير السياسات. ومن الواضح أن الحكومات بمقدورها استخدام الحوافز والدعم المالي والضرائب واللوائح لجعل مجتمعاتنا أكثر استدامة ومحايدة كربونيًّا. كما تُعَد الحكومات المحرِّك الرئيسي للابتكار، وذلك من خلال الاستثمار في أبحاث الجامعات، وتمويل الأبحاث والتطوير الصناعيين، وتعزيز الطلب عبر الحوافز. كما في وسع الحكومات أن تسهِّل الانتقال السريع من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة، وتضمن أن تكون الأبنية محايدة كربونيًّا، وتشجع إعادة التشجير وتجديد الحياة البرية في مساحات شاسعة، وتعزز أساليب الزراعة المنخفضة الانبعاثات والأنظمة الغذائية التي تعتمد اعتمادًا أكبر على النباتات، إضافةً إلى دعم الفئات الأشد فقرًا في المجتمع للمساعدة في تعزيز القدرة على الصمود أمام التأثيرات المحتملة لتغيُّر المناخ.
تجني أكبر ١٠٠ شركة حول العالم أكثر من ١٥ تريليون دولار أمريكي من العائدات سنويًّا. وتتحكم الشركات في حياتنا بطرق عديدة، حيث تؤثر على ما نأكله، وما نشتريه، وما نشاهده، وحتى من سنمنحه صوتنا. وقد بدأت العديد من هذه الشركات بالفعل في التغيير، متبنية أهدافًا مستندة إلى أسُس علمية، لتحقيق صافي انبعاثات كربونية صفري بحلول عام ٢٠٥٠. يتمثَّل التحدي الذي يواجه قطاع الأعمال والصناعة، إذا ما أرادوا الاحتفاظ بمكانتهم وموثوقيتهم في القرن الحادي والعشرين، في تغيير علاقتهم بالبيئة والمجتمع. إن النموذج الاقتصادي الخطي التقليدي، «الاستخراج، التصنيع، التخلص»، يعتمد على كميات كبيرة من المواد والطاقة الرخيصة المتوفرة. لكننا اليوم نقترب من الحدود الفيزيائية لهذا النموذج. فتخرج إلى النور نظريات اقتصادية جديدة شاملة تكشف عن القضايا الأساسية المرتبطة بثقافة الشركات الاستهلاكية القائمة على هدر الموارد. ويُعَد الاقتصاد الدائري ضرورة حتمية إذا أرادت الشركات أن تكون جزءًا من حل مشكلة تغيُّر المناخ. يعمل الاقتصاد الدائري على تقليل كمية الموارد إلى الحد الأدنى وتعظيم قيمة المنتجات والمواد طوال دورة حياتها، وذلك بتطبيق عمليتَي إعادة الاستخدام وإعادة التدوير. قد يساهم تطبيق نموذج الاقتصاد الدائري في تحقيق مكاسب تصل إلى ١,٨ تريليون يورو لصالح الاقتصاد الأوروبي. لذا، يتعيَّن على الشركات التخطيط وتطوير منتجات تتمتع بعمر تشغيلي طويل وبقابليتها للترقية وإمكانية إعادة تدويرها. كما يجب عليها العمل على استبعاد النفايات والتلوث من أنظمتها الإنتاجية.

المؤسسات الدولية
من أجل دعم وتشجيع وفرض التغيير الإيجابي عند الضرورة، نحتاج إلى منظمات دولية تكون على قدر تحديات القرن الحادي والعشرين. تأسست العديد من هذه المنظمات، مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية. أما منظمات أخرى مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومنظمة الدول المصدرة للنفط، فقد أُنشِئت في أوائل ستينيات القرن العشرين. هناك حاجة إلى أن تمثِّل هذه المؤسسات الدولية كل سكان العالم، وأن تضمن حوكمة عادلة ومنصفة. يمكن إعادة تصميم البنك الدولي وصندوق النقد بحيث يركزان على تطوير الاقتصاد الأخضر المستدام، ودعم أهداف صافي الانبعاثات الصفرية، والتخفيف من حدة الفقر، على أن تكون أهداف التنمية المستدامة في صميم كل قراراتهما. إن الهدف الحالي لمنظمة التجارة العالمية هو ضمان تدفق التجارة بسلاسة وعلى نحو متوقع وحر قدرَ الإمكان، ولكن تشجيع التجارة والاستهلاك يزيد من صعوبة خفض الانبعاثات الكربونية العالمية. كما يمكن أن يعيق اللوائح وتدابير الحماية البيئية المؤثرة على المستويات المحلية والوطنية والدولية. وربما يمكن لمنظمة التجارة الدولية أن تتحول إلى «منظمة الاستدامة العالمية»، بحيث يكون هدفها الأول الدعم والمساعدة في إعادة هيكلة اقتصاد الدول التي تعتمد على تصدير الوقود الأحفوري.
إحدى التغييرات السريعة والبسيطة التي يمكن إجراؤها هي ترقية برنامج الأمم المتحدة للبيئة، نظرًا لوضعه الثانوي داخل منظومة الأمم المتحدة، حيث يأتي في مرتبة أدنى من التجارة، والصحة، والعمل؛ بل من الشئون البحرية، والملكية الفكرية، والسياحة. تُعَد ميزانية برنامج الأمم المتحدة للبيئة محدودة؛ إذ لا تتجاوز ربع ميزانية منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، ولا تشكل سوى عُشر ميزانية برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، على الرغم من دوره المركزي في كلٍّ من الصحة والأمن الغذائي. إذا جرى ترقية برنامج الأمم المتحدة للبيئة لتصير منظمة الأمم المتحدة للبيئة العالمية، ومُنحت ميزانية تعادل على الأقل ميزانية منظمة الصحة العالمية، فسيكون بإمكانها الإشراف على أهداف التنمية المستدامة، واتفاقية التنوع البيولوجي، واتفاقية تغيُّر المناخ، لضمان التعزيز المتبادل بين الأهداف وعدم تعارضها، مما يكفل إيجاد حلول تحقق مكاسب للجميع.
الخاتمة
