الفصل الثالث عشر

اشترى الحاج والي عربةً وحصانًا حتى ييسر لمحمد أن يذهب إلى المدرسة في الصباح الباكر، وقد كان يشفق على الطفل الصغير، وهو يصحو معه في الفجر ثم يخرج إلى برد الشتاء القارس ليقطع ثمانية كيلومترات إلى المدرسة. وكان الحاج والي كلما تساءل: أتساوي الحياة هذا الجهد؟ نبتت أمام عينيه تلك القطعة من الضباب جوابًا عن تساؤله، فيزداد على حيرته حيرة، ولا يملك إلا أن يوقظ وليده في فجر اليوم التالي فيصليان الفجر معًا، ثم ينفتل الطفل إلى مدرسته لا يدري ما يكابده أبوه من ألم لخروجه هذا، ومن تساؤل وحيرة؛ ألهذا كنت أتمنى لي ولدًا؟ ألهذا ضحت أمه بحياتها؟ وضحت زوجتي بكرامتها؟! أنجيء بهم لنملأ حياتهم تعبًا؟ ونملأ حياتنا إشفاقًا؟!

وماذا لقي محمد بعدُ من الحياة؟ وماذا أفعل حين يوغل فيها وتلقاه بوجهها هذا القاسي الجامد؟ ويتصاعد الضباب أمام عينيه يغلق على نفسه منابت التساؤل والحيرة ويلقي بنفسه إلى دفاع الحياة.

عاد محمد في يوم من المدرسة وهو يحس رعشةً تهز جسمه جميعًا، فأسنانه تصطك فتصك جسمه كله كأنها المطارق، وأطرافه ترتعش رِعشةً تهز كِيانه، فهو كنبات هش ضعيف انصبت عليه ريح عاتية توشك أن تقتلعه من الجذور.

وتلقَّته الحاجة بمبة بإشفاق، وراحت تضع عليه الأغطية وتحيطه بزجاجات الماء الساخن، ولكن الرِّعشة لا تريم عنه، فإنما هي في مكان خُبئ من جسمه، لا يدرك مكانها الماء الساخن، ولا يصل إليها دفء الغطاء!

وأقبل الحاج والي من الخارج، فوجد ابنه على حاله هذه؛ فهو يسارع إلى البندر ويجتلب الطبيب الذي يقرر أن الطفل قد أصيب بالتهاب رئوي حاد. وحين يسأله الحاج والي: أخطر هذا المرض؟

– كل الخطورة.

– وماذا أفعل؟

– الأعمار بيد الله.

الأعمار! وهل بلغت الحالة إلى ذكر الأعمار؟! الأعمار! أكل ما كان ينتهي إلى هذا؟ أكانت الحاجة بمبة تخطب لي، وكان موت صالحة المسكينة من أجل الالتهاب الرئوي؟! أهو الذي يحصد ثمرة ما ضحَّت به المرأتان الطيبتان؟! أمن أجل هذا يأتي الأطفال؟! ولدي … ماذا؟ ماذا أنت فاعل بي؟ أهذا أملي بعد أن تحقق؟ أكان قد تحقق من أجل الالتهاب الرئوي؟ أَيَرضى الله بهذا؟ نعم يرضى؛ فما هذه الدنيا بالتي يجزي الله فيها المحسن خيرًا والمسيء شرًّا، ألم يمت إبراهيم بن محمد رسول الله … وحيده … مات طفلًا، فلماذا لا يموت محمد بن والي؟! وما محمد بن والي في حساب الدنيا؟ مجرد روح صغيرة لم تتفتح بعدُ للحياة، وما والي؟ شقي من الأشقياء قطع عمره على أمل أن يكون له طفل حتى إذا كان؛ جاءه الالتهاب الرئوي، وفي الآخرة يتولى الله ثوابه. ولكني بشر؛ لقد صبر النبي على بلواه، أترى أصبر أنا؟ يا رب إنني أصغر من هذا الامتحان، وأنت تدري … أنت تدري أنني أوهى عظامًا، وأقل صبرًا من أن أحتمل هذا الابتلاء … يا رب إنك تقول: الْمَالُ وَالْبَنُونَ … وتقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ فلْيكن ابتلاؤك في المال، كل المال، أما البنون فما عندي من بنين إلا محمد هذا فدعه لي؛ فما أنا بالذي يصبر لهذا البلاء. إني أعلم وإنك تعلم أنني أقل من هذا البلاء. يا رب … يا رب …

كان الدعاء والدواء والصبر هو كل ما يملك الحاج والي، وكانت الحاجة بمبة هي التي تقوم بتمريض الطفل في حنان وأناة وامتثال تكاد لا تذكر إلا أنه ابنها، فما عرفت لنفسها ابنًا إلا بالتبني، وما عرف هو أمًّا إلا هي.

وفي بطء شديد شُفي محمد، وعادت الابتسامة إلى الحاج والي، وعاد النوم إلى الحاجة بمبة. أحس الحاج والي سعادة … سعادة لم يعرف لها مثيلًا في حياته. ما أحلى أن يكون لي ابن يحيط به الخطر ثم ينجو! كأنما أصبح لي ولد جديد. إنهم ليمدون قلوبنا بالسعادة والجدة هؤلاء الأطفال … لا … لا شيء يعدل أن يشفى ابني من مرض خطير … لا … لا شيء يعدل هذا في الوجود.

وواجهت الحاج والي مشكلة أخرى؛ أيعود محمد إلى المدرسة فيتعرض للبرد مرةً أخرى وللمرض؟ وسُرعان ما حسم المشكلة، فماذا يصنع محمد إن لم يذهب إلى المدرسة؟!

ومن جديد عاد الحاج والي يوقظ محمدًا في الفجر فيصليان جماعة، ثم ينفتل محمد إلى مدرسته ليواجه البرد الشديد، والحر الشديد، والعلم الثقيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤